الفصل الرابع

الجسد المؤنث بما هو كينونة هجينة من خلال أعمال الفنانة الإفريقية Wangenchi Mutu١

الفنَّانة «وانجينشي موتي» هي رسَّامة ونحاتة معاصرة كينية الأصل وتعيش في نيويورك زاولت تعليمها في نيروبي (بين ١٩٧٨ و١٩٨٩م) ثم رحلت إلى نيويورك حيث درست الفنون الجميلة والأنثروبولوجية وتحصَّلت على ديبلوم في فنِّ النحت. أعمالها معروضة في المتاحف العالمية بسان فرانسيسكو ولندن وباريس وديسردولف بألمانيا … تحصَّلت على عديد الجوائز … وهي تشتغل على فنون عديدة منها الأداء والتنصيبات والفيديو والرسم وتستعمل خاصة تقنية الكولاج … وتنتمي إلى النزعة المستقبلية الأفريقية ومتأثَّرة بأعمال الدادائية الجديدة. تجمع أعمالها بين الأدب والتاريخ والمخيال والأساطير الأفريقية، وكذلك عناصر من الحضارة الغربية الاستهلاكية ومن العولمة القائمة على الكولونيالية والتمييز العرقي خاصة إزاء ذوي البشرة السوداء. ولقد اتَّخذت واجنشي من أجساد النساء موضوعتها الفنِّية الأساسية من أجل تفكيكها وخلق كينونات هجينة تترواح بين الحيوان والنبات والكائنات الفضائية والآلة أو السيبورغ. وهي تحوِّل الفنَّ إلى حالات استفزازية تصدم بها تمثُّلاتنا حول هُويتنا وأجسادنا ومستقبلنا كبشر. إنَّها تشتغل ضمن أفق النزعة ما بعد الكولونيالية والإيكولوجيا النسوية وتحوِّل الفنَّ إلى ورشة كبرى لاختراع أساطير المستقبل انطلاقًا من كينونات عابرة للإنساني أو ما بعد إنسانوية … ولقد اتَّخذت من الجسد الأسود موضوعتها التشكيلية الجوهرية بوصف هذا الجسد هو مجال سيموطيقي وتشكيلي تتقاطع حوله التمثُّلات العرقية والعنف الكولونيالي للإنسان الأبيض وهو أيضًا موضوعة أيروسية أسطورية.

(١) اللوحة الأولى: شجرة العائلة

وهي لوحة أنجزتها الرسَّامة من خلال تقنية الكولاج، ومتكوِّنة من أعضاء بشرية يتمُّ تلصيقها وفق بعثرةٍ لنظام الجهاز العضوي القائم على صورة ثابتة في نوع من الانسجام الأبدي الذي لا أحد بوسعه أن يغيِّره … فهي بهذه البعثرة لنظام الجسد، تزعزع التصوُّر التقليدي له القائم على هوية ثابتة وصورة واحدة له … في هذه اللوحة نرى شجرة العائلة كما هي في التمثُّلات الأسطورية القديمة لأول شكل من ظهور الإنسان في أفريقيا تحديدًا في جبل في كينيا … هذه الصورة تجسيد لأول تنظيم اجتماعي عرفته الإنسانية وتذكير ديكولونيالي لحضارة الإنسان الأبيض، أنَّ إفريقيا هي مهد ظهور الإنسانية وليس الغرب الاستعماري الذي حوَّل نفسه إلى معلِّم كبير للإنسانيات الأخرى كما لو كان هو مقياس مفهوم الإنسان. في هذه اللوحة ثَمة رسالة مضاعفة من جهة الإفريقي الأسود هو أصل الإنسانية. ومن جهة ثانية المرأة تحديدًا هي صانعة الأساطير الأولى والعائلة الأولى للإنسانية. هذه المرأة التي تتوسَّط اللوحة بما هي الشخصية الأساسية فيها بكلِّ ألوانها إنَّما هي أمُّ الإنسانية … وفوق جسدها انبنت كلُّ الحضارات من القرود الأولى إلى الآلة إلى السايبورغ … وتقول جوانشي: «إنَّ قناعتي الشخصية تتمثَّل في أنَّ كلَّ البشر يدركون جيدًا أنَّ أسلافنا قد كانوا من الأفارقة السود.»

(٢) لوحة: Funmilargo ransome Kuti

وهي تجسِّد الأيقونة النيجيرية Yo mama.

كائن هجين نصف امرأة ونصف قنديل البحر تحمل ثعبانًا بلا رأس في يدها وتجلس في حديقة سريالية … لطخات من الدم على أرضية القماشة … وفي الصورة تظهر «يو ماما» الأيقونة النسوية النيجيرية أول امرأة تقود السيَّارة في نيجيريا وهي المعروفة بنضالاتها ضدَّ تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية … يو ماما كائن هجين يقطع رأس الثعبان بحذاء يتحوَّل إلى خنجر … وهي صورة تُحيل إلى أسطورة حوَّاء التي تهزم الثعبان وتقطع رأس الهيمنة الذكورية … هذه صورة براديغماتية لاستراتيجية الكينونة الهجينة لدى واجنشي بحيث تتحوَّل الأجساد عندها إلى مجال سياسي تخترق العلاقات بين الأنا والآخر وقضايا العرق والاغتراب والتمثلات الرمزية والسلطوية … ليس ثَمة من مسألة معزولة في أعمال جوانشي التي تقول: «أنا لا أعتقد أبدًا في الثنائيات بين أفريقي وأوروبي وبين قديم وحديث … أنا أهتمُّ فقط بقدرة الصور التي تمتدُّ حبالها عميقًا في مستودعاتنا اللاواعية.»

(٣) اللوحة الثالثة: In killing sweet butterfly ascend

مشهد رعوي وأعشاب مجنونة وامرأة تتوسَّط اللوحة وفراشة رمز للأمل … المرأة المتحوِّلة تجعل منها الرسامة كينونة هجينة بلباس مزركش بالألوان شفاه قرمزية وشعر مصفَّف بشكل جيد … بقعة دم … اللباس هو جلد ثعبان … عضو مبتور … مع بروتاز (أيضًا ملصقة أو مضافة) … سلاح مكان العضو المبتور … يتحوَّل المشهد الرومانسي الرعوي من شقائق النعمان إلى ساحة حرب … ومن جمال الألوان القرمزية إلى جلد ثعبان … وهنا يُولَد الفنُّ بطعم الاستفزاز والصدمة لزعزعة تمثلاتنا حول جسد المرأة. يتعلَّق الأمر بنقد لاذع عبر هذه اللوحة لصورة الجسد المنسجم والمنتظم … وذلك عبر استعمال تقنيات التشظِّي أي القصِّ والبتر وإعادة التركيب وإضافة عناصر غريبة عن الجسد. وهذا هو معنى مسار التهجين الذي تنجزه لوحات الرسَّامة «جوانشي موتي» … فهي تُعيد خلق الأجساد من خلال تركيب عناصر هجينة تدمِّر المعنى الأصلي لنظام العلامات … فالألوان الزاهية لا تتضمَّن ضرورة دلالة الفرح أو الزينة بالمعنى التقليدي لزينة المرأة بوصفها موضوعة أيروسية أو جنسية … بل هي ألوان جلد الثعبان الذي يحمل سُمَّه معه … والأحمر ليس لون الحبِّ بل هو لون الدماء رمز إلى العنف المسلَّط على أجساد النساء … الوجه لم يعد وجه المرأة … تمَّ محوه وتعويضه بوجه حيوان … واليد لم تَعُد يدًا بل تمَّ بترها وتعويضها بعجلة درَّاجة نارية … لقد تحوَّل جسد المرأة إلى كينونة هجينة هي نصف امرأة وهي أيضًا نصف حيوان … وهي أيضًا شكل من الآلة أو السيبورغ … لقد تمَّ تدمير الهوية التقليدية لجسد قائم على جهاز عضوي منسجم وصورة ثابتة ووحيدة وتحويله إلى جملة من الكينونات المتعدِّدة والمتحوِّلة … لقد تمَّ نزع القداسة عن جسد المرأة … وانهزمت كلُّ أساطير القصة الأولى … وانتهت السرديات الدينية … ينهزم النحو والآلهة ونظام العلامة وينهار الركح التقليدي القديم بكلِّ مكناته التأويلية.

(٤) اللوحة الرابعة: Misguided little unforgivable hierarchies

طيف جسد مرأة يعلوه جسد امرأة ملتوية … وجهان يتبادلان النظر … الفم مفتوح … اللسان مشدود في نوع من التحدِّي … دمية روسية تُمسك بيد السجَّانة … ما تهدف إليه الرسَّامة هنا هو إظهار كلِّ أشكال الشطط والإفراط في مجتمع العولمة والحضارة الاستهلاكية … الدفع بالأجساد إلى حدودها القصوى من أجل الكشف عن الحقائق غير القابلة للاحتمال … وتُظهر الصورة كيف يتمُّ موضَعة جسد المرأة وكيف تتحوَّل الأجساد إلى مسارات من البتر وإعادة الزرع لأعضاء غريبة … أجساد هجينة أي أجساد معذَّبة … مبتورة عن ثقافاتها وعن علاماتها … في حالة من الضياع … مسارات من التشابك والتداخل بين الأجساد والأعضاء … جسد متداخل مع جسد آخر … مسرحة تشكيلية للهيمنة ..

إنَّها فنَّانة لا تنفكُّ عن تهجين الأنماط من أجل اختراع معانٍ جديدة. وذلك عبر تقنيات الكولاج بوصفها تملك دلالة مزدوجة؛ فهي من جهة تضعنا أمام عالم خاصٍّ من الألوان والأشكال الفاتنة، لكن وراء هذه الأشكال يختبئ عالم كامل من الآلام والندوب والجراح التي تتركها أنظمة الهيمنة على أجساد النساء … هيمنة النظام العالمي الكولونيالي لحضارة الإنسان الأبيض على المرأة وعلى الأرض … ثَمة تناقض إبداعي بين لطافة الأسلوب وإشراقة الألوان وعنف الموضوع … إلى درجة أنَّها تمنحنا صورة عجيبة وفاتنة عن تمثلاتنا لجسد المرأة … جمالية يختلط فيها الجميل بالمريع على نحو استثنائي وفريد … فهي تتقن المزج بين ما لا يمكن تحمُّله والصور الفاتنة والجميلة … ومن هنا تأتي قدرة الرسَّامة على التفكيك والتخريب وزعزعة نظام العلامات … من تلك المهارة على الجمع بين المتناقضات في لوحة واحدة … تقول: «إنَّ التمويه والتحوُّل يمثِّلان موضوعات هامة في أعمالي … كلٌّ منَّا يلبس بدلته حينما يذهب إلى المعركة.» إنها تَعتبر أن رسوماتها هي معركة ضدَّ نظام تمثُّلات قائم على العنف على جسد المرأة … وهي بذلك إنما تخترع برسوماتها خطابة تشكيلية خاصة بها تتقن المسرحة التشكيلية للهيمنة … يتعلق الأمر باستراتيجية إبداع حقيقية وليس بمجرَّد اتقان تقنية الكولاج والقصِّ والرسم … إنها تخترع أساطير مغايرة للمستقبل وذلك من خلال إبداع نماذج جديدة من التمثلات للجسد خارجة عن كل القواعد … وذاك هو رهان التهجين … تضعنا أعمالها أمام أجساد مثقلة بالحليِّ والجواهر والألوان لجذب نظرة المتفرِّجين، لكنَّها تمارس عمليات بتر وتركيب على هذه الأجساد، بتدخُّلها مباشرة في نظام علاماتها العضوية أي الطبيعية … ما تهدف إليه هذه الرسومات هو تفكيك النظرة النمطية إلى هُوية الجسد الطبيعية باختراع كينونات هجينة تجمع بين الطابع الأيروسي والعنف المسلط على النساء وخليط الهُويات المركبة من الحيوان إلى الآلهة إلى الآلات … كلُّ العصور تعبُر هذه الأجساد من أجل أن تترك فوق سطحها ندوبًا خاصة جدًّا.

(٥) اللوحة الخامسة: The bride who married a camel’s head

إنَّها «المرأة التي تزوَّجت رأس جمل» وهي لوحة تجسِّد صورة امرأة تقطع فكَّي زوجها من أجل أن تضعها تاجًا على رأسها … وهو مشهد يُحيل إلى مشهد إنجيلي من العهد القديم يروي قصة إمبراطور أرسلَ بقائد جيوشه إلى بيت لحم … وهناك سيكون له قصة مع الأرملة الجميلة المدعوة جوديث التي كان عليها استعمال جسدها الفاتن من أجل إنقاذ المدينة … ومنذ حلول ركب القائد هناك ذهبت إليه جوديث مصحوبة بخادمتها وتمكَّنت من التسلل إلى خيمته حيث قطعت رأسه بمساعدة الخادمة … وعند الصباح حين يكتشف الجيوش ما حدث لقائدهم يفرِّون من المدينة مفزوعين من هول ما رأَوا … وهكذا أنقذت جوديث بيت لحم … وهذه المرأة بشعرها الطويل الملولب تُحيل إلى أسطورة ميدوزا اليونانية … وهي ربَّة بحرية وإحدى كاهنات أثينا غرَّرت بالربِّ بوسيديون فاغتصبها في معبد آلهة الحرب. ولمَّا كانت أثينا قد أقسمت قسم العذرية الأبدية؛ فإنَّه كان ينبغي معاقبة ميدوزا التي حوَّلها بوسيديون إلى كائن ميثولوجي يحمل ضفيرة من الثعابين فوق رأسه ويحوَّل كلُّ ما يقع تحت نظره إلى حجر … وهكذا تحوَّلت ميدوزا إلى كائن ملعون وتمَّ تحويل كل مفاتنها إلى مصدر رعب وقبح … لكن الرسَّامة الإفريقية جوانشي قد حوَّلت هذه المرأة الأسطورية إلى كائن جديد. إنَّها تُعيد كتابة الأسطورة … فإذا كان شعر ميدوزا في الأسطورة لعنة تمَّ وَفقها اغتصابها؛ فإنه قد صار في هذه اللوحة إلى مصدر قوَّتها؛ بحيث تنبت الورود فوق رأسها وتكثر الثعابين وتتوالد وتكبر رمزًا لخصوبتها … وتفتكُّ المرأة السلطة من زوجها بعد أن اختزلته في فكَّين ينزفان دمًا.

١  رسَّامة ونحاتة إفريقية من نيروبي أمريكية الجنسية اشتغلت في أعمالها على الفنِّ ما بعد الكولونيالي وعلى تشكيل الهويات الهجينة. تحصَّلت على عديد الجوائز وترحَّلت في عواصم أوروبية عديدة لعرض أعمالها وتنصيباتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤