الفصل الثاني عشر

الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل

من الممكن النظر إلى الفلسفة بإحدى طريقتين: فإما أن تعد نشاطًا عقليًّا منعزلًا وإما أن تعد مرشدًا في الحياة. أما الطريقة الأولى فلها مزايا متعددة؛ إذ إننا لو نظرنا إلى الموضوع على هذا النحو لكنا أقل تعرضًا لأخذ بحثنا أو إجاباتنا أو أنفسنا مأخذ الجد الزائد عن حده، بل إننا نستطيع عندئذٍ أن نكون أكثر موضوعية وتنزهًا في تحليلاتنا العقلية، وتكون نظرتنا إليها أقرب إلى نظرة العالم إلى مشكلاته في المعمل. ولو مضينا في بحثنا بهذه الطريقة الأكثر موضوعية، لكان احتمال وصولنا إلى نتائج تتفق مع الطبيعة الفعلية للأشياء أقوى مما لو جعلنا الفلسفة بديلًا للعقيدة واتخذناها مرشدًا في الحياة. فلو أقبلنا على الفلسفة من وجهة النظر الثانية هذه، لكان هناك على الدوام احتمال في أن تتلون الصورة التي نكونها عن الواقع بلون مستمد من آمالنا ومخاوفنا. ففي هذه الحالة قد تتدخل قلوبنا في عمل عقولنا، وعندما ننتهي من تكوين نظرتنا إلى العالم فقد لا تكون النتيجة إلا إسقاطًا لطبيعتنا البشرية، بما تتميز به من عناصر قوة وضعف، على شاشة الكون.

وعلى الرغم من أننا لن نحاول الحكم على هاتين الطريقتين في النظر إلى الفلسفة، فمن الواجب أن نشير إلى أن تعارض الموقفين اللذين تؤديان إليهما يدفع كلًّا منهما إلى تركيز اهتمامها على فرع مختلف من فروع الفلسفة، تتخذ منه محورًا لنشاطها العقلي. فإذا نظرنا إلى الفلسفة على أنها نشاط نظري قبل كل شيء لكان الأرجح أن نولي تفكيرنا شطر المشكلة الإبستمولوجية الميتافيزيقية. أما المدرسة التي تتخذ من الفلسفة مرشدًا في الحياة فتركز تفكيرها، إلى حد بعيد، في المشكلة الأخلاقية، وهي: ما الحياة الخيرة؟ فهذه المدرسة لا ترى للبحث الميتافيزيقي قيمة كبيرة ما لم يسفر عن «فلسفة في الحياة»؛ أي عن نوع من المذهب الأخلاقي المحدد المعالم. وفي مقابل ذلك، نجد أن أولئك الذين يمارسون النشاط العقلي بدافع الرضا الذي يبعثه فيهم هذا النشاط في ذاته، ينظرون إلى الأخلاق على أنها خاضعة للإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والميتافيزيقا. وهكذا فإنهم أقرب إلى القول بأن أهمية أي مذهب أخلاقي ودلالته تتوقف على صحة الموقف الميتافيزيقي الكامن من ورائه.

ولقد قدمنا في الفصول السابقة من عناصر الميتافيزيقا ونظرية المعرفة ما يكفي لإعطاء الطالب الذي يفضل النظر إلى الفلسفة على أنها وسيلة عقلية لقضاء الوقت، مادة غزيرة لنشاطه النظري. ولذا فإننا سننحاز في هذا الفصل وفي الفصلين التاليين إلى المجموعة ذات الاتجاه الأخلاقي، ونذهب معها إلى أن الهدف الرئيسي للفلسفة هو إنارة طريقنا ونحن بسبيل البحث عن الحياة الخيرة.

(١) مشكلة الخير

ينطوي ميدان الأخلاق على تعقيدات ملحوظة: إذ إن المشكلة لا تقتصر على وجود وجهات نظر متعارضة عديدة، بل إننا نجد أيضًا فئات كثيرة مختلفة، وخطوط تقسيم متقاطعة، ونقاط ارتكاز تبدو منعدمة الصلة بعضها ببعض. وهكذا يكون من العسير في كثير من الأحيان تصنيف المواقف المختلفة، أو مقارنتها بعضها ببعض. وقد نصادف آراء ليست لها علاقة واضحة بعضها ببعض، من حيث إن كلًّا منها ليس مضادًا للآخر ولا مكملًا له، بل إن نقطتَي الارتكاز اللتين اعتمدنا عليهما منذ البداية، وهما المذهب الطبيعي والمذهب المثالي، لا ترشداننا في هذا الميدان بالقدر الذي كنا نتوقعه منهما.

ومن الأسباب التي يرجع إليها هذا الخلط، وجود تقسيم في ميدان الأخلاق يتصف بأنه أساسي من جهة، ولكن يصعب وصفه أو الاحتفاظ به من جهة أخرى. فمن الممكن، من جهة، النظر إلى الأخلاق على أنها فرع للدراسة المنظمة للقيمة. وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي، ما طبيعة «الخير»؟ ومن الممكن، من جهة أخرى، أن ننظر إلى الأخلاق على أنها دراسة الإلزام، وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي طبيعة «الواجب» ومصدره. وسوف نقدم في الفصلين اللذين نبدؤهما الآن تحليلًا لهاتين المسألتين، مع تقديم الإجابات الرئيسية عنهما. وسيكون من الضروري لنا، توطئة للقيام بهذا التحليل، أن ندرك النتائج الرئيسية التي تترتب على كلٍّ من هاتين المسألتين.

المشكلتان الرئيسيتان في ميدان الأخلاق: يبدو من الواضح أن الطريقة الأولى — من بين الطريقتين السابقتين في النظر إلى الأخلاق، وهي التي تبدأ بفكرة القيمة، ستكون معنية بكشف ما ينبغي السعي إليه؛ أي ما هو خير، أو ما له قيمة. فهي ستدرس أهداف السلوك أو غاياته المثلى. أما طريقة النظر إلى الأخلاق من خلال نظرية الإلزام فستكون معنية بمشكلة ما ينبغي عمله؛ أي بالطريقة التي ينبغي أن نعمل بها على تحقيق هذا «الخير» أو هذه «القيمة». وعلى الرغم من أن هذه المشكلة الثانية تبدو أقرب إلى الطابع العملي المباشر من الأولى؛ وبالتالي تعد أهم بكثير في نظر الشخص غير المتخصص عادة، فإن الفيلسوف كثيرًا ما يشعر بميل أقوى إلى المشكلة الأولى، وهي البحث عن «الخير». وهو يدلل على ذلك بقوله: كيف نستطيع أن نعرف ما ينبغي عمله، ما لم نكن قد حددنا ما نحن بسبيل البحث عنه؟ أليست الغايات أهم من الوسائل؟ ولما كانت الغايات موضع البحث، في الأخلاق، هي الأهداف النهائية للحياة البشرية، فأي مشكلة يمكن أن تكون أهم من الوجهة العملية من تلك المتعلقة بنظرية القيم؟ وعلى أية حال، فإن المفكر الأخلاقي يتساءل، آخر الأمر، سؤالين: ما الذي نحيا من أجله؟ وكيف ينبغي أن نحيا؟ والسؤالان متداخلان بالطبع، ولكن كلما كان الخط الفاصل بينهما أقوى، كان تحليلنا لهما أوضح.
إننا عندما نصدر أحكامًا تقويمية Value Judgments إنما نقوم بنشاط من أهم أوجه النشاط العقلي عند الإنسان وأكثرها شيوعًا. وعلى الرغم من أننا قد لا نكون منحازين عن وعي لأية نظرية من النظريات المتعددة في القيمة، التي سنعرض لها بعد قليل، فلا تكاد توجد لحظة واحدة من لحظات حياتنا اليقظة. لا نجد فيها أنفسنا قائمين بإصدار حكم كهذا، أو بعمل شيء نحقق به حكمًا سبق لنا إصداره. والواقع أن معظم القرارات التي نتخذها في حياتنا، حتى القرارات التافهة، تمثل أحكامًا تقويمية صريحة أو ضمنية، فمعظم القرارات مبنية على أحكامنا على أشياء معينة بأنها طيبة أو رديئة، مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها. وحتى عندما نستخدم اللفظ الأساسي في التقويم، وهو اللفظ «خير»، على أنحاء متباينة، كما في قولنا «العدالة خير» و«حفلة الأمس خير من حفلة اليوم»، فإن مضموناته المعيارية أو التقويمية تظل موجودة. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن نجد الفيلسوف يبدي كل هذا الاهتمام بمشكلة الخير.
رأيان في طبيعة الإلزام: وصفنا من قبل مشكلة الإلزام بأنها تبدو أقرب إلى الطابع العملي المباشر من مشكلة «الخير»، غير أن مفهوم الإلزام بأسره أصعب مما يتوقعه المبتدئ في دراسة الفلسفة. والواقع أننا لو كنا نعني «بالإلزام» أو الوجوب Ought، حالة مشروطة فحسب، لما انطوى الأمر على صعوبة خاصة. ذلك لأنه لو كان كل ما نعنيه هو أنك إذا أردت تحقيق غايات معينة، فعندئذٍ يجب عليك أن تفعل كذا وكذا، لكانت المشكلة التي أمامنا مشكلة بسيطة تتعلق بالوسائل والغايات. ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أننا نستخدم معنى «الوجوب» بمعنى غير مشروط، فنقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك!» — لا لأنك تسعى إلى إرضاء المجتمع، أو إرضاء ضميرك، أو زيادة في مرتبك، بل لمجرد كون المسألة متعلقة بالتزام أخلاقي. فضلًا عن ذلك، فينبغي عليك أداء الواجب بغضِّ النظر عن أية منافع أو أضرار شخصية قد تنجم عنه.

فعندما تستخدم كلمة الإلزام بهذا المعنى المطلق غير المشروط، نجد أنفسنا على الفور إزاء مشكلة من أعقد مشكلات الفلسفة. ذلك لأن في وسع الشكاك دائمًا أن يتساءل: «لماذا كان ينبغي عليَّ أن أقوم بواجبي، وبخاصة عندما لا تكون في ذلك راحتي؟» أما بالنسبة إلى الفيلسوف، فلا يكفي أن نرد عليه بقولنا «هذا ما ينبغي لك عمله، لا أكثر ولا أقل». فلا بد للشخص المفكر أن يواجه، عاجلًا أو آجلًا، تلك المشكلة التي هي أصعب المشكلات الأخلاقية جميعًا، وأعني بها: من أين تأتي قوة الإلزام الخلقي؟ أو كما يصوغها البعض: من أين تأتي «وجوبية» الواجب؟ إن أي إلزام يتضمن ضرورة قيام شخص ما بعمل شيء ما. فما مصدر هذه الضرورة؟

في هذا الفصل، والفصل التالي، سوف نبحث في هذه الأوجه المتعددة للمشكلة الأخلاقية. ومن واجبنا أن نتذكر، ونحن ماضون في بحثنا، أنه، مهما يكن مقدار تعقد المشكلات، أو مدى الطابع النظري الذي ستتخذه المناقشة، فإن محاولتنا ستنصب على الإجابة عن أهم المشكلات العملية للإنسان وأعمقها وأشملها، وأعني بها: ما «الحياة الخيرة»؟ ومن سوء الحظ أنه ليس من الممكن الإتيان بإجابة لهذا السؤال تبلغ من البساطة حدًّا يعادل ما له من أهمية. ولكن لما كان الأمر هنا متعلقًا بتلك المشكلة الأساسية؛ أعني مشكلة ما ينبغي أن نصنعه بحياتنا، فليس لنا أن نتوقع أن نهتدي إلى إجابة واحدة بسيطة عليها.

(٢) ما مركز «الخير» في الكون؟

إن أول خلاف رئيسي يثار حول مشكلة «الخير» أو «القيمة» هو الخلاف المتعلق بمركز الخير؛ فهل للخير وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك «خير» بالمعنى العام، أم هو دائمًا نسبي تبعًا لرضا فرد معين أو تفضيله؟ وهل هناك أحكام تقويمية شاملة، تسري على كل الناس في كل مكان؟ وهل هناك شيء ينعقد إجماع الناس كلهم، بغضِّ النظر عن زمانهم أو مكانهم أو جنسهم أو حضارتهم، على وصفه «بالخير»؟ أم أن لكل شخص، في نهاية الأمر، نظرًا فرديًّا، وربما مزيدًا، من القيم؟ إن كل شخص يبدو أنه يحدد، عن وعي أو دون وعي، ما يعده ذا قيمة في العالم، وما يود أن يقضي حياته محاولًا بلوغه. فهل هناك أية معايير موضوعية نستطيع أن نحكم بها على نظام القيم هذا الذي تنطوي عليه أفعاله؟ أم أن عبارته المجردة «إنني أجد س خيرًا» هي الكلمة الأخيرة التي يمكن أن تقال في الموضوع؟

الرأي التقليدي: كان الاعتقاد بأن القيم الموضوعية، توجد خارج أذهاننا بوصفها جزءًا من الكون، هو الرأي السائد في الفكر الغربي؛ ولذا فسوف نبدأ ببحثه. ويبدأ أنصار هذا الرأي برهانهم على موقفهم بأن يشيروا إلى أن بعض القيم تبدو موجودة بالنسبة إلى جميع الأشخاص، ومهما تفاوتت هذه القيم في البداية، فإن زيادة التعود والتفكير النقدي تؤدي إلى تقريبها رويدًا رويدًا نحو معيار مشترك. فالأشخاص الذين لهم مستوى ثقافي أو حضاري متقارب، يتفقون فيما بينهم اتفاقًا أساسيًّا حول الأفعال التي تعد خيرة والأشياء التي تعد قيمة، حتى ولو كانت تفصل بينهم أوسع المسافات أو أطول العهود الزمنية. وثانيًا، يلاحظ أن هناك في كثير من الأحيان اتفاقًا ضمنيًّا من وراء الفروق الظاهرية يفوق ما يتصوره الكثيرون. ولنضرب لذلك مثلًا:١ فقناصة الرءوس في بورنيو يبدون خاضعين لنظام أخلاقي متناقض تمامًا مع النظام الذي يخضع له أحد أفراد مذهب «الكويكرز» (المرتعدين) المسيحي. ولكن لو فكر الهمجي في السبب الذي يجعل قتل عدوه «خيرًا» لكان من الأمور شبه المحتومة أن يصل إلى أن قيمة هذا الفعل ترتكز على كونه يساعد على تقوية أواصر الوحدة القبلية، التي تقتضيها ظروف الحياة القبلية عادةً. وهكذا يكون هذا الفعل إسهامًا في الخير المشترك للجماعة، ما دام يؤدي إلى تحقيق مبدأ أخلاقي مثل «مراعاة مصلحة القبيلة خير». أما الشخص المنتمي إلى جماعة «الكويكرز» فإنه يحكم على نفس الفعل الخاص بأنه شر، غير أن أساس حكمه أو مبدئه واحد — وأعني به مراعاة مصلحة الجماعة. ولا شك أن الفارق بينهما يكمن في مدى مفهوم «الجماعة» أو نطاقه. فهو بالنسبة إلى الهمجي يعني قبيلة صغيرة، على حين أنه بالنسبة إلى «الكويكرز» أو من يؤمن بالمجتمع الدولي، قد يكون هو الجنس البشري كله. وهكذا ينطوي الحكمان معًا على أساس أخلاقي واحد مشترك، مهما يكن اختلاف الأساس السوسيولوجي (المتعلق بعلم الاجتماع). فكلاهما يجعل القيمة في مصلحة المجموع، وكلاهما يسعى إلى تحقيقها.
ويعتقد المؤمن بالنظرية الموضوعية في القيمة أن التحليل الكافي يمكن أن يكشف عن هوية مماثلة للمبادئ الأخلاقية، تكمن من وراء كل اختلافات السلوك. وهكذا نجد «جوشيا رويس Josiah Royce»، الذي ربما كان أبرز مثالي ظهر في أمريكا، يدعو إلى «فلسفة للولاء Philosophy of Loyalty» تعزى فيها قيمة عليا لكل مظهر من مظاهر الولاء، بغضِّ النظر عن موضوع هذا الإخلاص. فالأمر الأخلاقي الأسمى عند رويس هو «ليكن ولاؤك للولاء». ومن الواضح أن هذا الرأي يمثل محاولة للكشف عن المعيار الشامل أو الموضوعي للتقويم.
ويرى أنصار النظرية الموضوعية في القيمة أن «الخير» كامن في موضوعات أو مواقف معينة، وأننا نقدر هذه المواقف أو نرغب فيها نظرًا إلى ما فيها من جاذبية لنا٢ ففي مثل هذا المذهب تكون كل أحكام القيمة، قبل كل شيء، وصفًا لما نكشفه في الموضوعات أو الحوادث، وتصبح القيمة ذاتها صفة تجتذب تفضيلنا أو تطالب بتقديرنا. وهكذا يكون الحكم التقويمي في أساسه وصفًا لطبيعة الأشياء؛ أي للواقع ذاته. وعلى هذا النحو تقيم النظرية الموضوعية صلة وثيقة بين الأخلاق (وعلم الجمال) وبين الميتافيزيقا؛ إذ إن الخير يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع، بل إن الخير والواقع قد يصبحان في مثل هذا المذهب شيئًا واحدًا.
الرأي الذاتي: أما الرأي الذاتي في القيمة، الذي يرتبط بمبدأ النسبية ارتباطًا وثيقًا، فيذهب إلى أن الاختلافات في الأحكام التقويمية من شخص لآخر، ومن عصر لآخر، هي اختلافات عميقة لها دلالتها الكبرى. ذلك لأن كل قيمة تبدو صادرة، من وجهة النظر النفسية، عن الشعور بالرضا أو الإشباع Satisfaction فنحن نصف أي شيء يرضي أو يشبع حاجة من حاجاتنا، أو يساعد على تحقيق مصلحة لنا، بأنه «خير» أو «قيم» أو «مرغوب فيه». وأعلى الأشياء قيمة هي تلك التي تشبع حاجاتنا على أفضل نحو، أو ترضي حاجة من أقوى حاجاتنا. ويترتب على ذلك أنه كلما فقد الشيء أو الموقف قدرته على إرضائنا، انعدمت قيمته أيضًا. والواقع أن تجربتنا اليومية تثبت على الدوام وجود هذا التحول في «القيمة» من شيء إلى آخر، ومن حب قديم إلى حب جديد. وفي هذا الصدد يتحدث وليام جيمس عن «القدرة الطاردة للهوى الجديد»، كما أن واحدًا من أول الشعراء الأمريكيين وأهمهم، وهو فيليب فرينو Philip Freneau (١٧٥٢–١٨٣٢م) قد وصف التجربة البشرية الشاملة على هذا النحو:
بأعين ملهوفة نثبت أنظارنا.
على ما يسر له خيالنا:
ولكنا عندما نمتلكه،
يقضي امتلاكنا على الشيء وعلى لهفتنا معًا.
إن القبعة التي كانت تخفي شعر «بليندا»،
كانت في وقت ما قرة عينها،
أما الآن فقد رمتها، في مكان لا تعرفه،
وتخلت عنها، لسبب لا تعلمه.

كل هذه أمور يتخذ منها صاحب النظرة الذاتية شواهد على أن القيمة لا توجد إلا في أذهاننا، فالحكم التقويمي ليس إيضاحًا الصفات كامنة في هذه الأشياء، تجعلها خيرة أو مرغوبًا فيها لذاتها (وهو قطعًا ليس وصفًا للوقع الموضوعي)، وإنما هو مجرد تعبير عن تفضيل. وهذا التفضيل في نهاية الأمر هو دائمًا تفضيل شخصي. فهو إعلان عما أحبه أنا ذاتي وأجده خيرًا، وعما يرضي رغبتي أو مصلحتي الخاصة، بل إن أحكامنا تتغير دائمًا حتى في مجال التفضيل الشخصي هذا. فلا حاجة بالمرء إلى أن يكون متشائمًا ساخرًا لكي يقول إن كل أحكامنا التقويمية لا تعبر فقط عن تفضيل شخصي، وإنما تمثل تفضيلًا مرهونًا باللحظة وحدها، ومعرَّضًا للتغير دون سابق إنذار. وإن أي «خير» إنما هو بالضرورة تجربة لفرد ما، وعندما تتفق مجموعة من الأشخاص على قيمة أية تجربة، فلن تكون لدينا مع ذلك إلا مجموعة من التجارب الفردية التي يحكم عليها بأنها خير. وهكذا فإن صاحب النظرة الذاتية لا يعرف القيمة بأنها كامنة في الأشياء أو المواقف، وإنما يعرفها بأنها كل ما يشبع رغبة أو حاجة أو مصلحة.

(٣) هل يوجد خير مطلق؟

هناك خلاف آخر وثيق الصلة بهذه المناقشة التي تدور بين النظريتين الموضوعية والذاتية في القيمة، هو الخلاف بين المعيارين المطلق والنسبي للخير. هذا الخلاف الثاني كان من الوجهة التاريخية أهم من الأول؛ لأنه يتصل اتصالًا وثيقًا بالنظرية القانونية والسياسية، فضلًا عن التفكير الديني. ولما كانت النظرة المطلقة هي الرأي «الرسمي» للحضارة الغربية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، ولما كان من الواضح أن الاتجاه النسبي المتزايد في أيامنا هذه إنما هو تمرد على هذه النظرة التقليدية، فسوف نبدأ ببحثه أولًا. وعلى الرغم من أن المعركة بين النظرتين المطلقة والنسبية تمتد إلى جميع أنواع الأحكام التقويمية، فسوف نقتصر هنا على مناقشتها في المجال الأخلاقي وحده.

وجهة نظر المذهب المطلق: يمكن التعبير عن موقف صاحب المذهب المطلق، باختصار، بأنه يرى أنه لا يوجد إلا معيار واحد (أو في حالة الأخلاق، «قانون Code» واحد)، هو الصحيح منذ الأزل، وهو الذي يسري على البشر أجمعين. هذا المعيار لا يسري على نحو عالمَي شامل فحسب، بل إنه أيضًا مستقل عن العصر، وعن الموقع الجغرافي، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، والعرف القانوني، وكل شيء آخر. والأمر الذي يشكل التزامًا لي في هذا المكان والزمان، هو بالمثل التزام للصيني أو الإسباني أو البولنيزي. وهو فضلًا عن ذلك قد كان التزامًا بالنسبة إلى اليوناني القديم، والأوروبي في العصور الوسطى، سواء أكان يعلم ذلك أم لم يكن. وهو سيكون التزامًا بالنسبة إلى جميع الأجناس والمدنيات التي ستعقب مدنيتنا، سواء أدركت ذلك أم لم تدركه. فما هو خير الآن كان خيرًا عندئذٍ، وسيكون خيرًا في المستقبل البعيد، وما كان شرًّا في الماضي ما زال شرًّا، وسيظل كذلك أبد الدهر. وليس هناك قانون أخلاقي للماضي وآخر للحاضر، ولا معيار للشرقي وآخر للغربي. وإنما «الخير» أو «الحق» شامل، مطلق، يسري على كل مكان وزمان.

وبطبيعة الحال فإن القائل بالمذهب المطلق يدرك أن المعايير الأخلاقية تبدو متفاوتة إلى حد هائل من عصر إلى آخر ومن مكان إلى مكان. فهو لم يكن بحاجة إلى انتظار الأنثروبولوجيا الحديثة لكي يعلم ذلك، أما أن هيرودوت، وهو أقدم مؤرخي اليونان، كان يجد لذة كبيرة في وصف مختلف المعايير السائدة في عصره. وكل ما فعلته الدراسة العلمية للإنسان هو أنها أكدت ما كان المثقفون يعلمونه على الدوام — ألا وهو أنه لا يكاد يوجد فعل نعده مذمومًا إلا وكان في وقت معين ومكان معين يعد فاضلًا، بل مقدسًا. غير أن نصير المذهب المطلق لا يجد في هذه المجموعة الكبيرة من الوقائع الأنثروبولوجية المتوافرة الآن أي دليل على بطلان رأيه؛ إذ هو يعتقد أن كل ما تثبته هذه التغيرات في المعايير والعادات الأخلاقية هو أن الناس كثيرًا ما يجهلون المعيار الواحد الحقيقي الصحيح. فكل ما يثبته رضاء آكل لحوم البشر عن عاداته الغذائية هو أنه شخص غير مستنير — وهذا لا يجعل سلوكه صحيحًا بأية حال، حتى بالنسبة إلى ذاته. فسلوكه يظل على الرغم من براءة الجهل الذي يعيش فيه، مضادًّا لقانونه الأخلاقي الصحيح، مثلما أن كل الأعداء مضاد لقانوننا. ذلك لأن هذا القانون الصحيح مطلق ثابت، مستقل عن المعرفة أو الجهل، مثلما هو مستقل عن الزمان والمكان.

ولا ينطوي المذهب المطلق على الاعتقاد بأننا اليوم أقرب بالضرورة، على أي نحو، إلى تحقيق أو ممارسة المعيار الصحيح من آكل لحوم البشر، أو مما كان عليه أجدادنا. فصاحب المذهب المطلق متسق مع ذاته؛ لأنه يعترف بأننا نحن بدورنا قد نكون جاهلين، أو قد تكون أخلاقيتنا غير كافية. وفضلًا عن ذلك فإن المعيار المطلق مستقل عن كل العادات الأخلاقية الفعلية، وضمنها عاداتنا، كما أن أحفادنا لن يكونوا بالضرورة أقرب إلى هذا المعيار المطلق منا. وبالاختصار، فهذا المذهب يرى أن مفهوم التطور أو «التقدم» الأخلاقي غير صحيح: فلا قدم العادة الأخلاقية ولا جدتها تعني أي شيء. وإنما المعيار الوحيد لتقدير المفاهيم والعادات الأخلاقية هو علاقتها بهذا المطلق اللازماني الثابت (أي الذي لا يتقدم). ومع ذلك فإن هذا الرأي لا تلزم عنه بالضرورة نزعة محافظة في الأخلاق. فمن الممكن جدًّا أن نكون سائرين باطراد نحو تحقيق هذا المعيار الصحيح الوحيد، ومن الممكن، بمنطق متساو، أن يكون القائل بالمذهب المطلق داعية إلى التجديد أو إلى الروح المحافظة في الأخلاق. وبالاختصار فإن موقفه لا يقتضي منه أن يمدح أي فعل أخلاقي محدد أو يذمه، وإنما هو يلزمه فقط بالاعتقاد بأن كل ما هو خير أو شر يصدق على الناس جميعًا، في كل مكان وزمان.

العلاقة الوثيقة بين مذهب المطلق والنزعة الموضوعية: من المنطقي أن يكون صاحب المذهب المطلق ذا نزعة موضوعية — بل نزعة موضوعية متطرفة. فهو عادةً ينظر إلى القانون الأخلاقي، لا على أنه مطلق فحسب، بل على أنه أيضًا أساسي في تركيب العالم. وهو شامل بمعنى مزدوج؛ فهو لا يقتصر على الامتداد في كل مكان والانطباق على جميع الكائنات العاقلة، وإنما هو يكون جزءًا لا يتجزأ من الواقع. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى استبعاده من المجال الذاتي. والواقع أن صاحب المذهب المطلق ذاته يميل إلى تشبيه القانون الأخلاقي بقانون الجاذبية؛ فهو يرى أن الاثنين معًا ملزمان بنفس المقدار، ومتساويان في شمولهما ودوام تأثيرهما، وكما أن من الحمق أن نعتقد أن قوة الجاذبية ليست لها إلا قيمة ذهنية أو ذاتية، فإن من الحمق بنفس المقدار أن كل فرد يخلق «خيره» أو «حقه» الخاص بناء على تفضيلاته، بل إننا نستطيع أن نمضي في التشبيه أبعد من ذلك: فكما أن الجاذبية كانت توجد قبل أن يكتشف نيوتن قوانينها، وكما أنه ستظل هناك جاذبية متبادلة بين كل الأشياء في الكون لو اختفى الجنس البشري من العالم، فكذلك كان القانون الأخلاقي موجودًا قبل أن نعرفه، وهو ما زال مستقلًّا عن معرفتنا، بل إن كثيرًا من أنصار المذهب المطلق يرون أن من الممكن أن تختفي البشرية، أو ألا تكون قد وجدت على الإطلاق، دون أن يؤثر ذلك في مركز «الخير» على أي نحو.

(٤) مصادر النزعة الأخلاقية المطلقة

  • (١)
    المصدر التاريخي: ليس من الصعب أن نهتدي إلى المصدر الرئيسي للنزعة الأخلاقية المطلقة٣ ذلك لأن أصل الحضارة الغربية وأساسها مسيحي، وحين نقول «المسيحي» فإننا نعني (بالنسبة إلى الفلسفة) «التوحيدي». فالإيمان بإله واحد، يحكم الكون الذي خلقه، أساس للتفكير الديني للغرب. وفضلًا عن ذلك فإن هذا الإله عاقل، تظل أفكاره وأوامره متسقة مع ذاتها على الدوام٤ وهذه الأوامر شاملة، تنطبق على النحو جميعًا في كل مكان. ولما كان القانون الأخلاقي صادرًا عن هذا الإله العاقل المتسق مع ذاته، فمن المنطقي أن يكون قانونًا شاملًا ثابتًا. ذلك لأن الإله المطلق لا يمكن أن يضع إلا قانونًا أخلاقيًّا مطلقًا. وعلى ذلك فإن تباين المعايير الأخلاقية التي نلاحظها من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، لا يمكن أن يكون راجعًا إلا إلى الجهل بإرادة الله. ولو كان الناس جميعًا يعرفون الإرادة الإلهية، لكان لهم جميعًا قانون أخلاقي واحد، ولوصف الجميع نفس الأشياء بأنها «خيرة» ونفس الأفعال بأنها «صالحة».

    ومما له دلالته أنه، مثلما أن الناس في الحضارة الغربية قد ظلوا حتى عهد قريب يأخذون وجود إله واحد قضية مسلَّمة، فإنهم أيضًا كانوا ينظرون إلى وجود معيار أخلاقي مطلق على أنه أمر واضح بذاته. والواقع أن كل الحجج الفلسفية التقليدية الخاصة بالمعايير الأخلاقية، حتى تلك التي أتى بها مفكر عميق مثل إمانويل كانت، كانت تبدأ بالتسليم بوجود معيار مطلق كهذا. فما دام التوحيد المسيحي قد ظل هو العقيدة السائدة بلا منازع، فقد كان من المحتم أن يكون التفكير الأخلاقي ذا نزعة مطلقة.

  • (٢)
    المصدر المنطقي: لا يتميز الأساس المنطقي للنزعة المطلقة بنفس الوضوح الذي يتميز به أساسها التاريخي، غير أن للأول أهمية أعظم بكثير بالنسبة إلى الفكر المعاصر؛ ذلك لأن أنصار المذهب المطلق في الأخلاق قد ظلوا طوال أكثر من قرن من الزمان يحاولون تقديم دعامة عقلية، ومنطقية، تحل محل الأساس الذي كانت عقيدة التوحيد تقدمه من قبل. وربما كان «كانت» أشهر هؤلاء العقليين في ميدان الأخلاق. وقد كان يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقوانين المنطق، فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض منطقي. ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها «كانت» في هذا الصدد، فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به، فإن سلوكنا يكون شرًّا لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد. أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعود. ولكني إذا أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده، ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملًا. ولو أخلف كل شخص وعوده، لما عاد أحد يؤمن بالوعود، ولكان لدينا مبدأ آخر — هو أن من الصحيح أن أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد — وهو مبدأ يتناقض مع الأول. ولقد كان «كانت» يعتقد أن جميع أمثلة الشر يمكن أن ترد بدورها إلى أمثلة لانعدام الاتساق المنطقي. وهكذا يصبح قانون عدم التناقض هو المبدأ الأساسي للأخلاق، كما كان دائمًا بالنسبة إلى المنطق.
  • (٣)
    المصدر الكيفي: من أحدث المحاولات التي بُذلت لإيجاد أساس عقلي للنزعة المطلقة، نظرية سبق لنا الإشارة إليها: «فالخير» كيفية لا تعرف، ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو أفعال أو مواقف معينة، وهي كيفية شبيهة بالكيفيات اللونية، كالأصفر مثلًا. وعلى الرغم من أن العالم الفيزيائي يستطيع تعريف الأصفر على أساس كمي (فيقول إنه كذا من الذبذبات في الثانية في أثير مفترض)، فإن أي لون يشكل، بالنسبة إلى تجربتنا المباشرة، معطى حسيٌّ لا يرد إلى غيره، ولا يمكن أن يعرف إلا بالتجربة. وكذلك فإن القيمة، (وهي في هذه الحالة، القيمة الأخلاقية) كيفية لا تعرف ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو مواقف معينة، مثلما تتصف الليمونة بالاصفرار.
الحجج المضادة للنظرة الكيفية: على الرغم من أن هدفنا ليس نقد النزعة المطلقة، وإنما عرضها بوصفها الموقف الذي ثارت عليه النزعة النسبية، فإن من المفيد مع ذلك أن نشير إلى حجة أو اثنتين وجهتنا ضد هذه النظرية الكيفية في «الخير». فمن الممكن أولًا أن يشير المرء إلى أن التشبيه باللون فاسد تمامًا. ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن اللون موضوعي كامن في الشيء (وهو أمر لا يقره إل القليل جدًّا من علماء النفس)، فلن يكاد يكون هناك وجه للمقارنة بين كيفيتَي «الخير» و«الأصفر». ذلك لأن المفروض أن كل شخص ذي إبصار سوي ستكون لديه نفس التجربة عندما ينظر إلى شيء أصفر. وبعبارة أخرى، فللأصفر، من حيث هو تجربة، مركز شامل يسري على الجميع. فهل يستطيع «الخير» أن يدعي أي مركز كهذا؟ على الرغم من أنه قد تكون هناك تجارب أو أشياء قليلة تعد «خيرًا» في نظر الجميع، وعلى نحو شامل، فإن عددها ضئيل جدًّا بالقياس إلى تلك الأشياء التي لا حصر لها، والتي لا يوجد حولها أدنى اتفاق. ومن هنا كان التشبيه باللون غير صحيح.
وهناك اعتراض ثان، ربما كان أخطر، على هذا الرأي القائل إن الخيرية كيفية أو صفة كامنة؛ ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن الخيرية كامنة في أشياء ومواقف معينة، فإن هذا التسليم لن يكون أساسًا كافيًا للإلزام الخلقي. ولنقتبس في هذا الصدد تلك الحجة المقنعة التي وردت في كتاب «ستيس Stace»:
إن كون الشيء يتصف بكيفية أو صفة، يفرض عليَّ إلزامًا عقليًّا أو نظريًّا محضًا بأن أعترف أن لديه هذه الكيفية. ولكن كيف يفرض على ذلك أي التزام بأن أسلك؟ ولم كان يتعين على أن أفعل شيئًا حياله؟ لو قيل لي أن زهرة معينة صفراء، ورأيت هذا بعيني، فعندئذٍ أستطيع أن أفهم أن أكون مضطرًّا إلى الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن هذه الزهرة الصفراء، بل إنني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك … فأنا مضطر إلى قبولها. ولكن هذا لا يمكنه أن يرغمني على أي نوع من الفعل. فهو لا يرغمني مثلًا على التقاط الزهرة. ولن أفعل ذلك إلا إذا كنت أحب الأزهار الصفراء، أو لدي أي ميل آخر يدفعني إلى التقاطها. وكذلك، فإذا قيل لي إن شيئًا أو فعلًا يتصف بصفة الخير، وإذا أدركت أنا ذاتي ذلك فإني أستطيع أن أفهم هذا سيرغمني على الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن «هذا خير»، ولكنه لا يمكن أي يفرض عليَّ إلزامًا عمليًّا أيًّا كان. وسأظل لا أفعل أي شيء، ما لم يحدث أن أكون ممن يحبون هذه الأشياء الخيرة. وفي هذه الحالة يكون ميلي هو الذي يدفعني، لا الحقيقة النظرية التي أوضحت لي.٥

(٥) الثورة على النزعة المطلقة

إن الموقف النسبي، كما أوضحنا من قبل، هو في أساسه ثورة على النزعة المطلقة. وهو أيضًا جزء لا يتجزأ من المزاج العقلي العام لعصرنا، فالنسبية في كل الميادين تبدو في نظر معظمنا «واضحة بذاتها»، مثلما كانت النزعة المطلقة بالنسبة إلى الأذهان في العصور الوسطى. والواقع أن المزاج النسبي يسود الفكر الحديث إلى حد أصبحت معه كل أشكال النزعة المطلقة — سواء منها العلمية أم السياسية أم الأخلاقية أم الدينية — تتخذ موقف الدفاع٦ ولما كنا قد كرَّسنا كل هذا الوقت لعرض وجهة نظر النزعة المطلقة، فسوف تبدو النسيبة، لحسن الحظ، مذهبًا يسهل وصفه.

ويمكن وصف النسبية، باختصار، بأنها مذهب يقف على طرفَي نقيض مع كل ما هو أساسي في النزعة المطلقة. فبينما النزعة المطلقة واحدية، فإن النسبية تميل بشدة إلى التعددية. وبدلًا من قانون أخلاقي واحد شامل ثابت، تقول النسبية بعدد كبير من هذه القوانين. وبدلًا من «خير» واحد، نجد هنا عددًا لا حصر له من حالات «الخير» فحسب. وبدلًا من «القيمة» بمعناها الشامل، نجد «قيمًا» فقط. وبالاختصار، فهذه المدرسة ترى أن كل خير نسبي، إما تبعًا لما تقول الجماعة إنه صواب، وإما تبعًا لما يشعر الفرد أنه صواب. وكل قيمة نسبية تبعًا للزمان والمكان والمدينة، وهي تتوقف على طبيعة النوع البشري وحاجات الكائن العضوي الفردي في داخل هذا النوع. أما الكلام عن «الخير» بوصفه شيئًا مستقلًّا عن هذه فلا معنى له. ويرى النسبي أن من المستحيل بوجه خاص، تجاهل طبيعة النوع الإنساني والاهتمامات الفريدة المميزة للبشرية. ولذا فإن كل ما يقوله أنصار المطلق عن «الخير الكوني» الذي يفترض أنه يسري على أي نوع يمكن تصوره من المخلوقات العاقلة، وضمنها أهل المريخ أو الملائكة، إنما هو محض هراء.

الأسس التاريخية للنسبية: لعل أفضل وسيلة لتكوين صورة واضحة عن النسبية هي بحث جذورها التاريخية وحججها الحالية. فبينما هذه النزعة كانت لها أسسها الوطيدة في اليونان القديمة — إذ إن السفسطائيين ربما كانوا أكمل مفكرين نسبيين عرفتهم الفلسفة حتى الآن — فإن تطورها الحديث قد بدأ مع عصر النهضة. وقد وصف عصر النهضة أحيانًا بأنه ثورة في جميع الميادين على النزعة المطلقة السائدة في العصور الوسطى. وعلى الرغم من أن في هذا الوصف تبسيطًا مفرطًا، فإنه ينطوي مع ذلك على قدر غير قليل من الصواب. ولكن من الغريب مع ذلك أنه، على الرغم من أهمية الحركات النسيبة في الميدانين السياسي والديني خلال فترة عصر النهضة، فلم يحدث تطور كبير للنسبية الأخلاقية حتى بعد أن توطدت فترة النسبية في سائر الميادين. فكما رأينا من قبل، ظل «كانت» حتى أواخر القرن الثامن عشر يسلم بأن هناك قانونًا أخلاقيًّا ملزمًا على نحو مطلق. كذلك فقد أوضحنا السبب الذي ظهرت من أجله النسبية الأخلاقية الحقة متأخرة إلى هذا الحد: ذلك لأن الانقسام الذي طرأ على المسيحية منذ عهد لوثر لم يكن يعني أي تراجع عن عقيدة التوحيد، وما دام هناك إله مطلق ذو إرادة مطلقة يفترض دون مناقشة، فسيكون من المحتم الإيمان بمعيار أخلاقي مطلق، يسود الكون بأسره.

ومع ذلك فقد حدثت خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة عدة أمور جعلت امتداد النسبية إلى ميدان الأخلاق أمرًا لا يقل عن ذلك النمو الهائل في العلم. ولقد كانت النتيجة النهائية لهذا النمو هي جعل الإيمان بألوهية واحدية، أو بنظام مطلق من القيم، أصعب مما كان في أيام «كانت». والعامل الثاني الذي أدى إلى ظهور النسبية الأخلاقية هو بداية عهد علم اجتماعي وتطور علم آخر: فقد ظهرت تلك الدراسة العلمية التي نطلق عليها اسم الأنثروبولوجيا، كما أن التاريخ أصبح يرتكز على أساس متين من البحث والدراسة. وقد أدى هذان المبحثان إلى تكديس مجموعة رائعة من المعلومات حول موضوع تغير العادات البشرية والمعايير الأخلاقية، بحيث لا يجد المرء مفرًّا من أن يستشف نزعة من هذه الأدلة التراكمية. وثالثًا فإن لنظرية التطور نتائج نسبية؛ إذ إنها توحي بأن المعايير الأخلاقية قد تطورت مع المجتمع والنظم البشرية. ومثل هذا التطور الأخلاقي ينطوي بدوره على القول بأن التغير أساسي للأخلاق مثلما أنه أساسي للبيولوجيا، والتغير يؤدي منطقيًّا إلى إنكار أي معيار مطلق.

الحجج المنطقية: وهناك، بالإضافة إلى هذه الحجج العلمية والتاريخية المؤيدة للنسبية، حجج أخرى متعددة ذات طابع منطقي بحت. فهناك أولًا تلك الحقيقة القائلة إن كل أخلاقية تبدو مبنية على استجابة انفعالية — أو بعبارة أدق، على تفضيل انفعالي. وتشكل وجهة النظر هذه هجومًا حادًّا على النزعة العقلية المطلقة عند مفكرين مثل «كانت». وعلى الرغم من أن هذا الرأي المبني على فكرة الانفعال ليس مقبولًا لدى جميع النسبيين، فإنه قام بدور هام في جعل النزعة المطلقة تقف موقف الدفاع؛ ومن هنا يستحق عرضًا موجزًا. هذا الرأي يقول باختصار أن كل ما ينظر إليه الناس بعين الموافقة، أو كل ما يثير استجابة انفعالية سارة، يسمى «خيرًا». وكل ما يثير البغضاء أو الغيرة أو الاشمئزاز يرفض بوصفه «خطأ» أو «شرًّا». ومع ذلك، فلما كانت الانفعالات متغيرة، سواء من فرد إلى فرد، أو من لحظة إلى لحظة في الفرد الواحد، فإنه يترتب على ذلك أن تكون التقويمات الأخلاقية بدورها متغيرة وشخصية. فالشيء الذي يبعث التقزز في شخص معين، قد لا يؤثر في شخص آخر؛ ومن هنا فإن ما يراه الأول لا أخلاقيًّا أو «شريرًا» لن يراه الثاني أمرًا أخلاقيًّا على الإطلاق. وقد يحدث بالمصادفة أن يراه المشاهد الثاني أمرًا طريفًا، لا أمرًا يدعو إلى التقزز، وعندئذٍ يؤدي إلى حدوث استجابة «طيبة»، أو «خيرة»، ما دام الشعور بطرافة شيء ما هو قطعًا تجربة سارة.
أما الحجة المنطقية الثانية للنسبي فربما كان جميع أنصار هذا المذهب يقبلونها. هذه الحجة تشير إلى أن أي قانون أخلاقي مطلق ينطوي على التزام مطلق بأن من الواجب إطاعة القانون. فهناك دائمًا أمر موجود ضمنًا في أية صورة من صور النزعة المطلقة في الأخلاق. كما رأينا من قبل، فليس في المذهب المطلق أي عنصر شرطي؛ فهو لا يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك إذا أردت أن تعيش سعيدًا»، وإنما هو أمر مطلق يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك». ولهذه الصيغة نفس تأثير الأمر «أد واجبك!» غير أن كل الأوامر تنطوي على مصدر للسلطة، وكل إلزام يقتضي شخصًا يلزم.٧ وهكذا فسرعان ما نجد أنفسنا غارقين في المشكلة الصعبة المتعلقة بمصدر الإلزام الخلقي أو أساسه. وحسبنا الآن أن نشير إلى أن النسبي ينكر وجود أية سلطة أو أي أمر كهذا. فهو لا يمل أبدًا من الإشارة إلى أن أحدًا لم يتمكن، تاريخيًّا، من أن يكتشف أساسًا موضوعيًّا للإلزام الأخلاقي. ومن المؤكد أن صاحب المذهب المطلق أصبح، منذ انهيار سلطة العقيدة الدينية، يجد من الصعب محاولة إثبات مصدر للأمر المطلق. ذلك لأنه لم يكن من الصعب تحديد الفاعل الآمر، ما دام الناس جميعًا يقبلون سلطة الكنيسة ويؤمنون بإله قادر على كل شيء، ذي إرادة مطلقة. ولكن، أمن الممكن إيجاد أساس دنيوي مماثل، يحل محل هذا الأساس الديني؟ هذا هو السؤال الذي يحاول نصير فكرة المطلق أن يجيب عنه بالإيجاب، وإن يكن النسبي يؤكد أنه لا يجاب عليه إلا بالنفي.

(٦) نتائج النسبية

من المرجح أن كل ما قلناه عن النسبية حتى الآن يجد قبولًا لدى معظم القراء. ومع ذلك فإننا لم نكشف حتى الآن إلا عن الجانب الإيجابي لوجهة النظر هذه. ومن سوء الحظ أن للموقف النسبي نتائج معينة تحول بين معظم المفكرين وبين قبوله حتى بعد أن يكونوا غير راضين عن النزعة المطلقة.٨ ولا بد من فهم بعض هذه النتائج قبل أن نحاول الاختيار بين الموقفين، أو قبل أن نشرع في وضع صيغة معينة توفق بينهما.

إن الجميع يعلمون أن الممارسة الأخلاقية نسبية، والكثيرون يتوسعون في هذه الحقيقة وينظرون إلى كل المعايير الأخلاقية على أنها نسبية. ومع ذلك فإن القائل بالنزعة المطلقة يكون واثقًا أن أي شخص عاقل لا بد أن يقبل النتائج المنطقية لمثل هذا التوسع. فهو أولًا يعني (في رأي المذهب المطلق) أنه لا يمكن أن يكون هناك معيار للحكم على قانون أخلاقي معين بأنه أفضل أو أسوأ من الآخر، أو أعلى منه أو أدنى. فلن تكون هناك عندئذٍ أسس سليمة لتقويم السلوك، فيما عدا اتفاقه مع العرف المحلي أو القومي. ولنتأمل النتائج الكاملة لهذا الموقف: فإذا كان كل «خير» أو «صواب» نسبيًّا تبعًا للزمان والمكان والظروف، وإذا كان سلوك الرجل الشرقي «صوابًا» ما دام يتفق مع المعايير الشرقية، وسلوك الرجل الغربي صوابًا إذا كان يرضي أمزجة الغربيين، فعندئذٍ يمكن القول إن الالتجاء إلى التعذيب في عدالة العصور الوسطى كان صوابًا، وأن المحاولات التي بذلت لإبطال عادةِ الهنود في دفن الأرامل بعد موت أزواجهن كانت محاولات خاطئة. ويواصل أنصار المطلق كلامهم فيقولون إن هناك نتيجة ثانية للنسبية، هي أن من المستحيل وجود تقدم أخلاقي في ظل معيار نسبي. فكيف نقول إن إلغاء الرق كان «خيرًا» أو أن إنهاء الحروب سيكون «خيرًا»، أو أن الأخلاق التي دعا إليها المسيح «أرفع» من تلك التي جاءت في العهد القديم؟ وثالثًا فلماذا يحاول أي شخص أن يحيا حياة أخلاقية «أفضل»؟ «أفضل» من أي شيء؟ إننا نستطيع أن نقول إن السلوك الأخلاقي لشخص معين قد ازداد اقترابًا من معايير عصره أو مجتمعه، أو نقول إنه يسلك الآن بطريقة تزيد من سعادته أو من رضا المجتمع عنه. ولكن ما لم يكن هناك معيار مشترك، شامل (أعني غير نسبي) يغدو أي حديث عن «الأفضل» أو «الأسوأ»، وعن «الأعلى» أو «الأدنى» يغدو لغوًا، بل إن لنا أن نتساءل: ما الذي يمكن أن تعنيه ألفاظ مثل «الصواب» و«الخطأ» في مذهب يلتزم النسبية بدقة؟ من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون ذات معنى له أدنى صلة بما كانت هذه الألفاظ تعنيه في الماضي.

هل هناك أي بديل غير المذهب المطلق؟ هناك بعض المفكرين الأخلاقيين اللذين يبدون استعدادهم لقبول هذه النتائج الفوضوية التي تترتب على النسبية الأخلاقية الكاملة. ومع ذلك فإن أشد دعاة هذا الرأي تحمسًا كانوا هم في العادة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، الذين تقتصر مهمتهم على ملاحظة أنماط السلوك وتصنيفها. ولقد حاول مفكرون آخرون أن يهتدوا إلى طريق وسط بين الطرفين النسبي والمطلق. وقد تحقق لهم ذلك أحيانًا عن طريق إنكار وجود أي أساس كوني «للخير». وفي هذه الحالة تفصل الأخلاق عن الميتافيزيقا، ويكون علينا أن نقتصر على نوع إنساني بحت من النظرية الأخلاقية. وهناك طريقة ثانية لحل هذه المشكلة، وهي طريقة قد تكون أفضل من الأولى، هي الفصل بين المذهب المطلق وبين الشمول. ويتم ذلك عن طريق إيجاد أساس نفسي أو بيولوجي للأخلاق: فنحاول وضع قانون يكون شاملًا للناس جميعًا، على أساس أن لهم، بحكم انتمائهم إلى نوع واحد، طبيعة بيولوجية مشتركة (وكذلك طبيعة نفسية مشتركة إلى حدٍّ بعيد). ولا بد لوجهة النظر هذه أن تذهب إلى أن أوجه الشبه بين الناس أهم بكثير من أوجه الاختلاف بينهم. وبذلك تكون هناك بين الأفريقي غير المتمدين وبين الأوروبي أو الأمريكي الحديث، عناصر مشتركة من الرغبات والميول ودوافع الإرضاء الممكنة تسمح لنا بوصف حياة «خيرة» تسري على البشر أجمعين. وما إن نحدد هذه الحاجات المشتركة وهذا الصالح العام، حتى يمكن — بل يجب — أن تندرج في هذا الإطار كل تقويمات «الخير» أو «الشر»، بحيث يكون الشيء أو الموقف «خيرًا» إذا كان يشبع حاجة من تلك الحاجات البشرية الشاملة، ويكون السلوك «صوابًا» إذا كان يحقق الصالح المشترك الذي يسري على الناس جميعًا بحكم اشتراكهم في صفة الإنسانية.

(٧) تصنيف القيم

بذلت محاولات متعددة، مستقلة بدرجات متفاوتة عن هذه المشكلة الأساسية المتعلقة بمكانة الخير، لتصنيف القيم بالنسبة إلى معايير أو نقاط ارتكاز متباينة. وكانت هذه التصنيفات عادةً تتخذ شكل سلسلة من الأزواج المتقابلة، كالقيم الكامنة Intrinsic في مقابل الوسيلية Instrumental والقيم العليا في مقابل الدنيا، والثابتة في مقابل المتغيرة … إلخ. ومع ذلك فليست لكل هذه الأزواج من القيم أهمية متساوية؛ ولذا سنقتصر على الكلام عن تلك التي يشيع النظر إليها على أنها أساسية.
  • (١)
    القيم الكامنة والقيم الوسيلية: ينعقد الإجماع على أن التقابل الأساسي في أي تصنيف للقيم هو التقابل بين القيم الكامنة والقيم الوسيلية. وقد أتيحت لنا من قبل فرصة الإشارة إلى هذا التقسيم في فصول سابقة. ويمكن القول باختصار أن القيمة الكامنة هي تلك التي لا تخدم غاية معينة؛ أي تلك التي لا تستمد دلالتها من كونها وسيلة لغاية معينة أخرى. فهي خير في ذاتها وبذاتها ولذاتها، دون إشارة إلى قيمة أخرى أشمل منها. وربما كان أفضل مثل للخير الكامن هو «السعادة». فمن الواضح أننا لا ننشد السعادة من أجل أي شيء غير السعادة؛ أي إننا لا نطلب السعادة من أجل الحصول على شيء غيرها. فهي ليست وسيلة لأي شيء خارج عنها، وإنما تكون لها قيمتها دون إشارة إلى أي شيء غيرها.

    وفي مقابل هذه القيمة الكامنة توجد معظم الأمور التي نسميها عادةً «خيرًا». وأن التحليل ليبين أن معظم الأشياء التي ننشدها، أو المواقف التي نسعى إلى تحقيقها، لا تكون لها قيمة عندنا إلا من حيث هي وسيلة لبلوغ شيء له قيمة كامنة أو باطنة. وأوضح مثل لهذا الخير «الوسيلي» هو المال. فمن الواضح أن المال لا تكون له قيمة إلا من حيث هو وسيلة لكثير من الأمور المرغوب فيها في الحياة. ولا يمكن أن يعده أحد، فيما عدا البخيل، خيرًا في ذاته، أو شيئًا يكتسب ويكدس دون نظر إلى الحاجة التي يلبيها أو الرضا الذي يمكنه أن يجلبه.

    مشكلة القيم الكامنة: يستطيع المفكر الأخلاقي أن يدرك بسرعة أن هناك ثلاثة أمور تنطوي عليها أية علاقة بين القيم الكامنة والوسيلية. الأول هو أن القيم التي هي كامنة بحق قليلة جدًّا. وقد انتهى بعض الثقات إلى أنه قد لا تكون هناك إلا قيمة كامنة واحدة فحسب، بل لقد أنكروا أن تكون هناك أية قيمة يمكن تصنيفها على أنها كامنة بالمعنى المطلق. وثانيًا، فمن الضروري تعويد أنفسنا على التمييز الدقيق بين فئتَي القيم هاتين إذا شئنا أن ننظم حياتنا وأوجه نشاطنا الأخلاقي بحكمة. وأخيرًا فإن الفيلسوف، شأنه شأن أي شخص مفكر، يدرك بألم صعوبة احتفاظ معظم الأشخاص، ومنهم هو ذاته، بهذا التمييز في أذهانهم. ذلك لأن الناس جميعًا يميلون إلى الخلط بين فئتي الخير، وكثيرًا ما نسلك وكأن هدفنا المباشر (الذي يكاد في كل الأحوال يكون قيمة وسيلية فحسب) يتميز بالأهمية القصوى التي تتصف بها القيمة الكامنة الحقيقية. فمن السهل أن ننسى أن معظم الأشياء التي نفعلها لا يكون لها معنى إلا لأنها تخدم غاية أوسع منها، «كالسعادة» أو «الرضا» أو «راحة الضمير».

    ولقد رأى بعض المفكرين أن التمييز بين الخير الكامن والخير الوسيلي هو التمييز الرئيسي في الأخلاق. ومن المؤكد أنه لا يكاد يكون هناك تمييز أهم منه بالنسبة إلى البحث النفسي في الإرضاء أو الإشباع. وعلى هذا الأساس تكون «الحياة الخيرة» هي التي تؤدي إلى أقصى حد من الخير الكامن، وفي الوقت ذاته تنظم القيم الوسيلية على أساس أنها تخدم القيم الكامنة. والمشكلة الرئيسية في كل حياة نود أن نعيشها بحكمة، هي أن نقرر ما له قيمة كامنة، ثم ننظم حياتنا على أساس تحقيق هذا الشيء وحده ونرفض أن نخضع لإغراء تبديد وقتنا وطاقتنا سعيًا وراء الوسائل المجردة وكأنها غايات الحياة أو أهدافها.

  • (٢)
    القيم العليا والدنيا: أما التصنيفات الأخرى الممكنة في مجال الأخلاق، فتبدو أقل أهمية بالقياس إلى تقسيم القيم إلى كامنة ووسيلية. والواقع أن مجرد الاكتفاء بالإشارة الموجزة إليها كافٍ لتحقيق غرضنا، الذي هو إعطاء القارئ فكرة عامة عن ميدان الأخلاق بدلًا من أن نعرض عليه تفاصيل هذا اليدان، وهناك كاتب مشهور في ميدان الأخلاق، هو و. م. إيربان W. M. Urban، يصنف القيم على أنها عضوية (أي جسمية واقتصادية وترويحية)، وفوق العضوية (أي الشخصية والعقلية والجمالية والدينية).٩ وهناك تقسيم آخر مماثل، ولكنه أشهر إلى حد ما، هو تقسيم القيم على أساس الأعلى والأدنى. ولكن من سوء الحظ أنه لا يوجد دائمًا اتفاق حول تحديد موضع التقسيم بدقة، كما أنه ليس من الممكن التعبير على نحوٍ مُرضٍ عن الأساس الدقيق لهذه القسمة الثنائية. ومع ذلك فمن المتفق عليه عامة أن القيم العليا أرق، وأدق، وأرهف، وأنفس، وأنها تفترض القيم الدنيا التي لا يمكن أن تظهر العليا بدونها.١٠ أما الدنيا فلا تعتمد على العليا. مثال ذلك أن القيم العقلية تفترض القيم الجسمية، بل والاقتصادية، غير أن الصحة والدخل الكافي لا يتوقفان على حب المعرفة أو عشق الحقيقة.
    وعلى الرغم من أن هذا التمييز بين القيم العليا والدنيا كان أمرًا مألوفًا شائعًا في المناقشات الأخلاقية في القرن التاسع عشر، فإن هذين اللفظين لم يعودا اليوم يحوزان رضا المفكرين الأخلاقيين. وقد يكون من الممكن تعريف فئتي القيم هاتين على نحو يجعلهما تحوزان قبولًا أوسع في الوقت الحالي، ولكن حتى لو اقتصرنا على الاستخدام الدقيق لهما فسوف ينطويان حتمًا على ثنائية أخلاقية. وهذه الثنائية تبلغ في بعض الأحيان حدًّا من التطرف يؤدي إلى ظهور النزعة التطهرية Puritanism والنزعة الزاهدة نتيجة لها. فمن السهل التوحيد بين القيم الدنيا وبين الإشباع المادي بكل أنواعه، على حين أن القيم العليا تصبح تلك التي لا تشوبها أية شائبة مادية. هذه التفرقة تنطوي ضمنًا على القول إن أي إرضاء مادي لا يمكن إلا أن يكون «أدنى»، على حين أن كل القيم المرتبطة بأعمال الإنسان في المجال الذهني والروحي تضمن لنفسها مكانة «عالية».

    وربما كان الاعتراض الرئيسي الذي يوجه إلى هذا التصنيف راجعًا إلى الألفاظ المستخدمة ذاتها. «فالأعلى» و«الأدنى» هما بالطبع محايدان غير تقويميين، عندما يستخدمان في معناهما الأصلي للدلالة على العلاقات المكانية. ولكن لفظ «الأدنى» عندما يستخدم في الأخلاق يعبر دائمًا عن نوع من التحقير؛ إذ إنه يوحي بقيمة أقل جدارة أو نبلًا أو نقاء مما نفترض أن القيم «العليا» تكون عليه. ولو لم يكن اللفظان مرتبطين بالجسم من جهة والروح من جهة أخرى، لما أثيرت ضدهما اعتراضات ذات بال. أما بالطريقة التي يستخدمان بها عادة، فإنهما يدلان على تقابل ثنائي — بل على صراع — بين البدن والروح، وهو تقابل لم يعد الفكر المعاصر يسلم به.

  • (٣)
    القيم الاشتمالية والاستبعادية: هناك تمييز آخر أوضح وأقل إثارة للخلاف، هو التمييز بين القيم الاشتمالية Inclusive والاستبعادية Exclusive. مثال ذلك أن القيم الاقتصادية تكون عادةً استبعادية؛ إذ إن امتلاكي يحول بينك وبين كل شخص من أن يمتلك نفس هذه الأشياء. وفي مقابل ذلك نجد أن قيمة مثل الدعابة ليست قيمة يمكن أن يشترك فيها الناس فحسب، بل إنها قد تزيد إذا أمكن أن يشترك شخص آخر أو أشخاص آخرون في موقف الدعابة. ففي صالة العرض السينمائي أو المسرحي مثلًا نجد في كثير من الأحيان أن الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم بعضًا ينظرون بعضهم إلى بعض عندما يضحكون على شيء على خشبة المسرح أو على الشاشة، والسبب الواضح لذلك هو أنهم يجدون أن رغبتهم في الضحك تزيد عندما تقع عيونهم على عين جارهم. وهناك مثال آخر للقيمة الاشتمالية، هو الاستمتاع بالجمال. فمعظمنا يجد هذه اللذة أعظم بكثير عندما يكون في استطاعتنا مشاركة غيرنا في التجربة الجمالية. ولا بد أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين يؤدي وجودهم إلى تقوية شعورنا بالجمال — لسبب ما غريب — أشخاصًا لا نحبهم، وذلك على العكس مما يحدث في حالة الدعابة أو الضحك، الذي قد يؤدي وجود غرباء عارضين فيه إلى زيادته كثيرًا (كما ذكرنا منذ قليل). وفضلًا عن ذلك فيبدو أن قيمة الجمال تتناسب طرديًّا مع درجة ميلنا إلى زملائنا في التجربة المشتركة: وكلنا نلاحظ التأثير الهائل للجمال في المحبين. وكلنا نعلم بنفس المقدار مدى الكآبة التي تلقي ظلها على الموقف الجمالي نتيجة لوجود أشخاص نكرههم.
  • (٤)
    القيم الدائمة والقيم العابرة: هناك تصنيف آخر للقيم يميز بين القيم الدائمة والعابرة. وعلى عكس ما قد نتوقع، فليس صحيحًا أن القيم الدائمة ينبغي تفضيلها دائمًا على القيم العابرة. ففي حالة اللذة الجسمية مثلًا، نجد أن الشدة مصحوبة بقصر الأمد قد تكون مفضلة على الاعتدال المقترن بالامتداد الزمني. فلا شك أن جرعة ماء بالنسبة إلى شخص يموت من العطش تفوق وقت شربها كل القيم الدائمة للفن والدين مجتمعين. وبعبارة أخرى فنحن لا نكون حكماء بحيث نفضل قيمة دائمة على قيمة عابرة إلا إذا كانت القيمتان متساويتين في كل النواحي الأخرى. فمن الواضح أن تفضيل القيمة الدائمة واجب إذا كانت الأمور الأخرى متساوية. ولكن من سوء الحظ أن من الصعب في كثير من الأحيان إيجاد موقف تتساوى فيه كل الأمور الأخرى، لا سيما فيما يتعلق برغباتنا. ففي أغلب الأحيان يكون العصفور الموجود في اليد خيرًا من عشرة على الشجرة، ولا بد من حكمة أخلاقية كاملة لتفضيل القيمة الدائمة في المستقبل على الخير المعترف بأنه عابر، والذي يوجد أمامنا مباشرة، وينتظرنا لنستمتع به في اللحظة الراهنة.

(٨) السلم المتدرج للقيم: «الخير الأسمى»

يوحي هذا التحليل لمختلف أنواع القيم بأنه قد يكون من الممكن والمفيد ترتيب ما لدينا من أشياء خيرة في سلم متدرج. وفي هذه الحالة يرجح أننا سنضع الأكثر اشتمالًا في مكانة تعلو على الأقل اشتمالًا، ونغلب على الأعلى على الأدنى، والدائم على العابر. والأهم من ذلك كله أننا سنضع الكامن قبل الوسيلي. وكما لاحظنا من قبل، فالقيم الكامنة بحق قليلة جدًّا، وبدلًا من ذلك، يتضح لنا أن معظم الأشياء التي نسميها «خيرًا» لا تكون لها قيمة إلا من حيث هي وسيلة لخير آخر أشمل منها، وهذا بدوره يتبين أنه ليس إلا وسيلة لخير آخر أبعد مدى. وهكذا يكون لدينا حتمًا سلم متدرج من القيم. ولا بد لأي سلم كهذا من أن تكون هناك قيمة من نوع ما، وهكذا نصل إلى مفهوم القيمة العليا أو الخير الأسمى، الذي يشتهر عادةً باسمه اللاتيني Summum Bonum. وإذن فمشكلة «الخير» (متميزة عن مشكلة الإلزام) تؤدي آخر الأمر إلى البحث عن الخير الأسمى، وتحقيق الحياة الخيرة يغدو إلى حدٍّ بعيد تنظيمًا لكل القيم الأخرى في صلتها بهذا الحد الأخلاقي الأقصى.
شروط «الخير الأسمى» بمعناه الصحيح: ماذا ينبغي أن تكون عليه خصائص الخير الأسمى إن شاء أن يكون أقصى خير وأرفع هدف للحياة؟ أول شرط مؤكد، هو أنه ينبغي أن يكون خيرًا كامنًا لا شك فيه. فلا بد أن يكون من شأنه أن يظل في إمكاننا أن نقول بصدده، بعد أدق تحليل ممكن، «هذا خير، لا بالنسبة إلى س أو بوصفه وسيلة ﻟ… ص، بل في ذاته فحسب». وهناك صفة ثانية ينبغي أن يتصف بها أي خير أسمى ممكن، هو أن يكون نطاقه شاملًا لكل شيء — أي أن يبلغ من الشمول ما يكفي لكي تندرج تحته كل أوجه نشاطنا بوصفها وسائل لتحقيقه. وأهمية هذا الشرط واضحة: فلو كانت هناك أوجه نشاط تستهدف تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها به — أعني أهدافًا لا تصبح بدورها وسائل لخيرنا الأسمى المفترض — فمن الواضح أننا لا نكون عندئذٍ إزاء خير أسمى شامل، بل نكون إزاء خير وسيلي من نوع ما.١١

وهناك صفة ثالثة ينبغي أن يتميز بها كل خير أسمى، هي إمكان تحقيقه جزئيًّا على الأقل، ذلك لأن المثل الأعلى للقيم، الذي يبلغ من الرفعة حدًّا يجعل من المستحيل تحقيقه ولو بصورة جزئية، لن تكون له إلا صلة عملية واهية بالحياة البشرية. ولكن ينبغي أن يلاحظ أن الخير الأسمى لا يشترط فيه أن يكون من الممكن بلوغه كاملًا. فيكفي أن يشعر الناس بإمكان تحقيقه بما يكفي لتبرير تكريس الحياة من أجل بلوغ هذا الهدف. كذلك فإن الاعتبارات العملية توحي بأن أية قيمة نرشحها لتكون خيرًا أسمى، ينبغي أن يكون من الممكن بناء خطة للحياة حولها. فإذا كان المثل الأعلى أكثر غموضًا أو تجريدًا مما ينبغي، وإذا كان يقتضي التضحية بتلك اللذات اليومية القليلة التي تبدو لازمة لكي نحس بأننا نحيا حياة طيبة، أو إذا كان يبلغ من طول المدى حدًّا لا نرى معه لجهودنا نتائج مباشرة، فعندئذٍ يصبح لا قيمة له كمثل أخلاقي أعلى. وهذا هو النقد الذي وجه في كثير من الأحيان إلى بعض المثل العليا التي اقترحها الفلاسفة واللاهوتيون. فقد يكون في استطاعة الخير الشامل (أو السماء في حالة اللاهوت) أن ينتظر، ولكن لا بد للإنسان خلال ذلك أن يستمتع بشيء من الرضا والإشباع.

والآن وقد حددنا شروط الخير الأسمى، وأوضحنا بإيجاز العلاقة العامة بين أي حد نهائي أخلاقي كهذا وبين تجربتنا الكاملة، فلنعد إلى بحثنا لمختلف القيم المرشحة لنيل هذا الشرف الرفيع.

١  هذا المثل مقتبس من كتاب «أساسيات الأخلاق Fundamentals of Ethics» تأليف، «إيربان Urban»، الذي اقتبسه بدوره من كتاب «القيم الأخلاقية وفكرة الله Moral Values & the Idea of God»، تأليف «سورلي Sorely».
٢  وهذا يصدق أيضًا على القيم الجمالية، كما سنرى في فصلٍ تالٍ. وفي هذه الحالة الأخيرة يقال إن الجمال كامن في الموضوع ذاته؛ ومن ثَم ففي إمكاننا صياغة معايير موضوعية للجمال بنفس الطريقة التي يمكننا بها وضع معايير موضوعية للخير.
٣  إنني مدين لكتاب «مفهوم الأخلاق The Concept of Morals» من تأليف «ستيس Stace» بهذه الآراء في مصادر النزعة الأخلاقية المطلقة. ذلك لأن الفصلين الأولين من كتابه هذا يتضمنان أوضح عرض يمكن تصوره للتقابل بين النزعة النسبية والنزعة المطلقة.
٤  انظر «ستيس Stace» المرجع المذكور.
٥  ستيس. المرجع السابق.
٦  ينبغي أن يلاحظ مع ذلك أن الحرب العالمية الثانية كانت، جزئيًّا على الأقل، صراعًا بين النسيبة السياسية (أي الديمقراطية) وبين نزعة سياسية مطلقة بعثت من جديد (هي النزعة الشمولية).
٧  انظر: ستيس، المرجع المذكور.
٨  بذلت عدة محاولات لاتخاذ وجهة نظر تتوسط بين الطرفين. غير أن ضيق المكان لا يسمح لنا بعرض تفاصيل هذه المواقف الوسطى، لا سيما أن الكثير منها يصعب فهمه إلى أبعد حد. ولما كانت المعرفة التاريخية قد دارت (وما زالت تدور إلى حدٍّ بعيد) بين الموقفين الأكثر تطرفًا، فحسبنا أن يفهم الطالب هذين الموقفين بوضوح.
٩  «أساسيات الأخلاق Fundamentals of Ethics» ويلاحظ أن تصنيف إيربان إنما هو تحسين لفئات القيم المألوفة، التي نجد قائمة لها في الفصل السابع من كتاب «القيم الأخلاقية Moral Values» من تأليف «و. ج. إيفرت W. G. Everett».
١٠  انظر: و. ﻫ. روبرتس: مشكلة الاختيار: W. H. Roberts: The Problem of Choice.
١١  والمخرج الوحيد من هذه النتيجة هو القول بإمكان وجود أكثر من خير أسمى واحد. وقد اقترح الكثيرون هذه الفكرة، وليس هناك من سبب منطقي لاستبعادها. ومع ذلك فلما كانت فكرة الخير الأسمى الواحد هي التي سادت التفكير الأخلاقي تاريخيًّا، فلن نكون قد وقعنا في خطأ التبسيط المخل إذا قصرنا مناقشتنا على مختلف الآراء القائلة بواحدية الخير الأسمى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤