عنترة يسترد جواده

١

رأيناه — للمرَّة الأولى — يسير في شوارع السيالة، يختلف عن المارة، في سحنته المنمشة، وعينيه الزرقاوين، وقامته الطويلة، وشعره الأصفر المنسدل على قفاه، وخطواته المتمهِّلة، ونظرته المتأملة لكل ما حوله.

كان الوقت ظُهرًا، والشمس تريق أشعَّتها الساخنة على أرض الطريق.

يصعد إلى رصيف قهوة الزردوني، اختار أقرب ترابيزة، وجلس، لم يُلقِ السلام، ولا عُني بنظراتنا المتطلعة، أو المتسائلة، أو المستريبة، نادى على الجرسون ياقوت، وطلب شايًا.

انشغلنا بلعب الطاولة والكوتشينة والدومينو، فلم ندرِ كيف بدأ العراك بينه وبين ياقوت، لصق الولد بالجدار، وانهال عليه بضرباتٍ قاسيةٍ موجعةٍ حتى تهاوى تحت قدميه، خلَّص ساقيه من الجسد المتكوِّم، ومضى ناحية شارع السيالة.

فاجأنا ما حدث، فعجزنا عن التصرف.

٢

جاء إلى القهوة ظُهر اليوم التالي.

جلس على طاولة خالية، ونادى على ياقوت.

ترك المعلم أحمد الزردوني مكانه: انصرف من هنا.

تساءل في صوت كالهمس: لماذا؟

وهو يزغده في كتفه: القهوة ليست للفتوَّات.

لم يتحرك في جلسته: لست فتوَّة.

ثم وهو يهزُّ رأسه: ولن أنصرف!

نادى المعلم على عمَّاله بعينيه، فزَّ الرجل وبيده الكرسي، تناثرت ضرباته على رءوس المعلم والعمَّال، وفي أجسامهم. سكتت الصرخات، أو تحولت إلى أنَّات متقطعة، فألقى ما تبقَّى من الكرسي، ومضى — دون تلفُّت — ناحية شارع السيالة.

٣

كأن الأمس لم يكُن.

قدِم — هذه المرَّة — من شارع العوامري، المفضي إلى الميناء الشرقية. تجاهل آثار العراك، واختار كرسيًّا سليمًا، أسنده إلى جدار القهوة، وجلس.

لم نتوقع مجيئه، نقل المعلم الزردوني وعمَّال القهوة الثلاثة إلى مستشفى رأس التين، ووصل البوليس بعد أن اختفى الرجل في انحناءة الطريق.

كنا قد أتينا بمفاتيح القهوة من بيت الزردوني، أشعلنا المنقد، ورصصنا الكراسي، وأعدنا تشغيل القهوة قدر استطاعتنا.

القهوة لها ثلاثة أبواب، وإن أُغلق بابان؛ أحدهما يطلُّ على شارع العوامري، وفُتح أحد البابين المطلَّين على شارع السيالة. تقع أسفل بيت قديم من طابقين، أكلت ملوحةُ البحر القريب واجهته، فبدت الثقوب في الأحجار البيضاء، وأطراف السقوف الخشبية الفاصلة بين الطوابق.

اخترنا الجلوس فيها؛ لأنها وسط بيوت الصيادين، وقريبة من شاطئ الأنفوشي ومن مرسى البلانسات، والمراكب الصغيرة في الميناء الشرقية، وحلقة السمك، وساحة نشر الغزل، وورش المراكب، وميدان المساجد باتساعه المفضي إلى أبو العباس والبوصيري وشارع الميدان، وأمامها مسجد المسيري الصغير، يفتح أبوابه طيلة اليوم، فيسهل أداء الصلوات.

نقضي في القهوة معظم أوقاتنا، لا نغادرها إلَّا إلى بيوتنا، أو إلى البحر، ندخل الجوامع في صلاة الجمعة، أو لأداء الأوقات إذا تناهى الأذان من مسجد المسيري، ربما تردَّدنا على حمَّام الأنفوشي … لكن القهوة هي المكان الذي نتحاسب فيه، ندفع عربون شروة اليوم التالي، نتفق على السفر في البلانسات، نتناقش في الظروف والأحوال، نلعب الطاولة والدومينو والكوتشينة. إذا غاب أحدنا، فلأنه في البحر ونحن نعلم، أو لأنه مريض ويجب السؤال عنه. اعتدنا قهوتها وشايها وقرفتها وزنجبيلها ونداءات ياقوت، وصوت الراديو منذ يبدأ إرساله إلى السلام الملكي، وقعدة المعلم أحمد الزردوني بالقرب من الباب، حتى الكراسي التي بُزَّت مساميرها، أو تهالكت، نعرفها فنتجنب الجلوس عليها، اعتدنا ما فيها وما حولها، لم يعُد يشغلنا إلَّا النقاش والفصال وإطلاق صيحة التباهي عند الفوز في أدوار اللعب.

انتترنا من أماكننا، وتقدَّمنا نحوه.

لم يبدُ أنه فوجئ بتصرفنا، رفع كرسيَّه يتَّقي ضرباتنا، ويوالي ضرباته كيفما اتُّفق. انبثق الدم والتأوهات والصراخ والزياط والفوضى، خلا المكان في دقائق، إلَّا من جلسته المستندة إلى الجدار.

٤

قال مختار زعبلة إنه شاهد الرجل مرَّاتٍ كثيرةً في الميناء، يخلِّص أوراقًا باستيراد بضائع من الخارج، وأكد قاسم الغرياني أنه لم يلتقِ بالرجل من قبل، وإن بدت ملامحه مألوفة، وتناولت قعدات البيوت أصله وفصله، وأكد البعض، في حسم، أن الرجل ليس من الإسكندرية أصلًا، وأنه جاء ضمن بحَّارة سفينة أجنبية، فاستبدل زيَّه، وظلَّ في المدينة.

٥

تذكرناه.

كان قد مضى زمنٌ طويلٌ على لجوء الشيخ أمين عزب إلى زاوية خطاب، آخر معاركه خاضها ضدَّ بحَّارة زرق العيون، طاردهم في شارع المسافرخانة بشومته التي لم تكُن تفارقه، أُغلقت أبواب الدكاكين والبيوت، وماتت حركة الطريق، فيما عدا صرخات البحَّارة، والصيحات المعجبة من النوافذ، وضربات الشومة ترتطم بالأجسام المتأوِّهة.

كان قد لزم الزاوية، لا يغادرها منذ صلاة الظُّهر إلى صلاة العشاء، يتلو آيات القرآن، ويؤذِّن للصلاة في مواعيدها، وربما خطب المصلِّين في صلاة الجمعة.

لم يكُن فتوَّة، ولا خالط الفتوَّات من قبل، سمع عن حكايات حميدو فارس والسكران وأبو خطوة، المعارك الدامية في أحياء الإسكندرية، سطوة الفتوَّات والأبوحمدات على التجار وأصحاب الدكاكين، إتاواتهم من مواكب الزفاف في ميدان المساجد، سرقاتهم من معسكرات الإنجليز في رأس التين.

بدا أبوه متأثرًا وهو يقول في عودته — ذات مساء — إلى البيت: مات أبو خطوة.

أضاف دون أن يبين عن هوية الرجل: كان يفاصل على شروة سمك لبيته، في الحلقة … أحسَّ بالتعب، ومات قبل أن يلحقه الطبيب.

روى له أبوه — فيما بعد — عن حميدو والسكران وأبو خطوة وأبوحمدات الإسكندرية وفتوَّاتها، أعلن إعجابه، وترك لخياله صورة معاركهم.

لمَّا خاض أولى معاركه، فاجأه عبد الرحمن الصاوي بالقول: ذكَّرتنا بحميدو فارس!

عرف أن طرده للغرباء عن الحيِّ هو من أفعال الفتونة، وإن لم يصادق الفتوَّات، ولا شاهد أفعالهم في حياته.

فاجأنا — عقب وفاة أبيه — بترك الدراسة، خلع البنطلون والقميص، وارتدى الجلابية، وقف على طاولات أبيه في حلقة السمك، أعانه معلمو الحلقة على فهم ما غاب عنه من أصول البيع والشراء، زاد الطبالي لباعة الشروات والسريحة، عرف الجلوس في القهاوي والدكاكين، والتردُّد — مع الصيادين — على حمَّام الأنفوشي، والمشاركة في الموالد وفي حلقات الذكر أمام أبو العباس والبوصيري، تجاهل المصمصة ونظرات الإشفاق لصغر سنه.

فاجأته خناقة في مولد أبو العباس، تلقَّف كرسيًّا يتجه نحوه، طاح في الوجوه المنتوية الشر، الغريبة عن بحري، طاردهم من الدحديرة الخلفية للجامع، إلى الموازيني، توقَّف عن المطاردة في أول شارع الميدان.

ضرب — ذات أصيل — ثلاثة شبَّانٍ من خارج بحري ضايقوا فاطمة بنت الحاج توفيق الشمرلي، لاحقوها حتى قهوة مخيمخ، قام من مجلسه، وتصدى لهم، تنبَّه الناس — من يومها — إلى قوته، جعلوه حلقةً في سلسلة الفتوَّات الذين تصوَّر الجميع أنه انتهى زمانهم.

قيل إن الشيخ عرفة الأنصاري ظهر له في رؤيا منامية، حذَّره من مغبَّة الاعتماد على قوته، طالبه بأن يلزم جانب الله، فيترك الحلقة — آخر النهار — إلى زاوية خطاب، يغادرها إلى البيت.

لم يعُد يتردَّد على قهاوي الحيِّ، أو يشارك في مسابقات الحناطير والبنز، أو يتردَّد على الحمَّام، أو حتى يشارك في موالد الأولياء. يبيع الشروة، فيترك الحلقة إلى البيت، قبالة مطحن شيمي بك، يتناول طعامه، ويتوضأ، ويستريح إلى ما قبل العصر. يتجه إلى زاوية خطاب، يلزمها إلى صلاة العشاء، ثم اعتزل الناس، انقطع إلى الله، يغادر الزاوية إلى البيت، عقب صلاة العشاء، أو لزيارة أبنائه ساعاتٍ من النهار، يقوم بمهامِّ الخادم والمؤذِّن والإمام، ويتولى — بنفسه — فتح الزاوية، لأداء الصلاة، وإغلاقها.

أطلق لحيته، فبدت، بلونها الكستنائي، إضافةً إلى العينين البُنِّيتين، والبشرة البيضاء المشرَّبة بحمرة، والقامة الطويلة في اعتدال، جسَّد ما ارتسم في تصورات الناس عن الشاذلي وأبو العباس والبوصيري ونصر الدين وكظمان وعلي تمراز والأولياء الاثني عشر، وغيرهم من أولياء الله الصالحين، ثم زادت مهابته بالعباءة الجوخ، يحرص على ارتدائها في الطريق، وفي الزاوية، وفي استقباله للمتردِّدين على بيته.

٦

طوى صفحة القرآن على إصبعه، وقال: عرفت كل ما حدث.

ثم في تقريرية هادئة: لكي يعود الحيُّ إلى سابق عهده، فلا بدَّ من طرد الرجل.

قلنا: حاولنا … لكنه يتقن من أساليب العراك ما لا نعرفه.

وهو يهُمُّ بالعودة إلى قراءة القرآن: دعوه لي!

٧

ترك زاوية خطاب بعد صلاة الفجر.

سار في المسافرخانة إلى نهايته، مال إلى شارع الكناني، ومنه إلى شارع أبو العباس، حتى الميدان الفسيح.

أخرج من الصديري — في بداية السيالة — مطواة ملتمعة النَّصل، وسبق الجميع في الجلوس على طاولة ملاصقة لجدار القهوة.

لمَّا تلاشت الظلال الرمادية، وارتفع الضحى، كان الشارع قد امتلأ عن آخره بالعشرات من أبناء الأنفوشي والسيالة ورأس التين، تساندوا على أبواب البيوت والدكاكين المغلقة، وأطلَّت العيون من خلف النوافذ الموارَبة، واقترب البعض مستترًا بعربات اليد الفارغة.

ظهر الرجل في الحارة الضيقة، الملاصقة لمسجد المسيري، حلَّ صمتٌ سادرٌ غريب، يعمِّقه نبش قطة في قمامة الطريق.

فزَّ الشيخ أمين عزب لاقتراب الرجل، أسند ظهره إلى الحائط، واستلَّ سكينه.

زوى الرجل عينيه في دهشةٍ حقيقية: لماذا؟

قال أمين عزب وهو يحرك السكين أمام عينَي الرجل: لا مكان لك هنا.

دون أن يجاوز هدوءه: إني أدفع ثمن المشروب.

علا صوتُه، فبدا كالصراخ: ولو … انصرف حالًا!

بحركةٍ مفاجئة لوى ذراعه، وضغط بقبضته على عنقه، صرخ الشيخ بآخر ما عنده، وقذف بنفسه إلى الأرض، يحاول التملُّص … لكن الرجل لحقه، وبرك عليه، ظلَّ فوقه بقامته العملاقة، لم يتركه إلَّا بعد أن هدأت ارتعاشات يديه وقدميه، فتصورنا أنه مات.

٨

عاد إلى موضعه في زاوية خطاب، يقرأ القرآن، وينصت إلى شكاوى الناس وأسئلتهم، وإن لم يعُد يستطيع أداء الأذان، أو القيام لإمامة المصلين، مدَّ ساقه التي لفَّها الجبس أمامه، وكانت آثار المشاجرة واضحةً في وجهه.

٩

تابعناه وهو يترك موضعه في زاوية خطاب، يمضي في المسافرخانة إلى نهايته، ثم يتجه من الحجاري إلى شاطئ الأنفوشي، يخلِّف الكبائن، وورش المراكب، ودار السينما، يميل إلى الساحة الحجرية المطلَّة على البحر، يفتح حقيبة من القماش، متوسطة الحجم، يفرد خناجر وبلط وسكاكين وجنازير وسلاسل، وأشياء أخرى يتلاعب بها، ويقذفها في الهواء، ويستعيدها، ويصوِّبها إلى نُصب خشبيٍّ غرسه في وسط الساحة.

إذا حلَّ به التعب، أسند ظهره إلى صخرة هائلة في طرف المكان، وانشغل بمطالعة كتبٍ بها رسوم وصور وخرائط، ثم يعاود أداء تمريناته القاسية!

راعينا مشاعره، فلم نسأله إن كان هجر ملازمة الزاوية، وأنه سيعود إلى الفتونة.

١٠

أنهى — ذات عصر — تدريباته في الساحة الصخرية، لم يدسَّ الأدوات — ككل يوم — في الحقيبة القماش، لفَّ الجنزير حول وسطه، ووزع الخناجر والسكاكين على جيوب الصديري.

لم يستكمل مشوار العودة اليوميَّ في طريق الكورنيش، مال إلى داخل السيالة، ونحن نتبعه.

بدا رصيف القهوة خاليًا، إلَّا من الرجل، كان يرتشف — في استرخاء — كوب الشاي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤