المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل

«لا تدع المرأة ذات الذيل المتهدِّل تخدع حواسَّك، أطلق شراعك مبتعدًا عن سطوتها، إنها خادمة الموت، دع إرادتك تتغلب على عواطفك، وهكذا تتغلب على الهلاك.»

كليمنت السكندري

أذهله التغيُّر الذي حدث في قلعة قايتباي، دخلها — من قبل — وارتقى سلالمها الضيقة، وأطلَّ من المزاغل والنوافذ الحجرية. تصطخب الأمواج تحتها، تصطدم بالصخور، بدت مُظلمة، موحشة، ومتهدِّمة، أبواب السرداب مفتوحة، فلا يدري إلى أين تنتهي.

أطلَّ على المدافع الصدئة، بجوارها كرات من الحديد، مُلقاة بلا انتظام، تسلق مئات السلَّمات، وصل إلى آخر سُلَّمة، تنتهي إلى شرفة حجرية، تطلُّ على البحر، الأمواج — من تحتها — ترتطم بالصخور، أسفل القلعة، النوَّة قاسية، والريح قوية — احتضن صدره بساعديه اتِّقاء برودتها الصاخبة — كنست قاع البحر، ومخلفات الشاطئ، فاستحالت الأمواج سوداء كالطين، والمياه تتدفق من الفتحات والمزاغل، فتملأ الغُرف.

في طفولته كان يرفض إلحاح الأولاد في الدخول إليها، يغريهم بابها الكبير المفتوح، وساحتها، والسراديب المظلمة، يتردَّد، ويرفض، يتذكر قصص الأشباح والعفاريت التي لا تفارق القلعة، تتخذها مساكن وملاعب، وتؤذي مَن يجاسر بالدخول، ربما أودعته أذاها، فيعاني حتى الموت.

شغلته حكاية الجدِّ السخاوي عن عروس بحر، ظهرت — واختفت — فجأةً. انشقت المياه عن جسمها البشري، السمكي، شعرها المنسدل على الكتفين، صبغته الشمس بلونٍ ذهبي. ابتسمت، ولوَّحت بيدها، غاصت إلى الأعماق، جرى الخير في ذلك اليوم بما لم يصادفه من قبل، أكَّد الجدُّ السخاوي أن قلب عروس البحر يخفق للرجال، يستهويها صورة الرجل، وصوته، وحديثه … لكنها تضاجع الريح، ولا تلد إلَّا الإناث، وطعامها ثمار بعينها، تنبت حيث تعيش.

قال الجدُّ السخاوي: مَن تظهر له … لا بدَّ أن يكون قد فعل الخير في حياته.

استطرد وهو يزيح بقايا زعانف علقت بظهر يده: إذا اطمأنت إلى ما فعله من عملٍ طيب، تأخذه إلى قاع البحر، تدلُّه على ما فيه من ذهب وفضة ولؤلؤ ومعادن نفيسة.

ثم قال في لهجة تحذير: ليس كل عرائس البحر يضمرن نيَّاتٍ حسنة … حتى التي قد تسحرك بجمال جسدها، وبغنائها، ربما تدفعك إلى مصيرٍ مؤلم، تخضع لتأثير جمالها، وعذوبة صوتها، فتهمل قيادة قاربك واتجاهه، حتى يرتطم بالصخور.

سأل حمودة هلول: هل يوجد رجال في دنيا عروس البحر؟

قال الجدُّ السخاوي: لكل مخلوقٍ زوجان … ذكرٌ وأنثى … ما عدا عرائس البحر.

قال محيي قبطان: قال صيادون وبحَّارة إنهم شاهدوا ذكَر البحر.

قال الجدُّ السخاوي: عروس البحر وحدها هى التي ظهرت — وتظهر — للناس، تجتذبك بجمال صوتها، فلا ترى الصخور حتى ترتطم بها، فتأخذك إلى الأعماق.

وهزَّ رأسه مؤكدًا: نعم … بعض العرائس لا أكثر من قاتلات، عملهنَّ الوحيد إغراق الرجال، وسحب أجسامهم إلى القاع.

شغله الأمر.

أعاد ما رواه الجدُّ السخاوي على عم محجوب، حارس حمَّام الأنفوشي.

قال عم محجوب بلهجة مستخفَّة: مصيبتكم أنكم تصدِّقون السخاوي في كل ما يرويه.

أردف في ضيق: ما أعرفه من كثيرين أن العرائس ذكر وأنثى … وأن الأنثى ربما تأخذ إنسيًّا إلى قاع البحر وتتزوجه.

ثم في لهفة: وتعطيه من كنوز البحر؟

قال عم محجوب، وهو يجري بإصبعين نحيلين على ذقنه الأبيضِ الكثِّ: لا بدَّ أولًا أن تنجب منه البنين والبنات … ثم تأذن له في العودة.

في الأيام التالية ظلَّ على مقربة من الشاطئ، إذا خفتت الأصوات وحاصرته الوحدة، جدَّف بساعده، فلا يبتعد عن الشاطئ، وإذا كان بمفرده، غادر الماء بلا تردُّد، ثم ملك عليه الأمر تفكيره، ناوشه في الصحوة والنوم، يبدو منفذًا للنزول إلى البحر، لا يقضي ليلةً أو ليلتين، وإنما يغيب في أعماقه العمر كله.

عروس البحر تقطن الجزيرة البعيدة، تستحمُّ في الشمس، تسدل شعرها، تمشِّطه، يتألق ثدياها العاريان، ولعينيها بريق يعمي مَن يطيل النظر إليهما، نصفها العلوي لامرأة، النصف السفلي، من الأرداف حتى نهاية الجسد، لسمكة لها ذيل، تخرج من الماء إلى منتصف جسمها، تنظر يمينًا وشمالًا، وإلى فوق، وفي تكسُّرات الأمواج. إذا أحسَّت باقتراب إنسان، غطست في البحر، ومن المستحيل صيدها بالحيلة، وإذا حاول أحد أن يقترب بمركبه من الحظيرة، أثارت الرياح والعواصف والأمواج، فأبعدتها عن طريق الجزيرة. الجزيرة عالمها الخاص، لا يصل إليها الناس، مَن يضلُّ طريقه بالقُرب منها، تناوشته الأسماك الهائلة في مياهها، ربما حملته إلى داخلها، فيأكله ناسها، لا يفرقون — في طعامهم — بين إنسٍ وحيوان.

أبرق الرعد، وصفَّرت الريح، وانهمر المطر كالسيل. عاد برأسه إلى مدخل القلعة. عروس الخير تظهر في أوقات العاصفة، تحمي نفسها من أطماع البشر بالعواصف الشديدة المصاحبة لها، اختار نوَّة «العوة» للتردُّد على القلعة، يطيل الجلوس لساعاتٍ حتى تجهده البرودة أو التعب.

لمح ضوءًا، فانتبه.

قال الجدُّ السخاوي: إنها تطفو وتغطس في ثانية، أو أقل.

تحدَّث عم محجوب عن حودة التيتي، عشقته جنيَّة من البحر؛ عروس لها ذيل، لم يهدأ لها بال حتى أغرته على البناء بها والغوص معها في أعماق البحر، أنجبا العديد من الأولاد والبنات، وإن لم يعُد إلى الأنفوشي — ولو للزيارة — من يومها، صار أبناؤه من أبناء البحر.

وروى عم محجوب عن سباعي سويلم، سحبت شبكته عروس البحر، فاجتذبته المرأة ذات الذيل، ظلَّ في أعماق البحر أعوامًا طويلة، ثم عاد إلى الأنفوشي في ليلة شتاء، أيام كان سلامة حجازي يؤذِّن للفجر في أبو العباس، محمَّلًا بأثقالٍ من الذهب والجواهر، ابتنى قصرًا في أرض خلاء بالقُرب من الحجاري — زال فيما بعدُ وأُقيمت مكانه مدرسة ابتدائية — وزاوية في وكالة الليمون — تهدَّمت فيما بعدُ وما تزال خرابة — وأمر بتوزيع الصدقات والزكاة على أبناء بحري من المعسرين، لزم قصره، فلم يغادره، وإن خصَّص قاعةً فسيحةً في الطابق الأول، لاستقبال ذوي الحاجات، حتى أدركه السرُّ الإلهي، في العشر الأواخر من رمضان، سار في جنازته خَلقٌ كثير، صلَّوا على جثمانه في أبو العباس، وضاق الميدان الواسع — أمام الجامع — بمَن قدِموا لوداعه.

أعاد الحكاية: هل صحيح ما يُقال إن عروس البحر غابت بأحد الصيادين، وتزوجته في أعماق البحر؟

قال قاسم الغرياني: سمعنا الكثير … حتى المرحوم جمعة العدوي قِيل إنه تزوج عروس بحر … واستقرَّا في الأعماق!

وسرح في تذكُّر: حسان عبد الدايم شاهدها تنفض الماء من حولها، وتبدَّت مجلوَّة ساحرة على جانب البلانس. افتتن بها جمعة العدوي، وقذف بنفسه وراءها.

وسأل، يطمئنُّ على ما صدَّقه بالفعل: معقول أن عروس البحر تنجب أطفالًا؟

قال الجدُّ السخاوي: ألم تولد نفسها؟ ألم تكُن طفلة؟

هل تخرج له من البحر حورية، عروس؟ تأخذه، تهبط به إلى الأعماق، يتزوجان، ينجبان البنين والبنات، يعود — بعد أعوام — إلى الشاطئ، محمَّلًا بخيرات الأعماق من نفائس وجواهر، وما لا يخطر ببال.

لا خشية من الغوص في الماء، العروس تضع كحلًا سحريًّا في عينيه، فيستطيع — بحول الله — أن يعيش كالأسماك في أعماق البحر.

استهوته حكايات البلاد المسحورة من الحجر والنحاس ومدن المغناطيس، والأبواب المرصَّعة بالذهب والفضة، والقاعات المفروشة، والجدران المنقوشة، والأسقف المعقودة، وقوائم البيوت من الياقوت الأحمر واللؤلؤ والزبرجد الأحمر. جدرانها طوبة من ذهب، وطوبة من فضة، والأنهار تجري في قنواتٍ مرصَّعة بالدُّرر والجواهر الثمينة، تحيط بها غابات من المسك والعنبر والكافور، وكل الأشياء — ما عدا الطعام — من الذهب والياقوت والزمرُّد والكهرمان، لا تزاحم على العيش والكسب، ولا تفاوت بين كبيرٍ وصغير، ولا حاكم ومحكوم، كل رجالها طوال القدود، مسدلة شعورهم إلى ما بعد الكتفين، نساؤها فائقات الحُسن والجمال، صلاتهم ليست كصلاة البشر، فلا تكبير ولا ركوع ولا سجود، إنما هي ألحان وغناء تصفيق بالأكفِّ، وأصوات متناغمة كأنها السحر.

كان يحرص على التوضُّؤ وأداء ركعتين قبل أن يقف في موضعه، فالماء طاهر، لا يقبل إلَّا النفوس الطاهرة.

ترامت إليه أصوات غريبة، كأنها النداء البعيد أو الاستغاثة، واختلطت في أنفه روائح اليود والأعشاب والياسمين والقرنفل والقرفة والزنجبيل.

ميَّز في النداء اسمه.

غالب ارتجافةً للنداء المفاجئ، ثم أنصت من جديد.

علا الصوت، النداء، بوضوح أكثر، عرف أنه صوتها، وإن لم يكُن قد رآها، ولا استمع إليها من قبل.

تلفَّت حوله، يبحث عن مصدر النداء.

سكنت الأصوات، فيما عدا ارتطام الأمواج بجدران القلعة، وصوصوة فأرٍ يتقافز بين أحجار الشاطئ.

غلبه اليأس من عودة الصوت النداء، فعاد إلى البيت، وصورتها التي رسمها خياله تملأ نفسه.

•••

صحَّت السيالة — ذات صباح — على اختفاء المليجي عطية.

مَن أعلن الخبر؟ وكيف تبيَّنه؟ ومتى حدث ما حدث؟

قِيل إن عروس البحر أغرقته، أغرته أن يتبعها إلى حيث تعيش تحت الماء. عالَمٌ كأنه الجنة، لن يندم على أنه فارق الأرض من أجله. الحياة سهلة، والجميع يأكلون من خيرات الأعماق، دون أن يشقيهم العمل وأذيَّة مشايخ الصيادين وعساكر السواحل، والظروف الصعبة، والجواهر الغالية بلا قيمة، لأنها الطريق التي يمشون فيها، والبيوت التي يسكنونها، والملل لا يعرفونه، ومجرَّد الضيق بالآخرين، أو مضايقتهم، عقابه الطرد إلى أحد الشواطئ البعيدة، يلاحقه تذكُّر ما فعل، حتى يدركه الكِبَر، أو الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤