مقدمة الطبعة الأولى

هناك طريقتان مألوفتان لبدء الدراسة المنهجية للفلسفة، لكلٍّ منهما أنصارها المتحمسون. أما الطريقة الأولى، وربما الأقدم منهما، فتبدأ بتعريف الطالب تاريخ الفلسفة؛ أعني ذلك السجل الزمني للتعاقب المتصل من الشخصيات والمدارس والحركات، الذي يبدأ بطاليس في حوالي ٦٠٠ق.م. ويظل مستمرًّا حتى يصل بنا إلى مفكرين ما زالوا أحياء. وربما كانت الميزتان الرئيسيتان لهذه الطريقة التاريخية هما:
  • (١)

    أن الطالب يكتسب الإحساس باتصال البحث الفلسفي واستمراره.

  • (٢)

    وأنه يكتسب قدرًا كبيرًا من المادة العقلية التي يستطيع الانتفاع منها في أي تأمل فلسفي شخصي قد يقوم به. غير أن العيب الأساسي لهذه الطريقة التاريخية، من الناحية التربوية، هو عيب يكمن في أية دراسة تبدأ الموضوع الجديد منذ أصله ومنشئه الأول: فمهما بدت الطريقة التاريخية منطقية، فإنها لا يمكن أن تكون هي الطريقة الطبيعية بالنسبة إلى المبتدئ. ذلك لأن أي اهتمام تلقائي قد يتملك هذا المبتدئ في موضوع كالفلسفة، لا بد أن يكون ناشئًا عن احتكاكه أو صراعه مع مشكلات فلسفية معاصرة له، لا من حب استطلاع ينصبُّ على أصل المفاهيم الفلسفية وتاريخها، أو الاهتمام بما قال به مفكر تاريخي معين. صحيح أن الطالب المبتدئ، حين يعلم أن كثيرًا من المشكلات التي تشغل ذهنه هي من المشكلات الدائمة في الفلسفة، يستفيد فائدة ثقافية حقيقية، ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أن الطالب الذي يدرس موضوعًا معينًا؛ لأنه يشعر باهتمام أصيل به، يجد أن اهتمامه قد أخذ يتلاشى بالتدريج بعد أن يقوم بتحليل طويل للفكر القديم والوسيط وتفكير عصر النهضة والقرن الثامن عشر. ذلك لأن مشكلاته العقلية الخاصة هي مشكلات معاصرة قبل كل شيء، ومطلبه الطبيعي هو أن يتلقى إجابات حديثة إلى حد معقول. وكثيرًا ما يشعر، عندما يضطر إلى دراسة مقرر في تاريخ الفلسفة، أن جوعه الفلسفي قد أُلقم حجرًا — أو خبزًا شديد الجفاف على أحسن الفروض.

لهذا السبب التربوي الأساسي يبدو أن الطريقة التاريخية، على مزاياها العديدة، قد أخذت قيمتها تقل تدريجيًّا، في أيامنا هذه، بوصفها أول مدخل إلى الفلسفة. ويبدو أن عددًا متزايدًا من الأساتذة قد أصبحوا مقتنعين بأن من الأفضل الاحتكاك بالموضوع، لأول مرة، بطريقة غير تاريخية. وتبنى هذه الطريقة الأخرى عادةً إما على دراسة «لأنواع» الفلسفة (أي أهم المدارس والحركات الفلسفية)، كما هي الحال في كتاب «هوكنج Hocking» المشهور١ وإما على دراسة للمشكلات الأساسية في هذا الميدان، كما هي الحال في كتاب «كننجهام Cunningham».٢ وقد نجد من آنٍ لآخر من يحاول معالجة الموضوع بطريقة أكثر شمولًا، يجمع فيها بين الأنواع الأساسية والمشكلات الرئيسية.
والكتاب الذي نقدمه ها هنا يحاول، كما يدل عنوانه، أن يعالج الموضوع بهذه الطريقة الجامعة. ففيه دراسة للمشكلات الرئيسية للفلسفة من خلال ما أعتقد أنه أهم المدارس والحركات الفلسفية الموجودة في أيامنا هذه. وهو يبدأ بمقدمة موجزة تحاول التعريف بالفلسفة، وتبين كيف أن الطلاب (ومعهم كل الناس الآخرين تقريبًا) يتفلسفون سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. ثم يبحث في الفصول من الأول إلى الثالث في العلاقات بين الفلسفة وجيرانها. ولا سيما العلم والدين. ويلي ذلك وصفٌ مفصَّل للرأيين اللذين أعتقد أنهما أهم وأشمل الآراء عن العامل، وهما المذهبان المثالي والطبيعي Naturalism اللذان سنتخذ منهما في واقع الأمر نقطتَي ارتكاز في هذا الميدان (في الفصلين الرابع والخامس). أما الفصول الباقية فتعالج مختلف مشكلات الفلسفة، كل مشكلة بما لها من حلول كثيرة ممكنة، وذلك من خلال نقطتَي الارتكاز سالفتَي الذكر. وبذلك تكون لدى المبتدئ بضعة معالم بارزة يسترشد بها خلال تجواله في هذه الأرض التي هي، على أحسن الفروض، أرض محيرة. وقد يجد الفيلسوف المحترف، الذي أصبح متمكنًا من ميدانه على الرغم من تعقده الشديد، أن هذا الترتيب مبسط إلى حد يقارب الإفراط، غير أن تجربتي مع الكثير من فصول المبتدئين قد أقنعتني بأن هذه الطريقة تصلح أكثر من أية طريقة أخرى لكي تكون مدخلًا أول إلى الموضوع. فقد اتضح لي أن هذه الطريقة هي التي تفي أكثر من غيرها بالغرض المطلوب، سواء أكان مقياسنا هو سرعة اندماج الطالب في المشكلات الفلسفية، أم كان مقدار التوجيه العام الذي يكتسبه في هذا الميدان بعد فصلٍ دراسي واحد، وما هذا الكتاب إلا تعبير عن اقتناعي بأن النتائج التربوية التي تسفر عنها هذه الطريقة هي قطعًا أفضل من كل ما عداها.

ولا شك أن كتابة مؤلَّف من هذا النوع، ونشره، يقتضي مساعدةً من عدد كبير من الأصدقاء الذين يستحيل الاعتراف بفضل كلٍّ منهم على حدة. على أن هناك عدة أشخاص قدموا لي معونة خاصة، وهم جديرون بثناء أعظم مما يدل عليه الاقتصار على ذكر أسمائهم، هؤلاء هم: برنيس وجوردون ستافورد، وروسكوبولاند، ومارفن هدريك، وجون باسووتر، وروبرت همفريز، وشيرلي مورس، بل إن هناك عونًا كان أعظم حتى من ذلك، هو الذي قدمه ريموند ديورانت، ووالدتي سوازن ﻫ. ميد. ذلك لأن الصبر الذي أبداه الأول في كتابة صفحات الكتاب، والبصيرة النقدية للثانية، كانا لي عونًا لا يقدَّر. كذلك يستحق ريموند إيردل، الأستاذ بكلية بومونا، ثناءً خاصًّا على النصح الذي أسداه إليَّ في لحظة حاسمة بشأن قائمة مصطلحات الكتاب.

هنتز ميد
سان دييجو، كاليفورنيا
يناير ١٩٤٦م
١  وهو كتاب «أنواع الفلسفة Types of Philosophy».
٢  الكتاب المقصود هو «مشكلات الفلسفة Problems of Philosophy».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤