الفصل الرابع عشر

الحتمية في مقابل اللاحتمية

ما مدى حرية الإنسان؟
رأينا أن تحليل مفهوم الإلزام يؤلف قدرًا كبيرًا من التفكير النظري الأخلاقي. فمن أين تأتي «وجوبية» الوجوب؟ وما واجبنا؟ ولم كان واجبًا علينا؟ ولم كان ينبغي علي أن أؤدي واجبي؟ هذه الأسئلة، مضافة إلى تلك التي تتركز في مشكلتَي الخير الأسمى والحياة الخيرة، تدل على أن الأخلاق دراسة معيارية Normative تختص بتعريف معايير أو مقاييس معينة.
ومن بين المسلَّمات الأساسية التي يتعين على أية دراسة معيارية أن تأخذ بها، ما يطلق عليه اسم «مصادرة الإمكان Postulate of Possibility». هذه المصادرة ترى أن المعايير التي نضعها لأي ميدان ينبغي أن تكون قابلة للتحقيق إلى حد ما. وقد ظللنا حتى الآن نأخذ بهذه المسلَّمة خلال مناقشتنا للمشكلة الأخلاقية؛ إذ إننا قد سلمنا بأن الإنسان يستطيع تحديد طبيعة السلوك المثالي، ثم تحقيق هذا المثل الأعلى — جزئيًّا على الأقل. ولكن الوقت قد حان الآن لكي نعترف بأن هذه مسلَّمة جريئة جدًّا. أعني مسلَّمة قد لا يكون لها أساس من الواقع. ونحن إذ ندلي بهذا الاعتراف إنما نقر بأننا قد سلمنا أيضًا بشيء له في الأخلاق مكانة أساسية تفوق مكانة المسلَّمة السابقة ذاتها. فنحن قد افترضنا طوال الفصلين السابقين أن الإنسان فاعل حر؛ أي إنه سيد إرادته، والمتحكم الوحيد في أفعاله، وصانع مصيره الأخلاقي الخاص. وبالاختصار، فنحن قد سلمنا بحرية الإرادة، متجاهلين إمكان أن تكون أفعال الإنسان محددة بدقة عن طريق قوانين العلة والمعلول، شأنها شأن حركات الصخرة حين تهوي. فقد ظللنا طوال الوقت نتجنب مشكلة من أكبر المشاكل الشائكة في الفلسفة، وأعني بها مشكلة الحتمية في مقابل اللاحتمية؛ لذلك فسوف نخصص الجزء الأكبر من هذا الفصل لتلافي هذا النقص.

(١) تاريخ النزاع حول حرية الإرادة

تتبعنا، في مناقشتنا المبدئية لمشكلات الفلسفة (الفصل الأول) الأصول التاريخية للنزاع حول الحتمية. وبيَّنَّا كيف أن مبدأ العِلِّية قد أخذ يمتد تدريجيًّا ليشمل ميدانًا تلو الآخر، فقد أخذ نطاق مبدأ العِلِّية يتسع، منذ صياغته الأولى في أبسط قوانين الميكانيكا، حتى أصبحت تدخل في إطاره آخر الأمر ميكانيكا الوراثة ذاتها. ذلك لأن استتباب النظام والقانون العلمي قد أدى في البداية إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب. وعندما تبين أخيرًا أن سلوك الحيوانات يمكن التنبؤ به على الأقل، وكشفت نظرية دارون عن تلك العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، بدا كأن الزحف المطرد للحتمية قد بلغ أقصى مداه. فقد تبين عندئذٍ أن كل الحوادث في المجال الطبيعي هي نتائج مباشرة لحوادث سابقة، وأن الظواهر الواقعة في نطاق تجربتنا تكاد كلها تكون قابلة للتفسير (أو يلوح أنها ستكون قابلة للتفسير) على أساس قوانين العلة والمعلول الصارمة. وظهر بوضوح متزايد أن العمل الرئيسي للعلم إنما هو صياغة هذه القوانين العِلِّية. واقتنع العلماء أنفسهم بأن في استطاعتهم تلبية كل ما يطلبه الذهن من تفسيرات، وذلك إذا أمكنهم إعلان الاندماج التام بين مختلف أوجه تجربتنا في نسق واحد هائل من علاقات العلة والمعلول. وفي هذه الأثناء، ازداد الفلاسفة اهتمامًا بمشكلة العِلِّية، وأصبحوا بدورهم يشعرون بأن مفهوم «العلة» مفهوم رئيسي في التجربة البشرية. وهكذا أصبح نطاق الحتمية، عند نهاية القرن التاسع عشر، يكاد يكون شاملًا.

ومع ذلك فقد ظلت هناك قطعة أخيرة صغيرة من الأرض التي لم يتم غزوها، فقد ظل الإنسان ذاته خارج نطاق القانون العِلِّي. وكانت «الطبيعة البشرية» لا تزال شيئًا منعزلًا عن «الطبيعة»؛ إذ إنها كان تعد مستقلة عن مبدأ الحتمية. وبالاختصار، فقد كان ينظر إلى الإنسان على أنه استثناء. ومهما يكن من أحكام السلاسل العِلِّية التي تربط بقية الكون، فإن أفعال الإنسان ودوافعه كانت تعد حرة إلى حد ما: ذلك لأن في استطاعته في أي وقت أن يتخذ قرارًا أو يؤدي عملًا لا صلة له بقراراته أو أعماله السابقة. صحيح أن سلوك الحيوان يبدو مجرد استجابة للقوى المادية (التي تسمى بالمنبهات)؛ وبالتالي فإن كل فعل تقوم به هو فعل عِلِّي. غير أن الإنسان يستطيع على ما يبدو أن يسبب أفعاله الخاصة، أما بكسر سلسلة عِلِّية مستمرة بالفعل، وإما ببدء سلسلة جديدة من أول الأمر.

أنصار فكرة التحدد في العصور السابقة: ظهرت، قبل نهاية القرن التاسع عشر بفترة طويلة، احتجاجات قوية على هذه النظرة إلى الإنسان بوصفه استثناء من المبدأ العِلِّي الشامل، غير أن أصحاب هذه الاحتجاجات كانوا أقلية ضئيلة. ففي العصر اليوناني القديم قال مفكرون ماديون مثل ديمقريطس بشمول هذا المبدأ. وكان أول مذهب حديث في الحتمية الفلسفية هو مذهب الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز»، الذي صيغ في أواسط القرن السابع عشر. غير أن أعظم الحتميين المحدثين كانوا اسبينوزا، الذي توفي عام ١٦٧٧م.

وقد وصفنا من قبل هذا الفيلسوف اليهودي العظيم بأنه كان منبوذًا من أبناء طائفته ومن المسيحيين المتمسكين معًا، وينبغي أن نشير الآن إلى أن مذهبه الحتمي ربما كان هو الذي أدى إلى طرده من الديانة اليهودية أكثر من إلحاده المزعوم ذاته. وعلى الرغم من أن هيوم وغيره قد انتقدوا فيما بعد مفهوم العِلِّية عند اسبينوزا، فإن موقفه الحتمي العام، ولا سيما في تطبيقه على الإنسان ما زال في الأذهان وقع حديث إلى حد يدعو إلى الدهشة. ولن نكون مبالغين إذا وصفنا هذا الجانب من تفكيره بأنه كان سابقًا لزمانه بقرنين كاملين.

الاتجاه المزدوج في موقف ديكارت: سوف نقدم بعد قليل وصفًا أكثر تفصيلًا لموقف اسبينوزا، ولكن ينبغي أن نعرف أولًا على أي شيء كان رد فعله. ذلك لأن ديكارت، الذي ولد قبله بجيل واحد، كان قد وضع مذهبًا جريئًا، وإن كان مع ذلك قد ظل في حدود ما هو معترف به. فمن مظاهر ثنائيته المشهورة أنه وضع حاجزًا أساسيًّا بين «الطبيعة» وبين «الطبيعة البشرية». وقد تصور كل شيء ما عدا الإنسان بأنه مقيد تمامًا بقوانين حتمية. وحتى الحيوانات كانت في نظره مجرد أجسام آلية، تستجيب للمنبهات بطريقة ميكانيكية بحتة، بل إن مذهب ديكارت صل إلى حد إنكار وجود وعي لدى الحيوانات، فهي مادة عضوية فحسب، تنتمي بأكمله إلى عالم «الامتداد»، ولا تحركها إلا قوانين الميكانيكا. أما الإنسان فهو وحده الذي وجد فيه عالم أو يؤثر فيه. وإذا كانت أجسام البشر مجرد أجزاء من عالم المادة الممتدة، لها نفس مكانة الأجسام الحيوانية، فإن للإنسان فضلًا عن ذلك وعيًا ونفسًا خالدة. هذا الوعي وهذه النفس ينتميان، كما هو واضح، إلى عالم آخر هو عالم «الفكر»، بحيث يمثل وحدة تجمع بين «الجوهر المفكر» و«الجوهر الممتد».

ولقد قال البعض أن ديكارت قد اضطر إلى اتخاذ موقف الحذر بعد اضطهاد محاكم التفتيش لجاليليو وغيره من المفكرين التقدميين، وأنه بالتالي قد صاغ هذا المذهب الثنائي لكيلا يقع تحت طائلة الكنيسة التي كان سلطانها ما زال طاغيًا. على أن من المؤكد أن نتيجة هذا التشعب المزدوج للواقع كانت تحرير العالم الطبيعي، الفيزيائي منه والحيواني، من تلك المفاهيم العقيمة علميًّا، من أمثال «العلة الغائية» و«القصد النهائي». وترتب على ذلك أن العلم تمكن من أن يبدأ سيره على أساس حتمي بحت. ومنذ ذلك الحين كانت للعلم الحرية في أن يسير في طريقه الخاص، ما دام مبتعدًا عن مجال اللاهوت؛ أي عن موضوعات مثل أصل الإنسان وطبيعته ومصيره … ومن الجائز أن ديكارت كان مخلصًا في إيمانه بالثنائية، غير أن نتيجة هذا التقسيم الثنائي قد حققت كل ما كان يمكن أن يرغب فيه كان قد حاول عن عمد أن يفصل العلم الفيزيائي عن اللاهوت. ولكن من سوء الحظ أنه حين حرر العلم الفيزيائي من سيطرة الكنيسة على هذا النحو، قد كبل علم النفس، دون أن يدري، في أغلال عقلية؛ إذ إن نفس هذا العلم، الذي يتخذ من الذهن أو الوعي موضوعًا، بدأ داخلًا في المجال اللاهوتي. وترتب على ذلك أن استبقيت في هذا الميدان على التخصيص تلك المفاهيم القديمة في الغائية والغرضية، التي استبعدت من كل العلوم الأخرى.

ولقد كانت إعادة تأكيد خضوع البحث في الإنسان للاهوت على هذا النحو هي التي دفعت اسبينوزا إلى الثورة؛ إذ إنه كان يعتقد أن أفعال الإنسان خاضعة للحتمية الدقيقة، شأنها شأن أي شيء في الطبيعة. فمع اعتراف اسبينوزا بقدرة الإنسان على تصور أي هدف والسلوك في اتجاه ذلك الهدف، فإنه مع ذلك قد وضع للسلوك الإنساني قانونًا عِليًّا يربطنا ببقية العالم الطبيعي ربطًا مباشرًا. أما شعورنا بالحرية فما هو، باختصار، إلا وهم. وعلى أية حال فسوف نقول المزيد عن تفكير اسبينوزا بعد قليل.

(٢) الوضع الحالي للنزاع

لم تتوصل الفلسفة إلى النتائج الكاملة للمذهب الحتمي عند اسبينوزا إلا بعد ما يقرب من مائتي عام. وخلال هذه الفترة تطور العلم من حالة عدم الثقة بالنفس، التي كانت تميز عهد مراهقته، حتى اقترب من عهد نضجه الحالي، وكان هذا التطور دائمًا في اتجاه الحتمية الأكثر شمولًا. فكل كشف يتم في معمل، وكل فرض يحقق، يعني أن جزءًا آخر من العالم الطبيعي قد خضع لقوانين العلة والمعلول. وهكذا أخذت حدود الحتمية تتسع باطراد، وفي الوقت ذاته ازدادت باطراد أيضًا ضرورة تحدي العلم لمركز الإنسان الفريد خارج حدود العِلِّية. وأخيرًا، استهل عهد هذا التحدي في نصف القرن الماضي، وعند مطلع القرن العشرين كان هذا التحدي قد بلغ من القوة حدًّا جعل الرأي المحافظ يقف موقف الدفاع.

ولكن من سوء الحظ أن محاولات توسيع نطاق الحتمية بحيث تمتد إلى المجال البشري قد أدت إلى زيادة في التوتر ونقصان في الموضوعية؛ ذلك لأن الناس يستطيعون مناقشة المسائلة المتعلقة بالنجوم بقدر كبير من التنزه، ولكنهم يجدون تحليل أفعالهم أمرًا مختلفًا كل الاختلاف. وقد كانت هناك صعوبة أخرى هي أن توسيع نطاق المفاهيم العِلِّية الدقيقة بحيث تشمل الأمور البشرية، كان يتطلب تعديلًا عميقًا ودقيقًا في المصطلح المستخدم في هذا الموضوع. وفي كثير من الحالات لم تكن هذه التعديلات تدرك عن وعي، فأدى ذلك أحيانًا إلى التوسع في استخدام المفاهيم الآلية إلى حد الإفراط الشديد. ولذلك كان من الواجب علينا أن نعرف ألفاظنا الرئيسية ونستخدمها بأكبر قدر ممكن من الدقة والحذر.

الخلط بين الحتمية والقدرية: كان من العوامل الأخرى التي أدت إلى زيادة تعقيد النزاع الناشب حول الحتمية، عدم القدر على التمييز بين هذا الرأي وبين القدرية Fatalism منذ البداية. فخصوم الحتمية قلما كانوا يستطيعون أن يدركوا (أو أن يعترفوا على الأقل) أن هناك فارقًا بين الموقفين، على حين أن الحتمي ذاته كان يشعر بأن الفارق بين الاثنين عميق. ولو شئنا الدقة لقلنا إن القدرية هي مذهب الحتمية المقدرة Predeterminism كما أن المصطلح الشائع «الجبرية Perdestination» يصلح بدوره مرادفًا، بشرط ألا تكون في أذهاننا فكرة معينة من أفكار المذهب اللاهوتي عند «كالفان». فالقدري يرى أن كل حادث في الكون مكتوب أو مقدَّر منذ البداية، وذلك من حيث وقت حدوثه وطريقة حدوثه معًا. وليس ثمة وسيلة لتغيير هذا الاتجاه المقدر للحوادث، فعندما يأتي الوقت «سيحدث ما ينبغي أن يحدث». ويعبَّر أحيانًا عن هذا القانون الصارم للقدر تعبيرًا شعريًّا بالقول إن مصير المرء مكتوب في النجوم.

وترتبط القدرية تقليديًّا باتجاه أقرب إلى أن يكون شرقيًّا منه إلى أن يكون غربيًّا. ففي الفكر الإسلامي يعبر لفظ «القسمة» عن مذهب مشابه، وكثيرًا ما يترجم اللفظ (ولكن بطريقة غير كاملة الدقة) بلفظ يعني «المكتوب». وقد عبر عمر الخيام عن هذا الاتجاه تعبيرًا كلاسيكيًّا إذ قال:

لن يرجع المقدار فيما حكم
وحملك الهم يزيد الألم
ولو حزنت العمر لن ينمحي
ما خطه في اللوح مر القلم١

وينبغي أن نؤكد أن القدرية تنظر إلى المصير أو «العلة» على أنه شيء خارج تمامًا عن الكائن العضوي. فالكون، أو بمعنى أدق، القوى الهائلة للكون — هو الذي يحكم حياتنا. وطوال أعمارنا نتحرك ونحن في قبضة قوى لا سلطان لنا عليها. والموقف الوحيد الذي يمكننا اتخاذه إزاء ذلك هو موقف الاستسلام الشرقي التقليدي (وربما جاز لنا أن نستعين على ذلك بكأس عمر الخيام)، أو موقف عدم الانفعال وعدم الاكتراث الباطن الذي دعا إليه الرواقيون. أما القوى الكونية والنجوم التي تكتب فيها كل المصائر، فإن أي شيء يستطيع الإنسان أن يبعثه من داخله لا يقدر حيالها شيئًا.

المذهب الآلي في الحتمية المقدرة: نشأ في العصور الحديثة، مع نهضة العلم في القرن التاسع عشر، اتجاه يمكن تسميته بالحتمية المقدرة العلمية أو الآلية. وكان عدد العلماء الذين دعوا صراحة إلى مثل هذا المذهب قليلًا، حتى من بين دعاة الآلية المتطرفين، ولكن الكتاب الشعبيين كثيرًا ما كانوا يرون أن التطورات التي تتم في المعمل تستتبعه حتمًا. فهم يزعمون أن هناك وقائع كثيرة تشير إلى هذا الاتجاه التشاؤمي، وقد توسع البعض في استخلاص تأثيرها المتراكم حتى كونوا منه نظرة كاملة إلى العالم. وهناك عوامل متعددة تزعم هذه القدرية العلمية أنها مرتكزة عليها، منها ما هو واقعي ومنا ما هو دخيل، أهمها:٢
(١) مبدأ بقاء الطاقة، الذي يبدو منطويًا على القول إن الطاقة الذهنية ليست إلا جزءًا من الطاقة الفيزيائية. ومن ثم فهي خاضعة لنفس قوانين العلة والمعلول التي تحكم العالم الفيزيائي. (٢) المفاهيم الآلية وشبه الآلية في الكيمياء والبيولوجيا، التي ترد المادة الحية إلى تجمع معقد من العناصر الفيزيائية الكيموية الخاضعة لقوانين الفيزياء والكيمياء خضوعًا تامًّا، وهذه العناصر ذاتها تجعل سلوك الحيوان بأسره لا يزيد إلا قليلًا أن يكون تفاعلًا بين قوى فيزيائية تظل آلية عمياء، حتى عندما تنظم في أنماط بشرية معقدة من السلوك الأخلاقي. (٣) معرفتنا المتزايدة بمختلف الانتحاءات Tropism؛ أي بالميول الفطرية إلى الاستجابة على نحو محدد لمنبهات، كما هي الحال مثلًا في حركة نباتات وحشرات وحيوانات معينة استجابة لمنبهات كالضوء أو العناصر الكيموية. (٤) قوانين الوراثة، التي تجعل من أي كائن عضوي نتاجًا لعوامل متوارثة لا شأن له باختيارها، ولكنها مع ذلك تؤثر طوال حياته تأثيرًا دائمًا في تحديد اتجاه قراراته وتشكيل أنماط سلوكه. (٥) إدراكنا المتزايد لأهمية العوامل الجغرافية والمناخية، في الحياة البشرية، وهذا يعني أن البيئة المادية التي يولد فيها المرء أو ينتقل إليها قد تؤثر في سلوكه (وبالتالي في شخصيته) على أنحاء لا مهرب منها. (٦) الشواهد الهائلة العدد، التي يقدمها علم النفس الحديث، لا سيما مدارس التحليل النفسي، على أن قدرًا كبيرًا من السلوك البشري يخضع لدوافع لا شعورية، وأن معظم هذه الدوافع ذو طابع لا عقلي، بل لامنطقي. فجميع أنواع الأفعال الاضطرارية، كتلك التي تحدثها المخاوف المرضية وحالات الجنون والحصر، قد تكون أوضح أمثلة وجود دوافع لا شعورية تتحكم في مواقف سلوكية معينة. (٧) وأخيرًا، هناك شواهد من العلوم الاجتماعية، حيث نجد نظرية هائلة التأثير، هي نظرية الحتمية الاقتصادية، التي يعد فيها التاريخ صراعًا تتنافس فيه الجماعات أو «الطبقات» الاجتماعية على المزايا الاقتصادية. هذه النظرية ترى أن كل المعايير الثقافية — من قيم دينية ومقاييس أخلاقية، وأمانٍ معنوية، بل ومُثل عليا جمالية — إنما هي تعبير عن هذا الصراع الطبقي ودليل يشير إلى الجانب (أي الطبقة) التي يكافح من أجلها الشخص الذي ينادي بهذه المعايير. وتضاف إلى هذا كله معلوماتنا الفلكية والجيولوجية، التي يكون الإنسان تبعًا لها مخلوقًا ضئيلًا إلى حد لا متناهٍ، في عالم ضخم إلى حد متناه، ولا يكون التاريخ البشري كله إلا حلقة قصيرة إلى أقصى حد يمر بها كوكب سحيق في القدم. كل هذه المجموعة من الوقائع والنتائج تجعل كثيرًا من الأفراد في الوقت الحالي لا يختلفون في نظرتهم القدرية إلى الحياة عن أي شرقي يقول «بالقسمة».

(٣) الحتمية في مقابل اللاحتمية

هناك وجهتا نظر ممكنتان تقف كلٌّ منهما في مقابل القدرية الأخلاقية للتفكير الشرقي وفي مقابل الموقف شبه العلمي الذي وصفناه الآن. ففي الطرف القصي المعتاد للقدرية نجد اللاحتمية Indeterminism أو الاختيارية Libertarianism، وفيما بين الموقفين المتطرفين، نجد الحتمية Dererminism وقد دار الخلاف الرئيسي، بالنسبة إلى الفلسفة بوجه عام، والأخلاق بوجه خاص، بين وجهتَي النظر الأخيرتين هاتين. فعلى الرغم من أهمية القدرية في التفكير الشرقي، وفي الكتابات المتحمسة التي كانت تظهر في الغرب من آنٍ لآخر تعبيرًا عن وجهة نظرها، فإن هذا المذهب لم تكن له أهمية كبيرة في المذاهب الفلسفية الغربية؛ لذلك سنقتصر في بقية مناقشتنا على الحديث عن التقابل بين الحتمية واللاحتمية.
اللاحتمية: اللاحتمية، كما أوضحنا منذ قليل، هي النقيض المباشر للقدرية. فاللاحتمي يرى أنه، مهما يكن من خضوع الأشياء المادية، وربما الكائنات العضوية الحيوانية، لقوانين العلة والمعلول، فإن الإنسان يظل متحررًا من هذه القوانين في إرادته أو في قدرته على اتخاذ القرارات. إن أجسامنا — شأنها شأن كل موضوعات عالم الزمان والمكان — تخضع بالضرورة لقوانين آلية كقانون الجاذبية والقصور الذاتي والمقاومة … إلخ. وفضلًا عن ذلك فإن طبيعة وظائفنا الجسمية فيزيائية كيموية إلى حدٍّ بعيد، وهي خاضعة لكل قوانين الفيزياء والكيمياء. ولكن القائل باللاحتمية يؤكد أن القوانين الميكانيكية أو الفيزيائية الكيموية لا تسري على طبيعة الإنسان الأخلاقية والإرادية ولا تفسرها. فهذه الطبيعة الأخلاقية والإرادية لا تخضع للحتمية، وهي حرة بالمعنى الصحيح، ذلك لأنه حتى لو كانت لدينا معرفة شاملة بماضي الفرد وشخصيته وجميع العوامل المتعلقة بموقفه الراهن (كمعرفة المنبهات التي يستجيب لها مثلًا) فسيظل من المستحيل التنبؤ بالاختيار الذي سيقوم به في أي موقف معين. وبعبارة أخرى، فليس جهلنا وحده هو الذي يجعلنا نصف سلوك الشخص بأنه «لا يمكن التنبؤ به». بل إن السلوك يظل أصلًا بمنأى عن أي تكهن، لسبب بسيط هو أن الحوادث التي يمكن التنبؤ بها هي تلك التي يكون لها أساس عِلِّي فحسب، فإذا كنا جاهلين بالأساليب، أو لم تكن هناك أسباب بالمعنى المألوف لهذا اللفظ (كما في هذه الحالة)، فمن الواضح عندئذٍ أن التنبؤ يكون مضيعة للوقت لا طائل وراءها. ويرى مذهب اللاحتمية أن الفرد لا يستطيع فقط أن يختار بلا سبب؛ أي أن يتخذ قرارات لا صلة لها بقراراته السابقة أو بأي عامل في تجربته الماضية — بل إنه يستطيع أيضًا أن يستهل اتجاهات سلوكية تمثل تجديدًا أصيلًا في نمط حياته. وهكذا ينطوي الموقف اللاحتمي على فكرتين رئيسيتين: عدم القابلية للتنبؤ، والجدة الأصيلة.
الحتمية: يمكن القول إن الموقف اللاحتمي مرادف لما وصفناه من قبل بأنه رأي الأغلبية في الحضارة الغريبة. والواقع أن فكرة «حرية الإرادة» هذه، التي قبلها معظم الفلاسفة وجميع اللاهوتيين تقريبًا، هي التي أدت إلى ثورة رواد مذهب الحتمية من أمثال هوبز واسبينوزا. أما في أيامنا، فإن الخصم الفلسفي للاحتمية هو موقف أكثر اعتدالًا إلى حد ما من آراء المكافحين الأوائل في القرن السابع عشر. هذا الشكل الحديث للحتمية يمثل محاولة لإدماج نظرتنا إلى الإنسان في النظام العملي للطبيعة، ولكنه يسعى إلى تحقيق ذلك دون إنكار للوقائع الواضحة لتجربتنا الباطنة. هذا الموقف الوسط الذي سنطلق عليه من الآن فصاعدًا اسم «الحتمية فحسب» يرى أن القدرية على حق عندما تؤكد أن كل سلوك يرجع إلى منبهات، والتالي فإن له «علة» مباشرة. ولكنه يتفق من جهة أخرى مع اللاحتمية حين تؤكد أن الذات أكثر من أن تكون مجرد مركب من المنبهات والاستجابات، بل إن الحتمية لتعترف بأن الذات قد تمثل مركبًا جديدًا خلاقًا، تتحدد أفعاله تبعًا لطبيعته الخاصة، لا تبعًا لقوى خارجية. هذه المدرسة التي تسير في هذا الطريق الوسط تتحدث كثيرًا عن «الحتمية الذاتية»، وتعني بهذا اللفظ أن أفعالنا هي نتيجة شخصيتنا وعاداتنا، التي هي بدورها حصيلة كل قراراتنا وتجاربنا السابقة. والإنسان في نظر هؤلاء الحتميين المعتدلين، له حرية أخلاقية؛ ومن ثَم فلديه مسئولية أخلاقية. وقراراته تنتمي إليه بالفعل؛ إذ إنها نابعة عن ذاته الكاملة. وبالاختصار، فقراراتنا تأتي من الداخل، غير أن ردود الأفعال السابقة للذات الباطنة إزاء العالم الخارجي، وقراراتها الماضية بشأنه، تعمل على تعديل هذه الذات الباطنة وتشكيلها إلى حدٍّ بعيد.
ونستطيع التعبير عن هذا الموقف الحتمي بطريقة أخرى، فنقول إن صاحب مذهب الحتمية في العصر الحديث يقبل تلك «القوى الخارجية» التي كانت مثبطة للقائل بمذهب القدرية، ويرى أن لها تأثيرًا حقيقيًّا في تكوين الذات أو الشخصية. ومع ذلك، فإن هذه القوى، بمجرد ممارستها لهذا التأثير، تندمج في مركب جديد دائم التغيير، أو «شخصية»، تقوم منذ هذه اللحظة بالاستجابة بطريقة فريدة لمنبهات أو قوى خارجية أخرى. وهكذا فإن أفعالنا تكون صادرة عنا بمعنى خاص؛ إذ إن أية ذات أخرى لا تستجيب بنفس الطريقة؛ لأن أية ذات لم تمر بكل التجارب السابقة نفسها، ولم تتخذ كل القرارات السابقة ذاتها. وقد عبر تنيسون Tennyson عن ذلك بقوله. «أنا جزء من كل ما صادفت». فالذات هي مجموع كل الاستجابات والقرارات السابقة، المتعلقة «بكل ما صادفت». وهكذا، فعلى حين أن أفعالنا محددة ومحتومة، فإن هذه الحتمية إنما تجيء من طبيعة الذات أو شخصيتها، لا من القوى الخارجية. وفي هذه الحتمية الذاتية تنحصر حريتنا المعنوية والأخلاقية.

(٤) حجج كلٍّ من الجانبين

اقتصرنا حتى الآن على عرض موقف كلٍّ من الحتمية واللاحتمية بطريقة قطعية إلى حد ما. وعلينا الآن أن نبحث في الحجج الرئيسية التي يرتكز عليها كل فريق؛ لأن من الواضح أننا لا نستطيع الاختيار بطريقة واعية بين وجهتَي النظر هاتين إلا عن طريق تقدير الأدلة التي يستند إليها كلٌّ منهما. ولما كانت اللاحتمية قد ظلت هي الرأي «الرسمي» للفكر الغربي، فسوف نبدأ بعرض حججها. وسيتضح لنا فيما بعد أن معظم الحجج الحتمية هي في حقيقتها ردود على حجج المذهب اللاحتمي؛ ولذا كان الأفضل هو الاستماع إلى الأصل أولًا.

حجج اللاحتمية: للقائل باللاحتمية أربع حجج رئيسية، قد تكون كلها متساوية الأهمية.
  • (١)

    إن من أوضح حقائق حياتنا النزوعية، شعورنا بالحرية. فأيًّا كان القرار الذي نحاول اتخاذه، ومهما تكن صعوبة بلوغه، فإننا عندما نتخذ قرارنا أخيرًا يكون لدينا شعور بأن الاختيار لم يتحكم فيه شيء سوى إرادتنا الخاصة. وقد تؤدي القوى الخارجية، أو العجز الشخصي، إلى قصر اختيارنا على بديلين فقط، كلاهما غير مرغوب فيه، ولكنا نشعر بأن القرار النهائي هو دائمًا عمل اختياري إرادي صادر عنا نحن. فنحن نوقن في هذه الحالة بأنه كان في استطاعتنا اختيار البديل الآخر بنفس السهولة وبنفس «الحرية». ويترتب على هذا الإحساس بالاختيار غير المحتوم، الشعور الحتمي «بالإلزام»، بل إن هذا الشعور بالإلزام هو في نظر كثير من اللاحتميين مثل «كانت»، دليل على الحرية أكثر إقناعًا حتى من الحدس الذي نشعر فيه بأننا قد اتخذنا قرارًا غير مسبب؛ إذ إن هذا الشعور بالإلزام، في رأيهم، لا يكون له أي معنى لو لم يكن الاختيار الأصيل ممكنًا. فعبارة: «ينبغي لي» لا بد لها من شرط مفروض مقدمًا، هو: «أنا أستطيع».

  • (٢)

    والحجة الثانية المؤيدة للاحتمية تتعلق بهذا الشعور بالإلزام. ذلك لأن حرية الإرادة شرط ضروري لكي يكون هناك معنى لأي تصور نكونه عن المسئولية الأخلاقية (أو حتى القانونية). وإنه لمن غير المنطقي أن نعد الشخص مسئولًا عن فعل معين ما لم يكن هذا الفعل صادرًا عنه؛ أي ما لم تكن لديه قدرة أصيلة على الاختيار بين أمور بديلة واتخاذ قرارات أخلاقية. فجميع الأحكام التي نصدرها عادةً بشأن «صواب» السلوك أو «خطئه»، لا تفترض مقدمًا إرادة غير محكومة فسب، بل إنها تغدو ظالمة متجنية في أية ظروف أخرى غير تلك التي يفترضها اللاحتمي.

  • (٣)

    والحجة التالية تترتب بدورها على السابقة. فاللاحتمية هي الرأي الوحيد المعقول — ليس فقط لأن تقويماتنا الخاصة بالاستحسان والاستهجان تعدو بلا معنى في ظل الموقف الحتمي، بل أيضًا لأن كل القيم، وضمنها التفكير ذاته، تصبح بدورها بلا جدوى. ذلك لأنه لو كان كل ما يحدث نتيجة ضرورية لما حدث من قبل، بل لطبيعة الأشياء ذاتها، التي يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. فعندئذٍ يكون من التعقيم أن نتحدث عن «أفكار» أو «مُثل عليا» أو «مقاصد»، بل إنه يستحيل عندئذٍ تفسير العقل ذاته، ما دامت وظيفته الرئيسية هي التقويم والتمييز، فإذا كانت «كل الأشياء تحدث بالضرورة»، كما قال اسبينوزا وغيره من الحتميين، فعندئذٍ يكون النشاط العقلي عقيمًا، بل غير مفهوم.

  • (٤)

    وأخيرًا يرى اللاحتمي أنه لا يوجد وسط الحرية التامة والقدرية. فمحاولة التوفيق التي تقوم بها الحتمية مستحيلة لأنها غير مستقرة؛ إذ إنها ترتد آخر الأمر إلى الحل القدري، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها لكي تتجنب هذه النتيجة. ذلك لأننا إذا استخلصنا من الموقف الحتمي كل نتائجه المنطقية، لوجدناه ينكر تلك الحرية التي يزعم أنه يجعلها ممكنة. إذ لو كانت الذات قبل كل شيء حصيلة لتجاربها؛ أي للقوى الخارجية التي تؤثر فيها — لكان من الواضح أن الاختيار في لحظة القرار الفعلي، سيكون نتيجة لهذه القوى، لا لإرادة غير محتومة كتلك التي يقتضيها فرض الحرية. وفضلًا عن ذلك، فإذا كان الحتمي على حق، ألن يكون السؤال عن القوى التي تكون شخصيتنا متوقفة جزئيًّا على طبيعة الكائن العضوي التي نتوارثها؟ وهكذا يكون اختيارنا محدودًا وخاضعًا للتأثير بمعنى مزدوج: إذ نكون، من جانبٍ، ما صنعته منا بيئتنا، ونكون من جانبٍ آخر، ما أتينا به إلى العالم من مادة خام. فإذا أكد أي شخص بعد هذه الحقائق كلها أننا أحرار، فإنه بكل بساطة، لا يستخدم اللغة بطريقة استخدامها العادية؛ ذلك لأنه ما لم تكن الذات عالية، بمعنى كونها قادرة على الارتفاع فوق مستوى علاقة العلة والمعلول التي تقيد بقية الكون، لما كانت حرة. وما لم تكن إرادتنا مستقلة عن المنبهات، والوراثة، والتجارب السابقة؛ أي ما لم تكن قادرة في كل لحظة على القيام باختيار كان من الممكن دائمًا أن يأتي بصورة مخالفة — لكانت الحرية البشرية وهمًا …

حجج مذهب الحتمية: يرى القائل بالمذهب الحتمي إنه يستطيع الرد على كل هذه الحجج وتقديم بعض الحجج المقنعة التي تؤيد موقفه الخاص.
  • (١)
    فالفرض الحتمي أولًا يتفق مع مسلَّمة من أهم مسلَّمات العلم. هذه المسلَّمة ضرورية بصفة مطلقة بالنسبة إلى كل العلوم، بل إنه ليقال عادةً إن البناء الكامل للعلم الحديث مرتكز على مفهوم العِلِّية. ويذهب القائل بالمذهب الحتمي إلى أن أي مبدأ له مثل هذه الأهمية، وينتشر تطبيقه على مثل هذا النطاق الواسع، يمكن افتراض أنه يسري على جميع الظواهر — ليس فقط على تلك التي يدرسها العلم، وإنما على كل حوادث الكون. وباختصار، فالحتمية لا يمكنها قبول الرأي القائل إن الإرادة البشرية تقوم في فراغ خالٍ من العلل، بل إن مبدأ العِلِّية ذو نطاق شامل، ولا يمكن أن يعد الإنسان استثناء له. والواقع أن الكشف العلمي لا يكون ممكنًا إلا لأن في استطاعة العالم أن يفترض عالمًا منظمًا عاقلًا، يوجد فيه كل حادث بوصفه طرفًا في علاقة عِلِّية.٣
  • (٢)
    وفضلًا عن ذلك فإن علم النفس — وهو أقوى العلوم ارتباطًا بمشكلات السلوك البشري — قد حقق كل ما أحرزه من تقدم بالارتكاز على مصادرة العِلِّية. والأمر الأكثر من ذلك إقناعًا هو أن علم النفس قد تمكن من تحليل فعل الاختيار، وكشف هذا التحليل عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائمًا نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط، يحدث اختيار، وعندما تغيب، لا يكون هناك اختيار. وبالاختصار فإن كل القرارات إنما هي نتيجة لدوافع، والدافع الأقوى هو الذي تكون له الغلبة دائمًا.٤ وينتهي صاحب المذهب الحتمي من ذلك إلى قوله إنه لما كان التحليل النفساني عاجزًا عن كشف أي مثال لاختيار لا دافع له (أي غير مسبب)، فلنا أن نقول إنه لا يوجد اختيار كهذا.
  • (٣)

    كذلك يعتقد صاحب المذهب الحتمي أن موقفه هو أساس كل سلوك معقول. فكلما ازدادت معرفتنا لأي شخص وثوقًا، استطعنا أن ندرك على نطاق أوسع أن من الممكن الوثوق بسلوكه والتنبؤ به في آن واحد. وفضلًا عن ذلك فإن من الممكن، بوجه عام، الوثوق من سلوك الناس إلى حد معقول، كما يتضح من أن كل مجتمع مبني على الثقة المتبادلة بين أعضائه بعضهم وبعض. فنحن نتوقع من الناس أن يسلكوا بطرق معينة؛ لأننا اكتشفنا أن منبهات (أو عللًا) معينة تؤدي إلى استجابات (أو معلولات) محددة. وعندما يخيب الناس أملنا يكون ذلك دائمًا استثناء من الطابع العام لسلوكهم. ولولا هذه النسبة الغالبة من القابلية المأمونة للتنبؤ، لما كان الاتصال الاجتماعي العادي عشوائيًّا تمامًا فحسب، بل لما وجدت علوم كعلم الاجتماع وعلم النفس.

  • (٤)

    وأخيرًا، فإن اللاحتمي على خطأ عندما يقول إن المسئولية الأخلاقية تفترض حرية كاملة للإرادة؛ إذ كيف يكون لنا الحق في أن نعد الشخص مسئولًا عن أفعاله إذا كانت ناتجة عن قرار اعتباطي اتخذ في لحظة الاختيار؛ أعني قرارًا لا صلة له بشخصيته أو عاداته أو تجاربه السابقة؟ إنه لا يمكن أن يمتدح عليها أو يلام، ويثاب أو يعاقب، إلا بقدر ما تكون قراراته صادرة عنه هو، ومرتبطة بذاته الكاملة ارتباطًا لا ينفصم. وهكذا فإن الأخلاقية والتشريع الاجتماعي معًا يفترضان الحتمية، من وجهة النظر العملية. فالتشريع الاجتماعي مثلًا مبني على افتراض إمكان التحكم في السلوك البشري بالوسائل الصحيحة، إلا فلمَ كنا نسن القوانين لو لم نكن نفترض أنها ستؤثر في سلوك الناس؟ ولنضرب مثلًا آخر: فما هو التعليم الرسمي، إن لم يكن عملية طويلة باهظة لتدريب الفرد (أو «تكييفه»، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الأثير لدى عالم النفس)، بحيث يستجيب بطرق مرغوب فيها لكثير من المنبهات التي لا بد أن تأتي إليه من التجربة اليومية، ولم نكرس للتعليم كل هذا الوقت والجهد إن لم نكن واثقين — بدرجة معقولة — من أن عملية التكيف هذه ستنجح؛ أي ما لم نكن متأكدين من أن في استطاعتنا إيجاد نمط سلوكي يكون له ثبات نسبي، ويكون من الممكن الاعتماد عليه؟ ولو كان في استطاعة الفرد، بعد سنوات من التحاقه بالمدارس، أن يدير ظهره للنمط الذي استحدث ويسلك بطريقة اعتباطية، وعلى نحو مستقل تمامًا عن الاستجابات التي تعلمها، فأي مبرر يكون للتعليم عندئذٍ؟

مشكلة المسئولية القانونية: هناك نقطة أخرى للخلاف بين الحتمية واللاحتمية، مترتبة على الحجج المتعددة التي قدمناها الآن. تلك هي مسألة المسئولية القانونية والعقوبة القانونية. فحجة اللاحتمية في هذا تسير دائمًا على نحو يقرب من هذا: إذا كان الإرادة محتومة فعندئذٍ لا يكون هناك مبرر للعقوبة القانونية؛ إذ إن المجرم، الذي تتحكم فيه قوى خارجية لا سلطان له عليها، أو عوامل وراثية تحددت قبل ميلاده، لا يستطيع أن يفعل غير ما فعل. ومن ثم، فأية عدالة يمكن أن تكون للعقوبة تبعًا للرأي الحتمي؟

على أن أنصار مذهب الحتمية لا يجدون صعوبة في الرد على هذه الحجة. فهم يشيرون أولًا إلى أن هذه الحجة اللاحتمية ترتكز على فهم عتيق عفَّى عليه الزمان لمعنى العقوبة القانونية؛ إذ هي تفترض أن الغرامة، والسجن، إلخ، لها مقصد انتقامي؛ أي إن المجتمع يلجأ إليها لكي يثأر من المجرم. على أن هذه الفكرة الهمجية لا مكان لها في فلسفة العقوبة الحديثة المستنيرة، التي تجعل للعقوبات مقصدين: (١) حماية المجتمع عن طريق الحد من خطورة مرتكب الجرم، لا سيما إذا كان من معتادي الإجرام، وهذا يعني عادةً نوعًا من الحبس. (٢) إصلاح مرتكب الجرم عن طريق إعطائه مجموعة جديدة من الدوافع، قد تكون مُثلًا عليا اجتماعية أعلى قيمة، أو (إذا اتضح أنه غير قابل للتأثر بهذه المثل) عن طريق الخوف الناتج عن تجربته الراهنة مع القانون. وهذا الهدف الثاني للعقاب؛ أعني هدف «إعادة التكييف»، هو الذي يحتل أهمية متزايدة في فلسفة العقوبة الحديثة. ومن الواضح أن مثل هذا الهدف يفترض التسليم بالحتمية؛ إذ إن السلوك البشري يرجع إلى عوامل معينة هي دوافعه، والقانون يتدخل لتغيير دوافع المجرم. ولو كان هذا كله وقتًا ضائعًا أي لو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة المجرم أن يسلك بطريقة اعتباطية دون نظر إلى العوامل المتحكمة — فكيف نفسر عندئذٍ ارتفاع نسبة المجرمين السابقين الذين ينصلحون وتستقيم أحوالهم؟

(٥) الاختيار بين الموقفين

لا بد للقارئ، كما هي الحال على الدوام، أن يزن حجج طرفَي هذا النزاع الكبير ثم يتخذ قراره الخاص حول ادعاءاتهما. والواقع أنه لا مفر من الاختيار بين الطرفين، ما لم نكن راغبين في السير في طريق التطرف إلى حد القول بمذهب القدرية. على أن الأرجح أن هذه الطريقة في التخلص من الصعوبة لا تلقى قبولًا لدى الكثيرين؛ ولذا فسوف ننظر إلى المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة التقابل بين الحتمية واللاحتمية.

ونستطيع أن نختتم عرضنا للمشكلة الكاملة باقتراح نقاط متعددة يكشف عنها أي بحث محايد للموقف. وسوف تبدو بعض هذه الاعتبارات مؤيدة لأحد الطرفين، وبعضها الآخر مؤيدًا للطرف الآخر. على أننا لا نهدف من عرض هذه النقاط إلى التأثير في القارئ بحيث ينحاز إلى هذا الجانب أو ذاك، وإنما نهدف إلى زيادة احتمال اختياره بين الطرفين على أساس معقول.

(١) هل العِلِّية شاملة بالضرورة؟ تبدو هذه المسألة الأولى مؤيدة للاحتمية. فالحجة الحتمية القائلة إن كل علم يرتكز على مبدأ العِلِّية لا يمكن أن تكون حجة قاطعة، وذلك لأسباب متعددة. فمن الممكن جدًّا أن يكون الإنسان نوعًا فريدًا في العالم العضوي، وأن يؤدي عقله وقدرته على الاختيار العاقل إلى جعله استثناء في الطبيعة بالفعل. ولما كان من المعترف به أن الإنسان فريد في أمور متعددة، فليس لنا أن نستبعد مقدمًا إمكان أن يكون الإنسان قادرًا على البدء في سلاسل جديدة من الأفعال عن طريق اتخاذ قرارات هي بالفعل غير خاضعة للحتمية. وثانيًا فإن نجاح المبدأ الحتمي في العلوم لا يعني أن من الممكن امتداده على جميع الظواهر، ومن المؤكد أن هذه الحقيقة لا تضمن بأي حال إمكان امتداد المبدأ على هذا النحو. وفضلًا عن ذلك فإن حياة الإنسان الإرادية، ولا سيما ما يتعلق منها بالاختيار الأخلاقي، قد تكون فئة مستقلة من الظواهر التي لا تحتاج لتفسيرها إلى مفاهيم أخرى غير العِلِّية. وثالثًا، فقد يكون المثالي على حق حين يؤكد أن قانون العِلِّية من صنع العقل — لا بالمعنى الظاهر الذي يكون فيه صياغة ذهنية، بل بالمعنى الميتافيزيقي الذي تكون فيه العِلِّية مطلبًا يفرضه الكون على العقل. هذا الرأي، كما عرضه «كانت» مثلًا، يقول بأن العِلِّية هي إحدى صور الفكر أو مقوماته، فهي أحد القوالب أو الأطر التي ينبغي أن تصب فيها الظواهر الحسية إذا شاءت أن تكون «عالمًا» معقولًا. وهكذا تصبح «العلة» ذاتية لا موضوعية. وإذا كانت العلة من صنع العقل، فمن الممكن عندئذٍ أن تكون عملياتنا الذهنية والإرادية خارجة عن قوانينها، ويكون في استطاعة العقل أن يفرض العِلِّية على كل شيء آخر دون أن يفرضها على نفسه بالضرورة. ولذا كانت النتيجة التي ينبغي أن ننتهي إليها هي أنه، مهما تكن ضرورة مبدأ العِلِّية للعالم في جهوده التي يبذلها لفهم العالم الطبيعي، فإن قابلية هذا المبدأ للانطباق على العالم الذهني والأخلاقي تظل مفتقرة إلى الدليل.
(٢) ما مدى صحة الشعور بالحرية؟ أما المسألة الثانية التي ينبغي أن نلاحظها قبل اتخاذ أي قرار بين الحتمية واللاحتمية. فتؤيد فرض الحتمية؛ ذلك لأن اللاحتمي يستغل شعورنا الذي لا ينكر بالحرية استغلالًا زائدًا عن الحد، ومن المؤكد أننا نكون عادةً واثقين، في لحظة الاختيار الفعلي، بأننا نستطيع لو شئنا أن نختار الحل الآخر بدلًا من الحل الذي اخترناه. ومع ذلك فإن القائل بالحتمية يعتقد أن هذا الشعور الحدسي بوجود أطراف يمكننا الاختيار بينها بحرية هو شعور واهم. وهو على الأقل لا يثبت أن لدينا بالفعل إرادة غير مسببة. وأغلب الظن أن كل ما يدل عليه هذا الشعور بالحرية هو جهلنا بالأسباب المتحكمة في الاختيار بالفعل.
ولقد كان اسبينوزا هو الذي عبر عن مغالطة الحرية هذه تعبيرًا كلاسيكيًّا؛ إذ قال:
«إن الناس يولدون جاهلين بأسباب الأشياء، ولكن لديهم رغبة في البحث عن نفعهم الخاص، وهي رغبة يشعرون بها عن وعي. ويترتب على ذلك، أولًا، أنهم يظنون أنفسهم أحرارًا؛ لأنهم واعون برغباتهم وشهواتهم، ولكنهم، نظرًا إلى جهلهم، لا يحملون بالتفكير في الأسباب التي أدت بهم إلى هذه الرغبات … وهكذا يعتقد الطفل الرضيع أنه يبحث عن الثدي بإرادته الحرة، ويعتقد الصبي الغاضب أنه يرغب في الانتقام بإرادته الحرة، ويظن الجبان أنه يسعى إلى الهرب، ويتوهم السكير أنه يتحدث، بأمر حر صادر عن ذهنه، عن تلك الأمور التي كان يود في صحوه ألا يقول عنها شيئًا. وعلى هذا النحو يظن المجنون، والثرثار، والصبي، ومن على شاكلتهم، أنهم يتحدثون بأمر حر صادر عن أذهانهم، مع أنهم في واقع الأمر لا يملكون القدرة التي يقفون بها في وجه النزوع الذي يدفعهم إلى الكلام، بحيث إن التجربة ذاتها، لا العقل وحده، تدلنا بوضوح على أن الناس يظنون أنفسهم أحرارًا لمجرد كونهم واعين بسلوكهم الخاص، دون أن يعلموا شيئًا عن الأسباب المتحكمة فيهم. كما أنها تدلنا على أن أوامر العقل ليست إلا الشهوات ذاتها، التي تختلف بالتالي باختلاف الحالة المزاجية للجسم.»٥

وفي موضع آخر يلجأ اسبينوزا إلى تشيبه الحجر الطائر في الهواء، الذي لو كان لديه وعي، لغدا على الثقة من أنه يتحرك بإرادته الحرة، نظرًا إلى جهله بالقوى التي حركته.

وعلى الرغم من أن المرء لا يكاد يجد ما هو أفضل من كلمات اسبينوزا السابقة؛ ففي استطاعتنا أن نزيدها تأكيدًا بالإشارة إلى كثرة الأدلة التي أثبت بها علم النفس الحديث هذه النقطة. فقد كانت نظرية اللاشعور موردًا لا ينضب للأدلة المؤيدة للحتمية. والواقع أن التحليل النفسي هو، إلى حدٍّ بعيد، أسلوب لكشف الأسباب الخفية والدوافع المكبوتة التي تمارس تأثيرًا فعالًا في سلوك الفرد حتى حينما لا يكون شاعرًا بها على الإطلاق. كذلك فإن علم النفس جعل الشخص العادي ذاته يدرك في الوقت الحالي مدى التأثير الخفي الملتوي الذي يمكن أن تمارسه الرغبة في التبرير على تفكيرنا وسلوكنا. ويعرف التبرير أحيانًا بأنه البحث عن أسباب جيدة لأفعال رديئة — هي عادةً أفعال أنانية نخجل منها بحق. ففي هذه العملية الذهنية التي نبرر بها تصرفاتنا، نحاول أن نجعل سلوكنا مقبولًا لنا بالاهتداء إلى أسباب دفاعية لهذا السلوك، نستطيع أن نقنع عقولنا بأنها هي الأسباب الحقيقية. وقد نكون بالفعل جاهلين بدوافعنا، أو قد نكون خادعين لأنفسنا فحسب، غير أن علم النفس قد تمكن من كشف السبب الحقيقي لسلوكنا في حالات تبلغ من الكثرة حدًّا يجعل عبارة اسبينوزا، التي كانت تبدو في عصره مذهلة، تبدو اليوم أشبه ببديهية من بديهيات علم النفس. فنظرًا إلى عدم رغبتنا في أن نكون أمناء مع أنفسنا فيما يتعلق بالأمور القبيحة، فإننا نسمي أفعالنا التي هي في أساسها أنانية أفعالًا «قابلة للتبرير». ونظرًا إلى جهلنا بالسبب الذي يجعلنا نسلك كما نسلك، فإنا نسمي أنفسنا «أحرارًا».

تغير مفهوم «الإرادة»: هناك مسألة أخيرة تؤدي بطريق غير مباشر إلى دعم الموقف الحتمي، على الرغم من أنها حقيقة تاريخية، لا حجة فلسفية. تلك هي الحقيقة القائلة إن هناك معنيَين مختلفين للفظ «الإرادة»، فهناك أولًا المعنى التقليدي، المبني على النظرة إلى الذهن على أنه مجموعة من «الملكات». ونظرًا إلى أن علم النفس الحديث لم يعد ينظر إلى الذهن على أنه مجموعة من الوسائط أو «الملكات» المستقلة، كالعقل، والإرادة، والخيال، إلخ، فمن الواجب استبعاد هذا المعنى القديم للفظ «الإرادة» إذا شئنا أن تكون مناقشاتنا حوله دقيقة.

أما المعنى الحالي للفظ فيعبر عن النظرية الوظيفية للذهن، التي يقول بها علم النفس المعاصر، فلم تعد الإرادة تعد كيانًا أو واسطة مستقلة، بل إن عالم النفس بفضل الكلام عن «الفعل الإرادي» الذي يراه وظيفة ترتبط بالكائن العضوي الكامل. ففي استطاعة الفرد، عن طريق عملية استبصار وتدبر، أن يبعث التآزر في رغباته والتكاسل في دوافعه، فتكون نتيجة هذا التآزر — بعد التوفيق بين الرغبات المتعارضة — فعلًا، أو على الأقل قرارًا يتحقق في فعل. هذا الفعل يمكن أن يسمى «فعلًا إراديًّا»، ولكن من الواجب أن نضع نصب أعيننا تلك النظرة الوظيفية العضوية إلى الذهن عندما نصف فعلًا كهذا بأنه ذو طابع إرادي.

ومن الواضح أن للنظرة العتيقة إلى الذهن من خلال مفهوم «الملكة» صلة وثيقة بالموقف اللاحتمي. فمن السهل القول بأن «الملكة» المستقلة أو «الوسيط» المستقل متحرر من القوانين العِلِّية، ولكن من الصعب الادعاء بأن الكائن العضوي الكامل يؤدي وظائفه في فراغ من اللاتحدد، بل إن نفس تعريف الإرادة، في ظل الرأي القديم، بأنها «كيان مستقل»، ينطوي على حكم مسبق على الموضوع قبل أن تبدأ المناقشة. ولما لم يكن هناك تخصيص للطريقة التي تكون بها الإرادة مستقلة، فلا يكاد يكون من حقنا أن نلوم اللاحتمي على تفسيره لهذا الاستقلال بأنه استقلال «عِلِّي». أما اليوم فقد انقلبت الآية: فلما كان النشاط الإرادي يعد الآن جزءًا لا يتجزأ من استجابتنا الكاملة للبيئة، فإنا لا نستطيع أن نلوم الحتمي على استخدامه هذه الحقيقة في دعم مركزه هو. وهكذا يقدم إلينا التاريخ الكامل للنزاع حول حرية الإرادة مثلًا رائعًا للعلاقات المتبادلة بين الفلسفة وبين المفاهيم العلمية الشائعة في أي عصر. ويبدو أن للعلم اليوم من التأثير في الفلسفة ما يفوق تأثيره فيها في أي وقت مضى، غير أن هذا ليس إلا انعكاسًا للتأثير الهائل للعلم في جميع ميادين الفكر البشري. والواقع أن الفلسفة كانت دائمًا تستجيب للأفكار الجديدة والأيديولوجيات المتداولة حولها، وحتى في الحالات التي بدا فيها الفيلسوف منعزلًا غاية ما يكون الانعزال في برجه العاجي، فإن «رياح الفكر» التي تهب عليه من الخارج كانت تؤثر حتمًا في تفكيره. والحق أننا لا نكاد نجد لذلك مثلًا أفضل من النزاع الذي نحن بصدد مناقشته.

(٦) الدور الدائم الذي أسهم به كل رأي

المهام اللاحتمية: أيًّا كان الجانب الذي ننحاز إليه آخر الأمر في الجدال الدائر بين الحتمية واللاحتمية، فينبغي أن نعلم أن كل رأي قد قام بدور هام في تاريخ الفكر، وذلك إذ حافظ على تداول أفكار هامة معينة. فلا شك مثلًا في أن أعظم دور قام به مذهب اللاحتمية هو اعتقاده الراسخ بأننا نحن الذين نصنع مصيرنا بأيدينا، جزئيًّا على الأقل؛ أي كما قال الشاعر:
أنا سيد مصيري
وربان سفينة نفسي

وقد يصف القدري هذا القول بأنه وهم بحت، كما أن من المؤكد أن أنصار مذهب الحتمية يصفونه بأنه نصف حقيقة فحسب. ومع ذلك فإنه اعتقاد أنقذ أشخاصًا لا حصر لهم من اليأس، وربما من الانتحار. فإذا استطعت أن أومن، بوصفي لا حتميًّا، بأن السيادة الكاملة لقوانين العلة والمعلول تتوقف فجأة عندما تصل إلى مجال الحكم الشخصي والقرار الأخلاقي، فإني أكون عندئذٍ محصنًا ضد بعض من أسوأ ضربات الحياة. ففي استطاعة هذا الاعتقاد أن يزودني بدرع داخلية يمكن أن تظل فيها نفسي أو شخصيتي المتكاملة (أي «الأنا الباطن»، كما تسميه إحدى مدارس الفكر الملهم) في سلام وهدوء مهما يحدث. وهكذا يتيح لي الإيمان اللاحتمي الاحتفاظ بيقين راسخ بأنني حتى لو لم أستطع التحكم في الظروف الخارجية، فسيظل في استطاعتي ألا أدع هذه الظروف تسيطر عليَّ سيطرة كاملة. ذلك لأنني أستطيع أن أقاوم تحكمها فيَّ، وحتى عندما تبلغ الأمور أسوأ مداها، فسيظل في إمكاني وضع إرادتي في مقابل كل قوتها الهدامة، متحديًا إياها أن تفعل أقصى ما تستطيع.

ولما كان قليل من اللاحتميين هم الذين يعترفون بأن هذا الإيمان الأساسي بقدرة الفرد على الانتصار داخليًّا على الظروف الخارجية هو كل ما تستطيع هذه المدرسة أن تقدمه، فأغلب الظن أنهم يتفقون جميعًا على أن هذا هو أعظم نصيب تسهم به اللاحتمية. فمن الواضح أنها تتيح ملجأ يعصمنا من الهجوم، نستطيع أن نحتمي به دائمًا عندما تبدو الحياة ثقيلة الوطأة علينا، ويمكننا أن نستجمع فيه قوانا لمواجهة الحياة ثانية. وعلى ذلك فإن اللاحتمية تقدم إلينا الكثير، وذلك إذا نظرنا إلى الأمور بمنظار برجماتي. فإذا ما كنا نقدر وجهات النظر الأخلاقية المختلفة على أساس ما يمكنها الإسهام به في السعادة البشرية، فمن المؤكد أن اللاحتمية تحتل عندئذٍ مكانة رفيعة في القائمة. فهي مصدر إلهام دائم لأولئك الذين يمكنهم الإيمان بهذا الاعتقاد، بل إن أولئك الذين يخالفون هذا الإيمان مضطرون إلى الاعتراف بأن مذاهب قليلة أخرى هي التي تستطيع أن تفعل أكثر مما تفعله اللاحتمية لرفع الروح المعنوية للإنسان.

وعد الحتمية: أسهم الحتمي من جانبه بدور له قيمته الكبرى، وهو يعدنا بمزايا أعظم في المستقبل عندما تتحقق النتائج الكاملة للموقف الحتمي. فهو أولًا قد فعل الكثير من أجل ربط الطبيعة البشرية ببقية العالم الطبيعي، وقد ساعد ذلك على تحقيق حلم طالما طاف بمخيلة الفيلسوف والعالم، وهو الوصول إلى معرفة موحدة تمامًا، تشمل تجربة الإنسان بأسرها وتفسرها. وقد أسهم الحتمي بنصيب آخر، هو تكوين صور أكثر علمية وواقعية للإنسان. ولقد كانت هذه الصورة، جزئيًّا، مخففة لغلواء الإنسان، بل كانت مخيبة لآماله؛ إذ إنها أثبتت أن الإنسان معتمد على بيئته في حياته العقلية، لا في حياته المادية وحدها. ولكن هذه الصورة كانت مثيرة وملهمة إلى حد أكبر؛ إذ إنها توحي بإمكانات هائلة للسعادة البشرية إذا أمكننا أن نعرف كيف نسيطر على بيئتنا سيطرة أفضل. وهنا يكمن أعظم وعد تقدمه إلينا الحتمية. فإذا كانت ذاتنا أو شخصيتنا، كما يرى الفرض الحتمي، حصيلة كل ما صادفناه، وكان له تأثير في الكائن العضوي المادي الذي ولدنا به، فإنه يترتب على ذلك أن يكون في وسعنا (عن طريق التعليم وتحسين السلالات) أن ننتج كائنات بشرية قريبة من أعلى المستويات. ذلك لأننا إذا استطعنا تكييف الفرد بحيث يستجيب لأمور معينة ويتخذ قرارات خاصة، فمن الواضح أننا نستطيع عندئذٍ أن نحقق سيطرة وفعالية اجتماعية أعظم — وبالتالي سعادة بشرية تفوق كل ما كنا نحلم به حتى اليوم.

من وجهة أخرى فلو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة الإنسان أن يتخذ قرارات غير مسببة على الإطلاق، فعندئذٍ يكون التعليم والجهد الذي يبذل للتحكم في البيئة الاجتماعية، كما رأينا من قبل، مضيعة للوقت إلى حدٍّ بعيد. ولهذا السبب كان القائل بالحتمية يتهم خصمه بأنه أكثر قدرية من القدري الصريح. ذلك لأنه إذا كان في استطاعتنا في أية لحظة أن ننكر تاريخنا الفردي بأسره، ونسلك اعتباطًا وكأننا قد ولدنا فجأة من جديد في عالم لا عِلِّية فيه. فمن الواضح عندئذٍ أننا لا نملك أية سيطرة على السلوك البشري. وإن مجتمعًا يتألف من إرادات غير متحددة أصلًا بأي شيء لا يكون إلا فوضى أخلاقية، بل إن العالم كما تصوره القدرية لينطوي على نظام يفوق ذلك الذي تصوره النظرة اللاحتمية إلى الأمور.

(٧) المشكلة في صلتها بالمثالية والطبيعية

اللاحتمية والمثالية: تبدو العلاقات بين الخلاف حول حرية الإرادة وبين التقابل الأوسع بين المذهبين المثالي والطبيعي أوضح من أن تحتاج إلى تحديد؛ ذلك لأن المثالية واللاحتمية كانتا مرتبطتين طوال تاريخ الفلسفة الغربية ارتباطًا بلغ من الوثوق حدًّا أصبح معه الحديث عن أحدهما ينطوي ضمنًا على الحديث عن الآخر. فمعظم المثاليين ينظرون إلى الحتمية على أنها فكرة لا يمكن تصورها حتى لو كانت حتمية معتدلة كتلك التي يقدمها المذهب في صورته المعاصرة. فإما أن يكون الإنسان حرًّا في حياته الذهنية والإرادية، وإما أن يكون عبدًا تقيده أغلال القدرية بالمسار الآلي لعالم متخبط. وفي رأي الذهن المثالي أن الاختيار بين هذين الطرفين أمر لا مفر منه، فإما أن يكون الإنسان حرًّا بحق وإما أن يكون عبدًا بالمعنى الكامل. أما صاحب المذهب الطبيعي فيرى، على العكس من ذلك، أنه لما كانت الطبيعة حدًّا أبعد وأقصى من الذهن، ولما كانت الطبيعة البشرية جزءًا لا يتجزأ من النظام الطبيعي، فيترتب على ذلك منطقيًّا أن قوانين النظام الطبيعي تسري بالضرورة على الإنسان. ولا يوجد، من بين القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة، ما هو أهم وأشد ضرورة من مبدأ العيلة.

والواقع أن الموقفين المتعارضين للمدرستين الميتافيزيقيتين الكبريين إزاء الحتمية يلزم منطقيًّا من مسلَّماتهما ومصادرتهما الخاصة. فبالنسبة إلى المثالية، التي تؤمن بأن الواقع روحي، يكون من المنطقي الاعتقاد بأن أوجه نشاطنا الذهني والإرادي قد تكون عالية على القوانين التي تحكم العالم غير الذهني أو خارجة عنها. وفضلًا عن ذلك فإذا نظر إلى الواقع على أنه قوة خلاقة من نوع ما، فعندئذٍ يمكن أن ينظر إلى مثل هذه القوانين (أي قوانين العلة والمعلول مثلًا) على أنها مخلوقة لكي تسري على العالم المادي على التخصيص. ومعنى ذلك أن تلك القوانين لا يقصد منها أن تسري على الذهن وأوجه نشاطه. وهذا موقف أشبه ما يكون بموقف المشرع الذي يضع قوانين لا تنطبق عليه هو نفسه.

الحتمية والمذهب الطبيعي: يوجه صاحب المذهب الطبيعي إلى المثالي، كعادته، تهمة ارتكاب جريمتين عقليتين: وضع العربة قبل الحصان، والإغراق في التفكير القائم على التمني. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي أن الأقرب إلى المنطق بالتأكيد هو الاعتقاد بأن الذهني قد انبثق من المادي، وبأن القوانين العامة التي تحكم الأصل تحكم الفرع أيضًا. فهنا يكشف المثالي عن ميله المعتاد إلى جعل العالم مأمونًا بالنسبة إلى القيم بأي ثمن، حتى لو كان معنى ذلك إغماض عينيه عن الوقائع وتجاهل النتائج الرئيسية للعلم. ويواصل صاحب المذهب الطبيعي كلامه قائلًا إن من الواضح أن المذهب اللاحتمي، الأثير لدى المثالي، لا يهتم أساسًا بالوقائع، وإنما يهمه تصوير العالم على أنه مشتل مصمم أحسن تصميم، تستطيع فيه أعز قيم الإنسان أن تنمو وتضمن ازدهارها الكامل. فينبغي أن يلاحظ مثلًا أن الواقعة الفعلية الوحيدة التي يقدمها اللاحتمي تأييدًا لموقفه هي الشعور بالحرية الذي نحس به عندما نتخذ قرارًا. فإذا ما قارنا هذا الحدس الواحد بوقائع العلم التي لا حصر لها، ولا سيما كشوف علم النفس، لبدت هذه «الواقعة» اللاحتمية الوحيدة منعزلة ضعيفة التأثير إلى حدٍّ بعيد. وينتهي صاحب المذهب الطبيعي من ذلك التساؤل: أيحق لنا أن نستغرب إذن حين نجد اللاحتمي يؤيد موقفه قبل كل شيء، على أساس ما ينبغي أن يكون عليه الموقف في عالم أخلاقي مرتكز حول القيم؛ أي على أساس ما يكون خيرًا للإنسان؟
كلمة تلخيص: وهكذا يتحتم على مشكلة الحرية البشرية أن تنتهي كما تنتهي كل مشكلات الفلسفة: فلدينا إجابتان ممكنتان، كلٌّ منهما منطقية مقنعة، وكلٌّ منهما لها مزاياها العديدة، وعلينا أن نختار بينهما. ولا مفر لنا عند القيام بهذا الاختيار من أن نتأثر بنظرتنا العامة إلى العالم. ولكن ما الذي يتحكم في نظرتنا هذه إلى العالم؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن ندور في حلقة مفرغة: فاللاحتمي يقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى العالم اعتباطي؛ إذ إن من الممكن القيام به على أسس أخلاقية وعقلية في فراغ لا سببية فيه. أما الحتمي فيقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى الحياة هو أمر محدد لنا. وفي استطاعته أن يذكر عوامل متعددة تسهم في هذا التحديد الأساسي: منها عوامل ذهنية (كالتعليم والبيئة العقلية العامة، إلخ)، وعوامل مادية (كالصحة وتوازن الغدد)، وعوامل اجتماعية أو اقتصادية (كالجماعة الاقتصادية التي نولد فيها، ومقدار الشعور بالاستقرار الذي يمكننا الوصول إليه، إلخ). فنظرتنا إلى العالم، في رأي الحتمي، خاضعة لتحكم هذه العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة، مثلما أن مسار الشهاب يتحدد تبعًا للقوى المؤثرة فيه.

وسوف نعود في الفصل الأخير من هذا الكتاب إلى بحث هذا الموضوع العلمي الشائق، موضوع أصل تلك المواقف المتباينة من العالم والتجربة البشرية، كالمثالية والطبيعية. ومع ذلك فلا بد لنا، قبل محاولة القيام بتحليل نهائي، أن نواجه عدة مشكلات فلسفية رئيسية أخرى، بعضها يرتبط بعلم الأخلاق المعاصر ارتباطًا وثيقًا.

١  من الترجمة العربية لرباعيات عمر الخيام، نظم الشاعر أحمد رامي. الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة من الشرق والغرب)، القاهرة ١٩٥٠م. (المترجم)
٢  اقتبست عدة نقاط من النقاط التالية من كتاب Conger المشار إليه من قبل.
٣  ما زال الجدال محتدمًا بين العلماء والفلاسفة حول مدى إمكان القول بأن «مبدأ اللاتحدد» (أي مبدأ هيزنبرج Heisenberg)، وهو المبدأ الهام في دراسة الفيزياء النووية، يشكل تحديًا لفكرة شمول مبدأ العِلِّية. ومع ذلك فليس لمبدأ اللاتحدد تأثير في الفيزياء غير النووية، وما دام سلوك المادة خارج اللذة يبدو خاضعًا لنفس الحتمية الدقيقة التي كان يخضع لها على الدوام. كذلك فإن مسألة معنى مبدأ اللاتحدد بالنسبة إلى النزاع حول حرية الإرادة، ما زالت تثير نقاشًا حادًّا بين علماء الفيزياء وعلماء النفس — والفلاسفة بالطبع.
٤  انظر: كننجهام، المرجع المذكور آنفًا. ونحن نزكي طريقة معالجة كننجهام لحجج كلا الطرفين، نظرًا إلى ما فيها من دقة وإحكام.
٥  «الأخلاق Ethics»، تذييل الباب الأول، وكذلك الباب الثالث، نتيجة النظرية ٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤