القيراط الخامس والعشرون

في اللحظات التالية لأذان الفجر من زاوية الزواوي، الضوء الذي يصدُر عن نافذة الجدِّ السخاوي، المقابلة، يتكسر عبر شيش نافذته، على جدران الغرفة الواسعة لدقائق، ثم تسود الظلمة. السعي إلى الزاوية من صفر باشا وشارع جودة والمسافرخانة وفرن حبيب والأزقة المتفرعة، ربما حتى سراي رأس التين، الهمهمات، الدعوات، البسملات، الحوقلات، الأصوات المتحادثة — مهما تلفَّعت بالهمس — فإنها تصل إليه — خلل الصمت والظُّلمة — واضحةً، رائقةً، يتلاشى كل أثر لضوء، فيما عدا الأضواء الباهتة المنبعثة من ثقوب الزاوية؛ بابها الصغير، ونوافذها التي يغطِّيها وجه إنسان. كتل الظلام تلفُّ الناس والأشياء، حتى الظلال تختفي، تستسلم المساحات العريضة والزوايا والأركان والجزيئات والذرات، بعد الأذان مباشرةً — ظاهرة تحيِّره — لظُلمة كثيفة، ممتدة، تلغي الملامح والتفاصيل، ربما يصحو على إيقاع جياد الملك في شوارع الحي ساعةً وتعود إلى السراي، ينصت — في موضعه على السرير — إلى الابتهالات والاستغاثات والتسابيح تتناهى من مئذنة أبو العباس.

في هذه اللحظات يعدُّ نفسه للخروج، يعلو بكتفيه وأعلى ظهره، يحرص ألَّا يسعل أو يعطس حتى لا يصحو الأولاد في الغرفة الملاصقة، تواجه عيناه تكسُّرات الضوء المتسلِّلة من شيش النافذة، تتشابك أصابعه وراء ظهره، ينسحب الضوء وتحلُّ الظلمة، أزعجه في البداية ألَّا ترى عيناه — مهما أطال التحديق — شيئًا على الإطلاق، ثم اكتفى بالنظر في اللاشيء أمامه وحوله، حتى الثياب المعلَّقة التي تبدو — بتداخل النور والظلمة — أجسادًا ضائعة الملامح تذوب في حضن السواد القاتم، ينتبه إلى صوت إغلاق الشيخ وهيب، خادم الزاوية، للباب والنوافذ، فيهبط من جانب السرير دفعةً واحدةً إلى أرض الحُجرة، الجانب نفسه الذي صعد منه، ربما الحظ يواتيه.

ارتدى فانلة رقيقة تنتهي إلى الكتفين، مفتوحة على الصدر والظهر والذراعين، وسروالًا من التيل الأزرق، ودسَّ قدميه في حذاءٍ من التيل الأبيض.

قبل أن يميل إلى باب الخروج اتجه إلى حجرة الأولاد، قال للمرأة المستلقية في طرف السرير: اليوم أحسن؟

وهي تعدل رأسها على المخدة: الحمد لله!

– تريدين شيئًا؟

– سلامتك.

علا صوتُه بالتذكر: كما قلت لك في الليل: لا يلعب الأولاد خارج البيت … قد يتدخل الجيش ضد المظاهرات.

لطمته هبَّة هواءٍ وهو يفتح باب البيت من الداخل، فضَّل — اتقاءً لبرد الصباح الخريفيِّ — أن يختصر المسافة، اتجه إلى الحارة الموازية لطريق الكورنيش، خلف مطاحن شيمي بك وسينما الأنفوشي.

حرص، فلم ينظر إلى الوراء، حتى يطرد النحس عن نفسه، تعرَّج به السير في حوارٍ وأزقة، اقتحمت أنفه — في اقترابه من الشاطئ — ملوحة البحر، ورائحة الطحالب والأعشاب والأسماك الميتة على الرمال. على ناصية الحجاري لمح قطًّا أسود، غاب في شارع خير الله بك، المتفرع من السيالة، تفاءل، ومضى إلى الوسعاية المترَّبة المقابلة لدكان محمد صبرة الحلاق.

أعاد النظر.

أنسية؟!

عرفها من مشيتها المنكفئة الطفلة، مالت من الوسعاية إلى شارع ابن السعادات، التقى بها — من قبل — ثلاث مرَّات، وربما أربعًا، فاصلت في شروة من حلقة السمك، اشترت أُقَّة بسارية في المرَّتين اللتين رضيت فيهما بالثَّمن، هزَّت رأسها بالرفض، فيما تلا ذلك، ومضت. سمع في قهوة الزردوني عن تردُّدها على بيوت العزَّاب، وعلاقاتها فوق الأسطح وداخل الأكشاك الخشبية في ليل الأنفوشي، رآها — ذات مساء — تدخل البيت المهجور في شارع سليم البشري، أدرك أن أحاديث القهوة صحيحة، فاستعاذ بالله ونفض رأسه.

وهو يدنو من معسكر خفر السواحل سار وراءه كلبٌ مجهول، لخطوات، ثم اختفى، فازداد تفاؤله.

دونًا عن الشاطئ كله، عن الشواطئ كلها، اختار — ذات صباحٍ لا يذكر تفاصيله — هذا الشريط الساحليَّ الضيِّق الممتدَّ إلى ما بعد قلعة قايتباي، تعزله عن الشوارع والمارَّة والأعين أسوارُ المساكن، المياه التي يخنق لسان الميناء الشرقية — بارتفاعه — أمواجها، قبل أن تصل إلى الشاطئ الذي تقلُّ فيه الرمال، وتزداد الحجارة والزلط والحصى والأوساخ، يقذف بها من وراء أسوار المساكن، مع هذا، اختار الطريق الحجريَّ الممتدَّ الضيِّق، يتوازى في جانبيه مياه البحر وجدران البيوت.

كانت المنطقة — إلى ما بعد انتهاء الحرب بأشهر — محظورةً على الصيادين، يشغلها جنود الإنجليز والمدافع المضادَّة للطائرات والأضواء الكاشفة.

خلع جلبابه وحذاءه، وشدَّ الصديري، ورفع السروال إلى ما فوق الركبتين، خطا بقدميه في الرمال المبتلَّة، يعاني قطع الحجارة والأصداف المتكسِّرة والطحالب والأعشاب، خاض في المياه، فلا يبعد — إلَّا بخطوات — عن الشاطئ، ورنا إلى الأفق الضبابي.

لمَّا صادف السمانات الاثنتَي عشرة في المكان نفسه باعها إلى أمين عزب، عدَّ النقود ستَّ مرَّات، أنكر — في عصر اليوم — على الحاج قنديل شتائمه التي لا تنتهي.

اختلج شارب الحاج قنديل: أصبح للجربوع صوت يرفعه.

وهو يغالب التوتر: أنا لم أدسْ لك على طرف.

اهتز الحاج في كرسيِّه: وهل أنتظر؟!

أعطى الحاج ظهره، وانتظر أفواج السمَّان ثاني يوم، في الموعد نفسه … لكن الشهر اليتيم بين الشهور خذله، وانتهى، غابت أسراب السمَّان، فاجأته الأيام بالشبكة الخالية، رسم التأسُّف والمسكنة: غلطة يا حاج … ولن أكرِّرها!

قبل أن يرتِّب الكلمات ويفتح فمه رفع الحاج شفتَيه من مِبسم الشيشة، وابتدره في غضب: أنت من صبياني يا ولد؟

همس بلهجة متذللة: خدامك يا حاج.

أسند مِبسم الشيشة على كتفه: اسمك؟

– علي … علي الراكشي.

عدل الحاج قنديل النظارة المقعَّرة فوق أنفه: وماذا تعمل هنا؟ كل البلانسات في البحر!

لم يتذكره الرجل، لم يعرفه، المملكة تشغي بالرعايا، العشرات يعملون — بأمواله وتحت سطوته — في ورش المراكب، والصيد، والبيع بالجملة والقطاعي، والدخول في مزادات الحلقة، لم يفتعل — في السنة التالية — خناقة، غاب عن البلانس، وعن الحلقة، وانتظر أفواج السمَّان في الشريط الساحليِّ الضيِّق.

ثم لم يعُد ينتظر — في سبتمبر وحده — غلالات السحاب الطائرة.

بالمصادفة سأله أمين عزب عن السمَّان.

قال: لسنا في سبتمبر.

في لهجة مشجعة: مارس موسم السمَّان أيضًا.

أضاف رحلة العودة في مارس الملتفِّ بالأمطار والأنواء والرياح والبرودة، إلى أيام الغياب عن البلانس، والحاج قنديل، واللقمة التي — بالكاد وبالإهانة — يحصل عليها، امتدت شهرًا ثانيًا أيامُ الوقوف في الشريط الساحليِّ الضيِّق، إن نسي ذكَّره الباعة في الشوارع، ينادون: كواليا … الزوج بقرشين.

ومضت عينا أمين عزب بابتسامة مشفقة: ألم يكُن من الأوفق أن تظلَّ مع الحاج قنديل.

جاشت مشاعره: الحاج قنديل يقاسمنا في كل قرش.

وغلب صوته تهدُّج: حتى صياد السنارة يشاركه رزقه.

لم يعُد السمَّان — في العام نفسه — اكتشافه الوحيد، ربما لا تأتي إلى الإسكندرية — إلى شريطه الساحليِّ بالذات — كل الطيور الوافدة والراحلة، كلَّمه الجدُّ السخاوي عن مواعيد قدوم طيور الفصول، ومواعيد ارتحالها؛ العصافير، الدقناش، سمَّانة الغرب، النورس، الخنشع الزيتوني، فرخة الغيط، الوردار، الحسيني، الكحلا، أبو فصادة، أبو ديل، الغر، الخضاري، الكيش.

قلَّ اهتمامه بصيد الأسماك؛ بمواعيد هجرتها، قدومها ورحيلها، المناطق المباحة والممنوعة، مناطق التكاثر والجدب، النوَّات التي يصعب — حين تأتي — أن تخرج البلانسات إلى عرض البحر، ركَّز همَّه في صنع شبكة تحتضن أسراب السمَّان المتعب. إذا جاوزت البحر وحطَّت على قاربٍ أو جدارٍ أو حجر، استراحت تنفض عنها التعب، تطير، تواصل الهجرة، الشبكة التي تتقلَّص عليها يداه، فخ النهاية في الرحلة التي لا يدري أين، ولا متى، ولا كيف تبدأ.

دله قاسم الغرياني على المكان، لنشر الغزل ورفو ثقوبه. الصمت الذي يعمِّقه تحرُّك ذرات الرمل فوق المياه الهادئة عزله في جزيرة مهجورة. الأصابع المدرَّبة تلضم الثقوب المتهرئة الواسعة. الخيوط الرمادية تسبق قُرص الشمس في صعوده من الأفق. أسراب النورس تطير إليه في سرعة مذهلة، كأنها تنوي اختراقه.

تساءل بينه وبين نفسه: لماذا الطيور لا تواجه الأمام في تحليقها؟ لماذا تكتفي بنصف الدائرة، ثم تعود — ربما — في الطريق المضاد؟

تنبَّه إلى ما يشبه الريح المفاجئة.

غادر جزيرته المنعزلة، انتتر من جلسته لمرأى أسراب السمَّان، كادت تلامس المياه في طيرانها، اصطدمت واحدة بأعلى كتفه، طارت في نصف دائرة، ووقعت على الأرض، أمسك بها — بيديه — قبل أن تفيق وتعاود الطيران. في اللحظة التالية قام بطوله، فرد ذراعيه مضربَين يلقفان الأسراب الوافدة، يهبطان بها إلى الأرض، يغيبانها تحت الشِّباك المفروشة، شغلته الحكاية، فلم يعرف عدد السمَّانات إلَّا عندما عرض عليه أمين عزب شراءها.

سألته أمُّ الأولاد مشفقة: هل تنوي ترك مهنتك؟!

حدجها بنظرةٍ غاضبة: أنا؟!

– نحيا على نقود الطير معظم أيام السنة، ولولا الحاجة ما نزلت البحر.

أردفت في توجس: إذا غضب منك الحاج قنديل، لن يقبل بقية المعلِّمين أن يتعاملوا معك.

علا صوتُه: هل أظلُّ العمر تحت قدمَي الحاج زفت؟!

ثم وهو يهزُّ إصبعه: لو لم يحقِّق صيد السمَّان ما في رأسي، فسأعود صياد سنارة؛ أصطاد حتى في الشواطئ الممنوعة.

حين انتظر الحاج قنديل — في الصباح الباكر — على باب الحلقة، كان ضباب اليأس يحجب الرؤية أمامه، امتد الممنوع في أعوام الحرب، شمل الساحل بأكمله، غاب الحاج بين الطبالي، وجرادل الماء، والثلج، والأجسام المنحشرة، والمزادات، والمساومات العلنيَّة والجانبيَّة والهامسة والتي يقطر فيها العرق، والقبول، والرفض، والصهينة، ودفاتر الصادر والوارد، ومباحث التموين، والأكواب المترعة بدم الترسة، ورائحة الأسماك التي تأخَّر حفظها في الثلاجة.

نبهه حمودة هلول إلى وجود الحاج.

لا يذكر الكلمات التي قالها، وإن يذكر هزَّة الرأس الموافقة.

وعاد إلى البحر.

كان الوحيد — بين المتعاملين مع الحاج قنديل — الذي ظلَّ في المدرسة إلى الثالثة الابتدائية، وقرأ القرآن، وتعلَّم سماع نشرات الأخبار، وقراءة الصحف، وكشف ما يغمض عن سائليه من أمور السياسة.

تعلم صيد الإسفنج تجربته الثانية.

غاص إلى أعماق بعيدة، من العجمي — غربًا — حتى السلوم، ميَّز — بعد شهور — أنواع الإسفنج؛ التركي كب، هاني كوم، الزيموكا، ثلاثة أنواع رئيسية يحرص عليها ويهمل الباقي، جرت النقود — لفترة — في يديه، لكن المشهد القاسي هجر به المنطقة كلها؛ فتحي عبد ربه صعد من الماء مشلولًا، نزل إلى الأعماق ما يزيد على الأربعين مترًا، واجه شيئًا لم يتبيَّنه الرجال، بعد أن أخرسه الشلل، شيئًا قاسيًا مفترسًا، دفعه إلى الطلوع من الماء بسرعة، الحقيقة التي يعرفها صيادو الإسفنج — بتأثير الفزع — نسيها، طلوع الأربعين مترًا مرَّةً واحدةً أضاع توازن الدم، فشل الجسد.

– أريد أن أشتري قاربًا قبل أن يحلَّ شتاءان … لا أحلم بالنعيم … لكن عشرين عامًا في البحر تعطيني الحقَّ في أن أكون حُرَّ نفسي.

القارب والطراحة وهجر السنارة، حلم الأب الذي مات بموته، غالب الدمع وهو يتسلم أوراق انتقاله إلى الرابعة الابتدائية، من بين عشرات الرؤى المبهمة والباهتة الملامح تطفو هذه الصورة بالذات: خطوات الأب التي أتعبها التنقُّل بين الشواطئ تبطئ في المنطقة المقابلة لمستشفى الملكة نازلي، يضع البوصة والغلق على سور الكورنيش، يتنهد في حزن هادئ، يغمض عينيه، كأنه يتهيأ لنوم.

– أحيانًا لم أكن أستطيع تدبير إيجار الشقَّة، أجمعه بالسلف حتى ألبِّي الطرقات المزعجة أول كل شهر.

المائة والثلاثون قرشًا — إيجار الشقة — كانت — قبل الحرب — مبلغًا وقدره، الشواطئ كلها مفتوحة، المبلغ — الآن — يقلُّ عن إيجار غرفة في أسطح بيوت السيالة، لكنه يعاني صعوبة تدبيره.

– المصيبة أني أكلِّم نفسي … فماذا تفهم امرأةٌ غبيةٌ مثلك؟!

أقسى ما في الأمر أنه يفكر ويخطط ويحلم بالتنفيذ، جيشان أعماقه سرُّه الذي لا يدري به أحد، حتى المرأة همُّها اللُّقمة والمستقبل الذي لا يجاوز ظلَّها.

تكاثفت المتاعب، فاختفت الظلال، وحلَّت العتمة، أطال الوقوف يحدِّق ويتلو الآيات والأدعية ويرهف السمع، لكن الظلمة الساكنة لم تغادر داخله ولا حوله.

عاود التحديق في اللاشيء، وإن غادرت عصافير اللوحة على الحائط إطارها، صفقت بأجنحتها، طارت في سماء الحُجرة، صنعت أشكالًا وتكوينات، علت أصواتُها بشقشقةٍ عذبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤