الفصل السادس

أنا أيضًا: صخب رقمي أم ثورة جنسية؟

«إن الامتياز الذكوري هو فخٌّ أيضًا.»

بيار بورديو، الهيمنة الذكورية

«لا أحد أكثر صلفًا تجاه النساء، أكثر عدوانية وأكثر احتقارًا، من رجل قلِق على فحولته.»

سيمون دي بوفوار، الجنس الثاني

«إن التحرُّش لا علاقة له بالجنس. إنه على الأرجح ضرب سيئ من نزاع الاعتراف مع المرأة وبالذات مع المرأة «الحديثة»، نعني المرأة العمومية، الحرة، العاملة، المقتدرة، المتعلِّمة، المستقلَّة بنفسها، المالكة لجسدها … تلك المرأة التي لا يمكن أو لم يَعُد يمكن تدجين ذاتها أو قطعت شوطًا كبيرًا وحاسمًا في إعادة تنظيم هويتها الجندرية.»

فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية

لا تزال قضية المرأة اليوم بعد قرن ونيف من النضالات النسوية موضع جدل فكري واجتماعي وسياسي وجنسي. وذلك بالرغم من إقرار أهم الدساتير الدولية لمبدأ المساواة بينها وبين الرجل في كل الحقوق والواجبات. ولا تزال الحركات النسوية في حالة تدفُّق باهر؛ حيث وصلنا اليوم إلى ما يسمَّى بالموجة الرابعة في تاريخ النسوية الحديثة، والتي انطلقت منذ الثورة الفرنسية ووقعَت بيانها الفكري الحاسم مع كتاب «الجنس الثاني» لسيمون دي بوفوار (١٩٤٩م)، وانتهت اليوم إلى ما يسمَّى بنسوية الهاشتاغ منذ حركة «أنا أيضًا». ولقد أثارت هذه الحركة النسوية الجديدة جدلًا فكريًّا حادًّا بين النسويات في أوروبا وأمريكا بين من ترى فيها «ثورة جنسية»، ومن تكتب عنها تحت عنوان «إرهاب نسوي جديد». إضافة إلى ذلك ثمة من الفيلسوفات من يعارضن هذه الحركة النسوية الجديدة بتهمة كونها حركة نخبوية برجوازية إقصائية لا تتوجَّه إلى كل النساء وهو ما تصرِّح به الفيلسوفة النسوية الأمريكية نانسي فرايزر التي تقترح ضرورة تحرير النسوية من أسئلة الجندر والجنس من أجل الاهتمام بمشاكل أكثر راهنية من قبيل اللاعدالة واللامساواة التي تعاني منها النساء اليوم سياسيًّا واجتماعيًّا.

ستتوزع خطة هذا المقال على ثلاثة مراحل؛ أولًا: تنزيل حركة «أنا أيضًا» ضمن الحراك النسوي العام. ثانيًا: التعريف بهذه الحركة بوصفها «ثورة جنسية» جديدة. وثالثًا: رسم حدود هذه الحركة بوصفها ضربًا من «الديانة النسوية» التي تؤدي إلى رسم هوة جنسية مفزعة بين الرجل كما لو كان «وحشًا» والمرأة بوصفها «ضحية».

(١) موجات نسوية

ثَمة طرق عديدة للتأريخ لنضالات النساء من أجل المساواة مع الرجال أو من أجل التحرر من الهيمنة الذكورية، أو من أجل تحرير النساء والرجال من النظام الاستعماري الإمبريالي القائم على هيمنة الرجل الأبيض على الأرض والنساء والدول الضعيفة، أو من أجل تحرير حقل الجنسانية باقتراح مقاربات مغايرة للغيرية الجنسية. وفي الحقيقة بوسعنا أيضًا إحصاء نسويات عديدة: النسوية الليبرالية والنسوية الاشتراكية والنسوية الراديكالية ونسوية السود، والإيكولوجيا النسوية، والنسوية ما بعد الاستعمارية، أو بالتمييز بين نسوية مساواتية نظرت لها سيمون دي بوفوار التي تعتبر «أن المرأة رجل كالآخرين»، ونسوية اختلافية تنظر لها لوس إيريغاري، ونسوية الجندر والأقليات الجنسية وتخريب الهوية لجوديث بتلر منذ كتابها «اضطراب في الجندر» بتاريخ ١٩٩٠م، ونسوية جديدة تجد في كتاب بربرا بولا بتاريخ ٢٠١٩م عنوانها النموذجي.

لقد انطلقت الحركات النسوية منذ القرن التاسع عشر وتحديدًا منذ الثورة الصناعية بمطالبة النساء بالحق في الاقتراع. وهي حركة وقعت تسميتها بالموجة النسوية الأولى انطلقت منذ ١٨٥٠ إلى ١٩٤٥م، وقادتها نسوية برجوازية، وقعت محاربتها بشدة من طرف نسوية اشتراكية عمالية أدَّت إلى «يوم التضامن العالمي بين النساء البروليتاريات» بتاريخ ٨ مارس ١٩١٠م: والذي صار يعرف باليوم العالمي للمرأة. ولقد وجدت هذه الحركة النسوية الأولى في كتاب جون ستيوارت ميل بعنوان «في إخضاع النساء» (١٨٦٩م) توقيعتها الفكرية الأولى، وفي نص روزا لكسمبورغ بعنوان «الاقتراع النسائي والنضال الطبقي» (١٩١٢م) تعبيراته النضالية الثانية. أما الموجة النسوية الثانية فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مع غزو النساء لسوق الشغل ودخولهن الجامعات، وقد تميزت هذه الفترة باكتشاف المرأة لجسدها وبنضالها ضد الهيمنة الذكورية التي شخَّصها جيدًا كتاب بيار بورديو تحت عنوان «الهيمنة الذكورية» (٢٠٠٢م). مما أدى إلى ظهور نسوية راديكالية بعد أحداث ماي ١٩٦٨م بفرنسا. ولقد تعززت هذه الموجة بين ١٩٦٠ و١٩٧٠م وقامت خاصة على المطالبة بقيم جنسية جديدة في العلاقة بين الجنسين وذلك ضد النزعة البطريكية. أما الموجة الثالثة فيؤرخ لها انطلاقًا من ١٩٨٠م وظهرت بالولايات المتحدة الأمريكية، وانطلقت من حركة الأقليات من النساء السود والسحاقيات وعاملات الجنس.

(٢) حركة «أنا أيضًا»

هنا نتوقف عند الموجة النسوية الرابعة التي تتنزل ضمنها حركة «أنا أيضًا» فهي حركة يجري التأريخ لها خاصة منذ ٢٠١٢م وتتلازم مع تقدُّم استعمال وسائل التواصل الرقمية. وهي نسوية تطالب بالعدالة للنساء في خصوص مسألة حارقة هي مسألة التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة. ويُعَد فيسبوك وتويتر وإنستغرام ويوتيوب إذَن وسائل ومجالات نضال هذه النسوية الافتراضية ضد كراهية النساء، والهرسلة في الشوارع وأشكال العنف الجنسي في المركبات الجامعية. ولقد مثَّلت واقعة الاغتصاب الجماعي في نيودلهي بتاريخ ٢٠١٢م وقتل إيسلا فيستا ٢٠١٤م وأخيرًا واقعة هارفي ونشتاين ٢٠١٧م أهم الأحداث التي ناضلت ضدها هذه النسوية الرقمية. في هذا السياق النسوي الرقمي تتنزل إذَن نسوية الهاشتاغ التي يؤرخ لها أيضًا منذ تأسيس تويتر أي سنة ٢٠٠٦م والذي أدى إلى ديمقراطية القضايا النسوية وظهور نسويات مراهقات وشابات في فئة عمرية تتراوح بين ١٨ و٢٩ سنة. وأنتجت هذه الموجة النسوية إيديولوجيا نسوية حول التحرش الجنسي، والتمييز في العمل، والتمثيل القائم على التمييز الجنسي لصورة المرأة في وسائل الإعلام، وكراهية النساء.

أما عن حركة «أنا أيضًا» فقد ظهرت تحديدًا في شهر أكتوبر ٢٠١٧م بعد هاشتاغ دوَّنته الممثلة السنيمائية الأمريكية أليسا ميلانو التي تعرضت إلى تحرش جنسي من طرف هارفي ونشتاين المنتج السنيمائي الأمريكي الذي اتهمته قرابة عشر نساء بالتحرش الجنسي ولقد وقع طردهن من شركته بعد ذلك. ولقد غيَّرت هذه الحركة النسوية من المشهد النسوي بعامة؛ بحيث فسحت المجال أمام المرأة ضحية التحرش الجنسي كي تقصَّ ما حدث معها على وسائل التواصل الاجتماعي. وتذهب الباحثة النسوية الفرنسية فلورنس روشفولت إلى أن أهمية هذه الموجة تكمن في «أنها قد حررت كلمة النساء على مستوى عالمي»؛ بحيث إن كلمة النساء لم تكن تُسمع إلا بين النساء، في نوع من تحريم الحديث في ما يحدث من جرائم جنسية. وهذه الحركة مكَّنت أيضًا من فضح ما يحدث من استغلال جنسي في الكنائس للأخوات وللأطفال أيضًا.

(٣) حدود نسوية الهاشتاغ

تذهب العديد من النسويات اليوم إلى التعبير عن حدود هذه النسوية الجديدة القائمة على نسوية رقمية تتخذ من الحقل الافتراضي مجالًا لها. ويمكن تجميع أهم الاعتراضات على هذه النسوية في النقاط التالية:

  • (١)

    اقتصارها على وسائل التواصل الافتراضية تجعل من هذه الموجة النسوية محدودة وحكرًا على الفئات المالكة لوسائل التواصل الرقمي، مما يجعل منها نسوية إقصائية برجوازية لا تخاطب جميع النساء في العالم.

  • (٢)

    أن هذه النسوية تقف في مستوى مفهوم محدود للنضال النسوي هو نضال افتراضي على تويتر أو فيسبوك أو إنستغرام، دون القدرة على النضالات الحقيقية على أرض الواقع. وهي بهذا المعنى نسوية كسولة نرجسية وفردانية تقف في حدود الكلام عن تجارب فردية في التحرش أو العنف الجنسي.

  • (٣)

    إن هذه النسوية الجديدة قد خلقت مناخًا تنافسيًّا وعدائيًّا بين الرجال والنساء بدعم الهوة الجنسية بين المرأة في صورة الضحية والرجل في صورة الوحش المفترس.

ومن أجل تفصيل هذه الاعتراضات نتوقف عند ثلاثة مواقف نسوية نموذجية بيَّنت حدود هذه النسوية الرقمية بوصفها أولًا «أشبه بالديانة»، وبوصفها ثانيًا قد «تؤدي إلى حرب بين الجنسين»، وبما هي ثالثًا حركة نخبوية تسقط من اعتبارها أهم معركة نسوية وهي مسألة العدالة والاعتراف في مجال الحياة السياسية والعمومية.

تقول الصحافية والفيلسوفة الفرنسية بيغي ساستر: «إن حركة أنا أيضًا قد وقع احتكارها من طرف نسوية أشبه بالديانة.» وهي بذلك تَعتبر هذه الحركة ضربًا من الضجة الإعلامية، كما لو كنا «نخترع حدثًا من أجل بيع الورق». لكن الأمر لا يتعلق هنا بحدث تاريخي أو أنثروبولوجي بل هو حدث رقمي اتصالي غير ممكن الظهور إلا على مساحة رقمية تُحوِّل المرأة من مقام الكرامة، أي الدفاع عن كرامتها، إلى مقام الضحية كما لو كانت قاصرًا. وتذهب ساستر في سياق نقدها لهذه النسوية إلى حد اعتبار هذه النسوية ذات ملامح أشبهَ بالدين بدغمائيتها وبكائياتها وبمطاردتها للهرطوقيين أي الذكور المذنبين والمتهَمين بمطاردة النساء كما يطارد الوحش الفريسة. وهذه النسوية تصِفها ساستر بكونها إيديولوجيا شمولية قائمة على نزعة هُووية تختزل العالم في صراع عدائي ومغلق بين المضطهِدين والمضطهَدين. وتحتجُّ ساستر في هذا السياق على إمكانية تقنين الحياة الحميمة وتحويلها إلى موضوعة قضائية وقانونية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعلق الأمر في هذه النسوية الجنسية بما تسميه حرفيًّا «ديكتاتورية أقلية نفسية» أي المرأة بما هي ضحية للعنف الجنسي، على الأغلبية. وتُقرُّ بأن «مسألة العنف الجنسي ليست مسألة علاقة بين النساء والرجال بل هي مسألة حضارية ينبغي مقاربتها عبر المنظومة القضائية.» وهي تقترح بذلك نسوية معتدلة ضد النسوية الراديكالية؛ أي نسوية الدفاع عن العلاقات السلمية بين الجنسين وعلى المساواة في الحقوق والواجبات. وتقول: «أنا أدافع عن الحرية والحقيقة.»

لكن هل يمكن اعتبار نسوية «أنا أيضًا» ثورة جنسية أم هي نزعة شمولية في معنى إيديولوجيا نسوية؟ ذاك هو الجدال الذي دار بين نسويتين فرنسيتين؛ أي بين فيلسوفة هي بينيريس لوفيت ومؤرخة هي لورا مورات. وفي هذا الحوار نشهد على جدال فكري واشتباك حقيقي حول نسوية الهاشتاغ التي وجدت في حركة «أنا أيضًا» انطلاقتها الأولى. وهو حوار منشور على الإنترنت بتاريخ ٦ أكتوبر ٢٠١٨م تحت عنوان مثير هو التالي: «أنا أيضًا: ثورة جنسية أم نزعة شمولية جديدة؟» ويبدو أن لورا مورات تدافع عن هذه الحركة وتعتبرها مناسبة هامة لاختراع مجال نقاش ديمقراطي حول الحياة الجنسية وما يحدث للنساء من تحرش وعنف لم نزل غير مجهزين للإنصات إليه بما يكفي. وأن هذه الحركة «أنا أيضًا» منحتنا أيضًا فرصة ثقافية غير مسبوقة للتعبير عن المسكوت عنه، ولكسر التابوهات والمحرمات وأشكال الاضطهاد التي حُكم عليها بالصمت والقمع في ذاكرة النساء التاريخية. وهنا علينا إذَن أن ننتبه إلى أمر أساسي هو أنه «حينما يحصل لدينا الوعي بأن ثَمة مشكلة ما لن يكون في وسعنا بعدها الدفاع عن النظام الذي أنتجها». ومفاد ذلك أن ما تنبهنا إليه «حركة أنا أيضًا» هو أنه ثمة مشكلة حقيقية في العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء ينبغي الإنصات إليها وفهمها بدلًا عن قمعها. وبالتالي أن كل أشكال العنف الجنسي ضد النساء مشكلة حضارية لم يَعُد بوسع الإنسانية السكوت عنها. وتلك هي مشروعية نسوية «أنا أيضًا». لكن لا ينبغي أن تتحول هذه النسوية إلى حرب بين الجنسين، ولا ينبغي أيضًا أن نحول الرجال إلى المذنبين الوحيدين، ومن المؤسف أيضًا ألا نُنصت للرجال أيضًا من الشباب جيل الإنترنت الذي لا يرى الحياة الجنسية مثلما نراها. وتكتب لورا مورات في هذا السياق ما يلي: «لا أعتقد أن الرجال مسكونون بدوافع جنسية خاصة، غير أن المجتمع قد وقع تصميمه على نحو يقع فيه التشجيع على شكل من الهيمنة الذكورية.» هكذا تُحرِّر لورا مورات مسألة الحياة الجنسية بين النساء والرجال من العلاقة العدائية بين الجنسين التي قد تؤدي إليها نسوية «أنا أيضًا» التي تؤثِّم الذكور دومًا وتحوِّل النساء إلى ضحايا قاصرات. وبالنسبة إلى لورا مورات يتعلق الأمر بضرب من الثورة الجنسية الممكنة بشرط أن نكفَّ عن اتهام الرجال وأن ننخرط في مسار فهم معمَّق للأسباب الحقيقية لكل أشكال العنف الجنسي بين النساء والرجال. وإن أهم ما يمكن القيام به تحت راية نسوية «أنا أيضًا» هو تحويل هذا المشكل إلى مجال للنقاش الديمقراطي الذي تمنحنا إياه وسائل الثورة الرقمية.

أما الفيلسوفة والكاتبة بيرينيس لوفات فهي تعترض بشدة على هذه الحركة النسوية الجديدة وتعتبرها قد حوَّلت مشهد العلاقات بين الرجال والنساء إلى «مشهد كابوسي» بتحويلها الرجال إلى وحوش مفترسة والنساء إلى ضحايا وفريسات. وهي بذلك تُقرُّ بأن هذه الحركة قد أدَّت إلى «حرب بين الجنسين» وقع فيها شيطنة الذكور والقول بقصور النساء إزاء رغباتهن الجنسية. وأكثر من ذلك تَعتبر هذه النسوية الفرنسية بيرينيس لوفات أن «الرجال قد وقع خلعهم من فوق عروشهم في كل مكان»، وفي المقابل لا تزال النساء دومًا في وضع من التَّشيئة بوصفهن موضوعات جنسية للتحرش وللعنف ولكلِّ أشكال الاضطهاد الجنسي الأخرى. وللخروج من هذا المأزِق الحضاري المزعج ترى هذه الفيلسوفة بأن المسألة ليست مسألة قوانين كما تعتقد لورا موت بل هي مسألة تربية، وهي تكتب في هذا السياق وضد الهيمنة الذكورية ما يلي: «ليس ثَمة من حلٍّ غير إعادة تربية الرجال على التحرر من ذكورتهم.» وما نغنَمه من هذه القراءة هو أنه ينبغي علينا التمسُّك بنموذج مُغاير للتربية الجنسية يقع فيه تربية الرجال والنساء على قيم المسئولية. أي لا ينبغي علينا أن نتهمَّ دومًا، علينا أن نربي على نحوٍ موجبٍ الرجالَ والنساء معًا على كيفية إدارة رغباتهم. وذلك يحتاج إلى ثورة جنسية لم تُنجَز بعد.

أما أوجيني باستيي النسوية الفرنسية فقد كتبت تُعارض بشكل حادٍّ نسوية «أنا أيضًا» كتابًا صادمًا بعنوانه «خنزير الفداء. إرهاب أم ثورة مضادة». وفي هذا الكتاب المثير تَعتبر هذه الكاتبة أننا قد «ضيعنا البوصلة وأن حركة «أنا أيضًا» قد تتحوَّل إلى «إعلان حرب ضد الرجال».» وهي تعتقد بأن «الرجال يخافون اليوم من أن يُوجَدوا وحدهم مع النساء، إنهم يرتابون من أن يقع اتهامُهم. إن الخوف قد غيَّر من مواقعه.» والنتيجة إذَن أن هذه النسوية الجديدة تحت راية «أنا أيضًا» إنما أسست لمناخ من الكراهية والريبة بين الجنسين. وذلك لأنها تتخذ من اتهام الرجل موضوعًا دائمًا لها ومن تبرئة النساء غاية قصوى وبأي ثمن وفي أي سياق من التحرش الجنسي، وهي بذلك قد تتحوَّل إلى تصفية حسابات مع الرجال. بالإضافة إلى أن «الكلام وحده لا يكفي» لمقاومة العنف الجنسي ضد النساء، وأن «الطريقة الأفضل للنضال ضد الاغتصاب أن يقع دومًا عقاب المغتصبين». أما عن شكل النضال النسوي الأفضل، فهو بحسب أوجين باستيي يكمن في تنشيط قيم تقليدية من قبيل الشهامة والشرف لدى الذكور وقيمة الحياء لدى النساء؛ بحيث تذهب هذه النسوية الفرنسية في معارضتها للنسوية الجديدة إلى حد القول بأن العلاقات القديمة بين الرجل والمرأة كانت أفضل وهي تعوِّل بذلك على علاقات سلمية قوامها شهامة الرجل وإغراء المرأة وجمالها الأنثوي.

أما نانسي فرايزر الفيلسوفة النسوية الأمريكية فهي تعترض هي الأخرى على نسوية الهاشتاغ «أنا أيضًا» وتعتبرها نسوية النخبة. ولذلك تطرح على نفسها مهمة تحرير النسوية الجديدة من هذه الحركات النسوية النيوليبرالية الفردانية التي تنظر إلى مشاكل النساء المضطهدات من علٍ. وإن أهم ما تعترض فيه نانسي فرايزر على هذه النسوية الجديدة هو أنها نسوية طموحها الأقصى المساواة بين الأغنياء، بوصفها قد وُلدت في حقل السينما ووسائل التواصل الاجتماعي التي لا تصل إلى الطبقات المسحوقة والمهمَّشة والمفقَّرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. إن نسوية «أنا أيضًا» إنما هي، بحسب توصيف فرايزر، «نسوية نخبوية فردانية ترغب في السطو بثقافتها المهيمنة على كل النساء.» في حين أنها في المقابل لا تُنصت إلى كل النساء؛ بحيث لا يصل صوت الفلاحة أو العاملة في بعض جنوب أو بعض ريف مهمش إلى التويتر أو اليوتيوب أو الإنستغرام لأنها وسائل تبقى حكرًا على مالكيها من المنخرطين في رفاهة الثورة الرقمية. وبالتالي فإن هذا النوع من النسوية الجنسية وبالرغم من شهرتها العالمية إنما تبقى حركة برجوازية مترَفة غير قادرة على التوجه إلى كل النساء. وهو المشروع الذي تنادي به نانسي فرايزر ضمن نموذج نضالي وفكري مغاير هو نموذج العدالة والاعتراف. وفي هذا السياق تقترح نانسي فرايزر نسوية تضمنية أو إدماجية تلتزم بأولويات مغايرة للحركة النسوية هي ضرورة الخروج من أسئلة الجندر من أجل الانخراط في معارك اللاعدالة واللامساواة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها النساء اليوم؛ فالمطلوب إذَن من النسوية المناضلة اليوم هو الخروج بالنسوية من مشاكل الجندر والجنسانية والدفع بها نحو معارك أوسع من قبيل الميز العنصري وكل أشكال الإقصاء الأخرى الدينية أو القومية، والمعركة الإيكولوجية ومناهضة الاستعمار والإمبريالية من أجل نسوية تقاطعية مضادة للرأسمالية. وهنا تُنبهنا فرايزر إلى أن الحركة النسوية إنما هي حركة مناضلة من بين حركات أخرى ينبغي عليها أن تنفتح على تحالفات مع كل أشكال النضال من أجل تغيير الواقع وتحرير المضطهدين في كل مكان بصرف النظر عن جنسهم وعرقهم وديانتهم.

وأخيرًا علينا أن نشير إلى أنه ثَمة اعتراضات أخرى ضد النسوية الجديدة تأتي من جهة اكتشاف مشكلة الجندر أو الجنوسة التي تقوم على ضرورة الاعتراف بأجناس أخرى خارج حدود الجنسية الغيرية. وهنا ينبغي الإشارة إلى ظهور حركات المثليين والسحاقيات وأجناس أخرى كسرت ثنائية الذكر والأنثى والرجال والنساء. وهو ما أنجزته بخاصة أبحاث جوديث بتلر صاحبة كتاب «اضطراب في الجندر» التي كشفت عن ورشة جديدة فيما أبعد من النسوية بكل موجاتها، ورشة «تخريب الهوية الجنسية» بوصفها أعقد بكثير من التصورات النسوية التقليدية القائمة على الجنسية الغيرية التي تقصر الحياة الجنسية على العلاقة بين الرجال والنساء.

خاتمة

كيف يمكن مقاربة هذه النسوية الجديدة الغربية والأمريكية من وجهة نظر نسوية عربية وإسلامية؟ هل أن وضع النساء في العالم الإسلامي والعربي اليوم يسمح بتحرير كلام النساء عن كل أشكال العنف الجنسي ضدهم؟ يبدو أننا معنيون نحن أيضًا بهذا النقاش حول الحياة الجنسية في مجتمعاتنا. والسؤال المحرج حينئذٍ هو كيف نحرر الكلام حول الجنس وحول ما يحدث في كواليسنا المظلمة التي لا تزال فيها رغباتنا وأجسادنا مستعمرات تحت وصاية الفقهاء والدعاة وتحت اضطهاد الإرهابيين؟ إن المحرج للعقل العربي والإسلامي في هكذا أسئلة ليس فقط قمع الخطاب النسوي حول الحياة الجنسية بوصفها منطقة لا تزال محرمة وممنوعة من الكلام، بل هو ما حدث وما يحدث اليوم في مناطق إسلامية تحت راية جهاد النكاح، وما يحدث تحت راية إعادة المرأة إلى القمقم الرعوي ضمن منظومات الإسلام السياسي، وما حدث لليزيديات من اختطاف واغتصابات جنسية تحت راية داعش بالموصل، وما حدث في مناطق إسلامية أخرى تحت سيطرة منظمات إرهابية مثل حادثة اختطاف ١١٠ فتيات في بوكو حرام في نيجيريا سنة ٢٠١٤، أو ما حدث في أفغانستان من اضطهاد للنساء تحت راية حكم طالبان؛ حيث فرضوا على المرأة ارتداء البرقع واعتبار «وجه المرأة مصدر فساد»، وتم حرمان النساء من التعليم عدا حفظ القرآن. كل هذه الكواليس المظلمة لانتمائنا الإسلامي الكبير جديرة بالتأريخ والتأويل والبحث والأرشفة، وذلك حتى لا يقع اضطهاد النساء في أوطاننا مرة أخرى تحت وصاية الإرهاب الإسلاموي القائم على أجندات إمبريالية دولية لتحويل أوطاننا إلى مناطق لبيع البؤس والاتِّجار بالبشر ونشر الخراب. إن الاشتغال على الحياة الجنسية في ثقافتنا هو أيضًا إمكانية من إمكانيات تحريرها من ثقافة العنف والإرهاب الديني على أجسادنا وعقولنا. ورغم ذلك لا ينبغي أن تتحوَّل النسوية في هذا المعنى إلى إيديولوجيا مغلقة حول المعركة بين الرجال والنساء، فهذا نقاش قد وقع تجاوزه بعد دراسات الجندر. علينا التفكير بخطة نضالية مجتمعية تتخذ من التربية الجنسية أحد أهم أهدافها من أجل مجتمع لا يُهان فيه الأطفال ولا النساء ولا الرجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤