بعيدًا عن الشاطئ

تك تك … تك تك … تك.

ثم وهن صخب الموتور، سكنت الحركة في اللنش الصغير وما حوله، توقف تمامًا.

نظر — بتلقائية — حوله وهو يحاول معالجة العطل، على اليمين قلعة قايتباي، أمامه المراكب الصغيرة، في نهاية الميناء الشرقية يشاهد حركة العاملين فيها، وإن لم تصله أصواتها، وعلى اليسار — من بعيد — لسان السلسلة يمتدُّ إلى داخل البحر.

لم يكُن يعرف في اللنش إلَّا أن يدير المفتاح، فيدور المحرك. تابع الولد زعرب يفعل ذلك، ففعل مثله، عرض الولد أن يدلَّه على بقيَّة الخطوات، فرفض: إذا تعطل … فسأدعوك للتصرف.

أردف وهو يعبِّر بيديه: أنا لا أبتعد عن الشاطئ كثيرًا.

همَّ زعرب بالمزيد من الشرح، فأسكته بإشارة من يده.

حرص — في البداية — ألَّا يجاوز المنطقة ما بين نهاية الميناء الشرقية إلى حيث يطلُّ على جامع البوصيري وميدان أبو العباس.

لم يكُن يعرف العوم أيضًا، أوامر أمِّه الصارمة لم تتح له مجرَّد الجلوس على شاطئ البحر، أو اللعب في الشارع الخلفي.

كان يتابع — من البر — سباق القوارب؛ القوارب الحمراء من السيالة، والخضراء من رأس التين. الفائز يسرق الريح من الآخرين، يركبه، يغطِّي قماش قاربه على القارب المجاور، يطلع فوق ريحه. كلما كان الشراع كبيرًا، امتلأ بالريح أكثر، وإن تعرض غير الفاهم للغرق. لا مجاديف، القيادة لماسك الدفَّة، الطريق المستقيمة خاطئة، كلما كان سنُّ المركب من أسفل ممدودًا وحادًّا ورفيعًا ومسحوبًا، كانت فرصة الفوز أكبر، المصيبة لو أن الصاري التفَّ بالشراع، يدور حول الشاطئ، ثم يتجه — بميل — إلى الجزيرة في مدى الرؤية والعودة. مَن يعود أولًا هو الفائز، يحمل مع أصدقائه قاربه، يسيرون في الشوارع من رأس التين إلى مرسى القوارب والفلايك بالميناء الشرقية، يتجهون — في مظاهرة الفرح — إلى ميدان أبو العباس.

يغني الفائزون من السيالة:

قفة رملة وقفة طين
على ولاد راس التين

ويغنون:

وديتوا عششكوا فين
لما الملك شحطتكوا

ويغني الفائزون من رأس التين:

سيالة يا سيالة
يا اللي ما فيكي رجالة

ويغنون:

عملوا حمام الأنفوشي
علشان نسوان السيالة

أحسَّ بالوحدة، فداخله خوفٌ لم يقلِّل منه رؤية قلعة قايتباي القريبة، ومعهد الأحياء المائية، ولا أشرعة السفن الصغيرة، تتماوج في زاوية الميناء الشرقية، ولا الأصوات المتلاغطة البعيدة، لا يعرف — بالضبط — مصدرها، تمنى لو اقترب صوتٌ أو مرَّت فلوكة بالقرب منه، صعب أن تموت، فلا يدري بموتك ولا بمكانك أحد، تغرق، تنتهي، كأنك لم تكُن.

نادى بأعلى صوته، فتبدَّد النداء في الفراغ.

ارتفعت شمس الضحى، فسال العرق على وجهه، وأحسَّ بالتصاق الثياب.

الزورق جزيرة لا يراها أحد، يشاهد الجالسين في المراكب وعلى الشاطئ، وغازلي الشباك.

ينادي ويلوح بيده ويقفز، فلا يغادر السكون حوله مألوفه، حتى زوارق السواحل اختفت.

أبعد مكان سار إليه، خلف قلعة قايتباي.

السور المرتفع لمساكن السواحل، والهدوء أغراه بالتلميح، ضحك عباس الخوالقة من أعماقه: قُل لصاحبك. لا أقوى على القول إني أنا صاحبي، روى عن أنسية وشخص آخر، أسعفه الخيال برواية ظروفه، آلمه الإحساس بتفوق الخوالقة، وضآلته، يتكلم ببساطة، يناقش، ويسأل، ويعلق، ويدهش، ويسخر، يكتم في صدره الكلمات، يقلبها، فلا يتحدث إلَّا بما يحوم حول السر، ولا يكشفه، كره عباس الخوالقة، وكره نفسه.

اتخذ قرارًا مفاجئًا بالعودة، كره المكان أيضًا، فلم يذهب إليه ثانية.

أجهده السرُّ والتطلع إلى المشتهى، حتى جلوسه في صحن أبو العباس. يختار موقعه في مواجهة المقام للفرجة على اللواذ بالسلطان، الطواف حول الضريح، الهمسات بطلب النصفة والبرء والشفاعة والمدد، لا يحول عينيه، ربما وجد استجابة، فيخرج وراء الإيماءة إلى الدحديرة الخلفية، يروي ما يعانيه، ينفض عن نفسه ما شغل أعوام عمره.

أضناه السير في الحواري والأزقة، والتطلع في النوافذ والبلكونات، لا يكشف ما يعانيه بغزل أو مخاطبة، يكتفي — إذا كان المكان خاليًا — بالتلصُّص وإطالة النظر.

أهمل ما روي عن قاسم الغرياني أنه عرض على نبوية زوجة توفيق مكوجي الرجل، أن تضايق زوجها، فيطلقها، ويتزوجها هو، ثار المكوجي لأول بادرة، وألبسها جردل الماء، فعادت إلى طبيعتها المستكينة.

أقلقه أن المعلم أحمد الزردوني شاهده وهو ينتظر أنسية أمام بيت مهجور تطلُّ عليه نافذة شقَّته بشارع سيدي داوود. أطفأ الزردوني النور، وتطلع من خصاص الشيش، حتى قدمت أنسية، اصطحبها إلى داخل البيت، ومضى وقتٌ قبل أن تغادر أنسية البيت، ويلحق بها.

هل روى الزردوني ما رآه من النافذة المطلَّة على البيت المهجور؟ وهل فضفضت أنسية لسيد الفران؟

تعدَّدت زياراته إلى قهوة الزردوني، منذ اعتزم الترشيح للانتخابات. الصيادون — كما وعده الحاج قنديل — ورقته الرابحة بين مرشحي الأحزاب. لم يواجه إشارة ولا تلميحًا من المعلم الزردوني، ولا من رواد القهوة. رحَّبوا به، وبالمشاريب على حسابه، ووعدوه خيرًا.

سأل المعلم الزردوني: هل حدَّدت الحكومة موعد الانتخابات؟

– لا!

واستطرد بثقة العارف: لكن الأحوال السياسية تؤكد ضرورة إجراء انتخابات جديدة.

تأمل سيد الفران، وواجه عينيه.

بدا مرتبكًا للسرِّ الذي يعرف أنه يعرفه، يسرق الخبز الرجوع، ويعطيه لأنسية.

أنسية!

هل روت ما جرى في البيت المهجور؟ وهل ارتباك سيد — هذه المرَّة — لأنه يخشى افتضاح ما قد تكون أنسية ائتمنته عليه؟!

أجهده كتم السر، لمَّح لزوجته في لحظات الاشتغال، رفضت بما لم يتوقعه: أنا زوجة ولست عشيقة!

قلبت شفتها، وأردفت: المفروض أني تزوجت رجلًا!

تذكَّر — بينه وبين نفسه — قول المعلم التميمي: المضاجعة الحلال لا لذة فيها!

زوَّجه أبوه قبل أن يبلغ العشرين، اجتذبت الأب دوامة المرض، فأراد أن يطمئنَّ عليه في حياته، اختار له نهى بنت سعيد النقيب، شغله النسب، ولم يُعنَ حتى بأن ترى زوجه الفتاة. وافق على شروط أبيها، حتى أعماله وأملاكه تنازل عنها — في حياته — شرطًا لقبول سعيد النقيب تزويج ابنته من وحيده، ساعد على قبول الشرط فشل حمادة في الدراسة، أنجب منها بنتين وولدًا، مع ذلك، شكا لأمِّه أن علاقته بزوجه أقرب إلى الجيرة، يتعاشران، ويتحادثان، وينعيان المشكلات، لكن الحائط الغلالة قائم، ويصعب إغفاله.

تنبَّه لصوت محرك يقترب.

حدق النظر فيما حوله؛ شابان يقودان لنشًا، مضى من وراء القلعة في اتجاه السلسلة، اختفى اللنش بعيدًا، قبل أن يصيح مناديًا.

أرهقه ابتعاد أمواجٍ يتمناها، أمواج عالية متوالية، تلطم وجهه، تعلو بجسمه، وتُسلمه إلى الأعماق، تقذف بملوحة الماء في فمه، تحيط به أسماكها فتدميه … لكن السراب ظلَّ على سكونه في نهاية الأفق، لا حياة تجتذبه من دوامة الترقب والجنون والاشتعال. ترك لفؤاد أبو شنب إدارة الفرن وتحصيل الإيجارات، يسلمه الفراغ إلى الغابة الوحشية، ينصت إلى أصوات الزئير والخوار والفحيح، يشقيه غياب الومضات والإيماءات المحرِّضة، ردُّ الفعل المغاير لا يقوى على تحمله، يصخب فتقتله النظرات الشامتة، يصعب أن يجلس في قعدة العصر أو صلاة المغرب، ربما عصته خطواته عن السير، هدَّه التطلع إلى ما بعد الوقفة أمام ترام الرمل، وملاحقة النظرات لعابرات السبيل والنوافذ المفتوحة والملامح المجهدة حول مقام أبو العباس، واللف في الحواري والأزقة، وترقب المفاجأة.

أنقذته كلمات الحاج قنديل من الحصار القاسي، انفراجة الباب نبهته إلى دنيا لم يعرفها ولا تصورها، يشارك — بالمسايرة — في أحاديث السياسة، ويكتم الدهشة لانفعالات التأييد والمعارضة، ويسكت — حتى يخطئ — عن التعقيب على ما ينقلونه من الراديو والصحف.

حمل صوته نبرة اعتذار: للسياسة رجالها!

قال الحاج قنديل: وهل أنجبتهم أمهاتهم ليدخلوا البرلمان؟!

ثم وهو يشيح بيده: توكل على الله!

وحدجه بنظرة مستغربة: لماذا ننتخب في كل مرَّة مرشَّحين من خارج بحري؟

ثم وهو يجري بباطن يده على مبسم الشيشة: أعدك بتأييد كل الصيادين إذا رشحت نفسك.

فاجأه العرض.

لم تكُن السياسة مما يدور له ببال، يشارك في الاجتماعات الحزبية وأحاديث السياسة، وفي مرافقة المرشحين، وإن رفض كل الدعوات للانضمام إلى أحد الأحزاب، يعرف أسماء سعد زغلول والنحاس وأحمد حسين وإسماعيل صدقي والنقراشي وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي وحافظ عفيفي، يعبِّر عن تعاطفه أو رفضه — من خلال الروايات — عمَّا يفعله الزعماء، هزَّته حادثة كوبري عباس، أمر النقراشي البوليس بفتح الكوبري، فغرق العشرات من الطلبة المتظاهرين، كره النقراشي من يومها، نسي حتى عبارته التي ردَّدتها جريدة «الأساس»: اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة. شارك — بالمشاهدة — في المظاهرات المتعاقبة لطلاب المعهد الديني، لا تشغله الهتافات، ولا ماذا يطلبون، إنما هو فضول المتابعة. وعندما يبدأ الصدام بين المتظاهرين والعساكر، يسبق الآخرين في اللواذ ببيت قريب، أو الفرار من شارعٍ جانبي.

أجفل لصيحاتٍ متآلفةٍ طارت فوقه، سرب من النوارس قطع نصف دائرة، ثم مضى بعيدًا.

أهدى قهوة الزردوني ثلاث نرجيلات؛ مبسم واحدة من العاج، والثانية من الكهرمان، والثالثة من الفضة. حرص على أداء كل الأوقات في أبو العباس، وفي جوامع الحيِّ الأخرى ومساجده وزواياه، ثم جرفته فكرة الترشيح للانتخابات، فلم يعُد يدري أين يذهب. قدَّم لزاوية خطاب منبرًا، وفرش أرضياتها بالحصير. أدرك موقع أمين عزب في نفوس أبناء الحي، منذ طرد الرجل الغريب من قهوة الزردوني. انقطع الرجل عن درس المغرب في أبو العباس، وعن الجلسة أمام دكان الحاج محمد صبرة، تحدَّدت حياته بين الزاوية والبيت، فلا يكاد يلتقي إلَّا بالمتردِّدين عليه.

أشار عليه الحاج قنديل — لتأكيد صداقته، ولشراء الناخبين — أن يزوِّد الزاوية بما تحتاجه، ففعل، وإن التقى بأمين عزب، عقب صلاة العشاء، ليلةً، في أبو العباس، فلم يُشر إلى ما قدَّمه للزاوية.

الضحى أنسب الأوقات لعودة البلانسات والفلايك والدناجل والقوارب الصغيرة إلى الشاطئ، تلقى مراسيها، تعدُّ للرحلات التالية، لكن الشمس اقتربت من وسط السماء، وتموجت المرئيات بالأشعَّة القاسية، اختلط العرق والملح في ثيابه، فالتصقت بجسمه، ليس إلَّا الأفق، والأمواج الهادئة، والشمس، والسماء، وقلعة قايتباي، والقوارب الساكنة في المرساة.

داخله القلق؛ ماذا لو استطال الوقت دون أن يأتي مَن ينقذه؟!

أقنع نفسه بمحاولة السباحة إلى الشاطئ، مائة مترٍ أو أقل، نزعت العصبية كل ثيابه، لم يعد إلَّا سرواله الداخلي، أغمض عينيه، وقفز. يتذكر ما تعلَّمه، ويسبح، تلاشى التردُّد، المياه تحيط به، يضربها بساقه وذراعه، يحرص ألَّا يدخل الماء فمه أو أنفه، لا يسبح بطريقة محدَّدة تعلَّمها، ما يُهمِّه هو الوصول إلى الشاطئ. نزل إلى المياه، فلا بدَّ أن ينزل إلى الشاطئ.

أحسَّ بالمياه تجتذبه، تتسلَّل إلى فمه وأنفه وأذنيه، أحسَّ أنه يختنق، وأنه يموت.

صرخ بآخر ما عنده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤