في حضرة السلطان

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا

إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

كان في سياحة عندما عانى التردُّد: هل يلازم البراري والقفار للتفرغ للطاعة والأذكار، أو يرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار؟ وصف له الناس وليًّا برأس جبل، فصعد إليه، وكان الليل قد جاء، فقال في نفسه: لا أدخل عليه في هذا الوقت، تناهى صوت الوليِّ من داخل المغارة: اللهم إن قومًا سألوك أن تسخِّر لهم خلقك، فسخَّرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عليَّ، حتى لا يكون ملجئي إلَّا إليك، قال الشاذلي لنفسه: يا نفس، انظري من أيِّ بحر يغترف هذا الشيخ، فلما جاء الصباح دخل عليه، فأخذته منه هيبة، وقال له: يا سيدي، كيف حالك؟ قال الشيخ: أتشكو إلى الله من برد الرضى والتسليم كما تشكو أنت من حرِّ التدبير والاختيار؟ فقد ذقته، وأنا الآن فيه، وأمَّا شكواك من برد الرضا والتسليم، فلماذا أقول: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله؟ قال: يا سيدي، سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قومك سألوك أن تسخِّر لهم خلقك، فسخَّرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم فإني أسألك اعوجاج الخلق عليَّ، حتى لا يكون ملجئي إلَّا إليك، فتبسَّم الشيخ، وقال: عوض ما تقول سخر لي خلقك … قل يا رب، كن لي … أترى إذا كان لك أيفوتك شيء؟ فما هذه الجنابة؟

أمضَّه الإحساس بالوحدة وهو يستند إلى الجدار، في جلسته طرف صحن الجامع، يمتدُّ أمامه فراغ الصحن إلى الأبواب الخارجية، يتقاطع في أروقة تصنعها الأعمدة، والقناطر فوقها، اختلطت الأنوار والظلال، شكَّلت تكويناتٍ على الأجسام الجالسة والأرض.

انتحى الركن تحت واحدة من القباب الأربع الصغيرة، قبالة القبة المواجهة لضريح السلطان.

ألف الجامع: المئذنة، والقباب، والباحة الداخلية، والعقود المجملة بالجفوت والصنج والخناصر، والباب الرئيسيُّ المطلُّ على الميناء الشرقية، والباب الملكيُّ المفضي إلى السيالة، وباب الضريح، والمحراب، والمنبر، والميضة، وتآلف الهمسات والأدعية والبكاء والزغاريد والنداءات، النسوة يطُفن بالضريح، يكنسن حوله، يستندن إلى مقصورته النحاسية، يقبِّلنها، يغرفن بأيديهن من الهواء المحيط، يضعنه داخل الملاءات.

لم يكُن يشعر — في مجلسه — بحرارة النهار، النوافذ ملاقف ينفذ منها الهواء، يتآلف في الصحن الواسع، لطيفًا، يستكين إليه، فلا يغادر مجلسه حتى يؤذن للصلاة.

همس لنفسه كأنه يستوثق: حمادة بك؟!

لمحه يتسلَّل بعينيه إلى مشربية مسجد النساء الصغير، تطلُّ على صحن الجامع، ساكنة في الهدوء والظُّلمة، تأكد مما خامره لمَّا اختار الجلوس بالقرب من المنبر، في مواجهة ضريح السلطان، الأتباع والمريدون وقصَّاد المقام، النسوة يطُفن أو يجلسن حوله، يلمسن الضريح، فتنتقل البركة إلى الأيدي، يمسحنه بالمناديل والثياب، ويمسحن على رءوسهن ورءوس الأطفال.

تشاغل بتأمل الأعمدة بقاعداتها الهائلة، وتيجان البرونز، والزخارف الجصِّية الرقيقة، والحافات المحلَّاة بآيات القرآن، مكتوبة بالخطِّ الكوفيِّ، والألوف من قطع الرخام الملوَّنة، المتعانقة في تكوينات زخرفية.

نُودي لصلاة المغرب، فاختفى الرجل، لا يدري إن كان قد انتظم في الصفوف، أم غادر الجامع.

فزَّ، واتجه — بخطواتٍ مهرولة — إلى حيث وقف أمين عزب، تحت المنبر.

قال في ودٍّ: أين أنت يا علي؟

قال علي الراكشي: موجود.

استطرد: أصلِّي معظم الأوقات في أبو العباس.

قال أمين عزب: كما تعلم … أنا أقضي يومي كله في زاوية خطَّاب.

ثم كالمتنبِّه: لماذا لا تأتي لزيارتي؟

ومدَّ يده، فصافحه، ومضى ناحية الباب المطلِّ على أضرحة الأئمة الاثني عشر.

لم يكُن يملك وضع أمين عزب داخل إطار محدَّد، ولا تأكد إن كان يميل إلى الخير بالفعل … فهو يؤمُّ المصلِّين في زاوية خطَّاب، ويلقي فيهم خُطبة الجمعة، كان يحرص على جلسة العصر أمام دكان الحاج محمد صبرة الحلاق، ودرس المغرب في أبو العباس، ثم لزم زاوية خطَّاب، ينصت إلى شكايات الناس، ويحاول حلَّها، ربما سعى لحلِّ مشكلة في قسم الجمرك، أو داخل الميناء، أو حلقة السمك.

كان الناس يتحدثون عنه بالخير، فهو متَّقٍ في نفسه، اشتغل بأنواع المجاهدات من الصلاة والصوم وقيام الليل وتلاوة القرآن وكثرة التسبيح، وكان على دراية بعلم القراءات، وبطريقة الأداء والترتيل، حافظًا للقرآن الكريم، فهو لا يلحن، ولا يتلعثم، وله صوت حسن، ينشد القصائد الإلهية وأناشيد التوحيد، وكان دائم التردُّد على مقابر العامود، يُمضي الساعات داخلها، لا يحادث أحدًا، ويغلبه انشغالٌ بما لا يفصح عنه، وربما ظلَّ في مكانه، مستندًا إلى جدار حوش، يعطي القرَّاء والمتسولين.

جعل من الإمام الشافعيِّ مثلًا أعلى، فهو يقسِّم الليل ثلاثة أقسام؛ الثلث الأول للعلم، والثاني للنوم، والثالث للتهجُّد.

قدَّم لمساجد الحيِّ الكثير من النذور والهبات؛ سجاجيدَ وحُصرًا وأدوات نظافة وكتبًا وذبائح وطعامًا، وكان يرتب لأُسر فقيرة إعانات شهرية، وتكفَّل برعاية عدد من أيتام الحيِّ، قدَّم لهم ما يحتاجون إليه من طعام وثياب.

صار بيته — على ناصية شارعَي إسماعيل صبري ورأس التين — مقصد المحتاجين من أبناء بحري، يلجئون إليه، يعوِّلون عليه في حلِّ مشكلاتهم.

من عاداته في رمضان أنه يعدُّ المآدب في زاوية خطَّاب، يدعو إليها الخدم في جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعلي تمراز، وبعض المساجد القريبة الأخرى، تقتصر الدعوة عليهم، يأكلون الفتة باللحم، يُتبعونها بالحلوى والمشروبات الساخنة والباردة، ويؤدُّون صلاتَي المغرب والعشاء، وصلاة التراويح، ربما قضوا الليل إلى السحور في حوارات بلا خيط محدَّد يصلها، إنما هي وليدة اللحظة، وعفو الخاطر.

وحين وهب حذاءً جديدًا لسيد الفرَّان، قال له عبد الرحمن الصاوي ضاحكًا: هل فعلت هذا لكي تُطيل عمرك؟

وهو يدفع براحتيه أمامه، كمَن يتقِّي خطرًا: أفعله حتى لا أسير حافيًا في الآخرة!

عُرفت عنه أفعال الفتونة، وإن أنكرها، ويذكر أهالي بحري آخر معاركه، لما طرد أجنبيًّا من قهوة الزردوني، فلم يعُد إلى الحيِّ ثانية.

أستاذه الشيخ عرفة الأنصاري، إمام جامع ياقوت العرش حتى وفاته، كانت غرفته المطلَّة على ميدان الأئمة الاثنَي عشر عامرة — دائمًا — بدفاتر العلم، ودواوين الكتب، والسائلين في العلم، يكاد لا يغادرها إلَّا إلى قيام الصلاة، يؤمُّ المصلِّين ويعود، لا يُطيل الجلوس في صحن الجامع إلَّا في الوقت بين صلاتَي المغرب والعشاء، يلقي دروسًا مماثلةً لدروس الشيخ طه مسعود إمام أبو العباس، وإن اختلفت نوعية الدروس، ونوعية الأسئلة والأجوبة والمناقشات، قرأ القرآن على سبع روايات، وقرأ الكتب على أربابها من مشايخ العلم، وقرأ علم النجوم، وحفظ قصائد الشعراء منذ الجاهليِّين إلى حافظ وشوقي والجارم، واجتهد في سائر العلوم حتى ذاع صيته خارج بحري والإسكندرية، واستَشهد بأقواله وعلمه أئمة ووعَّاظ في مساجد كفر الدوار والدلنجات وحوش عيسى ودمنهور، روى الناس عن حياته وقائع كثيرة تدخل في باب الكرامات والخوارق، وعرفوا عنه المقدرة الفائقة على المكاشفات والشطح، قيل إنه كان يستطيع أن يتشكل بأشكال البشر والحيوان والطير والحشرات، وأشكال أخرى لم يرَها أحد من قبل، ويستطيع أن يخترق الجدران، ويخرج من حنفيات المياه، ويسكن باطن الأرض، ويشاهد الملائكة — بعينيه — ويشاهد أرواح الأنبياء، ويسمع منهم أصواتًا لا يسمعها سواه، قصد مجلسه الكثير من العلماء والزهاد وأهل الصلاح، بلغهم صيته وعلمه، وفدوا إليه من أحياء الإسكندرية، ومن المدن والقرى المجاورة، يأخذون عنه، ويستمعون إليه، ويلتمسون منه البركة والمدد، ويتيمَّنون برأيه، ويعرفون النجاح في مشورته، أخصُّ ما لاحظه عليه مريدوه أنه يفهم ما يدور في نفوسهم، يَفجؤهم بالسؤال عن خاطرٍ يشغلهم، أو كلمات يتردَّدون في نطقها، ملكهم، وبرع في صرفهم إلى الجهة التي يريدها، وحملهم على تلبية أوامره بغير مناقشة ولا مراجعة ولا تردُّد، وكان يدفعهم إلى قراءة وِرد، قال إن مُنشئه هو الشيخ أبو الحسن الشاذلي، يردِّدونه كل ليلة، ويتلونه جماعةً دون أن يتغيب عن تلاوته أحد، وكان يشدِّد على ضرورة حضور مجالس الوِرد، لا يتغيب إلَّا لعذرٍ قاهر، فإذا لم يقتنع الشيخ بسبب التغيُّب، ربما طرد المريد من مجلسه، فلا يعود إليه، له طريقته في إلقاء الخُطبة، يبدأ بالبسملة والصلاة على النبيِّ، بصوت هادئٍ ساكن القرار، ثم يعلو بصوته ويلوِّنه، فيرجُّ صحن الجامع، إذا أخذته الجذبة خلع جبَّته، وألقى عمامته، وشقَّ قميصه، وراح يحرِّك جسمه في ارتعاشات سريعة، كأنه يرقص، وإن لم يكُن ما يفعله رقصًا حقيقيًّا، اعتاد الناس رؤيته وهو يسير في الشوارع والأسواق، مريدوه في ركابه بالعشرات، يهجرون أعمالهم التماسًا لعلمه، إذا سار في الميدان أو في الشوارع الجانبية، تهافت عليه الناس، وتكاثروا عليه، وسدوا طريقه، يقبِّلون يده، ويرجون منه الدعوات، وربما اكتفوا بمسح أكفُّهم في ثيابه، ويستعيرون سبحته لعلاج الأمراض، يلفُّونها حول رءوسهم أو بطونهم للشفاء من الصداع والصرع وآلام المعدة، لمَّا استشعر من نفسه قِلَّة الجهد، والميل إلى التعب، لزم بيته فلم يعُد يغادره، وطالت مدَّة رقاده، يعوده الأصدقاء والمريدون، اكتفى بتسلُّم راتبه دون النسبة المخصَّصة له من صندوق النذور، قال إن رعايته واجب وزارة الأوقاف، لكن حصيلة صندوق النذور أولى بها الإمام الذي حلَّ محلَّه، وخدم الجامع، ثم فاجأ أبناء الحيِّ عندما قدَّم للوزارة طلبًا بالاستعفاء، وتعدَّدت الرسائل والعرائض إلى الوزارة، ترفض قبول الطلب، لمَّا طالت مدَّة المرض، رأت الوزارة أنه من الأوفق أن يُعفى من الإمامة، ويثبت الإمام المؤقَّت، زادت العرائض، ترفض التغيير، وانتهى الشدُّ والجذب حين استيقظ الرجل ذات صباح، فطلب كوب ماء، بلَّ ريقه بقطرات منه، ثم مات، تخاطف المصلُّون وضوءه، فشربوا، ورطَّبوا وجوههم، وتبرَّكوا بلمس شفاههم للقُلَّة التي شرب منها، وإن فرغ ماؤها، ورُوي أن عشرات الطيور ذات الألوان المختلفة رفرفت فوق جنازته، منذ بدأت سيرها — بعد أداء الصلاة على الجثمان في جامع الشيخ ابراهيم — إلى مقابر العامود.

أخذ أمين عزب على نفسه عهدًا — بعد وفاة الشيخ عرفة الأنصاري — أن يأخذ نفسه بسيرته، ويحفظ أحكامه ورسائله، ويخاطب الناس بتواضع اعتادوا من الشيخ أن يخاطبهم به.

لم يجلس للوعظ والتفسير إلَّا بعد أن حفظ القرآن والحديث، ودرس الفقه والأصول وما كتبه شرَّاح الأئمة الأربعة، عُني بمختلف العلوم الإنسانية على منهج الكتاب والسُّنة، قرأ تاريخ الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم من أئمة السلف والمحدثين، تكاملت معارفه في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، أجاد تعلُّم آفات النفوس وأمراضها وأدوائها، وتوصَّل إلى الكثير مما يفيد الناس ويصلح أحوالهم، وقيل إنه صنَّف كتبًا كثيرة، وإن لم يحاول طباعتها، قصر قراءة أصولها على المقربين من أصدقائه، يفيدون مما بها، ويناقشونه فيه.

اختار زاوية خطَّاب في أول المسافرخانة، يؤمُّ فيها المصلِّين احتسابًا، يقضي غالب وقته داخل الزاوية، يُفتي بما غمض على المصلِّين من أمور دينهم، ويقضي في شئون دنياهم، يشرح لهم حقيقة التوحيد والتنزيه، ومعاني آيات القرآن والطاعات والمعاصي والنية والقضاء والقدر والموت والقيامة والحساب والميزان، يروي لهم سير الرسول والصحابة والتابعين.

لم تقتصر دروسه على زاوية خطَّاب، صحب المتردِّدين عليه إلى سراي رأس التين، يتحلَّقون حوله في الحديقة الواسعة، كحدوة حصانٍ هائلة، يسألون ويجيب، يناقشهم فيما قد يغمض عليهم، حتى ما كانوا يخفونه داخل حجرات النوم اعتادوا مصارحته به وطلب النصيحة.

أفتى للولد سمير بجواز الاستمناء لضرورة، ضبط خميس شعبان ابنه وهو مشغول باستحلاب اللذة، أشفق الرجل لهيئة الفزع في وجه الولد.

قال سمير في خوف: الشيخ أمين عزب أذن لي.

هتف خميس شعبان: إنها مضيعة للدين والصحة.

وهو يخفي نفسه براحتَيه: أقسم إنه أذن لي.

رزع باب الحمام في وجه الولد: سيرافقك في النار بإذن الله!

قال أمين عزب للولد: أبوك يخاف عليك.

– طلبت نصيحتك، فأذنت لي.

ضحك أمين عزب، فظهر التسوُّس في أضراسه: أفتيت بالضرورة، وليس بهدِّ الحيل.

وتأمل الولد: لماذا لا تطلب من أبيك أن يزوِّجك؟

– أنا أعمل في ورش البلانسات لأصرف على نفسي.

– فلماذا لا تتزوج؟

خرجت الكلمات مبحوحة: ما أحصل عليه يكفي بالكاد للمساعدة في البيت.

وهو يحيطه بنظرة مشفقة: تزوَّج … وأقم مع أسرتك.

قال الولد بلهفة: أبي من أصدقائك … فلماذا لا تكلمه؟

•••

لا يذكر إن كان الشيخ قد بدأ الكلام، أم أنه هو الذي بدأ، لكن الرجل عقَّب على ملاحظات أبداها، أجاب على أسئلة شغلته، بدا ودودًا طيبًا، فاطمأن إليه، شرق الحديث وغرب، تلاصق كتفاهما في الصلاة، وتصافحا، وهمسا بالقول: تقبَّل الله!

غادرا الجامع معًا، تصافحا في أول الطريق إلى السيالة، وافترقا.

تعدَّدت — فيما بعد — لقاءاتهما، داخل الجامع، شده إليه الطيبة، والزهد، والتقيد بمظاهر الكتاب والسنة، اعترف له بكل ما يثقل ضميره، وينغص عليه أيامه، يفترقان أسفل درجات السلَّم، يمضي الشيخ ناحية جامع ياقوت العرش.

ناقش تردَّده في أيِّ الأماكن يذهب إليها؛ قهوة الزردوني، أم شاطئ الكورنيش، أم يشارك في حلقات الذكر؟

روى للشيخ في ضيقه عن قسوة الحاج قنديل، لجأ إلى الشيخ طه مسعود، عاب عليه الإمام استغاثته، قال: إن الاستغاثة لا تكون إلَّا بالله تعالى، وتساءل في عجب: هل يستغيث المخلوق بالمخلوق؟ هل يستغيث الغريق بالغريق؟

قال علي الراكشي: إنه يجعل لك خاطرًا … فكلمه!

قال الإمام: كلمته … فعاب عليك تكاسلك.

– اجمعني به … وكن ثالثنا.

وهو يعبِّر بيديه عن قلة الحيلة: لو أني أنفقت وقتي في التوفيق بين الناس … فلن أجد وقتًا لإمامة المصلين!

تسلَّل وراء عباس الخوالقة في صعوده — آخر الليل — إلى شقَّته، نزل بكلمات الرجل المواسية، واعتذاره بأنه يشقُّ عليه إتاحة العمل في بلانساته، لمَن أشاح الحاج قنديل في وجوههم بيده.

مشايخ الصيادين سبعة، يحيا الحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي في بحري، يجلسون في الحلقة، يشرفون على كل رحلة منذ الإعداد لها حتى العودة؛ السلف، والتموين، والفصال، والبيع، الصبيان للخدمة، والموظفون لتسجيل الحسابات.

شكلت الحلقة جزءًا من تجارة المعلمين الآخرين، تركوا العمل فيها للموظفين، لا يتردَّدون على بحري إلَّا لضرورة، لإنهاء خلاف مع مصلحة المصايد أو مع السواحل، أو للاطمئنان على بلانس غيَّبه البحر، أو لإنزال بلانس جديد تم بناؤه في ورش المراكب.

قال الرجل في لهجته المواسية: هذه أصول المهنة يا علي … مَن يترك معلمًا، لا يعمل عند الآخرين؟

قال الشيخ: اسمي يوسف بدوي … ما اسمك؟

في لهفة: علي … علي الراكشي.

مال الشيخ برأسه على صدره، وأغمض عينيه، بدا أنه أطال التفكير حين رفع رأسه وقال في كلمات واضحة النبرات: يا علي … إن الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه.

وتهدَّج صوته بصدق مشاعره: هذا البلاء فيه تكفير لذنوب سبقت منك.

واحتضنه بنظرة مشفقة: عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

وقال: قد يهبك الله ما تشتهيه نفسك، فيمنعك عن الأنس بحضرته.

ثم وهو يهزُّ إصبعه محذِّرًا: أنت تعاني الموت الأحمر.

أردف لنظرته المتسائلة: إنه احتمال أذى الناس.

ووضع يده — بودٍّ — على كتفه: العبد الراضي هو الذي يُسرُّ للمصيبة كما يُسرُّ للنعمة.

وفاضت عيناه بما احتوى الراكشي: على العبد أن يستسلم لحكم الله تعالى فيما قضاه، حتى يُحدِث الله بعد ذلك أمرًا.

وقال: بادر إلى الله … لا يشغلك عنه خير أو شرٌّ، إنه ملجؤك وملاذك.

وسأله: أيهما أحَبُّ إليك: أن يرضى عنك شيخ الصيادين، أم تأنس بحضرة الله؟

وأطال النظر إليه كأنه يتأكد من فهمه: إن حلَّ بك اليأس، وتغلَّب عليك الطريق، فقد خسرت!

•••

توالت الأسئلة، وتفجرت الأمانيُّ والأشواق، وامتلأ القلب بالوجد، واستشرفت النظرات آفاقًا لا نهائيةً من الأحوال الغريبة والمكاشفات التي لا تخطر ببال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤