الفصل الخامس

هل الإرهاب النسائي مواصَلة لتاريخ العنف على النساء … بطرق أخرى؟

«إن مبدأ الرؤية المهيمنة ليس مجرد تمثُّل عقلي، بل نسقًا من البِنى المتأصِّلة بثبات في الأشياء والأجساد.»

بيار بورديو، الهيمنة الذكورية

«إذا كان هناك توتُّر يحدث بطريقة مخصوصة بين «الإسلام» و«الغرب» حاليًّا؛ فإنَّ محرِّك هذا التوتر هو شيء ينبغي أن نبحث عنه في الطريقة التي بها تتم مقاربة العلاقة بين الجنسين … إنه التوتر الذي يغذي ويفضِّل القرارات القصوى والمتطرفة التي تسقط في الإرهاب.»

لوران بيبارد، الإرهاب والنسوية، المذكر في موضع سؤال
إذا كان الاهتمام بقضية المرأة قد انصبَّ منذ قرن من الزمن على معارك تحرُّر النساء من الهيمنة الذكورية، وعلى صورة المرأة كضحية لعنف تاريخي مطوَّل يعود إلى آلاف السنين مارسته البِنى الثقافية والسياسية الأبوية؛ فإن الدراسات النسوية والجندرية مطالبة اليوم بالاشتغال على ظاهرة أكثر إحراجًا وخطورة؛ كيف نفهم ظهور نساء إرهابيات يشتغلن ضمن منظومات العنف المعولم تحت راية سلطة بطريكية متطرفة؟ هل أن التحاق النساء بالإرهاب كأقصى تجليات مكنة اللاهوت الذكوري المتطرف، الذي يجعل من القتل طقسه القيامي المفضل، هو ردة فعل على تاريخ العنف المخزن في ذاكرة النساء أم هو استئناف جذري لهيمنة الذكور التي تصنعها النساء وتُؤبِّدها على نحو مفزع؟ كيف نفهم ظاهرة «الإرهاب النسائي»١ الذي استفحل فجأة بعد «الربيع العربي»؟ من أجل مواجهة هذه الوضعية التأويلية المزعجة، سنحاول اختبار الأطروحة التالية: أن «الإرهاب النسائي» هو التعبيرة الرمزية الراهنة عن ضرب من العدمية النسوية السالبة الناجمة عن تأبيد تاريخي مؤلم للهيمنة الذكورية على النساء؛ لذلك علينا إعادة المرور بتاريخ العنف على النساء من أجل فهم انخراط النساء في منظومة العنف الإرهابي المعولم.

(١) لكن كيف نكتب تاريخ العنف على النساء؟

لا بد من الإشارة أولًا أن تاريخ النساء هو مفهوم ظهر حديثًا منذ سبعينيات القرن الماضي من أجل التأريخ للنضالات النسوية الحديثة التي عرفها الغرب منذ ١٧٩١م تاريخ أول اعتراف بالمرأة كمواطنة إبَّان الثورة الفرنسية. وأن كتابة تاريخ النساء إنما هو إذَن كتابة لتاريخ أشكال العنف عليهن منذ أن سرقت راحيل التراقيم من بيت أبيها إلى بيت زوجها، في قصص الآباء في «سفر التكوين»، (١٠٥٠ سنة قبل الميلاد) إلى صدور الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان (١٩٤٨م)؛ حيث وقع الاعتراف رسميًّا لأول مرة بالمساواة الكونية التامة بين جميع الناس في جميع الحقوق والواجبات. لكن تاريخ النساء هو أيضًا تاريخ عبادة الأم، وزمن الربَّات في الشرق القديم، وتاريخ الكاهنات والساحرات والملكات والعالمات والشاعرات … هو تاريخ هاجر التي أشار إليها القرآن وارتبط طقس الحج بقصتها، والخنساء الشاعرة، وعائشة أم المؤمنين … هو تاريخ الزعامات٢ والقيادات: زنوبيا ملكة سبأ … وعليسة مؤسسة قرطاج … وروزا لكسمبورغ وحنا آرندت وسيمون دي بوفوار … غير أن هذه الأسماء لا يحفظها التاريخ الذكوري إلا من أجل تصنيفها في خانة نسوية لا تملك نفس القدر من الاهتمام مثلما يملكه الملوك أو الشعراء أو الأنبياء أو الفلاسفة الذكور. ثَمة فرق ما بين الذاكرة التي تدوَّن من وجهة نظر الضحايا أو المهيمن عليهم وبين التاريخ الذي يكتب من وجهة نظر المُهيمن أو المُنتصر.

(٢) كيف تم إخضاع النساء إلى هيمنة الذكور؟

لقد انخرط في هذا السؤال الثقيل باحثون وفلاسفة ومؤرخون اتفقوا على ضرورة العودة إلى البِنى الرمزية والروحية العميقة التي تجد في المخيال الميثولوجي العميق للشعوب تعبيراتها الأساسية من أجل التأريخ لسياسات «المذكر والمؤنث» ولأسس النظام الأبوي تحديدًا. وهو ما يسميه بيار بورديو «بالعنف الرمزي» الذي يجد في «البناء الاجتماعي للأجساد»٣ استراتيجية أساسية من أجل بناء كسمولوجيا المركزية الذكورية. وتذهب الفيلسوفة الفرنسية سيلفيان أغسنزكي إلى الحديث عن نوع من «ميتافيزيقا الأجناس» القائمة على «تواطؤ المخيال الميثولوجي مع الهيمنة الذكورية» من أجل الهيمنة على النساء، وذلك وفق نوع من المماهاة بين «الفحولة والحياة الروحية … وكأنما الذكر هو جنس العقل أو الروح، في حين تبقى الأنثى ملتفتة نحو الشهوة ونحو الأرض وهذا جلي في نصوص آباء الكنيسة … ذلك أن الأسطورة لا تُضاف إلى الواقع إنما تشكِّله.»٤

(٣) من عبادة الأمهات إلى قصص الآباء

لقد اتفق أكثر الباحثين في هذا المجال على أن المخيال الديني عمومًا والتوحيدي خصوصًا قد قام على تاريخ طويل من التشريع للعنف ضد النساء على أنحاء مختلفة وبدرجات متفاوتة وفي سياقات تاريخية جِد متباعدة ومتنافرة أحيانًا. وهو ما تثبته المؤرخة الأمريكية غيردا ليرنر (١٩٢٠–٢٠١٣م) في كتابها نشأة النظام الأبوي. وهي دراسة مطولة وعميقة حول تاريخ النظام الأبوي في بلاد الرافدين (منذ حوالي ٣١٠٠ إلى ٦٠٠ق.م.) بوصفه سيرورة تاريخية طويلة وقع فيها إخضاع النساء إلى سلطة الرجال. وينطلق الكتاب من فكرة أن «تاريخ النساء أساسي وجوهري لتحرُّرهن.»٥ لكن يبدو أن هذا التاريخ لم يُكتب رغم كل النضالات النسوية الحديثة من سيمون دي بوفوار إلى جوديث بتلر. ذلك أنه ينبغي الإقرار وفق عبارات ليرنر بضرب من «المسافة بين الثقافة التاريخية والنقد النسوي». لكن أي معنى ينبغي أن نمنحه ها هنا لمفهوم التاريخ؟ تميز غيردا ليرنر بين الماضي والتاريخ على أساس الفرق بين ماضٍ غير مدون وتاريخ مدوَّن ومؤَوَّل. والمفارقة بينهما تكمن هنا بين انتماء تاريخ النساء إلى خانة الماضي غير المدون، في حين يحتكر الذكور التاريخ الذي يكتبونه، وذلك من وجهة نظر النظام الأبوي، الذي ينبغي علينا التأريخ له جيدًا من أجل العثور صلبه على تاريخ العنف على النساء. هكذا إذَن لا يمكن في الحقيقة كتابة تاريخ العنف على النساء دونما المرور عبر تاريخ نشأة النظام الأبوي. ويصبح السؤال حينئذٍ هو التالي: كيف يمكن تفسير «أسباب الخضوع الأنثوي» طيلة آلاف من السنين من هيمنة الذكور على كل السياسات؛ سياسات الذاكرة والحقيقة والأجساد والدول والمعتقدات؟ يبدو إذَن أن كل التاريخ المدوَّن إنما هو تاريخ «مشوَّه؛ لأنه يروي القصة من وجهة نظر النصف الذكري من البشرية فحسب.»٦ وعليه يمكننا اعتبار أن إبعاد النساء عن الإسهام في صناعة التاريخ وتأويل ماضي البشرية هو سمة النظام الأبوي وهو في نفس الوقت مظهر من مظاهر العنف على النساء.

كيف يمكن للنساء صناعة تاريخهن بمعنى كتابته وتأويله بعيدًا عن السلطة الذكورية؟

لماذا قضَت النساء كل هذا التاريخ الطويل (أكثر من ٣٥٠٠ سنة) من أجل الوعي بحقوقهن؟ وخاصة أن السؤال الأكثر إزعاجًا هو ما طرحته الباحثة الأمريكية ليرنر: «ما الذي يمكن أن يشرح تواطؤ النساء في دعم النظام الأبوي الذي أخضعهن وفي نقل النظام جيلًا بعد آخر، إلى أولادهن من الجنسين؟»٧ لقد نشأ تاريخ العنف على النساء في فترة قديمة جدًّا تعود إلى الشرق القديم؛ حيث حدثَت تحولات عميقة في نظام القرابة وتشكُّل البيروقراطيات الدينية التي تحولَت فيها الإنسانية من عبادة الأم إلى تشخُّصات الإله الذكر. وهذه الفترة هي عبارة عن سيرورة تاريخية طويلة امتدت على مدى ٢٥٠٠ سنة تقريبًا من ٣١٠٠ إلى ٦٠٠ق.م. وهي فترة وقع فيها ترسيخ النظام الأبوي وتحوُّل السلطة من الأمهات إلى الآباء. وقد حصل هذا الأمر بحسب الباحثة لحظة ظهور التوحيد اليهودي، الذي نص في أسفاره على أنه «من المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت جميعًا» (ابن سيراخ)، وحيث صارت المرأة ملكية من بين ملكيات الرجل مثل خدَمه وثوره وحماره، وصار بوسع الأب بيع ابنته كعبدة وحرمانها من الإرث في صورة وجود أخ أكبر، وعزل الحائض والنافس بما هي نجسة، وصار الحسب يُكتب من جهة الأب … إضافة إلى تشريعات كشوف العذرية واعتبار «النساء سخيفات ويمتثلن لكل المخلوقات» (التكوين الكبير)، بل وصل العنف على النساء إلى حد عدم اعتبار المرأة بشرًا. وهو ما صرح به الباحث وليام بركلي «لم تكن المرأة تُعَد بشرًا في الشريعة اليهودية وإنما كانت تُعَد شيئًا.»٨
ولقد واصلت المسيحية هذا العنف اليهودي ضد النساء ضمن منظومة رمزية بطريكية قائمة على مركزية الذكور وهو ما تشهد عليه تعليمات بولس التي استمرت على أنحاء مختلفة مع أغسطينوس وتوما الأكويني نفسه؛ حيث تأسس كل التقليد المسيحي على أسطورة الخطيئة الأصلية، ووقع التشديد على تعليمات إخضاع النساء إلى سلطة الرجال، وعلى الصمت في الكنائس وعلى تغطية رأسها وعلى منعها من الوعظ بوصفها مصدرًا للإثم، وعليها ملازمة البيوت وطاعة الرجال، ووصل الأمر إلى حدِّ كره الجنس ومعاداة المرأة من طرف القديسين المسيحيين، الذين اعتبروا المرأة «مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، ومشوهة لصورته.»٩
أما عن المرأة في السياق الإسلامي؛ فإن الجميع قد اتفقوا أنه بالرغم من بعض التحسينات التي أجراها الإسلام على وضع المرأة بالنسبة إلى اليهودية والمسيحية في قضايا أساسية منها الإرث وتعدد الزوجات والحق في الطلاق، وتكافؤها مع الرجل أمام الله؛ فإن الإسلام ظل يستأنف النظام الأبوي بكل ثقَله الذي قد يُعطِّل تسارع وتيرة التاريخ في ديارنا … وواصل الفقهاء وعلماء الكلام والمفسِّرون من السُّنة والشيعة على حدٍّ سواء اعتبار المرأة في مرتبة دونية؛ حيث يقول عالم الكلام والفقيه الأشعري فخر الدين الرازي «إن النساء خُلقن كخلق الدواب.»١٠ مثلما نقرأ أيضًا تحت قلم صدر الدين الشيرازي: «أن النساء لضعف عقولهن … كِدن أن يلحَقن بالدواب.» وعلى لسان ابن مسعود: «احبسوا النساء في البيوت، فإن النساء عورة.»١١ إن هذا العنف على النساء الذي أسس له التقليد الفقهي والمفسرون والشُّراح ضمن السياق الإسلامي يستأنفه اليوم بعض الدعاة المتطرفين وأصحاب الفتاوى الذين يشرعون لكل أشكال الإرهاب: ضد النساء أو ضد النمط المجتمعي الحديث، ضد قيم العقل وحرية المعتقد، ضد إمكانية المستقبل، وضد ثقافة الحياة برمتها.

وفي هذا السياق الكبير من الإسلام السياسي الذي يقوم على ضربٍ من الابتزاز للحداثة، يستعمل تقنياتها التواصلية وذكاءها العلمي ويحثُّ على هدم قيَمها معًا، يقع تحويل النساء إلى أجساد صالحة لدعم مكنة الإرهاب الفظيعة؛ أجساد للنكاح ضمن خطة «جهاد النكاح» أو أجساد «للتفجير» ضمن خطة الخراب الشاملة لرهط من العدميين الذين يدفعون بالعالم إلى دروب لا تؤدي. والمثير في هذا «الإرهاب النسائي» هو مواصلته لتاريخ العنف على النساء، وتأبيده لخضوعهن إلى منظومة المركزية الذكورية التي تتخذ من النساء دومًا حقلًا للاستثمار في خططها وأمراضها ونزواتها الأكثر دمارًا. وعليه، المطلوب اليوم ضرب من النسوية النضالية التي لا تقوم لا على المركزية النسوية التي تجعل من الذكور أعداءً مؤبدين، ولا على لاهوت نسوي يسعى إلى التحرُّر في لغة أنشأتها السلطة البطريكية نفسها، بل على استراتيجية ثقافية عميقة من أجل تجديد القيم الروحية لشعوب أنهكتها سردية متعبة بعقول لا تفكر.

١  د. آمال قرامي، ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، دراسة جندرية، تونس، مسكيلياني، ٢٠١٧م، ص٢٢.
٢  ناجية الوريمي، زعامة المرأة في الإسلام المبكر، تونس، دار الجنوب، ٢٠١٦م.
٣  بيار بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة د. سلمان قعفراني، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ص٢٤.
٤  Sylviane Agacinski, Métaphysique des sexes. Masculin–Féminin aux sources du christianisme, Paris, Seuil, 2005, p. 18.
٥  غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي، ترجمة أسامة إسبر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ١٩٨٦م، ص٢٧.
٦  نفس المصدر، ص٢٩.
٧  نفسه، ص٣١٧.
٨  إيفون يازبيك حداد وجون إسبوزيتو، بنات إبراهيم، الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام، ترجمة عمرو بسيوني وهشام سمر، بيروت، ناشرون، ٢٠١٨م، ص١١-١٢.
٩  نفسه، ص١٩-٢٠.
١٠  بنات إبراهيم، نفسه، ص٢٦.
١١  نفسه، ص٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤