الفصل الثاني

الأرض في جسد المؤنث من خلال أعمال منى حاطوم١

من خارج حدود الوطن تنصب الفنانة الفلسطينية المعاصرة منى حاطوم أرضَها الممنوعة حيثما حطَّت الرحال بلندن أو ببرلين أو بباريس، محتلة بأعمالها وتنصيباتها الفنية قاعات عرض العواصم الغربية، معلنة بحدِّ الحرف أن فنها إنما هو «أداة غزو» لهذه العواصم التي تواطأَت الدول فيها على فلسطين وحوَّلت الأرض فيها إلى مجزرة. أية ذاكرة سيتكبد الفن أوجاعها حينئذٍ؟ وما مستطاع أعمالها الفنية في تجسيد الجغرافيا الهشة «للوطن المتكرر في المذابح والأغاني»؟

سنشدُّ الرحال في هذا المقام نحو عالم فني أتقن زعزعة الكثير من تصوراتنا المألوفة حول ما يحدث حولنا في الخريطة الجيوسياسية العالمية، حول مفهوم العمل الفني نفسه، حول رسالة الفن وحول القضية الفلسطينية كموضوعة فنية استثنائية بامتياز. يتعلق الأمر بأعمال منى حاطوم الفنانة الفلسطينية الأصل ذات الشهرة العالمية التي جمعت بين فنون عدة منها الأداء والفيديو والفوتوغرافيا والنحت والرسم وفن التنصيبة. سنتعرف إذَن على ورشة فنية من الطراز العالمي لفنانة تعيش هويتها «خارج المكان» فهي الفلسطينية الأصل؛ بحيث تنتمي إلى عائلة أصلها من حيفا وقع تهجيرها ضمن خطة الاستيطان الصهيونية سنة ١٩٤٨م، ولدت في بيروت وعاشت فيها لاجئة وهاجرت إلى بريطانيا حيث منحت الهوية البريطانية. هي الفلسطينية التي وُلدت قسرًا خارج أرضها وهي البريطانية التي مُنحت اضطرارًا هويتها من طرف نفس الدولة التي أقرت اقتلاعها من أرضها. بأية ذاكرة ستواجه حاطوم العالم حينئذٍ؟ هي التي تعيش المنفى مرتين: بهوية مسلوبة وبانتماء مفخخ؟

ذاكرة أرض تُهرب داخل سرديات تشكيلية ورقمية وتخييلية عنوانًا تترجمه أعمال منى حاطوم في دلالات عديدة متناقضة ومتشابكة معًا، فهي ذاكرة الوطن الممنوع، وطن الأسلاك الحديدية الشائكة المعلقة من السقف إلى الأرض كما في تنصيبة عنوانها «ما لا يقبل الاختراق» (٢٠١٠م)، وهي أرض الأراجيح المستحيلة كما في تنصيبة «مع وقف التنفيذ»، ووطن الزنزانات كما في «زنزانات»، وهي أيضًا أرض القضبان كما في «حكم مخفف»، والأقفاص كما في «اضطراب داخلي»، والأرضيات الملغمة والأثاث المنزلي الصاعق.

نحن أمام ذاكرة فنية لا تقبل الاختراق، وما لا يقبل الاختراق لا يمكن أيضًا السطو عليه. بوسع دولة ما أن تسطو على أرضٍ ما لكن ليس بوسعها أن تحتل ذاكرة شعبها، وليس بوسعها السيطرة على قلوب أهلها. سبينوزا قال ذات نص: «بوسعكم السيطرة على أجساد البشر؛ لكن ليس بوسعكم السيطرة على عقولهم.» لكن درويش كتب ذات قصيدة يقول: «كل قلوب الناس جنسيتي … فلتسقِطوا عني جواز السفر.» أما منى حاطوم فقد أتقنت من جهتها حفظ ذاكرة الأرض في أعمالها الفنية بأن جعلتها غير قابلة للاختراق. لا أحد بوسعه النفاذ إلى تنصيباتها؛ لأن ما تنصبه ملغم أو صاعق أو محاصر بالقضبان والأسلاك الشائكة، وفي هذا المعنى صممت الفنانة قرابة مائتي عمل فني بعناوين مثيرة مقلقة وخطيرة مثل «طاولة المفاوضات» أو «نخاع» أو «على جثتي» … «جسد غريب» … «اضطراب» … «انظر لا أحد» … أو «لا سبيل إليه» … أو «أبدًا».

ذاكرة الأرض هي ذاكرة كل الأجساد التي هجرت أو سجنت أو قتلت، هي ذاكرة دماء الذين سقطوا شهداء من أجلها، وهي ذاكرة الأطفال الذين تيتموا والذين أسروا أو الذين شردوا خارج حدود الوطن. هي ذاكرة لا تقبل الاختراق لأنها محاصرة، ولأنها مقسمة بحدود اتفاقيات ظالمة، ولأنها ذاكرة القضبان والسجون ومنع الجولان والجدران العازلة والأسلاك الشائكة. هذا ما ترجمته أعمال منى حاطوم الفنية في فن الأداء أو الفيديو أو التنصيبات. وهي أعمال صُممت بثقافة جمالية استثنائية اتُّخذت من الفن الاختزالي وفن الحد الأدنى والفن المفهومي حقل تجريب خاصًّا جدًّا، كما كان للسريالية وللفن الجاهز على طريقة مارسيل ديشن بصمات صريحة في أعمالها. ويمكننا القول إن فن حاطوم إنما ينخرط ضمن ضربٍ من الجماليات أو فن المريع حيث تقول: «إن أفضل الأعمال الفنية هي التي تصدمنا.»

سنحاول أن نعرض بعضًا من أعمال حاطوم الفنية تحت راية فكرة استكشافية تُوسَم بعنوان «ذاكرة الأرض من خارج المكان» من خلال ثلاثة مداخل:

  • أولًا: كيف أصبحت الأرض جسدًا؟
  • ثانيًا: الفن يُدين العالم أو ما معنى أن يصير «كل العالم وطنًا غريبًا»؟
  • ثالثًا: حين يصير الوطن إلى خرائط من صابون … ستنمو الحدائق المُعلقة.

(١) الأرض في جسد

«يا أيها العابرون على جسدي
لن تمرُّوا
أنا الأرض في جسد
لن تمرُّوا»
محمود درويش

هذه هي صورة منى حاطوم وعنوانها «على جثتي» وتظهر الفنانة حاطوم بوجهها الشخصي في مواجهة مباشرة مع جندي إسرائيلي يصعد على أنفها مسددًا إليها بندقية. وما نراه في هذه الصورة هو ضرب من التناقض بين وجهِ حاطوم التي تنظر إلى الجندي نظرة التحدي، والجندي المصنوع من البلاستيك ضئيل الحجم وهو في شكلِ لعبة. ها هنا قلبٌ للأدوار وبعثرة للأحجام واستهزاء بالاحتلال الذي يظهر بما هو لعبة سخيفة بحجم ضئيل.

«لن تمرُّوا إلا على جثتي» هو المعنى الأول لذاكرة لا تقبَل الاختراق بمعنى لا أحد بوسعه المسَّ من حرمتها ومن قداستها ومن كرامتها. ها هنا يخترع الفن سردية مقاومة واقع التهجير القسري وسياسات الاستيطان الغادرة؛ بحيث تشهر حاطوم فن السخط والاستهزاء والتحدي والصمود بنظرة تخزن محنة الشعب الفلسطيني وصموده. تلك العيون التي كتب عنها درويش يقول: «ما وطني غير هذي العيون التي تجعل الأرض جسمًا.»

وفي نفس السياق يواصل فيديو عنوانه «أعمال الطريق» (١٩٨٥م) سردية الوطن الممنوع بحيث تظهر فيه منى حاطوم وهي تجرُّ فردتَي حذاء مربوطتين إلى كاحليها. والمثير في هذا الفيديو هو أن الحذاء الذي تجره حاطوم ليس حذاء نسائيًّا ولا يحمل أي إيحاء أيروسي أو جندري بل هو أشبه بأحذية البوليس. إضافة إلى أن حاطوم تخلع الحذاء وتجعله تابعًا لساقيها فتجرُّه جرًّا، وفي ذلك بعثرة لمنطق السير ولنظام الطريق وتعبير عن تمرد الفن ضد السلطة التي ترمز إليها الأحذية، وتعبير أيضًا على أن الجسد بوسعه أن يخطو على أرضه دون خطط الدول وخرائط الجغرافيا الحزينة … مثلما تقول بنفسها: «لأنني لا أعرف مكانك … لا أجد خطواتي».

وبعد الخطوات على الأرض يتحول جسد الفنانة نفسها إلى أرض مذبوحة ممدودة على طاولة التشريح وذلك ضمن عمل فني بعنوان صادم هو «طاولة المفاوضات» (١٩٨٣م)؛ حيث تستعمل الفنانة مرة أخرى جسمها الخاص، فتمتد عارية كما لو كانت قربانًا على طاولة وقد وقع تغطيتها بأحشاء ودماء ملطخة هنا وهناك، عرض في فن الأداء يستغرق ثلاث ساعات. وفيه تذهب الفنانة إلى أقصى تعبيرة سريالية عما يحدث لأرضها، الأرض هنا تتعرى في جسد الفنانة كما لو كانت مذبحة. غير أن عراء المرأة ها هنا ليس عراء أيروسيا بل هو عراءٌ فني ميتافيزيقي ينتمي إلى ضرب خاص من فن المريع؛ حيث يجسد الجسد ركح القساوة. هو عراء القتلى إلا من دمائهم وهو عراء الشهداء إلا من أكفانهم … هكذا إذَن على لحمها تتفاوض سياسات الاحتلال، وعلى دمها تساوم الاتفاقيات والخرائط الهشة. يقول درويش: «أجد الليلة نفسي عاريًا كالمذبحة.»

(٢) الفن يُدين العالم

«عندما أغلقوا باب قلبي عليَّ
وأقاموا الحواجز فيَّ ومنعوا التجوال.»
محمود درويش

ينبغي أن ننبِّه ها هنا إلى أنه يجري التمييز في أعمال حاطوم بين مرحلتين مختلفتين من جهة طبيعة الممارسة الفنية؛ الأولى سردية وفيها أعمالها الأدائية المشحونة بالمشاعر، والثانية ما بعد سردية تحولت فيها الفنانة من الجسد الخاص كخانة تعبيرية إلى المادة كمحملٍ فني استثنائي؛ فنتحوَّل من فن يودع الأرض بين شرايين الجسد إلى مرحلة التنصيبات التي تودِع الذاكرة في الأثاث المزعج وفي المنازل المهجورة وفي الكراسي المنهارة وفي الأسرة الصدئة الفارغة من أي شكل من الحياة.

درويش يقول:

«المساحات صغيرة
مقعد في غرفة … لا شيء … لا شيء
وكان الرسم بالماء وطن.»
ومنى حاطوم تقول: «أريد أن تحمل المادة جزءًا من مفهوم العمل الفني وأحيانًا أن تتناقض معه … لقد بدأت في صنع أعمال تقرأ بأفكار معينة بدون حاجة لسرد القصة بأكملها … أنا أنظر إلى هذه الكراسي وكأنها أناس … أنظر إلى سرير الطفل الذي صنعته من المطاط والذي يترهل على الأرض وكأنه جسد منهار، لقد سميت هذا العمل النخاع.»

إن أعمال منى حاطوم المصنوعة من الأسلاك الكهربائية الشائكة وأدواتها المنزلية على هيئة ألغام مقلوبة تحمل ذاكرة الكوابيس وكراسي التعذيب وسرير الزنزانة، ذاكرة الاعتداء والتهجير والتصفية. وتلك السجادة الحمراء التي تنتهي بمصابيح ضوئية تُوحي بنوع من الجمالية الناعمة وهدوء الأضواء الخافتة في حين أن مظهرها ذاك خادع. ففن حاطوم فنٌّ مباغت ومزعج … «تيار خفي» هو عنوان مثير لعمل فني في شكل سجادة عبرت من فوقها سياسات الاستيطان التي هي نفسها مخدوعة ما دامت تتوهم أن الأرض صارت ملكًا لها وأنها بإمكانها السير عليها كما لو كانت تسير فوق سجاد أحمر؛ سجاد الأبطال والنجوم والمنتصرين … فالتيار الكهربائي هنا يشير إلى أن هذه الأرض لا يمكن اختراقها رغم احتلالها لأنها مكهربة وملغَّمة وأن لا أحد بوسعه أن يتوقع ما يُضمره هذا المكان الصاعق. تقول: «وهذه التناقضات مسرودة في قطعة جماد ساكنة.»

ها هنا تبلغ ذاكرة الأرض الممنوعة والمستحيلة أوجها. ماذا نرى من هذه الأرض التي أفرغت من شعبها غير أمكنة خالية وأسرة فارغة وأسلاك شائكة وأشياء صاعقة. فجأة يتحوَّل كل شيء في المنزل إلى خطر قاتل، فهي منازل لا تصلح للسُّكنى وهي كراسي لا تصلح للجلوس وهي «مبرشة جبن» بحجم إنسان أشبه بوطن مثقوب وطن الزنزانات والخرائط المبتورة والأشياء المتوترة والكراسي الصاعقة. كرسي للمعوقين وسرير طفل فارغ، أو سرير كهل أشبه بسرير زنزانة … أثاث شرس وخطير … ركح للغياب والمنفى … نحن ها هنا إزاء فن الانزياح الذي يتحدث عنه إدوارد سعيد؛ إن منى حاطوم إنما تحول كل شيء عن وجهته المألوفة، تقتلع الأشياء من بيئتها وتنثرها في بيئة مزعجة ومنفرة وقاتلة. وهي تقرُّ بذلك قائلة: «إن الأشياء التي أصنعها لها دائمًا علاقة غير مريحة مع بيئتها.» ودرويش كتب: «منازل الأحباب مهجورة … ويافا ترجمت حد النخاع.»، وتترجم أعمالها على الأرضيات نفس الفكرة مثلما هو الأمر بتنصيبات تتضمن سجادات مصنوعة من المسامير أو فرش أرضيات بالزجاج أو سجادات صاعقة محاطة بالأسلاك الكهربائية في كل مكان. ويحدث للفن عندها أن يصير إلى «أداة غزو».
figure

ومحمود درويش يعبِّر عن هذه الوضعية قائلًا: «من يحترف القتل هناك … يقتل الحب هنا.» ومنى حاطوم تكتب ما يلي: «لغة المنفى واحدة على امتداد التجربة الإنسانية.»

الفن هنا يدين العالم لا بوصفه متواطئًا مع مكنات الاحتلال الصهيونية بل لأن العالم كله أرض محتلة … هنا تدين أعمال منى حاطوم السياسات الاستعمارية التي حوَّلت العالم كله «إلى وطن غريب» وطن الأقفاص والقضبان والأرضيات الملغمة. وهذا يظهر من خلال تنصيبات ضخمة تحت عناوين صادمة من قبيل «حكم مخفف» (١٩٩٢م) و«بقعة ساخنة» (٢٠٠٦م) ومع «ما لا يقبل الاختراق» (٢٠١٠م) «وقف التنفيذ» (٢٠١١م). وهي كلها تنصيبات قائمة على فكرة الأقفاص التي ولدت من تأثرها الشديد بواقعة المراقبة الدائمة التي هي سمة المجتمعات الغربية بعامة وهي في ذلك قد ترجمت فنيًّا كتاب المراقبة والمعاقبة لميشال فوكو الذي تأثرت به كثيرًا. وتقول منى حاطوم: «إن المراقبة المستمرة هي أول ما لفت انتباهي حينما جئت إلى إنغلترا.»

وفي هذا المعنى أنجزت حاطوم تنصيبة بعنوان: «ما لا يقبل الاختراق» وهي عبارة على أسلاك شائكة تتدلى من السقف؛ بحيث يستحيل الدخول إليها أو اختراقها. وهذه التنصيبة في الحقيقة هي ضرب من المحاكاة السالبة الساخرة لتنصيبة صممها الفنان الفنزويلي عيسى رفائيل سوتو بعنوان: «ما يقبل الاختراق» (١٩٥٧م) وهي عبارة عن مربع كبير من البلاستيك الذي يشبه غابة اصطناعية يمكن للمشاهد النفاذ إليها والتنزه داخلها كما لو أن العمل الفني هو حضن جميل أو حديقة فنية لاحتضان الزائرين. وفي هذا العمل يقترح رفائيل سوتو تصورًا جديدًا للعمل الفني بما هو تجربة جسدية وفكرية ذات بعد إنشائي غريب. وتكريمًا لهذا الفنان صممت منى حاطوم تنصيبتها بعنوان: «ما لا يقبل الاختراق» وأنجزت بذلك نوعًا من التحويل لوجهة نظر الفن نحو ممارسة أكثر غرابة وأكثر قدرة على خلق الصدمة والاستفزاز وبعثرة تصوراتنا حول العالم وحول رسالة العمل الفني نفسه. لم يَعُد الفن حضنًا هنا ما دام الحضن (أي الأرض التي فوقها يقع تنصيب الأثر الفني) مفقودًا وممنوعًا ومُصادَرًا وهشًّا ومنهارًا ..

(٣) حين يصير الوطن إلى خرائط من صابون أو إلى حديقة معلقة

خرائط من صابون

لقد أنجزت منى حاطوم خرائط كثيرة ساخرة من كل القوى الجيوسياسية التي حوَّلت وطنها إلى مجرد ذاكرة من صابون أو كوفية تنسجها من شَعر النساء لتغطية رءوس الرجال. وهو ما تجسِّد خريطة من صابون الزيتون النابلسي سنة ١٩٩٦م حينما زارت القدس لأول مرة. وعنوان هذه الخريطة «الزمن الحاضر»، وهو عبارة عن مربع مصنوع من ٢٢٠٠ قطعة صابون على شكل قطعٍ بيضاء شبيهة بالمرمر وعليها رُسمت خريطة فلسطين بعد اتفاقية أوسلو وصُممت حدود المناطق الفلسطينية بواسطة خرز زجاجي أحمر اللون. وعن هذا العمل تقول: «خريطة سخيفة تقسم الأرض إلى عددٍ لامتناهٍ من المناطق الصغيرة، أما عن الخرز فكان أشبه بمرض حلَّ بالصابون.» وتقول أيضًا: «استعملت الصابون لأخلق عملًا قابلًا للزوال، كان شعوري تجاهه شعورًا إيجابيًّا لأنني كنت أفكر بأن هذه الحدود السخيفة ستزول يومًا.»

الكوفية الفلسطينية

تستعمل منى حاطوم الشَّعر كمادة فنية تكررها في بعض أعمالها كما يبدو ضمن عمل لها بعنوان «إعادة جمع»؛ بحيث ينتشر على الأرض في شكل كرات صغيرة مع آلة لحياكته ثم خيوط تتدلى من السقف. ولقد عَنونت منى حاطوم إحدى معارضها بالكوفية التي صنعتها من شَعر النساء. وقد وُلدت فكرة هذا العمل من مثل شعبي تقوله المرأة في حالة غضب: «حنتف شَعري» … فالشَّعر ها هنا ليس مادة جمالية في معنى الجميل التقليدي، «زينة المرأة شَعرها» بل هو رمز للسخط والمقاومة. فالمرأة تقتلع شَعرها حينما تفقد عزيزًا أو حينما تُظلم … هو رمز للفقد والانفصال والمنفى والتهجير وكل أشكال القسريات التي سُلطت على شعب فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني. هكذا تُحوِّل حاطوم الأشياء من بيئتها الأولى إلى بيئة جديدة من الجميل إلى المريع.

الحديقة المُعلقة

«أنا لا أقيم في بابل
بابل هي التي تسكُن
تقاطيعَ وجهي
أينما ذهبتُ»
محمود درويش

ها هنا نشهَد تنشيطًا للذاكرة العميقة والعودة إلى المخيال الشرقي القديم مع قصة الحدائق المعلقة. نحن أمام أكياس من الرمل في شكل مستطيلات مكدسة بعضها فوق بعض ملقاة هناك في ركن من المكان القصي ومن بين ثقوب الأكياس الصغيرة ينمو العشب … ها هنا التناقض صُلب العمل الفني بين من جهة أكياس مكدسة على بعضها في هيئة أشياء متروكة قد خرجت عن دائرة الاستعمال، ومن جهة أخرى ينمو العشب ويواصل الحياة والزحف غازيًا أمكنة جديدة وخالقًا الأرض مرة أخرى هازئًا في براءة النبات من كل الحروب والخرائط السخيفة وسياسات الاستيطان والاستعمار العالمية. يقول إدوارد سعيد: «إنه من المستحيل نهائيًّا استعادة الماضي من القوة الهائلة المرتبة ضده على الطرف الآخر. إنه بالإمكان فقط إعادة موضَعته على هيئة شيء دون اقتراح نتيجة أو مكان نهائي.»

خاتمة

تنصيبات منى حاطوم ترسم ذاكرةَ أرض لا يمكن اختراقها، لأنه لا أحد بوسعه امتلاك مساحة اللامتوقع بوصفها مِلكًا لأطفال المستقبل. أما ما يحدث الآن فقد لا يكون سوى لعبة سخيفة لمهرجين حصادهم الوحيد الإكثار من الجثث. إن أعمال منى حاطوم تخترع هُوية هجينة وذلك بجعل المكان يولد مرة أخرى على نحو مغاير داخل التنصيبة. فيكون الفن حينئذٍ ما كتبه هيدغر كأول من وقع مفهوم الأثر الفني بما هو ينصب عالمًا ويفتح أرضًا، «تهيئة للمكان وتسريح للمدى الوسيع»، حيثما تُضيِّق علينا سياسات الاستعمار القبيحة عالمنا. في العمل الفني كل الأمكنة تولد إذَن مرة أخرى من رحم الذاكرة العميقة، فهي تولد مجروحة ومشوهة، لكنها تولد أيضًا متمردة ومزعجة وساخطة شاهرة كينونتها الصلبة من حديد ونار، من جسد المقاومين والجبارين … من اندفاعة العشب وزحفه الذي لا يُقاوَم، في وجه لعبة الاحتلال السخيفة التي قد لا تعمر طويلًا … يقول هيدغر: «ليس العالم تجميعًا للأشياء القائمة ما يمكن أن يحصى منها وما لا يمكن … إن العالم يعلم حيثما نعتقد أننا عند أنفسنا.»

لكن متى نكون «عند أنفسنا» حينما يتعلق الأمر بأوطان المنفى؟ هيدغر يكتب: «إنه حيثما تقع القرارات الجوهرية لتاريخنا، سواء أأخذناها أم أعرضنا عنها … ها هنا يعلم العالم من جديد.» ما ينقصنا إذَن قرارات جوهرية من أجل أن يولد العالم في أراضينا. لكن أي معنى لهذه القرارات في عالم قد صار برمته إلى أرض محتلة؟ وهل لا يزال ممكنًا لنا أن نبقى عند أنفسنا في إنسانية هجينة إلى حد اللعنة؟

١  منى حاطوم، فنَّانة من أصول فلسطينية تعيش في لندن، لها أعمال فنِّية كثيرة ومتنوِّعة في الفنون الأدائية والرسم والتنصيبات والفيديو، تخترع أرض فلسطين كلما نصبت أعمالها في عواصم أوروبا، في نوع من «الغزو» الفنِّي لعواصم العالم الذي تواطأ ضدَّ وطنها المسلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤