الفصل الأول

خرائط نسوية

«إن الجندر يبدو أمرًا ينتمي في المقام الأول إلى الفلسفة.»

مونيك فيتتيغ

«إن تاريخ النساء أساسي وجوهريٌّ لتحرُّرهن.»

غيردا ليرنر
تُمثِّل الدراسات النسوية منذ سبعينيات القرن الماضي حقلًا معرفيًّا واسع النطاق يهدف إلى إعادة تنضيد سياسات الهوية، وتحرير الجنوسة من هيمنة العقل الذكوري والوصاية البطريكية التي تأسست عليها كلُّ سلطة تَدعي الدين أو اللاهوت غطاءً شرعيًّا مطلقًا لها. وفي هذا الأفق يقع إنتاجُ نمط جديد من المعرفة بالإنسانيات يشتغل على تصور مجتمعي تنويري حقيقي يحترم حرمة الإنسان في جسده وفي عقله وفي عقيدته معًا. ولقد مثَّلت أجيالًا متلاحقة من النزعات النسوية منذ سيمون دي بوفوار١ (١٩٠٨–١٩٨٦م) إلى لوس إيريغاري٢ إلى نانسي فرايزر٣ اليوم في أمريكا نماذج مجتمعية مختلفة هدفها تغيير البنية الرمزية العميقة لتمثل الهويات الجنسية. وذلك ضمن ثلاثة براديغمات: الأول يقوم على المساواة بين الجنسين (دي بوفوار)، والثاني يقوم على الاختلاف وثنائية الكينونة (لوس إيري غاري)، والثالث على العدالة بوصفها اعترافًا (نانسي فرايزر).

كيف تعاملت المجتمعات العربية والإسلامية مع هذه النماذج المعرفية النسوية؟ وهل أدرك هذا النوع من التنوير النسوي صياغة موجبة في ديارنا؟ أو أن الأمر يتعلق بمجرد تحرُّرٍ يكاد لا يصل إلى أوطاننا إلا في صورة مجرد قوانين تحتاج إلى اشتغال طويل النفَس على تغيير العقليات وتفكيك البِنى الثقافية والرمزية العميقة التي شرَّعَت منذ زمن طويل لهيمنة اللوغوس الذكوري على النساء؟

بوُسعنا التذكير أولًا بمسارات التحرر النسوي منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم وفق اللحظات التالية:

  • (١)
    اللحظة الأولى: بدأت منذ ١٨٤٨م كأول توقيع لمفهوم النسوية مع الكاتب الفرنسي إسكندر ديماس الابن، وهي فترة دامت إلى حدود الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان ١٩٤٨م، الذي يُعلن في بنده الأول عن المساواة التامة بين كل البشر في الحقوق والواجبات. وهنا علينا التذكير بأن أول إعلان عن حقوق المرأة كمواطنة ظهرَ في فرنسا إبان الثورة الفرنسية منذ ١٧٩١م، إضافة إلى أن بعض المفكرين والأدباء من الذكور قد دافعوا بشدة عن حقوق المرأة مثل أوجست كونت الذي تكلم عن «ثورة نسوية» (١٨٥٢م) وأراغون الذي اعتبر أن «المرأة هي مستقبل الإنسان».
  • (٢)
    النسوية الكونية: التي ظهرت مع كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» سنة ١٩٤٩م وهي نسوية مُساواتية طالبَت فيها الفيلسوفة الفرنسية دي بوفوار بضرورة إعادة النظر في منزلة المرأة بوصفها «رجلًا كالآخرين» وبوصفها «لا تولَد امرأة بل تصير كذلك»، وذلك في أفق وجودية فلسفية تُعيد إلى المرأة حقَّها في المساواة الوجودية مع الرجل.
  • (٣)
    النسوية الاختلافية: التي طورتها أعمال لوس إيريغاري القائمة على القول بثنائية الكينونة (١٩٧٤م)، واعتبار الاختلاف الجنسي أمرًا أساسيًّا من أجل مقاومة السياسات الذكورية التي لم تفعل إلى حدِّ الآن غير إنتاج الدمار والمجاعات والحروب والأوبئة، وعليه لقد آن الأوان للمرأة أن تستعيد حقها كجنس مختلف من أجل التأسيس لتحوُّل اجتماعي وأخلاقي وسياسي على مستوى الإنسانية الحالية.
  • (٤)
    النسوية الإسلامية: التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي مع كتاب نوليفير غول «الحداثة الممنوعة» (١٩٩١م). وتقوم النسوية الإسلامية على نقد القراءة الأبوية والذكورية للشريعة الإسلامية بوصفها قد أسست لاضطهاد النساء وسمحت بالعنف ضدهن؛ ولذلك فإن هذه القراءة الذكورية للنص القرآني هي ما ينبغي مقاومته والكشف عن مواقع العنف فيه وفتح الباب أمام قراءة نسوية للنصوص الدينية.
  • (٥)
    النسوية ما بعد الكولونيالية: التي تشتغل ضمن أفق نسوي يؤوِّل علاقات الجنس في أبعادها التاريخية والجغرافية في علاقات بسياسات الاستعمار العالمية، وذلك على أساس ضرب من العلاقة الخطيرة بين السلطة البطريكية والنزعة الاستعمارية. وقد ظهرت هذه النزعة خاصة في العالم الأنغلوساكسوني وجمعت في أفقها مفكرات وأديبات آتيات من بلدان عانت من استعمار الرجل الأبيض، أو من التمييز العنصري. وتنتمي هذه النزعة النسوية إلى الدراسات ما بعد الكولونيالية التي تنسب إلى كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق (١٩٧٨م)، والذي اشتغل فيه على الكشف عن البناء الإيديولوجي الذي أنجزه الغرب للشرق من أجل تبرير سياساته الإمبريالية.
  • (٦)
    الأيكولوجيا النسوية: التي تُنزل مسألة تحرُّر المرأة ضمن مسار تحرُّر الشعوب من سياسات الاستعمار الإمبريالية من جهة وتحرير الطبيعة مما يهددها من مخاطر أيكولوجية من جهة ثانية. ومن بين النساء اللائي يشتغلن ضمن النسوية الأيكولوجية نذكر ماريا ميس وفاندانا شيفا (منذ ١٩٩٣م). وهو ما نقرؤه ضمن كتاب مشترك بينهما تحت عنوان «الأيكولوجيا النسوية» وهو كتاب يقوم على أطروحة أساسية تقول بأن «النساء والطبيعة والشعوب المستعمرة هي مستعمرات الإنسان الأبيض.»٤
  • (٧)
    النسوية الأمريكية المعاصرة: التي تجد في كتابات الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة نانسي فرايزر أحد تمظهُراتها الأساسية. وتشتغل هذه المُنظِّرة النسوية في أفق نظرية اجتماعية نقدية تراهن على تغيير مجتمعي حقيقي، يجد في نقدها للفضاء العمومي الليبرالي الذكوري مقومًا جوهريًّا. وهي تقول في بعض حواراتها (٢٠١٣م) ما يلي: «إنني أعتقد أنه من الضروري إطلاقًا العمل على إمكانية بناء فضاء عمومي بديل لا يكون الفضاء العمومي الرسمي المذكر.»

وفي الحقيقة، بوسعنا أن نصنِّف هذه الأشكال من التحرُّر النسوي في ثلاث خانات:

  • في الخانة الأولى: نجد أن ما يعطل تحرُّر المرأة هو سلطة الذكر، أي هيمنته على سياسات الحقيقة (الفلسفة والعلم) وعلى معايير المجتمع (القوانين والتشريعات) وعلى حرية الخيال (الإبداع الفني خصوصًا الذي لم يذكر التاريخ حوله غير أسماء ذكورية) … وبوسعنا أن ننزل صلب هذه الخانة دعاة المساواة (سيمون دي بوفوار) ودعاة الاختلاف الجنسي (لوس إيريغاري)، ودعاة التكامل (النسوية الإسلامية) معًا.
  • وفي الخانة الثانية: بوسعنا تنزيل الدراسات ما بعد الكولونيالية (بما في ذلك الأيكولوجيا النسوية)؛ حيث إن معوقات التحرُّر التي ينبغي على المرأة مقاومتها إنما هي السياسات الاستعمارية التي ترتب العالم على منطق الهيمنة وحضارة السوق وتصحير الثقافة وتدمير قدرة الإنسان على إبداع طرق مغايرة للحياة.
  • وفي الخانة الثالثة: يقع اكتشاف مفهوم جديد يزعزع كل الدراسات النسوية تلك التي بقيت بخاصة في مستوى المعركة بين المذكر والمؤنث، هو مفهوم الجندر أو الجنوسة الذي وقعته الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر؛ وذلك في كتابها المعروف «اضطراب في الجندر» (١٩٨٠م)، ذاك الكتاب الذي زعزع المقولات التقليدية حول الجنس وحول الذكر والأنثى، وحول الرجل والمرأة؛ بحيث وقع التمييز بين الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي الذي يتم بناؤه ثقافيًّا. ويسمح مفهوم الجندر بفهم آليات قمع النساء صلب العلاقات الاجتماعية التي تفصل بين الرجال والنساء. وذلك أن قمع النوع الاجتماعي لا يمكن فصله عن العرق والثقافة والطبقة وعليه تشترك هذه المقاربة الجندرية مع الدراسات الكولونيالية في ضرورة اختراع تجديدات حاسمة في تمثُّلات الغيرية. مع التنبيه إلى أن الطريف لدى بتلر هو نجاعة مفهوم الجندر في إرساء استراتيجية نضالية مغايرة من أجل تحرُّر المرأة بوصفها نوعًا اجتماعيًّا لا بوصفها جنسًا بيولوجيًّا.

(١) ماذا فعلت النسوية العربية؟

لو أردنا رسم خريطة مستعجلة لما حققته المرأة المبدعة في بلادنا فيمكن قول ما يلي: إن أغلب ما أنجزته المرأة العربية يتنزل ضمن حركات التحرر النسوي العالمية؛ بحيث ساهمت نضالات النسويات العربية بهذه النماذج التحررية واستفادت من مكاسبها وطبقتها بأشكال متفاوتة النجاح على مجتمعاتنا العربية منذ معارك التحرر من الاستعمار أي منذ ١٩١٠م في إيران و١٩٢٣م في مصر و١٩٣٦م في تونس … غير أن هذه المسيرة النسوية العربية تثير ثلاثة إحراجات نصوغها كما يلي:

  • (١)
    إنَّ أغلب دعوات تحرير المرأة قد تأسست في البلاد العربية تحت أقلام ذكورية من قبيل رفاعة الطهطاوي٥ وقاسم أمين٦ وحسن حسني عبد الوهَّاب٧ والطاهر الحدَّاد.٨ وذلك رغم وجود نساء رائدات ناضلن من أجل تحرر المرأة من قبيل هدى الشعراوي ونوال السعداوي٩ وفاطمة المرنيسي١٠ ورجاء بن سلامة١١ وآمال قرامي١٢ وألفة يوسف١٣ (في تونس).
  • (٢)

    أن أغلب النضالات النسوية في البلاد العربية ارتبطت بالمعركة المدنية التي خاضتها النسوية الغربية نموذجًا، وهي نضالات ضد السلطة الذكورية التي توقِّع التشريعات في الدين وفي الدولة وفي الحياة الاجتماعية والجنسية. واعتُبر الذكر خصمًا أول في هذه المعركة، وهذا هو ما انخرطت فيه على نحوٍ ما في فرنسا سيمون دي بوفوار بخاصة، ثم كل الذين اعتبروا التحليل النفسي نموذج توصيف للعلاقة بين الذكور والإناث من أجل تحرير المرأة من مركزية السلطة القضيبية.

  • (٣)
    أن النسوية الإسلامية١٤ التي تقوم على إمكانية استعادة النص القرآني لصالح تحرير المرأة من تفسيرات الذكور الظالمة، إنما تبقى ضمن التراث الديني من أجل تجديده لصالح المرأة، في حين أن هذه الأطروحة بالرغم من ثرائها على مستوى التجديد في سياسات الذاكرة إنما تبقى أسيرة اعتبار المسألة كما لو كانت عالقة بالفرق بين الجنسين وباضطهاد الذكور للإناث؛ في حين أن الذكور أيضًا يعانون من الاضطهاد تحت نفس المنظومة الإسلامية؛ اضطهاد التكفير ومصادرة الحريات مثلًا … إضافة إلى بقاء هذه النزعة النسوية ضمن براديغم هُوويٍّ قد لا يكون مناسبًا لشكل الحياة الممكنة بالنسبة للإنسانية الحالية.

(٢) نحو نسوية نقدية

بعيدًا عن الجدل التقليدي العقيم بين «مركزية ذكورية» و«مركزية نسوية» تنتهي إلى فتنة بين الجنسين، نعتقد أن ما ينبغي الاشتغال عليه من أجل المساهمة في إنشاء ثقافة الحرية والمساواة بين المرأة والرجل في مجتمعاتنا العربية هو العمل على تطوير نسوية نقدية إيجابية من أجل التحرُّر من كل أشكال الهيمنة على البشر؛ هيمنة السلطة ببُناها الدينية التقليدية، وهيمنة الاستعمار الإمبريالي القائم على العنف المعولم، وعلى سياسات التفاوت واللاعدالة بين البشر وبين الشعوب معًا … وضمن هذه النسوية النقدية علينا العمل ضمن مشروع ثقافي طويل النفَس على تربية رمزية عميقة لشعوبنا في أفق إرساء لثقافة حقوق الإنسان. وذلك من أجل العمل على التحرُّر أولًا من كل أشكال علاقات العنف في ديارنا: عنف الذكور على الإناث، وعنف الدين على العقول الحرة وعنف السلطة على جندر الأشخاص وشكل الحياة الجنسية الخاص بهم. إن النسوية النقدية الإيجابية لا تقصي أي نوع اجتماعي من أفقها؛ بحيث يمكن للذكور المشاركة في تطويرها لأنهم مطالبون هم أيضًا بالتحرر من أوهامهم حول أنفسهم، وبتحرير خيالهم من قصتهم القديمة حول النساء … وبهذا المعنى علينا تنزيل مسألة تحرُّر المرأة ضمن تحرر البشر اليوم من الاضطهاد الذي صار صفة العصر اللاإنساني الذي نحن فيه، وأن نجرم كل أشكال اضطهاد الناس في العالم بكونه جريمة ضد الإنسانية، وليس فقط مجرد عنف على النساء. ومن أجل المساهمة في خطة التحرر المجتمعي العام في أوطاننا، يمكننا التعويل دومًا على الفنون كبراديغم تربوي واسع النطاق لتهذيب ذائقة أبنائنا وفتح إمكانيات بهيجة أمامهم لإبداع المستقبل. فالمستقبل لا جنس له، وهو لا ينتظرنا في أي مكان، نحن فقط من يخترع سبل اللقاء به كل يوم.
١  Simone de Beauvoir, Le Deuxième Sexe, t.I, T.II, Paris,Folio Essais, 1976.
٢  Luce Irigaray, Speculum, De l’Autre Femme, Paris, Les Editions de Minuit, 1974.
٣  Nancy Frazer, le Féminisme en mouvement, des années 1960 à l’ère néolibérale, Paris, La découverte, 2012.
٤  Maria Mies et Vandana Shiva, Ecoféminisme, Paris, L’harmattan, 1998.
٥  رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز ١٨٣٤م.
٦  قاسم أمين، المرأة الجديدة ١٩٠٠م.
٧  حسن حسني عبد الوهَّاب، الشهيرات التونسيَّات، ١٩١٧م.
٨  الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، ١٩٣٠م.
٩  نوال السعداوي، الأنثى هي الأصل، ١٩٧٤م.
١٠  فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية ١٩٧٥م.
١١  رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة، أبحاث في المذكر والمؤنَّث، تونس، دار المعرفة للنشر، ٢٠٠٥م.
١٢  آمال قرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية، دراسة جندرية، بيروت، دار المدار الإسلامي، ٢٠٠٧م.
١٣  ألفة يوسف، ناقصات عقل ودين، سحر للنشر، ٢٠٠٣م.
١٤  Zahra Ali, Féminismes Islamiques, Paris, La Fabrique, 2012.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤