الفصل الأول

سياسات كاريكاتورية بقلم مؤنث من خلال رسومات سارة قائد١

فاتحة

«إن الكتب المقدَّسة مهما كانت الأمم التي تنتمي إليها، لا تضحك أبدًا.»

شارل بودلير

«الضحك أمر مقدَّس … تدرَّبوا على الضحك.»

فريديريك نيتشه
سرديات تشكيلية كاركاتورية مرعبة وفاتنة معًا لواقع عربي معطوب، رسومات قلقة بشخوص مهتزة هاجرَت خارج أجسادها المألوفة، وأدمغة صارَت إلى فناجين يُسكب فيها ما اتَّفق من سوائل، مأدبة يسكر فيها الطغاة بدماء شعوبهم وجموع متراكمة أجسادها على ظهر مركب تائه، جثامين هنا وهناك، ونساء باكيات، ورجال أسرى وسماء تمطر بالكيمياوي، ونخيل العراق يُغتال واقفًا … عالم من المشنوقين والمربوطين والمُعلقين العالقين بلا وطن والساقطين عن الوطن، والمتكدسين في قلب العراء التشكيلي، والمشوهين، أعضاء متناثرة وأيادٍ بلا أجسام تعَضدها ممدودة في بعض مشهد، منابر للشحن الطائفي، وأخرى لصناعة القتلة، وآخرون يسجدون لأطماعهم، سفن الموت تستأنف «تشغيل الموتى» (حسب عبارة لفتحي المسكيني) في عمق المحيط، والأمواج تتحوَّل إلى نقاط استفهام لا أحد يعلم لها مستقَرًّا … ذلك وأكثر، هو العالم البصري الذي ترسمه لنا الفنانة سارة قائد، التي لا أحد ينجو من رسوماتها الفاتنة، تغريك وتأسرك بقساوتها وبشاعة العالم الذي تنصبه أمامك في كل مرة فتسطو على المدى البصري الذي بحوزتك وتدفعك إلى ضرورة التمسك بعجلة الزمن في الثواني الأخيرة، علكَ بذلك تغير المشهد الذي ينبغي عليك اختياره بمهارة هذه المرة.
تنتمي رسومات سارة قائد إلى فن يؤرَّخ لولادته الرسمية منذ القرن التاسع عشر، لكن ظهور ممارساته الأولى يعود إلى الحضارات الشرقية القديمة حين كانت الإنسانية تسمح لنفسها بأن ترسم الآلهة على الكهوف في شكل مشوَّه ومخيف، وحين كانت الآلهة تشبه البشر فتضحك وتبكي وتغضب وتكره وتحب أيضًا. وهو ما صاغه الشاعر اليوناني هوميروس الذي كتب سردية آلهة الإغريق في شكل الإلياذة والأوديسة، ذاك الشاعر الذي قال عنه هيرودوت أنه «قد خلَّد تعاسة الآلهة». أمَا وآلهتنا قد غيَّرت من سلوكاتها، فلم تَعُد تضحك بل صارَت مناسبة للقتل باسم الرب وتحت رايته، يلزمنا تمارين في النواح (رسم نائحة) أو التدرب على الضحك من أنفسنا وحكَّامنا ومن هزائمنا وأوجاعنا كما لو كنا نشعر بالسعادة في دعم عبثية العالم وفق تعبير رشيق لألبير كامو.

ما الذي سيسعفنا ويعيد الفرحة إلى عالمنا نحن الذين ننتمي إلى عصر تعاسة البشر المعولمة والقحط الوجودي والخراب السياسي، ذاك الذي وجد في الأوطان العربية ورشة اختبار مناسبة له؟ يقول الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامار: «إن كل لقاء بالعمل الفني هو فرحةٌ ما»، ويبدو أن الفن قد صار اليوم المناسبةَ الوحيدة لصناعة الفرح في هذه الجغرافيا العالمية الواهنة الموسومة لإمبريالية متوحشة تبتلع الجميع، في زمن موسوم بالزمن الرديء على حدِّ تشخيص استباقي لهولدرلين الذي يسأل: «لكن لماذا الشعراء في هذا الزمن الرديء؟» ويجيبه شاعر في قامة بول سيلان من عمق آلامٍ مغايرة: «لا يزال لدينا أغنيات سنغنيها فيما أبعد من البشر.» وفي صراع العمالقة هذا حول وجود البشر وعدمه معًا، تنخرط كل الأعمال الفنية العظيمة التي أتقنَت القبض على أوجاع الضحايا من المهمَّشين والصامتين والعالقين واللاجئين والمسجونين في أوطانهم التي صارت إلى معاقل وتوابيت وسجون كبيرة لمصادرة العقول والأحلام والحريات معًا. هذا بعض مما تهمس به رسومات سارة قائد أحيانًا، وأحيانًا تصرخ، إنها تجيد الإقامة في متاهات الصمت بوصفه لغة لا تقبل الترجمة في لغة الكلام؛ لأن الكلام مخترق بالكذب والزيف وإرادة التدجين والسطو على العقول … كيف نكتب إذَن صمت الرسوم الكاريكاتيرية … القاتلة أحيانًا؟ ولنذكر مَن دفع الثمن غاليًا ها هنا: صحافيو شارلي إيبدو وقبلهم هونوري دوميي الذي سُجن بتهمة رسم شوَّه صورة الملك لويس فيليب، ولا ننسى ها هنا أيقونة الكاريكاتير العربي ناجي العلي المغتال «بتهمة» الكاريكاتير. كيف نُعيد إلى حنظلة قلمه، ورصاص القلم أقوى من رصاص البندقية؟ ها هو حنظلة يعود هذه المرة في صيغة المؤنث الأصلية التي له من جهة تاء التأنيث المصاحبة له لغويًّا. إن سارة قائد تستأنف مسيرة المقاومة التي افترعها قلم حنظلة بشكل إبداعي استثنائي ورائع ومريع معًا.

ينبغي أن نُنوه بثراء المدوَّنة الفنية للفائزة وتنوُّع أغراضها التشكيلية، وطرافة أساليبها الإبداعية، وقدرتها الفاتنة على القبض على ما يحدث في طابعه الخام والعاري واللحمي الخالص في وجعه وقساوته وبشاعته غير القابلة للتخييل. وهي مدونة تركض وراء ما يقع وما سوف يقع فتسبِق الواقع وتدفع به إلى تُخُومه القصوى عبر كل أساليب فن الكاريكاتير من مبالغة وتشويه للأشكال وزعزعة للطمأنينة الزائفة للأنظمة واللوبيات والأجندات السياسية. وهذا هو ما تظهره رسوماتها الرائعة التي تتصدى لأشكال الاستبداد في الوطن العربي، استبداد يظهر في صورة «عَلاقة شاذة» مع لوبيات الإرهاب التي تنشر الخراب وتهجر الشعوب وتصادر الأحلام والأوطان معًا. وهذا الاستبداد والإرهاب يقابل بالصمت، صمت المتواطئين والمتاجرين بالشعوب كما يظهر من صورة تجسِّد ما يحدث داخل الجامعة العربية التي تَعتبر مواقفها مخزية مما يحدث.

استبداد وإرهاب وصمت الخونة ثالوث فظيع يسوِّق لنفسه عبر شبكات إعلامية قائمة على البروبغندا والتدجين وغسل الأدمغة، وهو ما ينتج مصادرة حرية التعبير والتفكير كما يظهر من خلال رسومات «المربوط»، «ارسمني» …

إن رسومات سارة قائد تمنح لك العالم المرئي على نحوٍ استثنائي جدًّا؛ في قساوته وحقائقه القصية وكواليس قبحه المعمم. وأنت إذ تدخل ورشتها، عليك أن تخلع نظاراتك الرسمية ستُباغتك بسياسات جديدة للمرئي وغير المرئي، للعلامات والأيقونات والإشارات، للمساحات والأضواء، للنظرات، للأشكال والإيحاءات، لرسومات تخرج عن طورها وتزدحم في قاع لم يَعُد يتسع لمزيد من الحضيض؛ لأن العالم الذي تورطه بالرسم قد أوشك على السقوط أو هو بصدد ذلك.

وبوسعنا جمع أهم الأغراض الفنية التي اشتغلت عليها مدونة سارة قائد الكاريكاتيرية في ثلاث قضايا حارقة هي قضية التطرف، وقضية اللاجئين في قوارب الموت، وقضية النكبات العربية المتتالية التي بيعت فيها أوطان وهُجرت شعوب، وقُتل فيها المئات من الضحايا والأبرياء.

أما عن قضية التطرف والإرهاب فتظهر من خلال رسومات عديدة من بينها رسم أول بعنوان «إنتاج التطرف»؛ حيث تجسد الفنانة التطرف في مكنة كبرى تخضع للعمل المتسلسل، منظومة تبدأ بالتدجين والإرغام وغسل الأدمغة وتصل إلى إنتاج المتطرفين أي القتلة فالتطرف مكنة لصناعة القتلة.
الصورة الثانية تحمل عنوانًا مثيرًا للتفكير «ماذا أرتدي لأقتل؟»؛ حيث إن القتل يتم تحت أقنعة عديدة، والصورة الثالثة عنوانها «بسم الرب»؛ حيث يتقاتل الجميع كل باسم دينه الخاص وتتحول الديانات جميعًا إلى ساحة للدماء.
ثَمة صورة رابعة تصدمنا ببشاعتها إرهابي يمسك بالكتاب الذي تخرج منه عصافير فيحولها هو إلى قنابل ومتفجرات وكيف يقع السطو على الكتاب المقدس وتحويله إلى وسيلة قتل للأبرياء.
أما عن قضية اللاجئين عبر قوارب الموت؛ فنقتصر هنا فقط على الإشارة إلى رسم بعنوان «فوق المحيط وأسفله»
كثير من الأفكار تثيرها إذَن هذه المدونة الفنية الراقية التي نشهد فيها على سمو فن الكاريكاتير إلى مصافِّ رسامين عظماء عرب من قبيل الأيقونة ناجي العلي، أو غربيين ذاع صِيتهم من الذين أسسوا لهذا الفن من قبيل غويا، كما يبدو في رسومات سارة تحت عنوان «كيمياوي من السماء» وهي صورة تعادل في قوتها التعبيرية رسمًا لغويًّا تحت عنوان «الحج إلى سانت إزيدرو».

وإن أهم ما سنركز عليه في هذه المداخلة — وهذا هو الغرض الثالث لهذه المدونة — هو صورة المرأة بوصفها مجالًا فنيًّا وحاملًا بصريًّا وحقلًا تشكيليًّا لإنتاج الدلالات ولتنصيب المجال المرئي على نحوٍ مُغاير. والسؤال هو: كيف يمكن رسم سرديات كاريكاتيرية من وجهة نظر المؤنث؟ وللإجابة عن هذا السؤال اخترنا مساءلة بعض الرسومات التي تتخذ من صورة المرأة حقلًا تعبيريًّا وسِيميائيًّا للقبض على الواقع العربي كما وقع على رءوس الشعوب فدمَّر مدنها وخرب ذاكرتها وجعل مشهد الدماء خبرًا عاجلًا يوميًّا فيها. لكن علينا التنبيه إلى طبيعة هذا المؤنث الذي تجسده الكثير من رسومات سارة قائد. لا يتعلق الأمر لديها بانخراط في ضجيج نسوي حول قضايا الرجل والمرأة، إنما باتخاذ المرأة حاملًا تشكيليًّا مناضلًا للتنكيل بما يحدث من بشاعات ولحفظ ما تبقَّى من مفاتيح المستقبل.

إن الصورة التي تهمنا هنا هي بعنوان «من نكبة … إلى نكبات»، وهي صورة تذكرنا بالإجاصات الأربعة لأهم رسام كاريكاتوري حديث هو هنري دوميي الذي يتهكم فيه من الملك لويس فيليب.
من نكبة إلى نكبات: رسم كاريكاتيري يستثمر فنيًّا في العدد أربعة لا من أجل التهكم من الملوك المستبدة، بل من أجل غرض مُغاير. في هذا الرسم نشهد على حضور أربع نساء، وكل امرأة هي علامة إشارية تعبِّر عن نكبة وطن عربي تدل عليه علامة لغوية محددة، وتشحن كل علامة إشارية، أي كل امرأة، بعلامات إضافية؛ مفتاح تعلقه في جيدها، دموع تسيل من عينيها. لكن العلامات الإشارية ليست مماثلة لدى النساء الأربعة. ثَمة تدرُّج في الصورة في مستوى الوضعية الدلالية من الوقوف إلى الجلوس، بينهما دلالات مشحونة بالدموع التي تصبح أكثر غزارة مما يُنتِج دلالة ثقل العبء وإنهاك البدن ومزيد من الحزن وزمن قد مرَّ بويلاته فأثقل كاهل المرأة التي تتقاطع على جسدها وتساوم على أحزانها كل الكوارث. غير أن القيمة الفلسفية لهذه الصورة التي هي بمثابة «فكرة مرئية» بتعبير رشيق لرودلف أرنهايم (١٩٧٣م) هو التأريخ للعرب المعاصرين لا من وجهة نظر الدول وأجنداتها الكاذبة بل من وجهة نظر الحروب والنكبات، أي من وجهة نظر تاريخ الضحايا. إن أهم ما يميز هذا الرسم هو تدرج عملية شحن الصورة بمضامين مأساوية أكثر في كل مرة؛ على أن الشحن هنا أي جعل العبء يبدو أثقل فأثقل إنما هو المعنى اللغوي الأصلي لفن الكاريكاتير نفسه؛ حيث يبدو الفرق بين النساء الأربعة هو فرق في حدة قساوة وفظاعة ما يحدث، وحيث يتدرج التاريخ العربي سقوطًا نحو الكارثة. وتمثِّل دموع المرأة وتعبيرات وجهها ونظرتها في كل مرة سردية سيميائية تذهب بنا بعيدًا في مجال التهكم الأسود إلى مقام فني مذهل. ويبدو أن الرمزية العميقة لا تكمن هنا في قدرة المرأة على التعبير عن مأساوية ما يحدث فحسب، بل وخاصة في كونها تحمل مفتاح الوطن وتحفظه جيدًا بوصفها المؤتمن النهائي على ما تبقَّى من الأوطان المغدورة. لكن الأهم جماليًّا وفلسفيًّا هو قدرة هذا الرسم على تحرير صورة المرأة من التمثيل النمطي التقليدي لها بوصفها حرمة أو بوصفها ضحية الهيمنة الذكورية؛ فالفن هنا أبعد من كل استثمار إيديولوجي للمرأة سواء كان لاهوتيًّا أو ليبراليًّا يسوِّق للمرأة بوصفها حرمة أو بوصفها سلعة. إن سارة قائد تمنح المرأة قيمة إبداعية جمالية وسيميائية فيما أبعد من كل المعارك الكلاسيكية لتحرير المرأة. فالمرأة هنا ليست هوية جندرية بل هي مفردة تشكيلية ذات بُعد رمزي عميق، إنها رمز الوطن، وهي المؤتمن الوحيد على مفاتيح الأوطان ومستقبلها. والنساء الأربع هنا أيقونة سيميائية على إمكانية وحدة الشعوب العربية المنكوبة على نحو فني: تفرقنا السياسات ويوحدنا الفن. وبالإضافة إلى ذلك علينا الإشارة هنا إلى البعد الرمزي العميق للعدد «أربع نساء»: وهنا تفتك سارة هذه الرمزية الدينية (أربع نساء شرعتها المؤسسة الدينية للرجل) من سجل اللاهوت، وتخترع لها بيئة فنية جديدة وتمنحهن سيميائية إبداعية راقية؛ حيث يقع ها هنا تهجير المعاني خارج مواضعها. إن المرأة هنا هي حارسة لكينونة هذه الشعوب المنكوبة في وقت فشل فيه الرجل في ذلك. والرجل ها هنا لا ينظر إليه هو الآخر بوصفه هوية جندرية، بل بما هو منظومة استبدادية هو نفسه ضحية لها.
ولعل أهم صورة شحنتها الرسامة سارة قائد في هذا السياق الفني للكاريكاتير في لغة المؤنث، هي صورة بعنوان «ثواني» … وفيها نرى سبع نساء يتمسَّكن بساعة زمنية كما لو كان التمسُّك بالزمن حتى وهو في أضعف انفعالاته إنما هو الأمل الوحيد لمحاولة تغييره. وفي الصورة وضعية دلالية مستحيلة يعبِّر عنها تقابل تشكيلي لا مخرج منه: من جهة بين النساء المربوطات في عجلة الزمن كما لو كنَّ يُشرفن على السقوط خارج التاريخ، في كاووس وشواش وسديم مظلم، ومن جهة ثانية تظهر يدان لرجل مغلولتان من بين قفص حديدي يبدو أنه أسير هناك. فالرجل هنا أسير الزنزانة، والنساء أسيرات عجلة الوقت في آخر ما تبقَّى من الثواني، والعلاقة المستحيلة ها هنا بين النساء والرجل تكمن أيضًا في عدم قدرته على مساعدتهن على إدارة عقارب الساعة من جهة، وعدم قدرتهن أيضًا على فك أغلاله من جهة ثانية لأنهن عالقات بعجلة الزمن، ورهينات تلك الدائرة التي لا ترحم. ولكن كل امرأة منهن هي عبارة عن ثانية في عجلة الزمن، تحاول أن تتمسك أكثر ما يمكن بها حتى تصحح مسار هذا التاريخ البائس، وهي رغم ذلك لا يمكنها التعويل على الرجل من أجل مساعدتها؛ لأن الرجل نفسه يبدو ضحية النظام ولا يستطيع مجاراة ساعات الزمن.
أما عن العنوان فطريف وفاتن معًا: فالثواني هنا تحتمل دلالة مضاعفة؛ فالنساء من جهة كائنات ثوانٍ أو ثانوية في التمثيل التقليدي لها، ومن جهة ثانية النساء هن من بوسعهن التمسك بآخر ما تبقَّى من إمكانية تغيير عقارب الساعة وذلك في الثواني الأخيرة مما تبقَّى.
ثَمة صورة أخرى على درجة عالية من التعبيرية بعنوان «الساقطين عنها … فلسطين» وفي الصورة تظهر المرأة ممسكة بخريطة فلسطين أو ما تبقَّى منها، وهي تظهر في أعلى الصورة في حين يحتشد جمع من الرجال ويتزاحمون على الخريطة كل يريد أن يضع يده عليها وهؤلاء هم الحكَّام العرب الذين خانوا القضية الفلسطينية وباعوها وما زالوا يتكالبون على المتاجرة بأحلام أطفالها.
لكن وبالرغم من اشتغال الرسامة سارة قائد الدائم على ما يحدث في أوطاننا من بؤس وكوارث، وبالرغم من تفنُّنها في أساليب التهكم الأسود؛ فإن رسوماتها تتقن التحديق بالنور أيضًا، ذلك أنه ثمة أيضًا الوجه المشرق من الكارثة. إن فن الكاريكاتير تحت ريشة سارة قائد ليس فنًّا حزينًا بالرغم من اكتظاظه بدلالات النكبات ودماء الضحايا وصمم الحكام عن أوجاع شعوبهم. فنحن أمام مدونة تَعِد بالأمل وبالقدرة على اختراع عالم أفضل. وتلك هي رسالة الفنان الحقيقي. لقد كتب ستاندال أن «الجمال وعد بالسعادة» وقد كرر بعده كل من نيتشه وأدرنو أن «الفن وعد بالسعادة»، أما دريدا فقد كتب بعد بول سيزان أن «فن الرسم وعد بالحقيقة». لكن بين الحقيقة والسعادة ثمة دومًا أمل في تغيير العالم. وهذا هو ما كتبه ألان باديو قائلًا: «إن الرغبة في تغيير العالم هي السعادة الحقيقية». من أجل ذلك ترسم سارة قائد «نعم نستطيع» وأن «هناك أشياء لا تتجمد». وترسم «الأم» في شكل شجرة حب وثمارها كل بناتها القادمات من المستقبل. أليست المرأة هي مستقبل الرجل كما كتب لويس أراغون؟
figure
وخلاصة القول: تشهد أعمال الفنانة البحرينية سارة قائد — الفائزة بجائزة ابن رشد للفكر الحر (٢٠١٩م) — على قدرات تخييلية فائقة وذكاء فاتن في اختراع الأشكال وتنضيد الرسومات وإنتاج المعاني والدلالات، وبأساليب فنية طريفة واستثنائية. ولعل مدونتها الشاسعة وغزارة أعمالها لأكبرُ شاهد على روعة ما تنتجه هذه المبدعة العربية من فن مناضل متهكم من الأنظمة واللوبيات والحكومات العربية الكرتونية، دافعة إلى مزبلة التاريخ بطغاة العرب، والساقطين عن القضايا العادلة، والمتاجرين بالخرائط والدماء … إنها تبدع سردية تشكيلية لأبناء المستقبل علَّ المستقبل يمرُّ قريبًا من هنا، بأقل الخسائر والضحايا، ومن دون مأدبة دموية جديدة.
١  هي فنانة ورسامة كاركاتير بحرينية وهي الحائزة على جائزة ابن رشد للفكر الحر سنة ٢٠١٩م. وهذا الفصل هو في الأصل خطاب الجائزة الذي كتبته وألقيته يوم الاحتفال بها في برلين بوصفي عضوًا في لجنة الجائزة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤