الغوث

قدِم أبو العباس على مريده أبو عبد الله الحكيم بأشموم، فلمَّا جاء الليل، دعاه أبو العباس، دنا الرجل منه، فوضع أبو العباس يده خلف ظهره، وفعل أبو عبد الله الأمر نفسه، وتعانقا. بكى أبو العباس، وبكى الرجل لبكائه، دون أن يدري السبب، قال أبو العباس: يا حكيم، ما جئتكم إلَّا مودِّعًا، يا حكيم، سأذهب إلى المقسم لأودِّع أخي، ثم أعود إلى الإسكندرية، أقضي بها ليلتي، وأدخل في اليوم التالي قبري.

وسافر أبو العباس إلى أخيه، أقام عنده أيامًا قليلة، ثم رحل إلى الإسكندرية، فأقام بها ليلةً، لحقته الوفاة فيها، وشُيِّع إلى قبره في اليوم التالي.

أسندت أصابعها إلى الباب، قبل أن تلتقي ضلفتاه. أغلقته برفق، حتى لا يثير السكون السادر من حولها.

لم تكُن هذه هي المرَّة الأولى التي تغادر البيت، حين يختلط طلوع الصباح بظُلمة الليل. مع ذلك فقد داخَلها خوف، ربما لاعتزامها السَّير في غير الطريق التي اعتادتها، نصحها جابر برغوت بأن تكون زيارتها للسلطان ليلة الأحد قبل طلوع الفجر، فإنه يكون حاضرًا.

مالت من شارع حافظ إلى شارع أبو العباس المرسي.

أحكمت الملاءة حول جسمها، وهي تهبط الميدان الواسع، لفته غلالة رمادية، فبدت الكائنات كأشباح، ميَّزت أضرحة الأولياء أوسط الميدان، الكسوة الخضراء غابت في مظلَّة رمادية، التفَّت بها الأشياء حولها، لا مارَّة، ولِصْق أبو العباس أجسادٌ غيَّبها النوم.

جالت — بنظرةٍ ساهمة — في الميدان الساكن.

اقتربت من شُبَّاك الضريح الأول من اليمين، مسحت بيدها على أعمدته الحديدية، وقرأت الفاتحة. فعلت الأمر نفسه أمام شبابيك الأضرحة الأخرى؛ اثنا عشر ضريحًا. الأولياء أصحاب الدرك يخضعون لإمرة القطب الأعظم، سيدي المرسي، ونواهيه، يقضي بالصالح، فيمتثلون لقراره، وينفذون ما قضى، عذر تأخُّر النُّصفة في انشغال أصحاب الدرك — والقطب من فوقهم — بآلاف الالتماسات من طالبي البُرء والشفاعة والمدد. تعطي للأولياء الميامين عذرهم، يقضون بما يفيض عن الحد. الوليُّ — له التوقير والاحترام — بشر، ينام ويأكل ويطلب الراحة، الإثقال عليه حرام.

وقفت في الميدان الواسع، تعاود الالتجاء إلى القطب الكبير، سلطان الإسكندرية وحاميها، بعد أن أكثرت من اللجوء إلى مريديه، تهدأ وتستريح. يحنن قلب سيد الفرَّان، فيتزوجها، ينسى ما كان من علاقتهما القديمة، يصبح كأنه لم يكُن، يُبعد عنها شرَّ أولاد الحرام، إذا لم يتحقق الأمر، فسترفع المظلمة إلى رئيسة الديوان. تسافر إلى القاهرة، فتقضي أمُّ العواجز بما تشاء، في مجلسها كل خميس.

صعدت — بخطواتٍ متلهفة — إلى باب الحريم، في جامع أبو العباس. تكررت زياراتها إلى المكان. تطوي الرقعة الصغيرة في صورة حجاب، يكتب عرضحالجي المحكمة الشرعية، بشارع فرنسا، ما تمليه عليه، تدسُّ الحجاب في ثنايا الكسوة الخضراء، أو تقذف بها خلال أسوار الضريح، وربما وضعتها على الطرف المقابل من النافذة الحديدية.

قال لها العرضحالجي وهو يلفذُ الدوبارة المربوطة بالنظارة الطبية حول أذنيه: هذه هي الرسالة الثانية بعد الثلاثين.

وطوى الرسالة كالحجاب: يبدو أن الأولياء يرفضون ابتعادك عن الكار.

هتفت وهي تطوِّح الهواء بإصبعها: حتى الهزار لا يصحُّ في هذا.

وتغلِّف صوتها بمسحة إشفاق: ربما نالك عقابهم.

… … …

… … …

لحضرة صاحب الفضيلة، الإمام المرسي أبو العباس، رضي الله عنه، سلطان الإسكندرية، ومُنصف الغلابة والمنكسرين، ومغيث طالبي الشفاعة والمدد.

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، سيدنا محمد ، وآله أجمعين.

حضرة سلطان الإسكندرية، شيخنا الكبير، قطب الطريقة الشاذلية، صاحب المقام الرفيع، صاحب السيادة والفضيلة، صاحب المجد والشرف، سيدي الإمام أبو العباس المرسي، رضي الله عنه وأرضاه.

يا إمام العارفين! يا سيدي! يا شيخي! يا إمامي! يا حاضر المريدين! يا قطب الأولياء!

تتظلَّم إليكم بهذا أنسية بنت جمالات، بنت أنور المدفع، المقيمة في حمَّاكم بمدينة الإسكندرية.

توسلت إليكم بجاه سيدنا محمد الحبيب، أن تقضي حاجتي، وتزيل شدَّتي، يا حاضرًا لا يغيب.

سيدي الإمام.

أنا في عرض الله وعرضك، أتوسل بك إلى الله سبحانه وتعالى، أن تنتقم عاجلًا مستعجلًا ممَّن ظلموني وأساءوا إليَّ، وأن يريني الله فيهم بقدرته — سبحانه — ما يسرُّ خاطري.

أنا أرفع شكواي إلى أهل الباطن ضدَّ مَن ظلموني، واستحلُّوا ما حرَّم الله، وتعدَّوا عليَّ بكل شيء.

احكم بعدلك على هؤلاء القوم الظالمين، اجعلهم موعظةً لمَن يتَّعظ، وعبرةً لمَن يعتبر.

لقد سبَّني إمام جامعك بما يمنعه الله ويحرِّمه، لا يعلم أني ابتعدت عن كل ما يسيء إلى دين الإسلام.

ولمَّا ساعدني المعلم عبد الرحمن الصاوي، عاب عليه حمادة بك ذلك، قال له كلامًا فصيحًا، معناه أن الصدقة لأمثالي حرام، مع أني — يشهد الله — أريد أن أبتعد عمَّا يُغضب الله ورسوله، ويُغضبك.

لقد ظلمني هؤلاء الناس كثيرًا، ودائمًا يتعرضون لي بالأذى.

أنا لا أحد لي خلافكم، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

لقد حرَّم الله على نفسه الظلم، وهؤلاء الناس ظلموني.

أتوسل إليك أن تمنع عني حمادة بك … فهو يضايقني، ويتعرض لي، ويوجِّه لي كلماتٍ قاسية، ويعرض عليَّ أمورًا معيبة، أنت أعلم بها، وقررت أن أبتعد عنها وأخلص لعبادة الله.

إن حمادة بك يريد أن أظلَّ مخلوقةً فاسدة، ولا أعود مثل بقية الناس مخلوقةً صالحة، فهو يدعوني إلى الفعل الحرام، وهذا لا يُرضي الله، ولا الرسول، ولا أنتم أيضًا.

فاحكم بما يُرضي الله، ورسوله، ويرضي فضيلتكم، ويكون الحكم مشمولًا بحضرة النبيِّ المصطفى ، وخلفائه الكرام، والأقطاب الأربعة، والأنبياء، والمرسلين، والمقلدين، والمجتهدين، والشهداء، والصالحين.

أرجو سرعة الحكم في بحر أيام، لآخذ حقي من هؤلاء المعتدين، لأني امرأة مسكينة، لا جاه لي ولا سند.

أجرني يا سيدي أبو العباس، وانتقم ممَّن ظلمني، وأظهر لي كرامتك فيهم.

أعرِّفك لمَّا ربنا يبلِّغ المقصود، لك الحلاوة إن شاء الله، أعمل لك خاتمةً لوجه الله، وأنفق على المحتاجين والفقراء، على قدر طاقتي، وأقبِّل عتبة مقامك.

الله يقدرك للعمل الصالح، أنا متعشمة في بطل منصان.

أرجو أن تُظهر لي، وتبين لي بيانك، وتنتقم من الذين تعدَّوا عليَّ بإذن الله.

مددك مددك مددك يا سلطان … يا مرسي!

أنا محسوبة عليك، والمحسوب منسوب، يا أبا مقامٍ عالٍ.

العبد ليس بيده شيء، وأنتم من عباد الله الصالحين.

… … …

… … …

بدأت بالأولياء الاثني عشر، ثم لجأت إلى قطب الأولياء، يبحث الأمر، ويقضي فيه، إذا حدثت النُّصفة فقد نالت ما تتمنى، أمَّا إذا ظهرت المسألة أكبر من همَّته، فإنه يرفعها بكل ما باحت، ودعت، وابتهلت، إلى الديوان، تتصدَّره الست الرئيسة، يحضره الأئمة؛ الرفاعي والشافعي والبدوي والجيلاني، يناقشون الأمر، يقلِّبونه على كل وجه، يقضون بالقرار الذي يُسعد أيامها، مع سيد الفرَّان أو بدونه، فهم أدرى بصالحها. أرهقتها الأيام، ولا بدَّ لكل شيء من نهاية، طالعها المقام بنورٍ غائب المصدر، وتضوع بخورٌ برائحة جميلة.

تأكدت من التفاف الملاءة حول رأسها، فلا يبين من شعرها شيء. السلطان يراها ويعاين هيئتها، قد يغضبه ما تراه عاديًّا. أخرجت من عبِّها منديلًا، مسحت به على المقصورة، ثم مسحت على رأسها. البركة تسري من السلطان إلى المقصورة، فإلى المنديل، فإلى حياتها.

ثبتت يدها على القضبان النحاسية اللامعة. وحياتك يا سلطان … وحياة مَن أماتك ووضع فيك البركة، أنا ولية مسكينة، لا أهل لها ولا بيت، لا أريد إلَّا أن يتركني الناس في حالي، إذا كنت غلطانة عاقبني، وإذا كنت مظلومة فلا تجعل الظلم يستمر.

ألصقت شفتيها بالشبابيك، كي يستمع السلطان إلى ما تهمس به، يقضي فيه إن تيسر القضاء، أو يرفعه إلى أولياء الديوان، يقضون بما لهم من حولٍ وقوة، يتحقق مطلبها، فتطلق الزغاريد في أنحاء المقام، إعلانًا للفرحة.

تأكدت من التفاف الملاءة بيد، انحنت، فكنست باليد الأخرى أرضية المقام، ثم قلبت السجاجيد المحيطة به، مقلوبة عليهم إن شاء الله.

وانصرفت.

•••

قبل أن تميل إلى الميدان، شهقت لرؤيته.

لم تتبيَّن في الغلالة الرمادية سوى هالة الشَّعر التي غطَّت وجهه، والعينين يطلُّ منهما بريق غريب.

قال لتراجعها المذعور: ممَّ تخافين؟

تعرف أن القطب يظهر لزائريه أحيانًا، الناس — الآن وفي كل وقت — يتحلَّقون ضريحه ومقامه، يبثُّون شكاياتهم ودعواتهم وابتهالاتهم. هاجس يحدِّثها بأن الشيخ الواقف أمامها هو القطب الأعظم، لا سواه.

حاولت انتزاع الكلمات: أنا …

قاطعها: أنسية!

أضاف لنظرتها الذاهلة: مشكلتك لها حل.

في توسُّل: أستريح.

– يقضي الله بالصالح.

استجمعت جرأتها: هل أنت …

قاطعها: سبحانه سيد الخلق.

وذهب متلاشيًا، كأنه لم يكُن!

خامرها ندمٌ لأنها لم تعلق به. تكشف رأسها، وتنحني على قدميه تقبِّلهما، تعلن — بما وسعها — استغاثتها بكراماته ومدده. مفاجأة اللحظة أنستها ما كان عليها أن تفعله، وإن تعزَّت بالابتسامة التي لم تفارقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤