قهوة كشك

مع أن الضابط الشابَّ أفاض في شرح البواعث التي جعلت من إغلاق القهوة — وكل محالِّ الإسكندرية — أمرًا مطلوبًا، فقد سأله المعلم كشك في قلق: ما المطلوب بالتحديد؟

القهوة منذ أنشأها المعلم كشك الكبير — في أعقاب الحرب العالمية الأولى — لم تغلق أبوابها يومًا، تستقبل الرواد إلى الواحدة صباحًا، تهدأ الحركة، يأتي الولد عزت بالمعدَّات والأغطية، يصفُّ الطاولات، تتحول بالتصاق كل طاولتين — إلى أسرَّة — يريح الرواد أجسامهم عليها.

قال الضابط: كل المحالِّ ستُغلق غدًا … يوم حداد بمناسبة ذكرى توقيع اتفاقية السودان.

تساءل بيومي جلال: ما لنا والسياسة؟!

قال الضابط في غضبٍ واضح: ضع فلسفتك في فمك!

قال المعلم كشك: ولكن القهوة لوكاندة أيضًا.

جال الضابط بعينيه في المكان؛ الطاولات المتجاورة لم تُرفع عنها المخدَّات والأغطية، ورائحة النوم، وأكواب الشاي المتناثرة في الرَّدهة الفسيحة، وصورة على الجدار — علاها التراب — لخراف في مروج خضر.

– أيًّا كانت الصفة … فإن المحالَّ العامة يجب أن تُغلق أبوابها اليوم كله.

قال سيد الفران في لهجة متوسلة: هل بوسعنا أن نلزم القهوة، ونغلق على أنفسنا من الداخل؟

زغده في كتفه: إن شئت … تعال نستضيفك في القسم!

التقت نظرات الرجال في قلق.

لم يكُن غادر القهوة سوى ثلاثةٍ من التسعة الذين استقرَّ بهم الحال، بتوالي الأعوام والرواد، سعى حسنين الدمنهوري إلى محطة البنزين في أرض المحافظة القديمة، يعدُّ لتشغيلها قبل السابعة صباحًا، وبدأ عم محمد الطوشي جولته بصينية الحلوى، بعد أن اطمأن إلى تسويتها على المياه الساخنة، وحمل زناتي الكناس عهدته؛ مكنسة كبيرة. منطقته المحدَّدة من قسم المنشية إلى مبنى البورصة.

توالت الأعوام، فأحكمت العادة قبضته على القهوة وسكانها، لم يعودوا روادًا، أصبحوا جزءًا من حركتها اليومية، غابت الوجوه الطارئة، فيما عدا بعض الذين يجلسون على الموائد مصادفةً، ينهون صفقةً عاجلة، أو سائق تاكسي يميل إلى جانب الطريق ليحتسي كوب شاي، أو متقاضين ينتظرون فتح أبواب أو بدء جلسات، المحكمة الشرعية في مبناها القريب. اكتفت القهوة بسكانها التسعة، يغادرونها ويعودون إليها، في مواعيد ذهابهم إلى أعمالهم وعودتهم منها، لا يذهبون إلى مكان آخر.

نزع الضابط فتيل القنبلة، فانفجرت بعد انصرافه: كيف يترك السكان جزيرتهم المنعزلة إلى عوالم أخرى، لم يحاول غالبيتهم — من قبلُ — ارتيادها، ولا يعرفون عنها شيئًا؟!

بيومي جلال

دعا أقرب التسعة إلى نفسه؛ مصطفى حجازي ومؤمن الدشناوي، للجلوس على شاطئ الميناء الشرقية، يصعب أن يمتدَّ الإضراب إلى الصيادين، يشاهدون صيادي السنارة المتناثرين في امتداد الكورنيش، أو يتابعون صيد الجرافة، منذ استدارة حلقة الفلين في المياه، حتى سحبها إلى الشاطئ، والأسماك تلعلط داخل الشبكة.

وجد مصطفى حجازي في إغلاق القهوة المفاجئ فرصةً لزيارة أهله في كفر الدوار، استهوت الفكرة مؤمن الدشناوي، قرر قضاء اليوم بكامله في قريته القريبة من دمنهور.

لم يكد يقطع خطواتٍ في طريق الكورنيش، حتى أدرك سخافة الفكرة، ربما استهواه المشهد ساعةً أو نحوها … فماذا عن بقية اليوم؟

خلا الطريق من الجنود والسلاح والمصفحات، اقتصر وجود الجنود على المعسكرات في مصطفى باشا وكوم الدكة والميناء، ربما يخرجون بأعداد قليلة في شوارع المدينة، فلا يفطن المارَّة إليهم، يحسبونهم على بحارة السفن الأجنبية، وثمة صيادون علَّقوا غزلهم — ليجفَّ — على المراكب المهجورة فوق الرمال والحواجز والجدران.

مال إلى شارع إسماعيل صبري، ومنه إلى رأس التين، فالحجاري توقف أمام بيتٍ صغير، تطلُّ واجهته على أول شارع المسافرخانة، تذكَّر — بلا مناسبة — أغنيةً قديمة، فدندن بها:

والصبر أمره طال،
واش بعد وقف الحال؟!

أدهشه — قبل أن يستخدم السقاطة — أنه لم يناقش البواعث، ولا كيف ساقته قدماه إلى هذا البيت بالذات، ثماني سنوات، أو تزيد، منذ غابت القرية المطلَّة على طريق المعاهدة، وإن لم يعرف من الإسكندرية سوى قهوة كشك، يكاد لا يغادرها إلَّا لشراء الطلبات من شارع الميدان.

حين أطلَّ وجهها من الباب الموارَب، حدَّقت للحظاتٍ، ثم عرف أنها تذكرته، لمَّا فتحت الباب على وسعه.

ظلَّ في وقفته يغالب الحرج!

تناهى صوتها من الداخل: تفضل يا سي بيومي … حسن موجود.

حسن عبد المقصود! دنديط؛ التُّرع والجداول وشجر التوت والصفصاف والطرق الترابية، المقابر تعلو — في هضبتها — عن البيوت، ناظر محطة السكة الحديد، جلسته المسترخية في المنتصف بين شبَّاك التذاكر ومخزن العهدة، إمام المسجد بعصاه التي لا تفارق يمناه، محمود المنسي وحسن النجار ورمضان أبو العلا وإبراهيم سليمان، أيام النزهة في ميت غمر والزقازيق، ورش البلاط واللحام والصاج، صناعة السِّلال وأقفاص الجريد لم تؤتِ همَّها، فترك القرية.

أدرك من مغالبة حسن — في الداخل — لنومه، وإلحاح المرأة الزاعق، أنه لم يُحسن اختيار وقت الزيارة، كان بوسعه أن يتمشى على الكورنيش، يتأمل صيادي السنارة والجرافة، يتطلع إلى المياه والقوارب وطيور النورس، يخالط الناس، ويدخل معهم — كما يحدث أحيانًا — في أحاديث تبدأ — في العادة — بلا مقدمات. طرف الخيط؛ رأيٌ، والتعقيب عليه. يتصل الحوار، ويتشابك الخيط إلى حيث تنشأ صداقة، يعلم أنه سيخلفها وراءه فور العودة إلى القهوة.

كان الأمر قد انتهى، ولم يعُد بوسعه التراجع، غالب حرجه ﺑ: يا ساتر، وبسم الله الرحمن الرحيم.

تعالى صوت المرأة من الداخل: تفضل يا سي بيومي.

الحُجرة بالغة الضيق، احتلَّ السرير ثُلثيها، وتطلعت إليه، من تحته، ستة أعينٍ صغيرة، في حين بدا حسن كالمتكوم على حافة السرير، يدعك عينيه بظهر أصابعه، ويغالب التثاؤب.

اكتفى بالتحية من بعد، وجلس على الكرسيِّ الوحيد في ركن الحجرة، أحسَّ بسخافة الموقف، لعن الإضراب وسنينه، لو أن القهوة لم تُغلق أبوابها، ربما كان يغسل الهدمتين، ويعدُّ لنفسه طعامًا، بدلًا من الأصناف الثابتة التي يقدمها له مطعم التوفيق القريب.

– خير يا بيومي؟

عمق السؤال إحساسه بالحرج: خير إن شاء الله … وجدت في الإضراب فرصة لزيارتكم.

تناثرت السلامات والتحيَّات من جديد، فاترة، لمجرَّد أن يدور حديث، ثم أخلت الأعين الستة — فيما بعد — مكمنها، ونزل حسن إلى الحوض القريب، فغسل وجهه، وسحبت المرأة كبَّاس وابور الجاز، دفعته في تلاحق حتى علا الوش، وتعدَّدت أدوار الشاي، وأتى أكبر الأولاد بالطعمية الساخنة من «حسونة» بشارع صفر باشا، وعلت الضحكات لذكريات بعيدة.

صابر الشبلنجي

أطلَّ المعلم التميمي على ندائه من النافذة، فوق الإسطبل: إجازة اليوم يا صابر.

علت دهشته بالسؤال: حتى الإسطبل؟!

وهو يعيد إغلاق النافذة: أوامر الحكومة.

لو أنه صحا من النوم على مهل، في الوقت الذي يختاره، يتمطَّى، ويداعب بإصبعه خصلة شعره الأمامية، لا يشغله مَن تخلي القهوة لهم طاولاتها. يعدُّ — بنفسه — كوب الشاي بالحليب، يقلِّب في «غَلَق» الثياب، ربما غسل المتسخ منها. القهوة أغلقت أبوابها، والإسطبل أيضًا، راحة مدفوعة الأجر من تنظيف اللُّجُم، وغسل الحناطير والبنزات والكارو، وبيع الرَّوث للحدائق، وشعيرات الحصان تلتفُّ حول زوائد السِّنط، فتسقطها.

مضى في شارع السيالة إلى نهايته.

الدكاكين مغلقة، والشوارع مهجورة، انقطعت الرِّجل، فيما عدا أفراد اقتعدوا الأرصفة، ربما يعانون نفس ظروفه، أو أن لهم ظروفًا أخرى، لم يميِّز من بينهم أحد معارفه، يجلس إليه، يحادثه، يأخذ منه ويعطي له، ينقذه من الحيرة التي لم تكُن في باله، ولا استعدَّ لها.

تأمل إعلانات ثلاثة أفلام — عرض مستمر — بسينما الأنفوشي، بالكاد نطق أسماءها: دايمًا في قلبي، بطولة عقيلة راتب وعماد حمدي … طاقية الإخفاء، بطولة تحية كاريوكا ومحمد الكحلاوي … المنتقم، بطولة أحمد سالم ونور الهدى. حتى باعة اللبن غابت نداءاتهم، واختفى الزبالون من مكان تجمُّعهم، أمام منزل أبو خطوة.

توقفت خطواته — بعد أن اتجهت، بتلقائيةٍ، في شارع شيمي بك المفضي إلى السينما — لمَّا تذكَّر أن كل الأمكنة مغلقة.

عاد إلى ساحة المرسي أبو العباس، أسرع لرؤية جانب من البوابة المطلَّة على ميدان الأئمة مفتوحًا.

قبل أن يصعد الدرجات الرخامية، أشاح له الخادم بظهر يده.

مال ناحية شريط الترام، ومنه إلى الحديقة المقابلة لمستشفى الملكة نازلي.

جلس على السور الحديدي، يتطلع إلى البحر بعينين لا تتأملان، ينصت إلى أصوات التكسرات المتتالية للمياه على الصخور، وتناثر العجائز على الشاطئ يغزلون الكنار.

لو أنه يعرف!

القطار يصل رشيد في ساعة أو أقل، يقضي النهار بكامله، يعود أول الليل، يجاوز طاحونة أبو شاهين، فتبدو المشربيات مغلقةً كالعادة. مَن؟ أنا صابر. تستعيض عن عينيها المنطفئتين بيديها، تفسحان لها الطريق. هل تذكرت أمَّك؟!

قال المخبر: معك بطاقة؟

وهو يفكُّ الأستك عن المحفظة: نعم!

تساءل القادم من ناحية البحر: بلا عمل؟

– إجازة.

– تصيد بالجرافة؟

– لا أعرف!

– هذا شأني!

– ولكن …

– الأجر عشرون قرشًا حتى الظهر.

مضى وراءه.

وكان نورسٌ قد مال إلى صفحة الماء، التقط شيئًا بمنقاره، لعلَّه سمكة، ثم حلَّق — ثانية — في السماء.

سيد الفرَّان

لحقها وهي تهمُّ بإغلاق الباب الخشبي الضخم، أهمل النظرة المتسائلة، عكست صيحتها: أنت؟!

زاد من اقترابه، فتركت الباب مواربًا: ماذا تريد؟

في لهجة متودِّدة: بصراحة … الحكومة ضيعتني فأتيت.

روى لها ما حدث.

كانت خطواتها العائدة قد انتهت إلى الصالة الواسعة، خلت من الأثاث، فيما عدا كنبة وحيدة التصقت بالجدار، وكراسي، وطاولات قديمة تكوَّمت في جانبٍ منها، وثلاث إطارات مستعملة، وعِرق ضخم من الخشب، وصل ما بين المنتصف وأعلى النافذة المطلَّة على مَنورٍ خلفي.

تبعت نظراته.

كأنه يتعرف — للمرَّة الأولى — إلى البيت الخالي، كان ينتظرها — عقب انتهاء العمل — أول دحديرة أبو العباس، طريقها التي لا تغيِّرها منذ ألحقها بالعمل في بيته المطلِّ على سيدي البوصيري، عبد الله أفندي الكاشف الموظف بسراي الحقانية، تنظف وتغسل وتكنس، تتحمل أحاديث الرجل عن شقيقتين تزوجتا، وتركتاه وحيدًا، فاته سنُّ الزواج، ولم يعُد ثمة مَن يملأ حياته. تزوم وتواصل العمل، وافقت للإيراد الثابت، لم تشغل بالها — رغم تلميحاته المفاجئة — في أن يجاوز دوره كمخدوم، تشعر بالضيق — وربما القرف — من وجهه المستطيل، وشاربه الذي أخفى شفتيه، يطيل التأكد — في المرآة — من انتظام أطرافه، والزبد المهمل في جانبي فمه، والصوت الرفيع، ثم من الأحاديث المفاجئة المفعمة بالإشارات والتلميحات.

تدخل في الثالثة، عقب قدومه من الحقانية، وتنصرف في السادسة، تصعد الدحديرة إلى الموازيني، تشتري حاجياتها من شارع الميدان، تلتقي في طريقها بسيد الفران، أو سواه، كلمتين أو ثلاثًا، تحدِّد الموعد في ناصية الحجاري والمسافرخانة، تواصل سيرها إلى البيت، تظلُّ خلف البيت، لا تغلقه قبل أن يأتي الآخر، تحرص أن تكون الليلة لموعدٍ واحد، إذا واجهت إصرارًا فإنها تأخذ العنوان، وتطلب الانتظار.

لم تكُن تتوقع سيد الفرَّان في كل ليلة، الخبز الرجوع لا يعطيه حقَّ العشيق، تدبر الحُجج لرؤيته، يعلو الهمس أحيانًا، يتوضح الإصرار في لهجته الحادَّة، والتماع عينيه، وارتعاشة أصابعه التي اسودَّت بما يختلف مع بشرته المائلة إلى السُّمرة، تنهي الموقف خشية الفضيحة: اتبعني. ها هو ذا يحدِّثها عن اليوم كله، والمقابل، يتأمل داخل البيت الذي لم يكُن شاهده في النهار، لو أنها أصرت على الرفض أو قاومت، فمن يدري؟

– هل نقضي اليوم كله في حُجرة مغلقة؟

في استسلام لامس إشفاقها: إني ملكك، فتصرفي!

دخلت إلى حُجرة مجاورة، فلم يتبعها.

عادت بحقيبة من القماش، ملأتها بما لم يتبيَّنه، وإن أطلَّت منه عروق خس، حبكت الملاءة على خصرها، رفعت طرفها الأيمن، فبدا كاحل قدمها، تنعِّمه بالحجر الخفاف، أسدلتها على الساق اليمنى، ضاقت عند الخصر، ثم اتسعت لاستدارة الصدر، علت إلى الكتفين، وطوى الساعد الأيسر أطرافها، بينما المنديل بأوية يغطي الرأس، تنزلق منه خصلات الشَّعر الأسود، وضعت البرقع تحت العينين، فغطَّى باقي الوجه، ثم ثبتت «العروسة» على الأنف.

– ما أخبار المواصلات؟

وهو يؤكد بهزَّات من رأسه: رأيتها تعمل في طريقي إلى هنا.

ركبت الأتوبيس من أمام مستشفى الملكة نازلي.

تبعها في صمت، تشاغل بالنظر إلى البحر، يقذف برذاذ الموج خارج الكورنيش، ازدحمت السيارة في المحطة التالية، حرص أن تكون نظراته ثابتة عليها، فلا يغيِّبها الزحام.

نزلت في محطة الشاطبي، اتجهت إلى حدائق الشلالات، دون أن تُعنى بالنظر وراءها أو تشير إليه، فيقترب منها.

اختارت ظلَّ شجرة أمام المستشفى الأميري، وضعت طبقًا كبيرًا به كومة من أمِّ الخلول والجندوفلي وبلح البحر والجمبري.

رنا إليها بنظرة متأملة.

كانت قد أهملت الملاءة، وتربعت، وإن غطت ساقيها بفستان من البوبلين الملوَّن، دارت آثار حرق في رقبتها بإيشارب، دسَّت أطرافه في صدرها، عيناها الواسعتان الشديدتا الصفاء، تغمضهما — لكلماته — في خجلٍ يدهشه.

أطال تأمل تقاطيع وجهها المنمنمة، ولثغتها الواضحة، وهزَّة رأسها في الكلام، وكلماتها العفوية، والتعبير بأصابعها.

شرقت في حديثها وغربت.

مع أنها لا تتردَّد إلَّا على بيوت العزاب أو تدخل بيوت المتزوجين في غيبة النساء والأولاد، فإنها عرفت الكثير من أسرار البيوت، استمعت إليها في أوقات الصفو والمؤانسة، وهي تستبدل ثيابها، وهي ترتشف كوب الشاي قبل أن تدخل غرفة النوم، وهي تتهيأ للانصراف، لا تسأل، إنما تترك أذنيها، قصعة يقذف فيها الرجال بمشكلاتهم وما يعانون، تفرق بين شكوى التبرير للخيانة والشكوى الحقيقية، لا تشارك إلَّا إذا تطلع الرجل إليها، ينتظر رأيها.

أحسَّ بتحرك الدمع في عينيه لمَّا قالت: إذا أردت، فاترك لي هدومك أغسلها.

وحين لمحته يتأكد من شيء بين إصبعيه، ثم يدسُّه ثانيةً في جوربه، تساءلت: ما هذا؟

– قطعة أفيون.

ضربت صدرها براحتها: تتعاطى الهباب؟!

قال في تصعُّب: أستعين به على السهر.

أسندت ذقنها على إبهامها وسبابتها: ألسنا أولى بثمنه؟!

اعتادت رؤيته في الفرن، السيالة والفانلة الممزقة والوجه المتسخ والقدمين الحافيتين، ابتسمت لهيئته الجديدة؛ البنطلون، والقميص الصوف، والوجه الخالي من الأوساخ.

بدا طيبًا، وإن أصرَّ — بالكناية والتورية — على تأكيد فحولته، بما لا يتفق مع جسمه الضامر كأن نار الفرن لم تُبقِ له إلَّا العظم، كانت تخلي له ساقيها، فلا تلحظ الفارق بينه وبين المتردِّدين عليها في البيت المهجور، أو يستقبلونها في بيوتهم، ربما شرد ذهنها إلى جزر بعيدة، تفطن إلى انتهائه حين ينهض من فوقها، لا فوارق إلَّا عندما تفاجأ بغير المألوف، تحاول المسايرة أو الاعتذار، إذا أصرَّ علا صوتُها وهدَّدت بالفضيحة.

كان قد أهمل شعر رأسه فتلبَّد، ما عدا الخصلة المتهدلة على جبهته، وأحاط بوجهه النحيل، يناقض اتساع عينيه، وتضخُّم أنفه، والسنَّتين العلويتين الأماميتين، تضغطان — إن أغلق فمه — على شفته السفلى. لنحافته البالغة، فإن تفاحة آدم تتحرك في رقبته إذا تكلم أو ابتلع شيئًا.

فاجأته بالسؤال: من أين أنت؟

أطلق من أنفه ضحكة قصيرة: من هنا.

– أقصد … بلدك؟

– كفر الدوار.

– أنا من سحالي …

أدركت أن الكلام في هذا الأمر ربما يجرُّها إلى ما تحرص على كتمه. حياتها مع أبويها في القرية القريبة من دمنهور تبدو في ذهنها كالأطياف، وعت على الخدمة في بيت المستشار صلاح توفيق، على ناصية شارع الصاغة بدمنهور، لمَّا اتهمها بسرقة النقود من محفظته، تأكدت أن أباها — لمَّا استدعاه الرجل — سيدافع عن براءتها … لكنه أغلق عليها باب المطبخ، وتلاحقت ضرباته، احمرَّت عيناه، وارتعش شاربه، وتقلصت ملامحه، فلم يعُد ذلك الرجل الذي يجلس إليها أول كل شهر، يسألها عن أحوالها، ويُطمئنها على أمِّها وإخوتها، ويدسُّ في يدها خمسة قروش من راتبه الشهري، ويعود، شغله انتزاع اعترافها بمكان المحفظة، دون أن يسألها إن كانت قد سرقتها بالفعل، أو يصغي إلى صراخها وتوسلاتها، ظلت في مكانها، تكتم الألم، وتنصت إلى إلحاح أبيها بألَّا يبلغ سيدها البوليس، وأنه لن يتركها حتى تعيد المحفظة، فتحت باب المطبخ، وجرت بآخر ما عندها.

لاحظ محمود عباس الخوالقة حيرتها في محطة دمنهور، سألها، فأجابته، رافقته — يائسة — إلى الإسكندرية، تنقَّل — لثلاثة أيام — بين أصدقائه، ثم تركها، التقطت طرف الخيط، فعادت إلى الشقق بمفردها.

فاجأها بالسؤال: لماذا سُمِّيت أنسية؟

قالت بعفوية اعتادها: قالت لي أمي إن أبي اختار اسمي على اسم سيدة تركية، لها أرض في قريتنا.

قال متضاحكًا: أنتِ إذَن أنسية التركية.

مصمصت شفتيها: ليت لي جمال التركيات!

•••

لمحته — وهما عائدان — يدسُّ النقود في الحقيبة القماش، أجهشت — فجأةً — باكية: تعدمني!

•••

بعد أن اطمأن المعلم كشك إلى إغلاق أبواب القهوة، لحقه صوت سيد الفرَّان من الطريق.

أدار المعلم ظهره إلى الداخل.

قال مؤمن الدشناوي، وهو يسحب الغطاء على صدره: وحدي جئت قبل الموعد.

تخلَّلت صوت المعلم ارتعاشة غضبٍ واضحة: عرفوا السهر منذ يوم الإضراب.

أضاف وهو يتأكد من التصاق الطاولتين: منذ الآن … لن أسمح بأيِّ تأخير!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤