الحال يسبق المقام

أنكر ابن عطاء الله السكندري — في مقتبل شبابه — على التصوف ورجاله، وذهب إلى أبو العباس المرسي لينظر ماذا يقول، وجده يتكلم في الأنفاس ودرجات السالكين إلى الله، ومدى معرفتهم به — سبحانه — وقُربهم وتقرُّبهم إليه، فما زال يتحدث ويتحدث عن الإسلام والإيمان والإحسان، ومقامات الشريعة والحقيقة والتحقُّق، قال ابن عطاء الله: … إلى أن بهر عقلي وسلب لبِّي، فعلمت أن الرجل يغترف من فيض بحرٍ إلهيٍّ ومددٍ رباني، فأذهب الله ما كان عندي من إنكار واعتراض. ولزم ابن عطاء الله — فيما بعد — أبو العباس، وصار من مريديه.

جلس قبالة الشيخ، أسند ركبتيه إلى الأرض، قرأ الشيخ الفاتحة ثلاث مرَّات، قرأها بعده، قرأ الشيخ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ.

وقال الشيخ: استغفر الله.

قال علي الراكشي: أستغفر الله العظيم، الذي لا إله إلَّا هو الحيُّ القيوم، وأتوب إليه، تُبت إلى الله، ورجعت إلى الله، ونهيت نفسي عمَّا نهى الله، ورضيتك شيخًا لي، ومرشدًا لطريقة الشاذلي.

قال الشيخ يوسف بدوي: أنت الآن تقف على باب الأبواب.

وتأمل ما لا يراه سواه، في الفراغ أمامه: التوبة هي أول ما يدخل به العبد حضرات القرب من جناب الرب!

التوبة هي الاعتراف، والندم، والإقلاع، والتقوى، والاستقامة، والزُّهد، والورع، والخوف، والرجاء، والرضا، والتسليم، والإخلاص، والصدق، والطمأنينة، والمراقبة، والمشاهدة، والمعرفة.

قال الشيخ: أقمتك مريدًا بهذه الطريقة العليَّة … وعلى هذا العهد المبارك.

أضاف في ترفُّق: قُم مريدًا في هذه الطريقة!

•••

قال الشيخ يوسف بدوي: قبِلتك لأوصلك إلى طريق الله بقدْر ما تعرف، وإني لن أبخل عليك بقدْر ما عرفته. وقال: من شروط التلمذة أن يختار المريد الفقر على الغنى، والذلَّ على العز، والله على غير الله. وقال: لا شجرة بدون غارس، قد تورق، لكنها لا تثمر. وقال: اسلك الطريق على هدى ما تلقاه عني من إشارات وإرشادات. وقال: المريد يجب أن يكون بين يدَي شيخه كالميت بين يدَي غاسله، يقلِّبه كيف شاء.

لاحظ ارتجاف عينيه، خالط صوته إشفاق: لا أريد لعلمك أن يقتصر على الشريعة، فتصبح من العامة، ولا أحبُّ لنفسي أن أصبح من علماء الرسوم.

وقال في صوته المشفق: أملي أن تصل إلى المقام الذي أتمنى من الله أن أصله يومًا.

قال علي الراكشي: ما هو؟

قال يوسف بدوي: مقام المحبة … هو أعظم المقامات … ليس بعده مقامٌ آخر.

حذَّره من ضعف النفس، يشاهد اللوامع بالحواسِّ الظاهرة، تتراءى له أنوار كأنوار الشمس والقمر والشُّهب، فتضيء ما حوله، تبهر أهل البدايات، فيسيئون الرؤية والفهم والتصور، تجتذبهم، فيتبدى السراب واحةً يتصور فيها الضال غاية تعبه.

ألزم نفسه حُسن الاعتقاد في الشيخ، الإيمان بصدق ولايته، أوقد في قلبه مصابيح الهوى، أجاد تربيته، والإشارة إليه بمستلزمات السلوك، ومقتضيات الوصول إلى قُرب الخالق، آن الأوان كي يجاوز العبادة الظاهرة من صلاة وصوم وطهارة، إلى العبادة الخفية؛ الخوف والرجاء والزُّهد والصبر والورع والرضا والتسليم.

أوصاه الشيخ بألَّا يجادل، الجدل يفضي إلى المماراة، وتغليظ القلب، والانتصار للنفس على حساب الحق، يصرفه عن مغالبة الشهوات، والسموِّ إلى عالم الصفاء، يشوِّش عليه، فلا يدخل العالم الذي ينتظره؛ عالم الصادقين، القانتين، الخاشعين، السائحين، الموقنين، المخلصين، المحسنين، الخائفين، العابدين، المتوكلين، المتَّقين، الأبرار، المقرَّبين، المصطفين، الأخيار.

وقال له الشيخ: حفظ العهد يعني ألَّا تُفقد حيث ما أُمرت، ولا توجد حيث ما نُهيت!

أقبل القلب على بهجة الأسرار، لمعات نورانية تضيء في سماء حياته، ثم ما تلبث أن تزول وتنطفئ، كأنها لم تكُن، تعود ثانيةً كما كانت، بلا مقدمات، ولا محاولة منه لاجتلابها، سمَّاها الشيخ يوسف بدوي طرائق الأحوال، لم يفهم المعنى على نحو محدَّد، وإن اعتاد التماعها بين لحظاتٍ وأخرى.

قال الشيخ: لا بدَّ أن تمرَّ بطريق طويل قبل أن تصبح سالكًا، لا بدَّ من صحوة وقيادة مرشدٍ كي تصل إلى نهاية الطريق.

قضى أيامه في تأمل وصلاة، وتلاوة سور القرآن الكريم، يا دوب يبيع شروة، يأخذها من محمد كسبة، يمضي بعدها إلى أبو العباس، أو إلى البيت. الصلاة، والصوم، والتسابيح، والقراءات، قبل كل صلاة وبعدها، ما يُستحبُّ من الذِّكر والدعاء، أوراد الليل والنهار، محاسبة النفس، تعلَّم المقامات، والغفلة، وعلوم الباطن.

أيقن أنه يحاول الدخول إلى الحضرة الإلهية من باب القُرب، اعتاد تناوب المشاعر في داخله ما بين الحزن والوجد والفرح والشوق والرضا والندم، يتبدل من حالةٍ إلى أخرى، بتبدل المقام وزواله، باستمراره ودوامه.

صارح الشيخ بما في نفسه، فطمأنه: المريد يترقَّى من مقامٍ إلى آخر، حتى ينتهي إلى التوحيد والمعرفة … وهي غاية السعادة.

ثم وهو يتأهَّب للصلاة: المقامات درجات في الصعود إلى الغاية العليا.

حدَّثه في حلِّ الرموز، فهو لن يصل إلى منازل القُربى حتى يجاوز ستَّ عقبات؛ يفطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، يفطم النفس عن المألوفات العادية، وعن الكدورات الطبيعية، يفطم القلب عن الرعونات البشرية، يفطم الروح عن البخورات الحسيَّة، يفطم العقل عن الخيالات.

وقال يوسف بدوي: المقامات أمامك كثيرة … فأنت تبدأ بالتوبة، ثم الخوف، فالرجاء، فالصالحين، فالمريدين، فالمطيعين، فالمحبِّين، فالمشتاقين، فالأولياء، فالمقرَّبين.

وقال: اخرج معي … ولا خوف عليك!

بدأ تمارين غيبيَّة، كتلك التي يمارسها الدراويش، للوصول إلى حالة الإشراق، والحصول على الكرامات التي تمنحه قوى خارقة.

•••

قال له الشيخ يوسف بدوي: ما دمت قد صدَّقت بهذا العلم، فأنت من الخاصة. فإذا فهمته، فأنت من خاصة الخاصة. أمَّا إذا عبَّرت عنه وتكلمت فيه، فأنت النَّجم الذي لا يُدرَك، والبحر الذي لا ينزف.

هل آن أوان ذلك؟

هل يصبح حُرَّ نفسه، ويتخلص من تسلُّط الحاج قنديل، ومن الأيام الصعبة؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤