مقدمة المترجم

لا شك أن الخبرة الطويلة التي اكتسبها مؤلف هذا الكتاب في تدريس الفلسفة تظهر واضحة في كل صفحات كتابه؛ إذ نجد لديه إدراكًا واضحًا لطريقة تفكير طالب الفلسفة، حين يُقبل على دراسته لأول مرة، في تلك المشكلات النهائية القصوى التي تتميز بها الدراسة الفلسفية عن غيرها من الدراسات. ويعترف مؤلف الكتاب صراحةً بأن الكتاب نصٌّ دراسي قصد منه أن يفيد الطالب المبتدئ في الدراسة الفلسفية؛ ومن هنا كان ذلك الطابع العام الذي اكتسبه طريقة معالجته لموضوعاته، ومحاولة مسايرة تفكير الطالب خطوة خطوة، وتصوُّر الحجج والاعتراضات التي قد يثيرها ذهنه، والأسئلة والردود التي قد تطرأ على باله. ومما يزيد في قيمة الطابع التعليمي لهذا الكتاب، أن المؤلف لم يحاول أن يقطع برأيٍ نهائي في أية مشكلة من المشكلات التي عالجها، بل ترك المجال مفتوحًا أمام الطالب لكي يختار الموقف الذي يراه ملائمًا — والأهم من ذلك أنه كان يؤكد على الدوام إمكان وجود حلول مختلفة للمشكلة الواحدة، وهو تأكيد له أهمية كبرى في تكوين أذهان أولئك الذين يزمعون التخصص في الدراسات.

وعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب ينتمي إلى ما يسمى بالمدرسة التحليلية الفلسفية، وهي المدرسة التي تسيطر على عدد كبير من الجامعات الإنجليزية والأمريكية في الوقت الحالي، فإنه يحرص على تحقيق التوازن بين النظرة التحليلية، بما فيها من تشريح دقيق للمشكلات وتفريغ دائم لها، وبين النظرة التركيبية، بما فيها من رؤية جامعة شاملة لكل مشكلة في صلتها بالتجربة الإنسانية عامة. ومن المؤكد أنه قد نجح إلى حدٍّ بعيد في تحقيق غايته هذه، بحيث يمكن القول إن الطبيعة التي عرض بها آراءه تجمع بين مزايا النظرتين التحليلية والتركيبية معًا، وتتجنب كثيرًا من عيوبهما.

ولعل أوضح ميزات هذا الكتاب هي محاولة الربط بين المشكلات الفلسفية وبين المواقف الفعلية التي يمكن أن يواجهها دارس الفلسفة في حياته الخاصة والعامة. وتلك دون شك ميزة لا يستهان بها من وجهة النظر التربوية؛ إذ إنها تشجع طالب الفلسفة على أن يخوض بلا وجلٍ غمار مشكلات قد ينفر منها لو عُرضت عليه بطريقة تجريدية جافة. ويظهر اتجاه المؤلف هذا بوضوح منذ الفصل الأول، الذي ضرب فيه الأمثلة لحالات متعددة الأنماط من الطلاب الذين يُقبلون على الدراسة الفلسفية لأسباب مختلفة، ولكنهم يتفقون جميعًا — رغم تباين أمزجتهم واستعداداتهم — على أن التفلسف أمرٌ لا مفر منه، مهما تكن وجهة نظر المرء بالنسبة إلى العالم وإلى المجتمع الذي يعيش فيه. فإذا وجد القارئ العربي أن النماذج التي اختارها المؤلف محلية تنتمي إلى بيئته الخاصة وحدها، فليعلم رغم ذلك أن أمثال هذه الأنماط يمكن أن توجد — مع تحوير بسيط — في أية بيئة معاصرة في عالمنا الذي تتقارب طرق التفكير فيه، وخاصة بين الشباب، بسرعة مذهلة.

ولست أزعم — بوصفي مترجمًا للكتاب — أنني قد اتفقت مع مؤلفه في كل ما قال. ومع ذلك فقد آثرت ألا أُقحم في نص الكتاب أيَّ رأي قد أكون فيه مختلفًا مع المؤلف، وإن كنت قد أشرت بإيجاز، في بعض الهوامش إلى عدد من النقاط التي اعتقدت أن رأي المؤلف يحتاج فيها إلى إيضاح، أو تعقيب، أو تعديل، دون الدخول في خلافات مفصلة.

وأخيرًا، فإن لمؤلف هذا الكتاب، كما قلت من قبل، خبرة طويلة في التدريس الفلسفي أتاحت له أن يسلك — في كتابه هذا — أقصر الطرق وأيسرها إلى عقول الطلاب وربما إلى قلوبهم، بدليل انتشار استخدام هذا الكتاب بوصفه مدخلًا إلى الفلسفة في كثير من الجامعات الأمريكية، وقام بالتدريس في عدة جامعات وكليات، بعضها في الشرق الأدنى، وبعضها في الولايات المتحدة. وهو يشغل منذ عام ١٩٤٧م منصب أستاذ الفلسفة وعلم النفس في معهد كاليفورنيا التكنولوجي California Institute of Technology ومن مؤلفاته الأخرى: مدخل إلى علم الجمال An Introduction to Aesthetic كما أنه عضو في مجلس تحرير الكتاب السنوي لدائرة المعارف الأمريكية.
الدكتور فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤