الليلة الكبيرة

إلهي قد خلقت لنا محمدْ،
لك الفضل والجميل على محمدْ.
ونشهد أنك المولى إلهي،
والموصول كالهادي محمدْ.
وقل ما شئت تمدح محمدْ
من البيت الحرام ترى محمدْ.

الليلة التاسعة. الليلة الأخيرة في مولد السلطان.

امتلأ الميدان الواسع بالناس والأعلام والأكشاك والخيام وسُرادقات الأذكار ونصبات القهاوي والغرز والوشَّامين والملاهي وألعاب النشان، وباعة المصاحف وصحيح البخاري وكتب السِّير الشعبية وتراجم الصحابة وأولياء الله والصالحين، والصور الدينية وعربات الأكل والحلوى وباعة الفول والفلافل والمخلل والترمس والخروب والعرقسوس والحمص وحَبِّ العزيز وحلاوة دمياط وألعاب الثلاث ورقات، والسجاجيد والحُصر والكلوبات ولمبات الكهرباء والميكروفونات وأكشاك الختان، وحلقات الذِّكر والفِرَق الموسيقية وعساكر سواري البوليس، والدخان الباهت يتصاعد من مداخن عربات اللب والسوداني.

تعالت البيارق والأشاير والخِرَق الملوَّنة، وأصوات المزامير والدفوف والطبول والمزاهر ودقات الكئوس، والأدعية والابتهالات والصياح والصراخ والملاغية والتوسلات ومناداة الأولياء، والنداء يطغى على كل الأصوات: الله حي! الله حي!

الآلاف وفدوا من الإسكندرية، والمدن — والقرى — المحيطة. نُصبت خيام الخيش، وأكشاك الكارتون، والقعدات التي بلا غطاء، في زوايا الميدان، وفي الدحديرة الخلفية، وفي امتداد الطريق إلى الموازيني والسيالة والحجاري. شغل القادمون مداخل البيوت، وحنايا السلالم. وفُرشت الحُصر والأكلمة والسجاجيد، وصُفَّت أواني الطعام، وعلب الشاي والسكر، وتعالى وشيش البريموس.

علت لافتات الطرق الرئيسية والفرعية؛ الشاذلية والأحمدية والرفاعية والقادرية والبرهامية. أعلام الشاذلية مختلفة الألوان، عكس أعلام الفِرَق الأخرى ذات اللون الواحد.

ازدحمت الساحة الواسعة، المطلَّة على الميناء الشرقية، بالناس والألعاب والبشاير والنايات والموشَّحات والمواويل والضحكات والهمسات والهذيان والصراخ والانجذاب ورشفات الشاي وأنفاس الحشيش وحبش إيطاليا والكرملة وعصاية علي أفندي والأغنيات والأناشيد وزعيق الميكروفونات واللبد والطرابيش والجلابيب والسيالات والملاءات اللف والبلغ والأقدام الحافية والملاحف والسراويل والمسابح والعمائم واللاسات والسيوف الخشبية والأذرع والسواعد وبقايا الطعام وروائح البخور والقيء والعطن والمجاذيب والمصروعين ورجال الطريق والفتاة الكهربائية وفرقة علي الكسار وفرقة المسيري وشاعر الربابة ولعبة القوة والأركان المظلمة والألعاب النارية وألعاب الحظ والمراجيح والدويخة والعرائس والأراجوز وخيال الظل وصندوق الدنيا والحُواة ورقصات الغوازي من صحراء المتراس، ومن خارج المدينة.

القهاوي مفتوحة إلى الصباح، نصباتها من الخشب والصفيح والخيش، ومئذنة أبو العباس التفَّت بأضواء ملوَّنة، وتلاغط من مدائح الرسول، وأذكار الشاذلي، والأوراد، ودلائل الخيرات، والدعوات، وصيحات المنشدين، وحشرجات أهل الذِّكر، وطالبي البُرء والشفاعة والنُّصفة والمدد. جماعات يتلون آيات القرآن الكريم، وأناشيد الترنم بحُبِّ الرسول، والصلاة والسلام على النبي. أجسام الذاكرين تتمايل، وتتهدج أصواتهم، يطيب لهم الذِّكر وترديد أسماء الله الحسنى. يتواجدون، يضطربون، يشحطون، يسَّاقطون على الأرض، يظلون بلا حراكٍ حتى يكبس الشيخ أيديهم وأرجلهم، وإنهاضهم على بركة الله. تتعدد حالات الصعق والوجد والبكاء والنحيب وإلقاء العمائم والطرابيش واللبد، ونزع الثياب أو تمزيقها.

مدد مدد … سيدنا النبي مدد
مدد سيدنا الحسين مدد
مدد مدد … يا طاهرة مدد مدد
مدد يا شاذلي مدد
ويا بدوي … يا مرسي … يا حنفي
يا راضي يا رفاعي سيدي إبراهيم
مدد مدد … يا شاذلي … مدد!

العشرات يعزِّمون، ثم يبتلعون الجمرات المشتعلة، يزردون الزجاج، يضعون في الأفواه ثعابين تتلوى، يطعنون الصور بالمدي، يقبضون على الحديد المحمي، يضعون الأصابع في النار، يرتدون الأطواق الحديدية في الأعناق، يلفُّون الأجسام بالسلاسل، يوخزون الوجنات بالإبر الطويلة، تخترق الفم إلى الوجنة الأخرى، يلفُّون الشعور ويلبدونها، يرتدون طواقي السعف والطراطير المزدانة بالريش والخِرَق الملوَّنة، يحملون مزاريق الجريد والسبح الهائلة والشموع.

اعتاد رؤية ليلة المولد، حتى أعوام قريبة، ثم لم يعُد يذهب إليها.

كان الزحام يسعده، يغرق في بحر الناس، يتلذذ بالتصاق الأيدي والأكتاف، ورائحة العرق، والصراخ، والشتائم، ربما اندسَّ في زحام الترام أو الأوتوبيس، ينغرز اللحم الملتصق، والأنفاس، والعرق، يلتذُّ بالضغط من حوله، يغمض عينيه، ويسرح فيما لا يتبيَّنه، وكانت الاحتكاكات تضيف إلى صراخ أعماقه، ثم حرص جُلساء قعدة الحاج محمد صبرة — لا يذكر لِمَ ولا متى — أن يصحبوه في جولاته داخل المولد، يذوب في البحر الواسع، مَن يعرفهم ومَن لا يعرفهم، يتدخل الجُلساء — لِمَ؟ — يبعدون الزحام عنه، حتى يغادر المكان.

قال له المعلم أحمد الزردوني: غدًا الليلة التاسعة لمولد السلطان … الليلة الختامية.

أردف لملامحه المتسائلة: دخولك الانتخابات يفرض أن تحضر ليلة المولد.

قال عباس الخوالقة: هذه هي الليلة الكبيرة … وغدًا يبدأ مولد سيدي جابر.

قال المعلم الزردوني: الحاج محمد يملك قائمة بموالد الأولياء؛ أبو العباس … فسيدي بشر … ثم سيدي محمد الرحال.

وأضاف: أكل عيشه في هذه الموالد.

قال عباس الخوالقة: لم يعُد محمد صبرة يذهب بعيدًا عن مولد أبو العباس … ترك بقية الموالد لصبيانه!

قال الحاج قنديل: لا تتعبوا الرجل … فنجاحه مضمون.

قال المعلم الزردوني: النتيجة الوحيدة المضمونة هي فوز مرشَّحي الوفد.

قال عباس الخوالقة: نحن لا نعرف متى تُجرى الانتخابات، ولا مَن سيرشح الوفد؟

قال الزردوني: قيل: لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه!

قال الحاج قنديل: حمادة بك يستطيع الفوز مستقلًّا.

اعتاد أهل الحيِّ مناداته بلقب بك، منذ صاهر أُسرة سعيد النقيب، ناداه الحاج قنديل باللقب — أول مرَّة — تقديرًا لمكانته الجديدة.

أضاف عباس الخوالقة مهوِّنًا: إنه في قلوبنا نحن، ولن تذهب أصوات دائرة الجمرك إلى سواه.

نزع الحاج قنديل مبسم الشيشة، ومسح عليه بباطن يده: إذا فاز حمادة بك … نضمن أن يكون لنا في البرلمان سند قوي.

قال حمادة بك: بل تضمن أنك أنت نفسك قد أصبحت عضوًا في البرلمان!

قال المعلم الزردوني: الأمنيات الطيبة وحدها لن تكفي … لا بدَّ أن يتحرك حمادة بك بين ناخبيه.

كان قد صافح آلاف الأيدي، شرب ما لا حصر له من أكواب الشاي وفناجين القهوة، سار في حواري وأزقة، لم يكُن يتصور أنها تابعة لحيِّ الجمرك، أو أن ناسها يسكنون بحري، تحمَّل المساومات والابتزاز، والملاحظات المتسائلة عن الانتخابات التي لم يبدُ أفقها.

علت الأصوات المؤيِّدة.

قال عبد الرحمن الصاوي: هذا هو ما يجب أن نفعله … جولة في قلب الليلة الختامية.

قال حمادة بك: لكنها ستكون ليلة زحام.

قال الخوالقة: هذه أفضل دعاية.

قال الزردوني: نحن لا نعرف متى تجرى الانتخابات.

جاوز حمادة بك الملاحظة: المهم … كيف نسير وسط الجلوة؟

قال الحاج قنديل: دعوا لي هذه المسألة … ثلاثة عساكر يفسحون الطريق إلى داخل الضريح، لو شئنا!

دفعه الحاج قنديل — مترفقًا — بعيدًا عن موكب المطاهر، يركب الأولاد حميرًا؛ كل واحد ممسك بمنديل أبيض، يضعه على فمه، يقيه من الشيطان، ويحفظه من العين الحاسدة، يتوقف أمام الخيمة الصغيرة، أضاءها — من الداخل — كلوب. جلس الحاج محمد صبرة، إلى جانبه طاولة عليها أدوات الختان، وما يعقبه، أمامه كرسيٌّ صغير، يضع الأهل طفلهم عليه، يتولى الصبي رخا نزْع أسفل جلبابه، وإفساح ما بين ساقيه، يجري الحاج محمد بالموسى، فينتزع قطعة الجلد، قبل أن يبدأ صراخ الطفل، يكتم رخا بيده تواصل الصرخات، فلا يخاف مَن ينتظر دوره من الأطفال.

في أيام مولد السلطان، يفرغ الحاج محمد لعمليات الختان، يغيب عن دكانه، يظلُّ في الكشك الخشبي الصغير، قبالة الباب الخلفي للجامع، لا تكفُّ فيه عمليات الختان. للسلطان بركته في الذكورة، وعدم الربط، وسرعة التئام الجروح. يستعين بشطورة، ضارب الطبلة من قهوة العوالم، كي يغطي على بكاء الأطفال، وصراخهم.

بدت الجلوة من بعيد … موجات من البشر.

أبطأ حمادة بك من خطواته، فأبطأ مَن كانوا معه؛ كيف ينفذ وسط بحر البشر، إلى ضريح أبو العباس؟

قال الحاج قنديل: لا تخشوا شيئًا … العساكر أمامنا يفسحون الطريق.

التصقت الأكتاف بعفوية، وظلوا في أماكنهم.

همس حمادة بك: لا معنى لذلك كله … الأفضل أن نعود.

قال الحاج قنديل: ويقول الخصوم إنه خشي السير وسط الناس؟!

أرفق الحاج كلماته بدفعه بيده، تلاحمت الموجات الصغيرة المتلاحقة، شكلت موجة عالية، قاسية، ضاغطة، اجتذبته في قلبها، وجد نفسه — فجأةً — قطرةً في البحر الصاخب؛ الصراخ والزعيق والأيدي والأرجل والرءوس والأنفاس ورائحة العرق والعصي والقوايش والأزرار النحاسية. لمح — وسط الموج البشريِّ المندفع — الإفريز العلوي لواجهة أبو العباس، ثانيةً أو أقل، ثم اختفى، لم يعُد إلَّا الموج الضاغط، المتلاطم.

تدافعت الجموع، تلاصقت، أحسَّ أنه يختنق، ينضغط بتدافع الأجسام، يختلف عن الضغط الذي يحبُّه في وقفته أمام باب الترام، أو ما يتطلع إليه في سرِّه المحيِّر. يعاني الدفع، واللكزات، وقبضات الأيدي، وركلات الأقدام، وتمزُّق الملابس، وصعوبة التقاط الأنفاس. لم تفلح ضربات العصيِّ، ولا القوايش، في فكِّ الأجسام التي تلاحمت وذابت، فبدت جسمًا واحدًا، ينتفض ولا يتحرك، أو أن تحرُّكه لا يكاد يبين، اعتصره التلاصق، واختلاط الأنفاس والرائحة النافذة والعرق والنداءات والصيحات والصرخات والتدافع الثابت في مكانه.

تداخلت مجموعة الرجال، ابتعدت عن العساكر، ثم انفصلت بضغط الزحام الهائل، الأمواج أقوى من تفاديها، دفعت بالرجال، كلٍّ في ناحية، ذابوا في مياه البحر الصاخب، بكى الحاج قنديل بلا إرادة، تساقطت الدموع على خدَّيه، دون أن يجد منفذًا في الحصار الضاغط، وخانت الصرخات حمادة بك، تلاشت في الصخب العنيف حوله، وأسلم بقية الرجال أنفسهم إلى الموجات المتدافعة، المتلاحقة، القاسية. لا يقوون على التملُّص أو التقاط الأنفاس، وتحولت النظرات عن السواعد والأيدي والرءوس والوجوه والأقفية. اختلطت المشاهد، تضوي وتختفي، غاب الزمان والمكان، فلم تعُد إلَّا اللحظة، بدأت، وهي التي تحدِّد — إذا انحسرت الأمواج البشرية المتلاحمة المتدافعة — متى تنتهي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤