الفصل الخامس

الفنُّ والصمت في تحرير المؤنث من خلال لوحات ألفة جمعة١

لا أحد بوسعه أن يتبرَّأ اليوم من ظاهرة تنامي العنف ضدَّ النساء وهو عنف قد استفحل في الأعوام الأخيرة خاصة ظاهرة ما اصطلح على تسميته «اغتيال النساء». وهذه الظاهرة تُقال على معظم بقاع العالم بأرقام متفاوتة ولأسباب مختلفة. لكنَّ المثير للرعب أكثر هو ظاهرة قتل النساء من طرف الزوج أو الحبيب أو الشريك في الحياة الحميمة؛ بحيث من جملة ٨٧ ألف امرأة، تمَّ قتلها في العالم بحسب إحصائيات بتاريخ ٢٠١٧م، ٥٠ ألفًا تمَّ قتلهن من طرف أزواجهن. وبحسب نفس الإحصائيات وفق القارات تمَّ قتل ٢٠ ألف امرأة في آسيا، و١٩ ألف في أفريقيا، و٨ آلاف في أمريكا، و٣ آلاف في أوروبا. وتصنَّف ألمانيا الأولى في أوروبا في اغتيال النساء (١٨٩ امرأة) وفرنسا الثانية (١٢٣) وإيطاليا الثالثة (٦٥) وإسبانيا الرابعة (٥٤). وفي أمريكا اللاتينية تصنَّف المكسيك في المرتبة الأولى في اغتيال النساء (٣٦٩) وفي أفريقيا السنغال في المرتبة الأولى (٨٧). أمَّا الصين والهند فلا يزال يتمُّ فيهما قتل الفتيات الصغيرات (الوأد). أمَّا عن تونس، فتعيش منذ اغتيال وفاء السبيعي التي أضرم زوجها النار في جسدها بتاريخ ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٢م على إيقاع احتجاجات الجمعيات النسوية والناشطات في مجال حقوق النساء ضدَّ ما سمَّته جمعية «أصوات النساء» «تجاهل الدولة التونسية وتقاعسها إزاء جرائم القتل المتتالية للنساء من جرَّاء العنف الزوجي».

السؤال الذي نطرحه هنا هو التالي: مَن المسئول عن جرائم العنف ضدَّ النساء؟ هل هي الدولة ممثَّلة في منظومة القوانين التي ينبغي عليها حماية المرأة؟ أم هو المجتمع بمنظوماته الرمزية القائمة على نظام الهيمنة الذكورية؟ ما هي أسباب العنف ضدَّ النساء ولماذا يواصل المجتمع اضطهاد النساء بالرغم من كلِّ ترسانة القوانين التي تنصُّ على حقوق الإنسان والمرأة بوصفها مواطنة حرَّة مساوية للرجل؟ وكيف يمكن مجابهة هذه الظواهر المفزعة؟

العنف ضدَّ النساء: كم من الصمت المخزَّن في هذا المركَّب اللغوي، كم من الأرواح المقهورة التي وُئدت ومعها وُئدت قصتها كما غصة في القلب إلى الأبد، كم من الدماء المؤنثة سالت في أخاديد هذا الصمت العالمي عن قهر المؤنث منذ سحل الفيلسوفة المصرية هيباتيا في شوارع الإسكندرية من شعرها إلى حدِّ الموت (٤١٥ م) إلى حدود اغتيال مهسا أميني بسبب عراء شعرها (١٦ سبتمبر ٢٠٢٢م). هل يخيف جسد المرأة وعراء رأسها الدول إلى هذا الحدِّ؟ ليس العنف ضدَّ النساء مجرَّد مسألة يمكن التفكير فيها في النزل بأعصاب هادئة، إنَّما نحن أمام آلة رمزية هائلة اشتغلت منذ عقود طويلة من الزمن ومنذ السبي البابلي في القرن السادس ق.م. على إخضاع الأجساد المؤنثة إلى نظام الهيمنة الذكورية. وهو نظام تشغيل لمكنات من القهر الجندري الذي اتَّخذ من الصمت المؤنث أحد الأشكال الأساسية لاستمراريته. فليست الأسرة والمدرسة والدين والدولة غير مؤسسات صمَّمت هيمنتها عبر التحكُّم بأجساد النساء. كيف تمَّت هندسة مكنات القهر ضدَّ الأجساد المؤنثة؟ وكيف يتمُّ التشريع لها واستمراريتها بتواطؤ النساء أنفسهن عبر صمتهن عمَّ يحدث لأجسادهن في منطقة العنف المظلمة؟

نحن نفترض أنه ثَمة علاقة ما بين عدم الاعتراف بالنساء وإقصائهن من مجال صناعة المنظومات الرمزية (الفلسفة والعلم والفن) وآليات إخضاعهن إلى الهيمنة الذكورية، وصمتهن الطويل عن أنطولوجيا العنف التاريخي ضدَّهن. إن إقصاء النساء من مجال صناعة التاريخ هو الأرضية الأنطولوجية التي شُرعنت على نحو خفيٍّ لاقتراف كل جرائم العنف ضدَّ النساء. إن العنف على العقول هو أحد عناصر التشريع للعنف على النساء «ناقصات عقل ودين» … لقد كُتب التاريخ دومًا من وجهة نظر الذكور؛ فالفلاسفة هم دومًا أفلاطون وكانط وهيغل، والعلماء هم نيوتن وأنشتاين، والفنانين هم ليوناردو دفنشي وغويا وبيكاسو … هكذا تمَّ طرد النساء من دائرة الإبداع وجعلهنَّ مختزلات في موضوعات جنسية … التونسي يقول «هي رهينة في تركينة.»

الفنُّ والصمت في تحرير المؤنث: من خلال أعمال الرسامة ألفة جمعة والمطلوب هو كيف ترسم النساء تاريخ الصمت على أجسادهنَّ، وكيف يتمُّ الإنقاذ الجمالي للحقيقة المؤنَّثة … وبالتالي كيف يحرِّر الفنُّ الأجساد المعنَّفة من دائرة الصمت واللامرئي والمقموع والمكبوت والمسكوت عنه، إلى حيِّز المرئي والجريمة والإدانة الجماعية. أي من مقام «بنتي هنِّي على روحك» إلى مقام الفضيحة والجريمة. لقد تمَّ اعتقال الأجساد المؤنَّثة المعنَّفة طويلًا في ظلام الصمت، وإن الصمت هو أخطر أشكال تعنيف الحقيقة، وإن تعرية هذا الضرب من العنف اللامرئي وفضحه وإدانته وتجريمه هو الشكل الأساسي لمقاومته.

في هذا الفصل سنحاول معالجة ثلاث أسئلة: (١) كيف تمَّت مقاربة العنف على النساء؟ (٢) كيف تمَّ تجسيد الحقيقة المعنَّفة في فنِّ العراء التشكيلي في رسومات ألفة جمعة؟ (٣) أيُّ اقتدار للفنِّ بما هو تحرير للمؤنث من عنف الصمت؟

(١) ما هو العنف الجندري؟

لقد اتخذ العنف ضدَّ النساء عبر العصور أشكالًا مختلفة من العنف المادي إلى العنف النفسي والعنف الجنسي والعنف الرقمي؛ من التحرُّش إلى الاغتصاب إلى الاغتيال.

ولقد تمَّت مقاربة هذا العنف من خلال أطروحة «العنف الرمزي» (مع بورديو) بما هو هندسة كاملة لإدارة سياسات الأجساد قائمة على كسمولوجيا المركزية الذكورية بحيث توجد قوَى النظام الذكوري في كلِّ مكان بما هي «آلة رمزية هائلة» في تصوُّرنا لا فقط للعلاقات الجنسية بين المذكر والمؤنث بل في بنية الفضاء ونظام العالم الذي نشكِّله بتمثُّلاتنا عنه … ما حصل هو إنتاج وتكثيف لترسيمات اجتماعية بوصفها قوالب لتنظيم الانفعالات والمشاعر والأفعال؛ وذلك وفقًا المركزية الذكورية التي جعلت النساء أنفسهن أسيرات لهذه الترسيمات الذهنية بل هن مَن يُساهمن في إعادة إنتاجها عبر الأسرة والتربية.

يتعلَّق الأمر في هذا الفصل بثلاث لحظات: في الأولى محاولة تعريف وتحليل أسباب العنف الجندري، انطلاقًا من مفهوم «الهيمنة الذكورية». وفي الثانية نتوقف عند المقاربة الفلسفية، وفي الثالثة نقترح بعض الأعمال الفنيَّة في فنِّ الرسم نموذجًا كأشكال من الوقاية الثقافية ومن مقاومة العنف ضدَّ النساء.

في كتابه «الهيمنة الذكورية» بتاريخ ١٩٩٨م يذهب بورديو إلى تفسير أسباب العنف ضدَّ النساء من خلال تفكيكه لنظام الهيمنة الذكورية. هذا النظام يشتغل عبر «العنف الرمزي» الذي يعرِّفه بورديو بكونه «ذلك العنف الناعم والمحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهم، والذي يُمارَس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة … أو بالعاطفة كحدٍّ أدنى.»٢
إنَّ هذا العنف الرمزي إنَّما تمَّ تأصيله وترسيمه في الأجساد والعقول في شكل ترسيمات لاواعية؛ وذلك من خلال التقسيم الاجتماعي القائم على الاختلاف البيولوجي بين الجنسين وهو تقسيم صار إلى تمثُّلات وعادات وتخلُّقات. لكنَّ الخطير في هذا النظام الموسوم بالهيمنة الذكورية هو عملية تأبيده كما لو كان نظامًا طبيعيًّا بديهيًّا. وهو ما يسمِّيه بورديو «تأبيد الاعتباطي» الذي يتمثَّل في اتخاذ الاختلاف بين الأجساد المذكَّرة والأجساد المؤنثة تبريرًا للتأبيد الطبيعي للهيمنة الذكورية التي يولَد في كنفها كلُّ أشكال العنف ضدَّ النساء. يتعلَّق الأمر بما سمَّاه بورديو «النظرية المادية لاقتصاد المتاع الرمزي» التي يقترح بورديو تفكيك البنى الاجتماعية التي يعاد إنتاجها في كلِّ المجتمعات. لكن بورديو ينبِّهنا مع ذلك إلى أن مجرَّد الوعي بكيفية اشتغال الهيمنة الذكورية لا يكفي للتحرُّر منها لأنها متأصلة في هندسة أجسادنا وعقولنا معًا. وذلك قد تمَّ عبر استراتيجية كاملة تبدأ بالتأبيد الاعتباطي عبر البناء الاجتماعي للأجساد، ثمَّ استدماج الهيمنة عبر العنف الرمزي وهو عنف على النساء والرجال معًا باعتبار «الامتياز الذكوري فخٌّ أيضًا.»٣
ومن أجل التعرُّف على كيفية حصول التأبيد الاعتباطي للهيمنة الذكورية بوصفها عنفًا على النساء، علينا بحسب بورديو «أن نتساءل عمَّا هي الآليات التاريخية التي هي مسئولة عن نزع التاريخانية والتأبيد النسبيين لبِنى التقسيم الجنسي.»٤ وهنا يتعلَّق الأمر بأهمية المقاربة التاريخية ضدَّ الرؤى الجوهرية والبيولوجية والتي تحوِّل التاريخي إلى طبيعي، والاعتباطي إلى مؤبَّد بفعل تكراره وإعادة إنتاجه. وذلك لن يكون ممكنًا إلا عبر «كسر علاقة الاستئناس الخادعة التي توحِّدنا بتقاليدنا الخاصة بنا»،٥ أي نزع التأبيد الطبيعي عن التقسيم الجنسي عبر جعله تقسيمه تاريخانيًّا. ما يهدف إليه هذا الطرح لإشكالية نظام الهيمنة الذكورية هو ما يعلن عنه بورديو قائلًا «ثورة كاملة في أسلوب مقاربة ما أريد دراسته تحت اسم تاريخ النساء»٦ وهي ثورة معرفية تراهن على اختراع استراتيجيات لتفكيك نظام العلاقات المادية والرمزية بين الجنسين. وهي علاقات قائمة على ثنائية المذكر والمؤنث بوصفها بنية رمزية تمَّ ترسيخها في الأجساد والعقول، في الأسرة والمدرسة والدولة والمؤسسات الدينية، بوصفها «أمكنة لصياغة مبادئ الهيمنة.»٧ هندسة كاملة لإدارة سياسات الأجساد قائمة على كسمولوجيا المركزية الذكورية؛ بحيث توجد قوى النظام الذكوري في كلِّ مكان بما هي «آلة رمزية هائلة» في تصوُّرنا لا فقط للعلاقات الجنسية بين المذكر والمؤنث، بل في بنية الفضاء ونظام العالم الذي نشكِّله بتمثُّلاتنا عنه. كل النظام الاجتماعي يشتغل من أجل المصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسَّس عليها، كما لو كان هذا النظام هو نظام محايد وفي غير حاجة إلى التبرير. وهنا نفهم كيف يتمُّ بناء الأجساد بما هي واقع مجنَّس وكيف ندرِّبه على ضمان استمرار هذه الرؤية المجنَّسة للمجتمع؛ بحيث يتمُّ تصنيف أعضاء الجسد وفق التمثُّلات التالية: «للجسد وجهه، وهو مكان الاختلاف الجنسي، وقفاه، وهو جنسيًّا غير متميِّز، وأنثوي بالقوة، أي سلبي خاضع … وللجسد أجزاؤه العمومية: الوجه والجبهة والعينين … وهي أعضاء نبيلة لتقديم الذات»،٨ وتظهر الهيمنة الذكورية في العلاقات الجنسية بين «المذكَّر الناشط والأنثوي الخامل.»٩ هكذا يكون الجسد هو نتاج استمداج للهيمنة بما هي مسار تاريخي من العلاقات التي تنبني اجتماعيًّا ويقع شرعنتها وتأبيدها بيولوجيًّا. وهذا هو معنى العنف الرمزي الذي يتمُّ إنتاجه على تقسيم جنسي للعمل وللإنتاج يحصل فيه الذكر على النصيب الأوفر. ما حصل هو إنتاج وتكثيف لترسيمات اجتماعية بوصفها قوالب لتنظيم الانفعالات والمشاعر والأفعال، وذلك وفقًا المركزية الذكورية التي جعلت النساء أنفسهن أسيرات لهذه الترسيمات الذهنية؛ بل هنَّ من يساهمن في إعادة إنتاجها عبر الأسرة والتربية. ليس ثَمة مؤنث أبدي أو مذكَّر أبدي، ثَمة دومًا تمثُّلات وترسيمات اجتماعية وإنَّ الهيمنة هي دومًا هيمنة تاريخية وليست طبيعية. وهو ما يراهِن عليه كتاب بيار بورديو قائلًا: «سأحاول أن أقيم الحُجة على أنَّ تلك البِنى هي نتاج عمل لا يتوقف (إذَن تاريخي) لإعادة الإنتاج التي يساهم فيها أعوان فرادى (منهم الرجال، مع أسلحة مثل العنف الجسدي أو العنف الرمزي) ومؤسسات وعائلات وكنيسة ومدرسة ودولة.»١٠ ما الذي جعل النساء يعيدون دومًا إنتاج نظام ذكوري يولَد فيه كلُّ أشكال العنف عليهن؟ هل نقول إن النساء هن أسوأ أعداء أنفسهن وأنهن يتلذذن في الألم والقهر في ضرب من النزعة المازوشية كما لو كانت نزعة طبيعية مؤبدة فيهن؟ بورديو ينبِّهنا أيضًا من هذه الأطروحة الخادعة لأنها لاتاريخية ويقرُّ أن خضوع النساء هو نتاج تاريخ من البِنى الرمزية التي أنتجها المجتمع في هندسته لأجسادنا وعقولنا ومشاعرنا. ويكتب في هذا الصدد: «إنَّ السلطة الرمزية لا يمكن لها أن تُمارَس من دون مساهمة أولئك الذين تصيبهم، والذين لا تصيبهم، إلا لأنهم بنَوها كما هي … وأن الاستيعاب الواضح بأن هذا البناء العملي هو أبعد من أن يكون الفعل الذهني والواعي والحُر والمتعمَّد «لذات» معزولة، هو نفسه نتيجة سلطة متأصلة على الدوام في جسم المهيمَن عليهم على شكل ترسيمات إدراك واستعدادات (للإعجاب، للاحترام، للحبِّ …) تجعل بعض التظاهرات الرمزية للسلطة حسَّاسًا.»١١
العنف الرمزي ليس مجرد تمثُّل عقلي أو أيديولوجيا، «إنَّما هو نسق من البِنى المتأصلة بثبات في الأشياء والأجساد» وعليه ينبغي بحسب بورديو التنبيه إلى حدود «الثورة الرمزية التي تدعو إليها الحركة النسوية»؛ وذلك لأنَّ هذه الثورة إنما تعوِّل على تنوير العقول التي تمَّ خداعها بخدعة تأبيد سلطة الذكور على الإناث. و«لأنَّ أساس العنف الرمزي لا يكمن في الضمائر المخدوعة التي يكفي تنويرها، بل في استعدادات معيَّرة على بِنى الهيمنة التي هي نتاج؛ فإنَّنا لا نستطيع انتظار قطيعة علاقة التواطؤ التي يهبها ضحايا الهيمنة الرمزية للمهيمنين إلَّا من تحوُّل جذري للشروط الاجتماعية لإنتاج الاستعدادات التي تحمل المهيمن عليهم (النساء) على تبنِّي وجهة نظر المهيمنين أنفسهم في النظر إلى المهيمنين (الرجال) وإلى أنفسهم ذاتها.»١٢ إذَن لن يتمَّ تحرير المجتمع من نظام العنف الرمزي على النساء بمجرَّد مشروع تنويري؛ لأنَّ الأمر لا يتعلق بتحرير العقول فقط بل وخاصة بتحرير الأجساد والانفعالات والاستعدادات أي بثورة اجتماعية جذرية.

ما هي نتائج نظام الهيمنة الذكورية؟

يكتب بورديو ما يلي: «إنَّ نتيجة الهيمنة الذكورية التي تشكِّل من النساء موضوعات رمزية، هي وضعهن في حال من عدم الأمان الجسدي، أو من التبعية الرمزية: إنَّهن موجودات بواسطة، ومن أجل نظرة الآخرين أي بمثابة موضوعات مضيافة، جذابة وجاهزة وننتظر منهن أن يكنَّ «أنثويات» أي مبتسمات لطيفات مجاملات خاضعات محتشمات متحفظات منزويات. والأنوثة المزعومة ليست غالبًا شيئًا آخر سوى شكل من المجاملة إزاء انتظارات ذكورية في شأن تضخيم الأنا.»١٣ إن إشكالية العنف ضدَّ النساء ليست مسألة مجرَّد وقائع معزولة تحدث في نوع من الظواهر الاجتماعية الاستثنائية، بل نحن أمام نظام كامل من التمثلات الاجتماعية التي اشتغلت البِنى الرمزية على تأصيلها في عقولنا وأجسادنا طيلة قرون كثَّفت فيه الهيمنة الذكورية فيه أشكال العنف على النساء. والمطلوب حينئذ ليس مجرَّد تنوير للعقول حول حقوق النساء بل «ثورة معرفية جذرية» من أجل تغيير موازين القوى المعرفية والرمزية والاجتماعية والمادية. المطلوب هو تطوير استراتيجيات وسياسات جديدة للهويات الجنسية وللتمثلات الرمزية لأجسادنا ومجتمعاتنا. إن نظام الهيمنة الذكورية ليس نتاج ذكوري فقط بل هو نتاج تواطؤ النساء مع نظام الهيمنة بالخضوع له وضمان استمراره وإعادة إنتاجه داخل منظومات القيم التربوية. وإن مجرَّد وعيهم بذلك لا يكفي لتحرُّرهن؛ إذ المطلوب هو ثورة أخلاقية واجتماعية ضدَّ كلِّ أشكال إنتاج النظام الأبوي.

أمَّا عن المقاربة الفلسفية فنكتفي بالإشارة إلى أنَّه قد تمَّ تشخيص مفهوم العنف على النساء من خلال المقاربة الفلسفية النسوية في ثلاث دلالات: اختزال النساء في موضوعات جنسية من أجل الرجال، (سيمون دي بوفوار) إقصائهن من مجال تاريخ الفلسفة وهيمنة اللوغوس الذكوري على مجال إنتاج الخطاب النظري، (لوس إيريغاراي) وإقصاء النساء من مجال الفضاء العمومي القائم على الكونية الذكورية والمحايدة المزعومة والفصل بين الخاص والعام. أمَّا عن تاريخ الفنِّ فهو أيضًا تاريخ إقصاء النساء من مجال الحياة الإبداعية فهو تاريخ ذكوري تمامًا؛ وبالتالي فإنَّ كتابة تاريخ النساء هو الطريق الوحيد نحو تحررهن من الهيمنة الذكورية.

(٢) الفنُّ وتعرية العنف

تنتمي هذه اللوحات للرسَّامة التونسية د. ألفة جمعة إلى مجال النقد النسوي للعنف ضدَّ النساء. وهو نقد بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر عند الرسامات من المدارس الطلائعية الانطباعية والسريالية خاصة، وهنَّ رسَّامات قد تمَّ الصمت عن أعمالهنَّ؛ بحيث لم يؤرِّخ العالم الغربي للفنون إلا من وجهة نظر الهيمنة الذكورية. وفي هذه اللوحات (٢٠١٦م) تقوم الرسَّامة بتحويل الجسد الأنثوي إلى موضوعة فنِّية لتعرية وفضح والتنديد بأشكال العنف على النساء. إنَّها مقاومة لعنف الصمت وتواطؤه ضدَّ الأجساد المؤنثة المعنَّفة. فالجسد هو مجال تأصيل الألم وتدوين ذاكرة العنف الطويلة الأمد. إنَّ ما يقع تعريته في هذه الرسوم ليس مفاتن الجسد الأنثوي في دلالة أيروسية، إنَّما يتمُّ تعرية العنف المخزَّن في مسامِّ جلودنا.

حيث تطالعنا الوجوه أولًا بملامح متعبة وتائهة وحزينة بملامح تاريخ من القهر النفسي تعبِّر عنه لطخات لونية اعتباطية تدلُّ على اعتباطية العنف وعبثيته ومجانيته، وحيث يتمُّ كتابة تاريخ الصمت، صمتهن عمَّ يحدث لهنَّ طيلة آلاف السنين منذ السبي البابلي، وصمت المجتمع الأبوي القائم على إسكات صوت المرأة بوصفه عورة، وبوصفها شيئًا في الديانة اليهودية، وبوصفها هي المسئولة عن الخطيئة الأولى بحسب الديانة المسيحية … هذه تشكيلات لونية لوجوه نسائية لم يبقَ من المؤنث فيها غير ملامح القهر … وهي وجوه تذكرنا بالعمليات الجراحية الآدائية التي كانت تقوم بها الرسَّامة الفرنسية أرولون من أجل إدانة العنف على النساء. هذه الوجوه أيضًا تبدو كما لو كانت عمليات جراحية تشكيلية لا من أجل التجميل أو القضاء على التجاعيد؛ بل من أجل التعبير عن التشويهات المادية التي أحدثتها آليات الهيمنة على النساء فوق وجوههنَّ؛ بحيث نعثر في هذه القماشات على تجسيد لعبارة «سيماهنَّ في وجوههن»، بوصف الوجه هو النصِّ الأكثر تعبيرًا عن مشاعرنا وآلامنا. وهو نصٌّ يُكتب بالدماء المتناثرة هنا وهناك في كلِّ أرجاء الوجوه والأجساد التي رسمتها أعمال الرسَّامة. على هذه الوجوه دوَّنت الرسَّامة تاريخ العنف على النساء.

هذه الوجوه ليست وجوهًا فقط بل هي وثائق تشهد على ذاكرة الظلم الطويل للنساء. هنا وجه بؤس العالم، وهنا خريطة تآمر الأسرة واللغة والدين والدولة على مصير المؤنث، هذه ليست وجوهًا، بل هي «أمكنة لتجسيد آلة صياغة مبادئ الهيمنة»، هذه ليست وجوهًا بل هي ترسيمات رمزية للألم بوصفه نتاج آليات مجتمعات الهيمنة الذكورية في إدارة شئون الانفعالات والمشاعر والعلاقات وسياسات التحكم بالأجساد.

وخلاصة القول: إن هذه الوجوه على اختلاف ملامحها وتعبيراتها وتشكيلاتها تشترك في نفس الألم؛ بالرغم من انتمائها إلى فنِّ البورتريه فهي لا تشبه ابتسامة الجيوكندا ولا ولادة فينوس (دي لاكروا) ولا نساء أفينيون لبيكاسو، بل هي الأقرب إلى تشويهات وجوه الحرب كما التقطها الرسَّام الإنجليزي فرنسيس بيكون، تلك الوجوه التي يقول عنها دولوز أنَّها كانت بمثابة المستودع الرمزي المرعب لكلِّ جرائم النازية.

بوسعنا أن نعتبر هذه الرسومات التعبيرية من بين التجارب الفنية العربية المعاصرة التي تهدف إلى زعزعة حدود فنِّ الرسم في ثقافتنا. كيف يمكن للرسامة المرأة تفكيك منظومة التمثلات الاجتماعية والرمزية لنظام الهيمنة الذكورية عبر تقنية العراء التشكيلي؟ العالمة الأنثروبولوجية ماري دوغلاس تقول: «إنَّ الوجه هو رمز المجتمع.» وماركس يعلن: أنَّ «تقدُّم مجتمع ما هو رهين موقفه من المرأة.» وفي هذه اللوحات تتعدَّد وجوه تشكيل العنف المكتوم في الغرف السوداء للنساء عبر تجسيد مشاعر الألم والاحتقار والإقصاء والإخضاع والمنع والتحريم واختزال النساء في مجرَّد موضوعات جنسية، وهو ما تشهد عليه لوحات «الآثمة» والتي لا تملك مصيرها بيدها والخاضعة لرغبات الرجل والتائهة والمشرَّدة و«المدرقة» و«المفركة».
كلُّها أجساد تلتقطها ألوان ألفة جمعة بلطخاتها العشوائية الغاضبة وتعدد التعابير واللطائف اللونية كما لو كانت الألوان هي صوت صمت صخب الجسد في قصته الطويلة مع تنامي أشكال كثيرة من العنف على أجساد النساء. من العنف اللفظي والعنف النفسي والاقتصادي إلى العنف الجنسي منذ التحرُّش إلى الاغتصاب وصولًا إلى قتل النساء. هكذا تكتمل دائرة الرعب المعمَّمة على جسد المرأة من المهد إلى القبر أي من الوأد إلى اللحد؛ حيث لا شيء تبقى من جسد المرأة غير جثمان يتمُّ اغتصابه أحيانًا حتى في القبر.
صورة مرعبة تحملها لنا لوحات الرسَّامة ألفة جمعة في لوحة «فوق القبر» كصرخة مزلزلة لكلِّ العالم على اغتيال النساء الذي صار إلى ظاهرة مريعة في مجتمعات التوحُّش الراهنة. هذه اللوحة هي محاكمة رمزية براديغماتية لكلِّ تاريخ العنف الذكوري على أجساد النساء وعلى عقولهنَّ. وذاك الجسد المقتول الملقى على القبر كان يحمل اسمًا ويحمل حلمًا كانت تكون أية امرأة منَّا بكل طاقة الفرح والأمل والحياة … لكن مكنة العنف عمياء وخرساء ومعادية لكلِّ أشكال الحلم والحياة.

(٣) الفنُّ ثورة جمالية من أجل تحرير المؤنث من عنف الصمت

ما هي الحلول الممكنة لهذا العنف المرعب على أجساد النساء؟ الحلُّ لا يكمن فقط في تنوير العقول بل في ثورة معرفية وأخلاقية جذرية في المنظومة الرمزية للتمثلات الاجتماعية تقوم على ثلاثة أشكال من الاستراتيجيات العميقة؛ أولًا: علينا كتابة تاريخ النساء من أجل استعادة مكانتهنَّ في صناعة التاريخ والخطاب الرمزي وإنتاج المعرفة، وتفكيك الفاصل بين الخاص والعام الذي يلقي بكلِّ أشكال العنف الجنسي الذي يحدث في المجال الأسري في دائرة ما ينبغي الصمت عنه.

ثانيًا: أهمية النضالات النسوية الدائمة داخل الفضاء العمومي من أجل زعزعة منطق مجتمعاتنا القائمة على الهيمنة على النساء واختراع أشكال من الفعل السياسي المغاير.

ثالثًا: دور الثقافة والفنِّ خصوصًا في إبداع أشكال من الوقاية والمناعة الأنطولوجية ضدَّ علاقات الهيمنة الجندرية.

ما يستطيعه الفنُّ هو إنجاز نمط من «التربية الجمالية» تقوم على جعل الثقافة الإبداعية مجالا لتحرير ظاهرة العنف من الصمت ومنحها إمكانيات للتعبير عن فظاعة الهيمنة، والتحسيس بمدى خطورتها بوصفها تدميرًا لما هو إنساني فينا. إنَّ تجسيد العنف كما في حالة لوحات ألفة جمعة هو إدانة له بالكشف عن فظاعته وجعله مرئيًّا وعموميًّا. أي أنَّ دور الفنِّ ها هنا هو تحرير مجتمعاتنا الهيمنة من وجهها المظلم. الفنُّ يدرِّبنا على التحديق جيدًا في الجانب المظلم من أنفسنا. فهو اختراق للممنوع وللمحرَّم وإحداث الصدمة الجمالية لمجتمع التواطؤ مع الهيمنة، واستفزاز لطمأنينته المزعومة. وهو أيضًا دعوة رمزية لاختراع استراتيجيات جديدة لتدبير سياسة الهويات. إنَّ النساء المبدعات الرسَّامات والشاعرات والروائيات والمسرحيات، يخترعن نماذج مغايرة للصورة النمطية للمرأة التقليدية التي تعتقلها التمثلات الاجتماعية في مجرَّد سلعة أو موضوع جنسي أو حرمة أو عورة … إنَّ الفنَّ هو أحد السبل الأنطولوجية نحو تمكين المرأة من صناعة التاريخ وإبداع استراتيجيات جديدة لعالم أجمل. والمطلوب خاصة هو منظومة تربوية ثورية تراهن على الفنون بوصفها مشروعًا رمزيًّا لإرساء ثقافة نبذ العنف وقبول الاختلاف. إن وطنًا لا يراهن على الحياة الإبداعية سيظلُّ يدير شئون الظلام على نحو متعثر ومختل جدًّا.

١  رسَّامة تونسية وأستاذة تاريخ الفنون ونظريَّاته بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. شاركت في العديد من المعارض الشخصية والجماعية.
٢  بيار بورديو، الهيمنة الذكورية، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٢م، ص١٦.
٣  نفسه، ص٨٣.
٤  نفسه، ص١٢.
٥  نفسه، ص١٦.
٦  نفسه، ص١٩.
٧  نفسه.
٨  نفسه، ص٣٧.
٩  نفسه، ص٤٣.
١٠  نفسه، ص٦٢.
١١  نفسه، ص٦٩.
١٢  نفسه، ص٧١.
١٣  نفسه، ص١٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤