الفصل الرابع

المقدَّس في لغة المؤنث

«يوم كان الأزواج يُقيمون في المنزل ويغزلون.»

مارلين ستون، يوم كان الرب أنثى

«لا شيء يبقى إلا إذا كان له اسم. إن الاسم يعني الوجود. تتلقى وجودها الآلهة عبر منح الاسم كما يفعل البشر.»

غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي

تحت راية الأنوثة وُلد المقدَّس في زمان بعيد عن زماننا وفي جغرافيا غامضة لا تشبه جغرافياتنا الحديثة التي بنَت نفسها على ضرورة نزع القداسة عن العالم. وبعيدًا عن أسماعنا المكتظة بضجيج الذكور على ذاكرة الإناث، صرخت النساء وهن يلدن في العراء أبناء الإنسانية السحيقة في القدم وزغردَت النساء أيضًا ورتَّلَت أغنيات الحياة الأولى، تلك التي وُلدت من أرحامهن. لكن هيمنة النظام الأبوي على تاريخ الإنسانية منذ آلاف السنين يمنعنا من الإنصات إلى أصوات الألوهة المؤنثة التي ظهرت في حضارات الشرق القديمة منذ ما يقارب نصف مليون سنة خلت. ولكن لأننا نؤرخ بذاكرة ذكورية، ولأننا نؤرخ أيضًا بذاكرة قصيرة نظل مصابين بضرب من الصمم إزاء الصراخ البعيد لأصوات مكتومة ولدمدمة الأغنيات المخنوقة في أغوار الذاكرة العميقة لتاريخ النساء. ولأن «البئر العميقة — كما يقول نيتشه — ستظل طويلًا لا تعرف ما الذي يحدث في قاعها.» سيظل التاريخ يُكتب تحت سيادة الهيمنة البطريركية، تاريخ يجري تصديقه وعدم التشكيك بخططه الرمزية حتى من النساء أنفسهم.

لكن الذاكرة لا تنسى رغم كل أشكال التعتيم عليها. وفي هذا السياق الفكري تنخرط جملة من الأبحاث في تاريخ الأديان والحضارات القديمة التي اتخذت من مَهمة إنجاز سردية مغايرة للسرديات الذكورية والدينية والسياسية التي قامت على كتابة التاريخ من وجهة نظر الهيمنة الذكورية التي قامت على تحالف الثالوث: الذكر والملك والإله؛ بحيث يصبح الذكر مَلكًا بوصفه يجسد سلطة الرب على الأرض، وضد هذه القراءة الذكورية للتاريخ، تنهض جملة من الأبحاث العلمية النسوية بكتابة تاريخ النساء من وجهة نظر النساء. وهو ما أعلنت عنه المؤرخة الأمريكية غيردا ليرنر (١٩٢٠–٢٠١٣م) في كتابها المعنون نشأة النظام الأبوي (١٩٨٦م). وهو كتاب يقوم على أطروحة أساسية فتحت الأفق أمام كتابة مغايرة للتاريخ من وجهة نظر متحررة من القراءة البطريكية، وهي أطروحة تعبر عنها منذ مقدمة الكتاب كما يلي: «إن تاريخ النساء أساسي وجوهري لتحرُّرهن.» ومن أجل ألا يستمر إبعاد النساء عن «الإسهام في صناعة التاريخ»، ومن أجل ألا يستمر «إنكار تاريخ النساء» وتعتيم الرجال عليه، اتخذت غيردا لينر من مهمة إعادة كتابة تاريخ النساء في علاقة بنشأة النظام الأبوي مهمةً بحثية لكتابها. لكن متى بدأ تحديدًا تاريخ النساء؟ وكيف وقع الانقلاب عليه من طرف الذكور؟ إن الأمر يقتضي العودة إلى تاريخ الحضارات الشرقية القديمة في بلاد الرافدين؛ حيث نعثر على أول ظهور لعبادة الأم أو «الألوهة المؤنثة»، وهذا هو المجال المعرفي الشاق والمتوعِّر والغريب عن عاداتنا الفكرية والإبستمولوجية الحديثة الذي اختارَت الباحثة السورية ميادة كيالي الولوج إليه واختراقه بحثًا وقراءةً وتأويلًا باستنطاقها للألواح وللنصوص المفقودة وبتجشُّمها مصاعب السير في ثنايا ذاكرة سحيقة لا نعرف إلى الآن ما الذي حدث صلبها. ولقد أنجزت الباحثة ميادة كيالي في هذا المجال رسالة ماجستير نشرَت تحت عنوان المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين (٢٠١٥م)، واستأنفت البحث في هذا المجال برسالة دكتوراه نشرَت بعنوان هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة (٢٠١٨م). وبوسعنا اعتبار ما أنجزته الباحثة بمثابة المحاولة البحثية الجادة في ظل أفق معرفي جديد ضمن الأبحاث النسوية العربية المعاصرة التي لم تفعل في غالب الأحيان غير استيراد نظريات النسوية الغربية وترجمتها على أنحاء مختلفة إلى ثقافتنا؛ فكانت في مجملها بمثابة الدفاع عن حقوق المرأة ضد التصور الديني الرعوي لها، وذلك يقال أيضًا حتى على تلك الأبحاث التي انضوت تحت راية النسوية الإسلامية الداعية إلى قراءة نسوية للقرآن من أجل إنصاف النساء ضحيات القراءة الذكورية للكتاب المقدَّس؛ فكانت أبحاث النسويات العربيات والإسلاميات على نحوٍ ما مشحونة بانفعالات المرأة-الضحية، في ضرب من السلوك النظري الخصامي، كما لو كانت المرأة متسولة على عتبات رجل هو مقياس المساواة ومصدرها معًا، وكما لو كانت هيمنة الذكور أمرًا طبيعيًّا في حين أن الأمر تم له وفق مسار تاريخي دقيق تؤرخ له الباحثة.

كيف نشأت ديانة الألوهة المؤنثة؟ وكيف حدث الانقلاب عليها؟ وكيف مثَّلت مؤسسة الزواج أحد أهم وسائل ذلك الانقلاب؟

للإجابة عن هذه الأسئلة تنطلق الباحثة ميادة كيالي من أطروحة أساسية مفادها: أنه لم يعُد بوسعنا اليوم بعد كل الاكتشافات الحاصلة في مجال تاريخ الحضارات القديمة، الاعتقاد في السردية الأحادية القائلة بالخطيئة الأولى لحواء. وهي سردية دينية بطريركية تزجُّ بالمرأة ضمن القمقم الرعوي، وتجعل من الوصاية الذكورية حتمية بيولوجية أو أمرًا طبيعيًّا وإلهيًّا معًا. وعليه اتخذت الباحثة من مَهمة التسلح بالتاريخ بوصلة معرفية جوهرية من أجل الكشف عن سردية مغايرة تُكتب في صيغة المؤنث هذه المرة. لكن كيف السبيل إلى الكشف عن ولادة المقدَّس في لغة المؤنث؟ هذا السؤال يجرنا إلى موضوعة الزواج كمؤسسة لتعيين الهويات وتحديد العلاقات الاجتماعية وتوزيع السلطات والثروات ولاختراع الحياة وتدبيرها. وكانت أسئلة الباحثة منذ مقدمة رسالة الدكتوراه هي التالية: «هل الزواج بالمطلق صنيعة النظام الأبوي، أم أنه تغيُّر من شكل إلى آخر، حين تحوَّل النظام من أمومي إلى أبوي؟ ما علاقة الزواج بالمُقدس؟»١ ومن أجل معالجة هذه الإشكاليات حددت الباحثة مدونة بحثها «بمجتمع حضارة الرافدين على امتداد أربع حضارات هي على التوالي: سومر، وآكد، وبابل، وآشور»؛ وذلك لأن هذه الحضارات هي مهد الأديان والمقدَّسات الأولى. ولقد اتخذ البحث، إلى جانب البحوث العالمية في هذا المجال، من التشريعات والقوانين الخاصة بهذه الحضارات نصوصًا أساسية لرسم معالم سردية الألوهة المؤنثة ومعالم الانقلاب الذكوري عليها.
إن أهم ثورة علمية غيَّرت من القراءة البطريكية بحسب الباحثة ميادة كيالي هي اكتشاف أعلن عنه عالم الآثار البريطاني جورج سميث (١٨٤٠–١٨٧٦م) وذلك بتاريخ ١٨٧٢م وهو «العثور على الأصل البابلي لسفر التكوين في بلاد الرافدين، فقد أنهى لتوِّه ترجمة الألواح البابلية التي تضمُّ ملحمة جلجامش … بهذا الاكتشاف تهاوت أسطورة أن الكتاب المقدَّس هو أول نص مكتوب وأنه وحي سماوي.»٢ وعليه لقد سدد هذا الاكتشاف لألواح جلجامش وفك رموزها، ضربة موجعة لبِنية النظام الأبوي الذي يعتقد أنه أقدم أشكال العائلة. وانطلاقًا من فك شيفرة الكتابة المسمارية ومن مدوناتها الطينية وقطعها الأثرية وقع اكتشاف أساطيرها عن خلق الكون ونصوص تشريعها من إصلاحات وقوانين منذ «أوركاجينا» في لجش (٢٣٧٨–٢٣٧١ق.م.) و«سرجون الآكدي» (٢٣٠٠ق.م.) و«أور نمو» في مدينة أور (٢١٠٠ق.م.)، إلى «لبت عشتار» ملك أيسن (١٩٣٠ق.م.) … وهذه الاكتشافات التاريخية هي التي اعتمدت عليها الباحثة في سياق انتمائها إلى حقل تاريخ الحضارات القديمة الذي بوسعه وحده سرد ما حدث تحديدًا لهذا الانقلاب الذكوري على المقدَّس في لغة المؤنث.
لقد ظهرت ديانة الإلهة المؤنثة في العصر الحجري الحديث (٨٠٠٠–٥٠٠٠ق.م.)؛ حيث ظهرت الزراعة وحيث تركزت الأسطورة الأولى حول «إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة» وهو ما يتجلى ضمن التماثيل الفينوسية التي تمثل الربة الأنثى وترمز إلى ديانة الأم بوصفها رمزًا للخصوبة والإثمار والربيع. وهو ما عبَّرت عنه الباحثة: «وجاءت طقوس ذاك الدين لتتواءَم مع الاعتقاد بالألوهة الأنثى بهيئة الأم العظمى، وممارسة عبادتها.»٣ وفي هذا السياق العام لولادة الألوهة المؤنثة صلب عبادة الأم، مثل الزواج المؤسسة الأصلية لاختراع المقدَّس وللتعبير عنه؛ وذلك لأن «الزواج هنا كان طقسًا يحاكي دورة الخصب والحياة والنماء، وكون الإلهة الأنثى كان من يمثِّلها على الأرض الكاهنة العظمى التي ستنتقي زوجها ليتمم معها طقس الحب.»٤ وهكذا مثل الزواج المقدَّس الذي يعود في نشأته كما تشير الباحثة، إلى «المجتمعات النيوليتية التي امتدت على (٧٠٠) سنة (٥٨٠٠–٥١٠٠ق.م.)»، بين الإلهين على المستوى الميثولوجي رمزًا لحضور المقدَّس ولمحاكاة الطبيعة في دورة الخصوبة والحياة معًا. لكن ما الذي أدى إلى الانقلاب الذكوري على ديانة الكاهنة العظمى؟ تقدم الباحثة عن هذا السؤال ثلاث إجابات: الأولى تتعلق بعلاقة الزواج بالدين، والثانية في علاقته بالاقتصاد، والثالثة في علاقته بمأسسة الجنس.
ما تُثبته الباحثة، مستندة في ذلك إلى مجموعة من الأبحاث العلمية الرائدة الغربية (إنجلز، فرويد، فوكو، غيردا لينر) والعربية (إبراهيم الحيدري، خزعل الماجدي ..)، أولًا هو أن الدين قد وُلد ضمن حدَث الزواج المُقدس كحدث جنسي طقوسي رمزي يجسد اللقاء بين الإلهة الأم والإله المَلك لإنتاج الحياة والخصب ومحاكاة الطبيعة في سيرورة الحياة والنماء. وهنا ينبغي التمييز بين «الزواج القانوني وهو وليد المجتمع الأبوي … والزواج المشاعري الطقوسي وهو ممثل المجتمع الأمومي بلا منازع.»٥ لكن في غضون هذا الزواج المُقدس تم تحويل الزواج كطقس ديني إلى زواج سياسي يعطي المَلك زوج الكاهنة العظمى امتيازات تمكِّنه من ضمان الحكم وتأسيس الإمبراطوريات، واسترقاق النساء الأسيرات واستعمالهن في الدعارة التجارية. وهو ما حدث «في الألفية الثالثة ق.م على أثر الفتوحات العسكرية.»٦

أما عن علاقة الزواج بالاقتصاد؛ فالأمر يتعلق باكتشاف المعادن وتصنيع الأدوات وسيطرة الذكر على عملية الصيد في حين يقع تدريجيًّا اختزال المرأة في الإنجاب والعناية بأطفالها. وفي هذه الحقبة التاريخية بدأت سيطرة الرجل على الإنتاج وتراكم الثروات وظهرت أول بوادر المجتمع الطبقي الذي فيه يقع استعباد النساء والعبيد ويتشكل النظام الأبوي بظهور الزواج الأحادي وتحوُّل النسب من الأم إلى الأب، وولادة قيم العفة وطهورية النسب ومقولات الزنا والخيانة وما ترتَّب عليها من تشريعات دينية ذكورية. وهي تشريعات أدت إلى قوننة الزواج ومأسسة الحياة الجنسية وجعلها تحت هيمنة النظام الأبوي. ومن أجل مأسسة الجنسانية والسيطرة على مؤسسة الزواج احتمى النظام الأبوي بتشريعات تعود أقدمها إلى شريعة حمورابي (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.)، وسبقتها شرائع أخرى من قبيل تشريعات أور نمو مؤسس سلالة أور الثالثة الذي حكم بين (٢١١٣–٢٠٩٥م) وقوانين لبت عشتار خامس ملوك سلالة أيسن (١٩٣٩–١٩٢٤ق.م.). ولقد تابعت الباحثة بالتحليل الدقيق ملامح تأسيس النظام الأبوي ضمن هذه التشريعات، منتخِبة من كل تشريع أهم القوانين التي ساهمت في السيطرة على جنسانية المرأة بوصفها حقل الهيمنة الذكورية على النساء. ولعل أهم التشريعات القديمة التي أسست لهيمنة الرجال على النساء هي أولًا المادة السابعة من قانون أور نمو التي تقضي بعقوبة الموت للمرأة التي تُغوي رجلًا وتقيم معه علاقة جنسية، في حين يُطلق سراح الرجل. بالإضافة إلى ذلك تَعتبر المواد (١٢٧–١٣٤) أهم التشريعات التي سنَّها حمورابي في خصوص عقوبة القذف والزنا وبخاصة التشديد على جنسانية المرأة ومنعها من الزواج في حال غياب زوجها طالما لديها ما يكفيها من الطعام. أما أخطر تشريع سنته القوانين الآشورية القديمة؛ فيتمثل في المادة رقم ٤٠ المتعلقة بالحجاب الذي يوجب على النساء زوجات السادة لبس الحجاب والنساء العاهرات يُمنعن من لباسه ويعاقبن على ذلك.

إن أهم ما نظفر به من هذه الأطروحة اللامعة للباحثة ميادة كيالي هو أن هندسة هيمنة الرجال على النساء إنما تعود إلى مأسسة الحياة الجنسية وتنظيمها من طرف الذكور داخل مؤسسة الزواج التي تحوَّلت إلى مؤسسة لتنضيد خرائط الهيمنة على المرأة وتسخيرها لصالح الرجل. وهو أمر لا يزال إلى اليوم سائدًا في مجتمعاتنا الأبوية التي حتى وإن آمنت بدور النساء في اختراع إمكانية الحياة نفسها؛ فإنها لم تستطع تمثُّل ضرورة إنصاف النساء بوصفهن «نصف المجتمع» وبوصفهن أيضًا «مستقبل الإنسان»، وملح الأرض وزرعها.

١  د. ميَّادة كيلي، هندسة الهيمنة على النساء: الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة، بيروت، المركز الثقافي العربي، ٢٠١٨م، ن ص١٧.
٢  نفسه، ص ص٣٧-٣٨.
٣  نفسه، ص٥٥.
٤  نفسه، ص٥٦.
٥  نفسه، ص٤٧.
٦  نفسه، ص٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤