الفصل الثامن

حينما تتفلسف المرأة العربية

إن الفلسفة قد أسست لتاريخ كراهية النساء منذ أرسطو إلى نيتشه: هذا معطًى تاريخيٌّ لم يزعج النساء إلا منذ قرن من الزمن. وفي هذا الأمر غرابة مثيرة للأسئلة التالية: لماذا لم يحدث أن تم التأريخ لأية واقعة تمرد للنساء على احتكار الرجال مجال صناعة الحقيقة؟ هل لأن النساء قد تم إخضاعهن على نحو ممنهج من طرف الرجال إلى حد أن الهيمنة الذكورية على كل المجالات وخاصة مجال إنتاج المعارف العقلية قد صار أمرًا طبيعيًّا؟ أم أن النساء غير قادرات على استعمال عقولهن بوصفهن قد تم إقناعهن أنهن أجساد أي موضوعات رغبة للذكور وأوعية لإنجاب الأطفال؟ وكيف تنجح آلة اضطهاد النساء ويُعاد إنتاجها دومًا بتواطؤٍ من النساء أنفسهم؟

إن التفكير في مسألة «المرأة العربية والفلسفة» لا يمكن مقاربته بمعزل عن ضرب من «الشمولية التاريخية» التي نصَّبت الرجال على عرش الفلسفة وتم وَفقها تنضيد مكان المرأة خارج أسوار الفلسفة. ولقد حدث هذا الأمر منذ أن تم طرد النساء من مجلس سقراط، كما أوردته محاورة الفيدون لأفلاطون، وهو بصدد إرساء خطاب حول «خلود النفس» قبل أن يشرب السم امتثالًا لقوانين مدينة لم تحتمل وجود الفيلسوف. إن هذه الواقعة واقعةُ طرد النساء من مجلس الفلاسفة قد تكون هي الحدث التأسيسي لإقصاء «المرأة» من مجال إنتاج الحقيقة. لكن لماذا تم هذا الإقصاء؟ إن الأمر يتعلق بعقيدة فلسفية مدعومة من الأديان التوحيدية والمخيال الثقافي الأبوي تقوم على سياسات هُوية تفصل بين العقل والجسد وبين الرجال والنساء؛ بحيث يكون فيها العقل وإنتاج المعارف وصناعة النظرية خاصةً ذكوريةً ويكون الجسد والعاطفة والفتنة والإغواء خاصة الأنثى. وفي هذا السياق تكتب الفيلسوفة الفرنسية ساراح كوفمان أن «ما نسميه امرأة … ليس سوى تخييل اخترعه الرجال في لحظة ما احتاجوا فيها إلى تقسيم الإنسانية إلى جنس قوي وجنس ضعيف.» وفي الحقيقة، علينا أن ننبِّه ها هنا إلى أنه بعد كتاب قلق الجندر لجوديث بتلر لم يَعُد ممكنًا أن نتكلم عن «المرأة» أو عن «الرجل» بشكل مريح؛ إذ يتعلق الأمر بضرورة أن تنخرط المرأة في سياسات تخريب الهوية من أجل إفساح المجال أمام حرية الجنادر الأخرى في الكلام حول أنفسهم، وفي تحرير مجال الجنوسة من مقاربة الجنسانية الغيرية. لكن مقالنا هذا لا يدخل في باب المقاربة الجندرية.

إن الغرض من هذا الفصل هو بسط مقاربة «نسائية» للتفكير في بعض شروط إمكان تحرير الفلسفة من الهيمنة الذكورية اعتمادًا على أن «العقل هو أعدل الأشياء توزُّعًا بين الناس» وأن التفكير والإبداع العقلي ليس حكرًا على الرجال، وذلك في أفق مقاومة اعتقال النساء في فقه «ناقصات عقل ودين». لقد بدأت المرأة منذ قرن من الزمن باقتحام مجال اختراع المعارف العقلية وإنتاج القيم النقدية، وظهرت نماذج كثيرة فلسفية نسائية غربية وعالمية وهو مؤشر على إمكانية دخول المرأة العربية أيضًا مجال الفلسفة من الباب الكبير، فنحن ننتمي إلى أنفسنا بقدرٍ ما ننتمي إلى العالم أيضًا.

سنقسم هذا الفصل إلى ثلاث لحظات: نخصص الأولى لمعالجة السؤال عن «من هي المرأة العربية» وأية مكانة لها في نزاع النسويات المعاصرة؟

ونخصص الثانية للتساؤل عن أثر النساء الفقيهات والشاعرات والكاتبات في صناعة المخيال العربي، والمحرج هو: لماذا لم تنجح هذه النماذج في فرض الاعتراف بوجود النساء داخل مجال التشريع للمعرفة؟

والثالثة لفهم لماذا ظهرت فيلسوفات غربيات ولم تظهر فيلسوفات عربيات؟ هل تكون الفلسفة مستحيلة في ثقافتنا المثقَلة بأنظمة التكفير ومحاصرة العقول الحرة بمحاكمتها أو نفيها أو اغتيالها أيضًا؟

وننهي بخاتمة نعتبرها بمثابة بيان فلسفي مؤقت من أجل إنتاج فلسفة عربية نسائية، وفيها نسأل: كيف يمكن للمرأة العربية أن تنجح في أن تكون فيلسوفة؟ ما هي المهام الأساسية لها وهل هي مجبورة على الاحتذاء بفيلسوفات غربيات أم بوسعها إنتاج نموذج مغاير لفلسفة نسائية عربية؟

(١) من هي «المرأة العربية»؟

من أجل ألا يتحول هذا المفهوم إلى مجرد تعميم هلامي غامض نشير إلى أن الأمر يتعلق بمفهوم إجرائي ومنهجي نتخذه للإشارة إلى مجموعة النساء اللائي ينتمين إلى «العالم العربي» كجغرافيا سياسية وثقافية يجمع بينها المخيال الديني والجنسي والأنظمة الرمزية ولغة الضاد بوصفها مؤسسة تنضيد صناعة المعنى وسياسات الوجود. وفي الحقيقة صفة العروبة ها هنا تأتي لتوقيع الاختلاف عن مجموعات نسائية مغايرة كأن نتكلم عن النساء الغربيات أو الأمريكيات أو الملونات، ولكن هكذا مفهوم يُخفي في طياته أيضًا كل الحروب القومية والدينية وأشكال استعمار الأوطان والعقول والأجساد أيضًا. والمرأة تعتبر من هذه الوجهة وطنًا محتلًّا بامتياز من طرف الهيمنة الذكورية، على جسدها يتقاطع فقه النكاح مع بقية مكنات الرغبة الأخرى، وربما تكون كل الديانات قد كتبت نصوصها من أجل التحكم بجسد المرأة لأنها بحسب ديانات التوحيد هي سبب أسطورة خروج آدم من الجنة.

«ما هي المرأة؟» هذا هو السؤال هو الذي افتتحت به سيمون دي بوفوار — كأول فيلسوفة معاصرة تخترق جدار الفلسفة الذكورية بامتياز — كتابها الجنس الآخر بتاريخ ١٩٤٩م؛ حيث تُبدي الفيلسوفة منذ الجملة الأولى ترددها وحيرتها إزاء تخصيصها كتابًا حول المرأة. تكتب: «لقد ترددت كثيرًا من أجل كتابة كتاب حول المرأة. إن الموضوع مزعج وخاصة بالنسبة للنساء.» وذلك لأنه بعد النقد النسوي لمفهوم الهوية الجنسية الطبيعية ربما لم يَعُد ثَمة نساء في معنى «الأنثى الخالدة» تلك الهوية البيولوجية المعطاة والثابتة، والمقلق في التفكير في المرأة كمسألة فلسفية وفق تشخيص دي بوفوار هو عندئذٍ التالي: «إن الرجل ليس مدعوًّا لكتابة كتاب حول الوضعية التي يحتلها ضمن إنسانية الذكور»، على خلاف المرأة التي تجد نفسها مجبرة كلما أرادت التعريف بنفسها على القول «أنا امرأة» … في حين «أن الرجل لا يبدأ أبدًا بالتعريف بنفسه كفرد بما هو من جنس معين؛ أن يكون رجلًا، هذا أمر بديهي بذاته». ومن أجل تفكيك هذه البديهية التي تأسس عليها النظام البطريكي تقوم سيمون دي بوفوار بتفكيك تصورات الفلاسفة منذ أرسطو إلى حدود ليفيناس حول المرأة وتطرح فكرة جديدة لتعريفها «أن المرأة لا تولد امرأة بل هي تصير كذلك.» ويكون السؤال حينئذٍ: كيف تمت عمليات إخضاع النساء للأنظمة الرمزية التي احتكر إنتاجها الذكور؟
تجيبنا غيردا لينر في كتابها نشأة النظام الأبوي بأن الخطير في النظام الأبوي هو إقصاء النساء من مجال كتابة التاريخ أي مجال صناعة الأنظمة الرمزية، وهي تكتب ما يلي: «فقد تم إقصاء النساء على نحو ممنهج من مشروع إنشاء الأنشطة الرمزية، والفلسفات، والعلم والقانون»؛ وذلك يعني أن أخطر أشكال إقصاء النساء هو إقصاء من «مجال صناعة النظرية». وهكذا فإن كتابة تاريخ النساء وترسيخ هذا التاريخ بوصفه تاريخًا مقاومًا لهيمنة نموذج كتابة التاريخ من وجهة نظر ذكورية؛ ذلك هو أحد شروط تهيئة حقل نظري يسمح بأن تساهم النساء في إنتاج النظريات والتشريع للحقيقة.

أية مكانة للمرأة العربية ضمن نزاع النسويات الغربية المعاصرة؟

علينا أن نذكر أن المرأة الغربية لم تدخل مجال النضال ضد الهيمنة الذكورية على كل مجالات تدبير العالم إلا إبان الثورة الفرنسية التي فتحت المجال أمام حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق المرأة كمواطنة. أما دخول النساء مجال الفلسفة فقد حدث منذ كتاب الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار وتولَّد عنه جيل كامل من النساء الفيلسوفات من قبيل حنَّا آرندت ولوس إيريغاراي وهيلان سكسوس ولوس إيريغاراي ونانسي فرايزر وجوديث بتلر … ويمكن التمييز بين ثلاثة مقاربات في شأن تنضيد الهويات الجنسية من طرف الفيلسوفات الغربيات وهي المقاربة المساواتية «دي بوفوار» ومقاربة الاختلاف الجنسي «لوس إيريغاراي» ومقاربة تفكيك الجندر وتخريب الهوية الجنسية من أجل فتح المجال للتفلسف في واقعة تعدد الجنادر وقلقها معًا «جوديث بتلر». أما النسويات غير الغربيات فهن قد افترعن نماذج أخرى من قبيل النسوية الديكولونيالية والنسوية الإسلامية. أما عن «النساء العربيات» فلقد انقسمن بين النسوية المساواتية التنويرية والنسوية الإسلامية. أما مقاربة تفكيك الجندر فهي لم تصل بعدُ إلى الوطن العربي إلا على نحو محتشم.

كيف تعرِّف المرأة العربية نفسها في نزاع النسويات؟ علينا أن نشير أولًا إلى ضرورة التمييز بين المرأة والنساء. وهو تمييز نعثر عليه في نص بتوقيع الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني منشورٍ على موقع افتراضي. وانطلاقًا من هذا النص يبدو أنه من الأصح أن نتكلم في العربية عن النساء بدلًا عن المرأة. فالفرد يبدو مسألة إشكالية في لغتنا أي من جهة آلة التشريع الخاص بها؛ أي الإسلام الذي تم تنصيبه أفقًا روحيًّا لصناعة المعنى في ثقافتنا. ولقد تم تخصيص سورة للنساء في القرآن كمسألة دينية صرفة وهي سورة تضمن في جوهرها، مهما كانت التأويلات والتجميلات بعامة، استمرار نظام الهيمنة الذكورية الذي هيَّأته كل الديانات الإبراهيمية. وعلينا أن نشير هنا إلى أن وضع النساء داخل كل ديانات التوحيد هو وضع الدونية والاحتقار. هو وضع تراوح بين اعتبار المرأة «شيء» في اليهودية ورمز الخطيئة الأصلية في المسيحية واعتبارها الحريم والعورة والنعجة والفتنة والجارية والغانية والعاهرة … كلها تسميات سلبية جمعتها الديانات وزجَّت بها فوق جسد المرأة بوصف النساء «ناقصات عقل ودين».

الآن كيف يمكن للمرأة التحرر من هذا الخطاب السلبي حولها؟ كيف بوسعها الحفر في تاريخ استراتيجيات الهيمنة الذكورية على الرمز والنحو والدلالة والحقيقة والتشريع من أجل إيجاد نماذج نسائية مغايرة للموءودة والمحجوبة والجارية ونصف الرجل والضلع الأعوج؟

(٢) نساء عربيات في عتمة التاريخ: الوجه الآخر للفلسفة

في غياب ظهور نساء فيلسوفات في التاريخ العربي الكلاسيكي إلى جانب أسماء ذكورية من قبيل الكندي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة، ظهرت بعض التجارب النسائية العربية في الشعر والتصوُّف والفقه والتدوين فرضت نفسها بوصفها اقتدارًا نسائيًّا نشيطًا على مشاركة الذكور مجالات التشريع. ويمكن أن نعتبر تلك التجارب بمثابة أفعال فلسفية لإثبات قدرة النساء على مجابهة سلطة الرجال وفك الحصار عن مجال صناعة الأنظمة الرمزية واحتكارها من طرف الذكور. ونحن في هذه الفرضية التي نريد اختبارها على نحو مؤقت، نعتبر أن شكل الفلسفة الخاصة بالنساء لا يماثِل بالضرورة ميتافيزيقا الجوهر والوجود الأول وأنطولوجيا العقل الفعَّال وسياسات المدن الفاضلة التي اقترحها العقل الفلسفي العربي الذكوري؛ وذلك يعني أننا نعتبر أنه من أجل إرساء شروط إمكان التفكير بالفلسفة النسائية علينا أن نتجرأ على اختراع نماذج مغايرة للتفلسف لا تقوم بالضرورة على ميتافيزيقا أرسطو ولا على الذاتية الكانطية ولا على كوجيطو ديكارت، بل تقوم على اقتدار ثقافي خاص بالمخيال العربي الذي ظهرت فيه نساء فقيهات؛ أي مشرِّعات لشروط فهمِ وتلقي الحقيقة وتدبير العالم على نحو مغاير، ونساء متصوفات قادرات على المشاركة في التأسيس للحياة الروحية في أعلى مقاماتها ونساء شاعرات؛ حيث يمكن للشِّعر أن يكون هو نمط سكنى العالم. ولقد تم تخصيص دراسات عديدة لفقه النساء لكنها كانت في غالب الحالات دراسات توثيقية ووصفية تكتفي بتجميع ما تواتر من الأحاديث المروية من طرف عائشة «أم المؤمنين» وأم سلمة وحفصة أو أسماء بنت أبي بكر والسيدة الشفاء التي تعلم على أياديها أغلب الأئمة والفقهاء؛ لكن يبدو أنه لم نبدأ بعدُ بالتأريخ لهذه التجارب من وجهة نظر فلسفية؛ أي بوصف الفلسفة تتسع لأكثر من اختصاص أكاديمي رتَّب شروطه ومقاييسه الذكور، الفلسفة هنا هي كل اقتدار عقلي على التشريع والتأويل وإنتاج الخطاب. إن تدخل المرأة العربية في إنتاج الخطاب والتدوين قد بدأ منذ الخنساء في الشِّعر ومنذ عائشة في الفقه ومنذ رابعة العدوية في التصوف؛ لكن ينبغي أن نُنبِّه إلى أن إمكانية أن يولَد براديغم للمرأة «الفيلسوفة» لدى العرب المعاصرين ليس يمكِنه أن يكون فقهيًّا أو صوفيًّا أو شِعريًّا بالضرورة؛ فالتأريخ لهذه التجارب يساعدنا فقط على كتابة تاريخ النساء بوصف النساء يصنعن التاريخ من وجهة نظر مغايرة لنظام الهيمنة الذكورية التي قامت على حجب ظهور النساء في ميدان إرساء التشريعات وإنتاج الحياة الرمزية والروحية.

(٣) هل ثَمة فلسفة عربية نسائية معاصرة؟

يبدو أن عدم توفُّر تجارب فلسفية نسائية براديغماتية في الوطن العربي إنما يعود إلى المأزِق الكبير الذي تجد فيه الفلسفة نفسها في أوطاننا اليوم. فهل ظهر الفيلسوف العربي المعاصر في أوطاننا؟ يبدو أن الفيلسوف في ديارنا هو تهمة دومًا، (بتعبير رشيق لفتحي المسكيني)، وذلك منذ نُفي ابن رشد إلى حدود اغتيال حسين مروة ومحاكمة ونُفي حامد أبو زيد؛ وذلك لأن مؤسسة القرون الوسطى لا تزال هي المتحكمة بسياسات الحقيقة إلى حد اليوم. والنتيجة المؤسفة أن ظهور الفيلسوف أي ذاك الذي يواجه كل أشكال محاصرة العقل والسيطرة على ضمائر الناس وأفكارهم، قد صار أمرًا صعبًا وخطيرًا معًا. وهنا نسمِّي فيلسوفًا، لا كل من يشتغل باختصاص الفلسفة، بل ذاك الذي يواجه كمية الظلام الموجودة في أنفسنا القديمة بأسئلة المستقبل. إن فيلسوفًا لا يُسائل ولا يزعزع أنظمة إنتاج الحقيقة في ثقافةٍ ما بكل حرية هو مجرد موظف حكومي لتأمين جولان المعنى بين الناس فقط.

في أوطاننا تعيش الفلسفة مفارقة محرجة: فمن جهة تفتح أقسام الفلسفة أبوابها في معظم الجامعات العربية، ويظهر لدينا أكاديميون وكتَّاب في مجال الفلسفة، وتفتح أيضًا للفلسفة بيوتات ومعاهد ثقافية، ومن جهة أخرى نحن شعوب تجد راحتها في استحالة وجود الفيلسوف. ربما تنقُصنا أخلاق الاعتراف بوجود الفيلسوف بيننا، وربما أن الردة الدينية التي نعيشها في أوطاننا اليوم هي سبب تهميش الفيلسوف وعدم اعتباره كمشارك أساسي في عمليات التشريع للحقيقة. إن ما يعطل إنتاج الفيلسوف في أوطاننا هو كثرة الأصوات التي تدَّعي قول الحقيقة واحتكارها. في ثقافة يعلو فيها صوت الدعاة والدجالين والمشعوذين وتينع فيها تجارة الدين والخرافة، تجد الفلسفة نفسها مستحيلة؛ لأن لا أحد يرغب في الإنصات إليها. في عصر معولم تهيمن عليه القيم الاستهلاكية والتفاهة وبرنوغرافيا الحمق المعمم، يصعب أن نعيد إلى العقل سيادته في مجال سياسات الحقيقة واختراع الأفكار الكبرى. لكن يبدو أن «العالم (بتعبير لألان باديو) قد فقد قدرته على صناعة الأفكار الكبرى».

نكتفي في آخر هذا الفصل باقتراح بعض الأفكار التي نَعتبرها بمثابة شروط إمكان لدعم التجارب النسائية العربية في الاشتغال على مجال الفلسفة:

  • (١)

    إن المرور من النساء إلى المرأة أي من القمقم الرعوي للجماعة إلى قيم المواطنة هو الذي يهيئ المرأة العربية اليوم من أجل أن تعيد ترتيب سياسات الجنوسة وتفتك مكانتها في صناعة النظريات والمعارف العقلية والقيم النقدية وتزاحم الرجال في مجال الفلسفة والمجالات الإبداعية بعامة.

  • (٢)

    علينا أن نكفَّ عن اعتبار المرأة بوصفها ضحية وأن نقاربها من جهة اقتداراتها ونجاحاتها في بعثرة النظام الأبوي وزعزعة استقراره المزعوم. المرأة ليست نقصًا بل هي اختلاف وتميز واقتدارات علينا تحريرها من اعتقال الهيمنة الذكورية. مع العلم أن الهيمنة الذكورية لا يصنعها الذكور فقط بل هي أيضًا من إنتاج النساء اللاتي لا يزلن يضمنَّ صلاحية هذه الهيمنة ويؤَمِّن استمرارها. إننا إذَن مطالبات فلسفيًّا بإعادة تنضيد الذاكرة النسائية على نحو مغاير. فالذاكرة هي أيضًا مناسبة لاكتشاف أفكار جديدة لتغيير سياسات الحقيقة ورفع الحَيف عن المسكوت عنه ومناطق التعتيم.

  • (٣)

    ضرورة تحرير الخطاب حول المرأة من المؤسسة الدينية: نحن مطالبات بنزع السحر عن الأساطير التأسيسية والتحرر من السرديات الكبرى. وذلك انطلاقًا من الاشتغال على مهمة تحرير المخيال الثقافي حول المرأة من الرواية الذكورية عبر تفكيك المغالطات التي تأسست عليها الأنظمة الرمزية، والعودة إلى الأماكن المظلمة داخل سلطة النحو وسلطة الفقه، والتشويش على بداهة التشريعات وزعزعتها بدلًا عن تبريرها.

  • (٤)

    حينما تتفلسف المرأة العربية لا يقتصر الأمر على التفكير في المسائل النسوية أو النسائية؛ بل هي مطالبة رأسًا بالاشتغال على أسئلة جديدة خاصة بأشكال الحياة الممكنة داخل المجتمعات التي تنتمي إليها، وبالانخراط في نضالات سياسية حول الحقيقة والعدالة وحول أشكال الظلم ومعاناة الناس اليومية وقحط الحياة الإبداعية. وحول التعصب والتطرف وأشكال العنف على الأجساد والعقول.

  • (٥)

    أن تتفلسف المرأة العربية معناه أن تنتج خطابًا فلسفيًّا من خلال كتابات تواصل فيها دعم استمرار الكتابة النسائية الفلسفية وألا تكفَّ عن الانخراط في إنتاج النصوص الفلسفية القادرة على إرساء قيم عقلية ومضامين معرفية وسلوكيات نظرية مغايرة. أن تكون المرأة العربية متفلسفة معناه أن تخترع شروط إمكان المستقبل في ثقافة تعاني من هيمنة سرديات الماضي.

  • (٦)

    إن المهمة الفلسفية الأساسية للمرأة العربية هي مقاومة كل أشكال إعادة إنتاج النظام الأبوي والفتك بالهيمنة الذكورية بإعادة النظر في أساليب تربية البنات والأبناء على قيم المساواة والحرية وعدم التمييز الجنسي. ذلك أن النساء هن من ينتجن قيودهن بأنفسهن. على المرأة العربية أن تكفَّ عن إعادة إنتاج النظام الأبوي، وذلك بمقاومة كل أشكال وأدها من النحو الذكوري إلى الحجاب. إن المطلوب فلسفيًّا من المرأة العربية حين تتفلسف هو تحرير النساء من كراهية النساء أيضًا … وحدها المرأة العربية الفيلسوفة قادرة على غلق مؤسسة القرون الوسطى وتوجيه عقول أبناء المستقبل نحو أسئلة المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤