توطئة

صخب المؤنث ومعارك النحو العربي

«الأنثى: خلاف الذكر من كل شيء.»

ابن منظور، لسان العرب المحيط

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا …

سورة النساء، الآية ١١٧

يُقال الصخب في لسان العرب على معان عدَّة تقترن في مُجملها بالصياح والجلبة وشدَّة الصوت واختلاطه. ويُقال عن الرجل إنَّه «صخَّاب وصخبان»، وعن الأنثى «صخِبة وصخَّابة وصخوب»، كما يُقال الصخب على صوت الضفادع في الغُدران إذ هي تصطخِب، ويُقال «اصطخَب القوم وتصاخبوا إذا تصايحوا وتضاربوا»، ويقال «عينٌ صَخبة أي مصطفِقة عند الجيَشان. كما يُقال الصخب أيضًا على الطير؛ حيث توصف أصواتها بالاصطخاب في معنى اختلاط الصوت، ويقال على نهيق الحمير؛ بحيث يُقال «حمار صخب الشوارب: يردِّد نهاقه في شواربه.» وفي لسان العرب أيضًا يقال الصخب على الصوت الطروب.

انطلاقًا من تصفُّح معاني لفظ «الصخب» كما هو ملقًى على قارعة معجم لغة الضاد، بوسعنا أن نرسم العالم الذي تسكنه هذه اللغة موزَّعًا على أمكنة سيميوطيقية متعدِّدة نوجِزها في الخريطة التالية: أولًا: الصخب صوت، وهو في ذلك يتميَّز عن الكلمة بوصفها أساس كلِّ خطاب لغويٍّ. وهذا الصوت يتميَّز عن أيِّ صوت آخر بصخبه أي بشدَّته وحدَّته واختلاطه؛ بحيث لا يمكن أن نفهم منه أيَّ معنى أو أيَّ حقيقة واضحة. وهذا الصخب هو إذَن جلبة وصياح وجيَشان يصل إلى حدِّ تبادُل الضرب. فهو إذَن لفظٌ محمول على العنف والخروج عن طَور الخطاب والعقل؛ حيث يكون الصخب إذَن صِنو الغضب وصِنو الصراخ وصِنو الأصوات المقموعة؛ فإذا هاجت وجاشت أفعمت وفاضت وشوَّشت وبعثرت منطق الخطاب والقِيم السائدة.

ثانيًا: وفي الصخب يتمُّ التمييز بين «الرجل» فيقال «الصخَّاب والصخبان»، و«الأنثى» «الصخِبة والصخَّابة والصخوب»، والمثير ها هنا أي في مادَّة «صخب»، كما هي ملفوظة في لسان العرب، هو الإشارة إلى الذكر بلفظ «الرجل» وإلى «المرأة» بلفظ «الأنثى» … بما في عبارة الأنثى من التحقير الاجتماعي، بوصف الأنثى تُقال على الحيوان أيضًا وليست صفة خاصَّة بأنثى البشر فقط.

ثالثًا: يُقال الصخب على الماء في عين الماء أي على الصوت الذي يصدر عن جيَشان الماء وتلاطم أمواجه؛ فالصخب هنا علامة على امتلاء العين إلى حدِّ الفيضان بعد مطر غزير أو هَطيل. وهنا يكتسي «الصخب» معاني مزدوجة من جهة هي موجبة تحيل على الحياة في عنفوانها وزخمها وكثافتها وكرمها وامتلائها وفيضها المفعم. ومن جهة أخرى هي سالبة لأنَّ الماء متبدِّل متغيِّر انفعاليٌّ مزاجيٌّ لا يثبُت على حال، كصورة الأنثى في المخيال العربي القديم.

رابعًا: يقترن الصخب بأصوات الحيوان وليس خاصَّة من خصائص صوت البشر حين يتعلَّق الأمر بصوت الضفادع أو الطيور أو الحمير بما هي أمارات عالم صاخب تعتمل فيه أصوات مختلطة ومشوَّشة وعنيفة وغاضبة، وهي علامات رمزية على حرمان الأصوات الصاخبة من دائرة الخطاب مثلما رسم له النحو الذكوري قواعده وانسجامه الخاص.

حين يعلو الصخب فوق عقل اللغة بكلامها المنحوت وألفاظها المنمَّقة واستعاراتها المستقرَّة، يعلم عالمُ الأنثى في لغة الضاد يؤثثه صوت الماء المُفعوعم والمنبعق والمتلاطمة أمواجه، وصوت الضفادع ضاجَّة في الغدران، وأصوات الطيور الهاربة إلى سماء أخرى، وصوت الحمير ينهق في وحشة الأمكنة … كذا يظهر المؤنَّث صاخبًا يحمل غضبه إلى ضفَّة الصوت كلَّما تمَّ منعه من الوصول إلى الكلام. نعم، ذاك هو الفرق بين الكلام والصوت. فالصخب هو صوت تمَّ منعه من الوصول إلى الخطاب؛ فطفق يبحث لنفسه عن أمكنة مغايرة للعبور وَجدت في الفنون بأشكالها أُفقها الخاص … فكان الحكي الشفاهِي مع شهرزاد ومجالس الشعر والأدب والغناء في الفضاء العربي منذ الجاهلية إلى حدود نهاية القرن الثالث للهجرة مع أسماء تمَّ طمسها وتغيبت أصواتهنَّ من قبيل سكينة بنت الحسين، وأسماء بنت المهدي، وعائشة بنت طلحة، وليلى الأخيلية١.

للمؤنث صخبه الخاص لمواجهة سلطة الكلام المذكَّر، على تنضيد المكان الذي يتمُّ تخصيصه له في النحو بوصفه «خلاف الذكر من كلِّ شيء»، أي كما لو كان السلب المحض للمذكَّر فقط. هكذا يتمُّ إذَن بداية من اللفظ، بما هو الدرجة الصفر من انبثاقة المعاني، تعريف المؤنَّث على نحو سلبي بالنسبة إلى المذكَّر. فالأنثى لا تعرَّف إلَّا انطلاقًا من الذكر، ولا يتمُّ تعريفها بوصفها كيانًا لغويًّا مستقلًّا. والمثير في تعريف «الأنثى» في لسان العرب هو مماثلة جمعها النحوي بجمع الحمير. بحيث نقرأ في المادة الخاصة بأَنَثَ والأنثى ما يلي: «والجمع إناث وأُنُث: جمع إناث كحمار وحُمُر.» أيُّ مثالٍ مثير للسخرية من المؤنث يورده لسان العرب للتدليل على سلطة النحو الذكوري ومكره عبر ترتيب جمع الإناث مع جمع الحمير؟ وأكثر من ذلك ومن جهة أخرى يتمُّ الربط بين الإناث والموات من الحجر والخشب والشجر، وذلك في معنًى دقيق يتمُّ فيه الإحالة على الآلهة المؤنثة في المخيال العربي بوصفها حجرًا، وتتمُّ إذَن معاقبة المؤنَّث على خلفية نوع من المعركة الإسلامية ضدَّ التوثين، وضدَّ اللات والعزَّى كرمز للآلهة الوثنية المؤنثة في المخيال العربي القديم.

في هذا الاستقصاء اللغوي السريع عيِّنة بيِّنة على سلطة النحو الذكوري على المنظومة الرمزية الخاصة بمكانة المرأة في لغة الضاد في العصور الكلاسيكية، ولا أحد يُمكنه إنكار هذه السلطة. في هذا السياق يَكتب فتحي المسكيني في نصٍّ له منشور على النات سنة ٢٠١٧م: «أنَّ النحو قد بلغ شوطًا مُربِكًا في رسم خطٍّ هُووي بين الذكور والإناث.» وتبعًا لهذه النتيجة سيكون السؤال الخطير حينئذ بعبارات المسكيني هو التالي: «هل يمكن فعلًا تحرير اللغة العربية من طابعها الذكوري؟»٢
لكنَّ المؤنَّث في لغة العرب يتمتَّع من جهة أخرى بمكانة رمزيَّة مغايرة، تجد في جملة ابن عربي الشهيرة: «وكلُّ مكان لا يؤنَّث لا يعوَّل عليه.» عبارتها القصوى. ولقد تمَّ إنجاز العديد من البحوث في مجال النسوية العربية تحت هذه الراية الاستكشافية. وذلك عبر «حفريات في أدب النساء وأخبارهنَّ»٣ يتمُّ من خلالها الكشف عن مجالس النساء وسلطة المؤنَّث في تأثيث المجال الأدبي والشعري والموسيقي وتحويل الصخب إلى أدب وشعر وغناء. لقد مثَّل أدب الحكي النسائي في هذا السياق، كما دشَّنته شخصية شهرزاد في ألف ليلة وليلة تعبيرًا نموذجيًّا على قدرة هذا الصخب المؤنث على الوصول إلى حيِّز الكلام، وجعل أصوات النساء المقموعة طيلة قرونٍ من الزمن تطفو على سطح الخطاب الذي نضَّدته مكنة الهيمنة البطريكية.٤

كيف تتمُّ كتابة المؤنَّث؟ وهل ثَمة جنس للكتابة غير جنسها الأدبي؟ ربَّما لم تَعُد هذه الأسئلة مغرية لأحد في هذه الأيَّام التي صار علينا فيها أن نبحث عن أسئلة جديدة تناسب شكل العالم الذي ينحدر في هاوية لا جنس لها. لا أحد يكتب في أوطاننا التي تحوَّلت إلى تضاريس لنشر البؤس المعولَم بأشكاله، فرحًا بالتعبير عن ذاته بما هو ذكر أو بما هو أنثى. وإن كان لا بدَّ علينا أن ننخرط مرة أخرى في السؤال عن علاقة المؤنَّث بالثقافة فربَّما غيَّرنا طريقة التساؤل نحو الجهة الأكثر ضررًا والأكثر خطرًا: ماذا لو أنك لا تسمع من صخب المؤنَّث غير ضجيج النساء الذي يسكنه الرجال أيضًا؟ لكن في حين يسكن الصخب صمته جيدًا؛ فإن الضجيج لا يُفكِّر وسيكون عليك حينئذٍ أن تختار بين ضجيجٍ يكرِّر صدى الوعي التعيس، وبين أن تنتظر على عتبات المؤنَّث وُعودًا جديدة. وبين هذا وذاك ستُمضي وقتًا طويلًا أشبه بدهرٍ من الأسئلة المستحيلة. كيف نكتب صخب المؤنَّث؟ بأيِّ لغة وبأيِّ ضمير مستتر أو بأيِّ عقلٍ نكشف عن الأنثى من وراء حجاب؟ ومَن يكون هذا المؤنَّث: مؤسَّسة أم شخصًا، ذكرًا أم أنثى؟ جنسًا بيولوجيًّا أم جنسًا أدبيًّا؟ كينونة أنطولوجيَّة أم استعارة لغويَّة؟ رُبَّ أسئلة لا تَعِد بغير الهروب نحو مسلكٍ آخر. كيف نتحرَّر من أثقالنا الماضية حول أنفسنا كي نحلِّق في مؤنَّثٍ أجمل؟ وقد لا يكون صخب المؤنَّث أنثى فقط؛ لأنَّ المذكَّر أيضًا يُقحِم نفسه هنا وهناك متلصِّصًا متربِّصًا متعثِّرًا في صورته عنَّا، نحن اللاتي يكتبن خارج حدود الذكر والأنثى. لا جنس للكتابة غير الأدب، ولا جنس للثقافة غير الإبداع، ولا جنس للإبداع غير الحرية.

يتعلَّق الأمر بصراع النسويَّات حول كتابة تاريخ المؤنَّث بين أطروحتين متناقضتين؛ تذهب الأولى إلى ضرورة التمسُّك بالاختلاف الجنسي بوصفه اختلافًا أنطولوجيًّا، وإثبات المؤنَّث لكينونته دون انصهار في كينونة المذكَّر أو حاجة إلى المساواة معه كما لو كان هو مقياس الإنسانية. وقد تمَّ تأسيس هذه الأطروحة خاصَّة مع الفيلسوفة الفرنسية لوس إيريغاراي وفرجينيا وُولف وجوليا كريستيفا التي دافعت عن «العبقرية الأنثوية». وفي هذا السياق تَعتبر نوال السعداوي أنَّ الأنثى هي الأصل، وذلك لأنَّها «بالطبيعة أصل الحياة.»٥ أمَّا الثانية فهي التي تدحض مقولة الأنثى وترفض الحديث عن كتابة أنثوية معتبرة أنَّ فضاء الكتابة هو فضاء حريَّة فيما أبعد من ثنائية المذكَّر والمؤنَّث، وهو ما نجده بخاصَّة في أعمال الروائية والفيلسوفة الفرنسية مونيك فيتيغ.
وعليه فإنَّ «صخب المؤنَّث» مسكونٌ بكل النظريات والنضالات النسوية منذ قرنين من الزمن. نظريَّات تقاطعت على جسد المرأة وتحت أقلامها وفي ثنايا صوتها ودمدماتها المكتومة أحيانًا. فتارة نطالب بالمساواة مع الرجل باعتبار «المرأة رجلًا كالآخرين» (سيمون دي بوفوار) مفترضين بذلك أنَّ الرجل قد وقع إنصافه ومساواته مع الرجل الآخر في طبقة اجتماعية أخرى أو في بلاد أخرى. وطورًا يقع الدفاع عن الاختلاف الجنسي أو ثنائية الكينونة حالمين بأن تكون «المرأة هي مستقبل الرجل» (لوس إيريغاري). أخيرًا ذهبت الأبحاث النسوية إلى اعتبار المرأة والرجل جندرًا أو نوعًا اجتماعيًّا يبنيه المجتمع بصرف النظر عن الجنس البيولوجي (جوديث بتلر). لكنَّ كل هذه النظريات حول المؤنَّث تجري مراجعتها اليوم، بل قد يصل الأمر أيضًا إلى حدِّ الإعلان عن نهاية النسوية.٦ ويبدو أنَّ مطلب المساواة نفسه إنما صار إلى نوع من التسوية الليبرالية في سياق ضرب من السجال الديمقراطي في عصر صار فيه العالم سوقًا كبيرة لبيع كلِّ شيء بما في ذلك الأمل في المستقبل … وفي هذا السياق تكتب فرجينيا وُولف ما يلي: «ما الذي تريده منَّا النسوية الحديثة الأكثر خطورة من البلشفيَّة؟ إنها بادِّعائها تحقيق المساواة مع الرجل في كلِّ الميادين قد ألقت بالمرأة في معركة حامية الوطيس أفقدتها صوابها.»

لم يَعُد صخب المؤنَّث نسويًّا تمامًا. وهو ما يدعونا إلى التفكير فيه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا؛ حيث ينبِّهنا رائد الفلسفة التفكيكية المعاصرة إلى ضرورة تفكيك هذه الرابطة بين النِّسوية وما هي بصدد النضال ضدَّه؛ فنحن لا زلنا نفكِّر دومًا في إطار السلطة البطريركية والمركزية الذكورية. فالقُوى التي تظنُّ النسويَّات أنَّهن قد انفصلن عنها لا تزال ثاوية داخل خطاباتهن. ثَمة إذَن نوعٌ من الالتباس بل والتواطؤ بين ما نناضل ضدَّه وشكل المستقبل الذي سيُعيد كتابة تاريخنا. ما نحتاج إليه هو فقط النضال في اتجاهات مغايرة والتحرُّر من الثنائي التقليدي مؤنَّث-مذكَّر، وعليه ربَّما ينبغي علينا التحلِّي بضرب من النسبيَّة والريبيَّة الفلسفيَّة العليا ضدَّ ما يسمِّيه دريدا «النسويَّة الرجعيَّة» أي ضدَّ كلِّ أشكال الجنسانية التقليدية وهو ما تقترحه علينا أيضًا جوديث بتلر في كتابها «قلق الجندر». وربَّما ليس ثَمة من جنسانية نهائية، وعليه لا مجال أيضًا لتجنيس الإبداع بعامة.

إنَّ التفكير في المؤنَّث تحت مقولة النساء صار مثيرًا للريبة؛ فقد أثبتت الأبحاث الحالية في هذا المجال أنَّ مقولة النساء هي مقولة عامة ولا يمكنها الإيفاء بالاختلافات بين النساء أنفسهن، من حيث طبقاتهن الاجتماعية ومهنهن وثقافاتهن. فالمرأة الكادحة الواقفة في عمق الحقول لا تنشغل بالضجيج النسوي ولا تصلها حذلقات الصالونات الأكاديمية، ولا تهتمُّ باستراتيجيات كتابة المؤنَّث؛ لأن عالمها يقف في حدود رغيف يومها. أمَّا بالنسبة إلى مقولة الرجل الذي تناضل المرأة ضدَّ هيمنته الذكورية، فهو في غالب الأحيان مقهور هو الآخر اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو نفسيًّا أو ثقافيًّا بوصفه ينتمي إلى «جنوب الحداثة» ويعاني من «جرح كولونيالي». وبالتالي ينبغي تغيير عنوان نضالاتنا: نحن مهدَّدون بنظام عالمي قائم على الهيمنة والفظاعة على الجميع وليس على هيمنة الذكور على الإناث فقط.

إنَّ صخب المؤنَّث لم يَعُد قابلًا للكتابة تحت نفوذ العلامة ولا الجنس ولا الرمز الميثولوجي. لأننا لم نَعُد قادرين على توصيف هذا الأمر في لغة «الرجل والمرأة»، بل صار لزامًا أن نغيِّر اتجاه أسئلتنا في شأن الهويَّات والذاتيَّات بعامَّة. ثَمة سياسة كبرى لمسألة المؤنَّث والمذكَّر تقتضي الاهتداء بالأنطولوجيا الثورية للفيلسوف الفرنسي دولوز بمعيَّة فيلكس غاتاري حول «صيروة-المرأة».٧ فالمرأة هنا هي صيرورة وليست كينونة كذلك الرجل. وهنا ينصح دولوز أيضًا بالتحلِّي بما يسمِّيه «الريبيَّة العليا» أي عدم اليقين تجاه سياسات الهويَّة مهما كانت: ذلك أنَّ في كلِّ يقين ثَمة خطوط فاشية تهدِّدنا بالسقوط فيها. وضدَّ كل أشكال الكوجيطو من أوديب إلى «الغير الراديكالي» يقترح دولوز علينا فلسفة الصيرورات. نحن لسنا هُويَّات بل نحن صيرورات. نحن دومًا ما نصير وليس ما كُنَّا أو ما نكون. وعليه؛ لا تقُل أنا رجل أو أنا امرأة، بل قل أنا صيرورة؛ أي أنا خطُّ إبداع لأنماط حياتية مغايرة. نحن لا نكتب لأنَّنا مؤنَّث أو مذكَّر إنَّما نكتب دومًا من أجل الحياة، ومن أجل أن تكون ثَمة حياة ضدَّ كل المدمنين على قِيم الموت. وهنا علينا التشديد على أهميَّة هذا الخطِّ الفلسفي في الدفع بالمسألة النسوية في اتجاه مغاير؛ لذلك فإنَّ هذه الفلسفة يقع اليوم استثمارها بشكل كثيف خاصَّة مع النسوية الأسترالية من أصل إيطالي روزي برايدوتي٨ التي تشتغل في أفق ما تسمِّيه فلسفة ما بعد نسوية وما بعد إنسانوية، على ما تسمِّيه «النسويَّة المترحِّلة». وتَعتبر أن استبدال الهويَّة الجنسية بهويَّة اجتماعية على طريقة مفهوم الجندر إنما هو موقف دغمائيٌّ فقدَ نجاعته السياسية، وبالتالي إن أردنا تحرير المؤنَّث من الضجيج النسوي؛ فعلينا أن نُعيد إليه صخبه الإبداعي وقدرته على الصيرورة وعلى اختراع أشكال جديدة من الحياة.
في نفس السياق يكتب الفيلسوف الفرنسي رائد التفكيكية جاك دريدا في نصٍّ جميل له ما يلي: «كنت أودُّ أن أومن بتعدُّد الأصوات الموسومة جنسيًّا. كنت أودُّ أن أومن بالجماهير هذا العدد غير المحدَّد من الأصوات المختلطة. هذا المتحوِّل من العلاقات الجنسية غير المحدَّدة الهويَّة التي يمكن أن يحملها لحنُه الراقص، أن يجزِّئ وأن يضاعف جسد كل فرد سواء كان مصنَّفًا ﮐ «رجل» أو ﮐ «امرأة» وفقًا لمحكَّات الاستعمال.»٩ نعم، لا يمكن تجنيس الإبداع ولا نسبه إلى جنس الذكر أو الأنثى. ذاك ترف ميتافيزيقي لم يَعُد من حقِّنا ادِّعاؤه في عالم تحارب فيه الإمبريالية المتوحِّشة كل شكل من الإبداع وكلَّ اختراع لإمكانية المستقبل بيننا. نعم نحن أيضًا نودُّ مع دريدا أن نسمع صوت الجماهير الحرة وهي تصدح عاليًا بصرف النظر عن جنسها ضدَّ كل أشكال الفتك بالحياة على كوكبنا. كفانا مشاعر ارتكاسية وانفصامية ولنحدِّق معًا بكل ما تَعِد به عيون أطفالنا من الأغنيات الجماعية نحو مستقبل أجمل تكون فيه الحياة أكثر احتمالًا في عصر خفَّة الكائن التي لا تُحتمل.

ما نراهن عليه في هذا الكتاب هو المساهمة في إثراء الدراسات النسوية في لغة الضاد، وذلك من جهة الجدل حول «المؤنَّث والمذكَّر» الذي لا يزال يتمتَّع في ثقافتنا براهنيَّةٍ قصوى. ففي حين تحوَّلت الثقافة الغربية والأمريكيَّة من قضيَّة المساواة بين الجنسين إلى قضيَّة المساواة بين الجنادر؛ فإنَّ الثقافة العربية الاسلامية لا تزال على عتبة التمييز الجندريِّ ضدَّ النساء، ولا تزال النساء في التمثُّلات الرمزية في مرتبة دونيَّة بالنسبة للرجال، ولا يزال المؤنَّث يحتاج إلى ترجمة صخبه المكتوم والمقموع إلى خطاب مناهض لسياسات الهوية الجنسية القائمة على النظام الأبوي. لا تزال النضالات النسويَّة في أوطاننا حاجة حيوية وأنطولوجيَّة عميقة؛ لذلك نحن نطمح إلى تطوير شكل مغاير من النسوية لا يقف في مستوى التصوُّر الحقوقي والقانوني لحقوق المرأة، بل يسعى إلى تطوير ما نسمِّيه «نسويَّة إبداعية» تتَّخذ من الفنون بأشكالها مساحة لاختراع «المرأة» كنموذج رمزيٍّ إيجابي وكاقتدار على تشكيل قيم ومنظومات جمالية وإتيقية مغايرة. النسويَّة الإبداعية هي تحديدًا ورشة فلسفية لاختبار شكل مغاير من النسويَّة تراهن على الدفع بالخطاب النسوي أولًا فيما أبعد من النسويَّة الحقوقية الليبيرالية التي ترعى حقوق الأفراد كرأسمال رمزي لإعادة إنتاج النظام الرأسمالي بكل توحُّش أنطولوجيا البضاعة المطلقة. وثانيًا فيما أبعد من النسوية الراديكاليَّة التي تنكر على المؤنَّث خصوصيَّته وتدفع نحو فضاء ما بعدَ نسوي للمساواة بين الجنادر.

هذا الكتاب ترحالٌ في طيَّات خرائط وأسئلة ومفاهيم ونظريات خاصَّة بمجال الدراسات النسوية؛ وذلك بهدف الإجابة عن الإشكاليات التالية: كيف تمَّ تحويل المؤنَّث من معارك النحو إلى معارك الفضاء العمومي؟ وأيَّة خرائط يمكن رسمها لنضالات الفيلسوفات والمبدعات النسويَّات ضدَّ المنظومات الرمزيَّة التي تحوَّلت إلى سلطة للتحكُّم بأجساد النساء وعقولهن؟ وكيف يمكن تحرير المؤنَّث بالفنِّ من سلطة الهيمنة البطريكية؟ هل يمكن تحرير النساء من «نسوية غوغائية» تحوُّلهن إلى كتلة واحدة من أجل «نسويَّات إبداعية» تؤمن بقدرة المؤنَّث على اختراع أشكال جديدة من الحياة قابلة للتحمُّل وواعدة بمستقبل ممكن؟ ولمعالجة هذه الأسئلة تتوزَّع خطَّة هذا الكتاب على قسمين: الأول نظريٌّ وإشكالي، وفيه تدرَّجنا من الخريطة الطوبوغرافيَّة إلى نظريات نسائية لتنضيد أمكنة مغايرة للتفكير بالهويات الجنسية، عبر أسئلة حول كتابة المؤنَّث وتاريخ العنف على النساء وأشكال التحكُّم بأجسادهن وصولًا إلى واقعة الإرهاب النسائي … وانتهاءً عند حدود التفكير بثنائية الجنسانية الغيرية على ضوء كتاب قلق الجندر الذي بعثر كلَّ خرائط النسوية في اتِّجاه تخريب الهويات الجاهزة. أما القسم الثاني فهو قسم تطبيقي يراهن على تحرير المؤنث من صخب المعركة ضدَّ المذكر، وذلك عبر تجارب إبداعية تشكيلية ترسم فيها نساء مبدعات سرديَّات مغايرة من أجل عالم تتعايش فيه كلُّ الأجناس في سلام. وقد اخترنا الاشتغال على تجارب تشكيلية لرسَّامات عربيَّات وأفريقيَّات إنصافًا لهنَّ في معنيين؛ أولًا: في معنًى جندريٍّ رأسًا؛ لأنَّ تاريخ الرسَّامات لم يُكتَب بعدُ؛ بحيث يتواصل تهميش النساء الرسَّامات في العالم بعامَّة وفي ثقافتنا العربية بخاصَّة. ثانيًا: يتعلق الأمر بالاشتغال على مقاربة جمالية ديكولونيالية نطمح فيها إلى جلب الإبداع النسوي غير الغربي إلى حيِّز الخطاب الجمالي المعاصر من منظور منح الكلمة لسكَّان «جنوب الحداثة» على حدِّ عبارة لوالتر منيولو أحد المنظِّرين للفكر الديكولونيالي؛ بحيث يكون الرهان البعيد هو التدرُّب على العناية بحدائقنا الإبداعية من أجل اختراع نماذج جمالية محلِّية تجعلنا معاصرين لأنفسنا كإمكانية لمستقبل أجمل.

١  د. هاجر حرَّاثي، حفريات في أدب النساء وأخبارهنَّ، تونس، دار زينب للنشر، ٢٠٢٢م، ص٩٦.
٢  فتحي المسكيني، «المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر أو العرب والبحث عن الأنثى المفقودة»، بحث على النات بتاريخ نوفمبر ٢٠١٧م.
٣  د. هاجر حرَّاثي، مرجع مذكور سابقًا.
٤  د. جليلة الطريطر، مرائي النساء، دراسات في كتابات الذات النسائية العربية، تونس، الدار التونسية للكتاب، ٢٠٢١م.
٥  نوال السعداوي، الأنثى هي الأصل، (١٩٧٤م)، المملكة المتَّحدة، مؤسسة هنداوي، ٢٠١٧م.
٦  Gisèle Halimi, Fini le féminisme, Gallimard, 1984.
٧  Gilles Deleuze, Felix Guattari, Capitalisme et schizophrénie 2, Mille Plateaux, Paris, Les éditions Minuit, pp. 284–380.
٨  Rosi Braidotti, Nomadic Subject, 1994.
٩  انظر: نيكول فرمان، إليزابيث غروس، ثنائية الكينونة، (النسوية والاختلاف الجنسي)، اللاذقية، دار الحوار، ٢٠٠٩م، ص١٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤