الفصل الخامس عشر

الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها

كان المحور الرئيسي لتفكيرنا، في الفصول الثلاثة الخاصة بالأخلاق، والتي ختمناها منذ قليل، هو الأخلاق التقليدية أو الكلاسيكية. فالمصطلحات والمفاهيم والحجج قد توطدت كلها نتيجة لكثرة الاستعمال — فتلك هي الأدوات أو المقاييس التي ظل المفكرون الأخلاقيون يستخدمونها أجيالًا عديدة، بل إن كثيرًا من المفاهيم والخلافات ترجع إلى وقت سقراط وأفلاطون وأرسطو. والواقع أنه كان من المستحيل، في مدخل عام إلى الفلسفة كهذا، أن نتجنب هذه النزعة التقليدية في التفكير الأخلاقي. ولقد كان من الممكن حتى عهد قريب القول بأنه لا يوجد فرع في الفلسفة تم استطلاعه وكشف معالمه كالأخلاق، ومن المؤكد أنه كان أقل الفروع تبشيرًا بحدوث تطورات في المستقبل. وهكذا كان يبدو وكأن مختلف المدارس في ميدان الأخلاق قد حاربت بعضها بعضًا حتى وصلت إلى مرحلة توقف — أو على الأقل نفدت ذخيرتها — دون أن يلوح في الأفق أي مصدر جديد لإمدادها بالمزيد منها. وعلى الرغم من أن مبحث القيم أو نظريتها العامة قد تطور تطورًا ملحوظًا خلال العصور الحديثة، مما أتاح أساسًا نظريًّا أمتن للتأمل النظري الأخلاقي، فإن الأمور في ميدان الأخلاق ذاته بدت مستقرة تمامًا. وكل ما كان يمكن أن يقال في صف كل وجهة نظر كان قد قيل مرات متعددة على ألسنة الأجيال المتعاقبة من أنصار وجهة النظر هذه. وهكذا كان الملاحظ الذي يقوم باستعراض للأخلاق في مجموعها خلال العقد الأول أو العقدين الأولين من هذا القرن، خليقًا بأن يكوِّن في ذهنه انطباعًا بأن هذا ميدان فكري ساكن نسبيًّا.

ومع ذلك ففي خلال ربع القرن الأخير أو نحو ذلك. تجددت حيوية الأخلاق على نحو ملحوظ. فقد توقف إلى حدٍّ بعيد ذلك التسكع القديم الهادئ في الدروب المطروقة للتفكير الأخلاقي، وعاد هذا الفرع من الفلسفة في الوقت الحالي إلى النشاط على نحو لا يقل عن نشاط أي فرع آخر في هذا الميدان. ولسنا نستطيع أن نحدد بدقة سبب يقظة الأخلاق من حالة الركود هذه، ومن الجائز أن عوامل متعددة قد تضافرت لتحقيق ذلك. وحين يستعرض المرء المؤلفات التي نشرت في هذا الموضوع خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، يبدو له أن هناك عاملين كان لهما تأثير خاص: أحدهما كان تأثيره تراكميًّا بطيئًا، على حين أن الآخر كان انقلابيًّا مفاجئًا. وبين هذين العاملين أتيح للمفكرين المعنيِّين بالنظرية الأخلاقية أن يقضوا في الآونة الأخيرة وقتًا مليئًا بالحيوية، وتفجرت خلافات جديدة في أرض الأخلاق بكثرة مثيرة.

هذان العاملان الرئيسيان اللذان أثرا في الأخلاق المعاصرة هما: (١) نمو العلوم الاجتماعية، ولا سيما علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا (٢) والتجريبية المنطقية. ولو رجعنا بأنظارنا عدة عشرات من السنين، لوجدنا أن العامل الأول من هذين كان هو الأهم، أما بالنسبة إلى السنوات القلائل الأخيرة فقد كانت التجريبية المنطقية هي الأهم. وعلى أية حال فقد كان تأثير هذين العاملين معًا من الأهمية بحيث أدى إلى تغيير كبير في ميدان الأخلاق بأسره. ومن سوء الحظ أن الخلاف الذي أثارته التجريبية المنطقية يحتدم الآن بشدة، وما زال الغبار كثيفًا إلى حد لا نستطيع معه أن نذكر إلى أين تتجه المعركة. ومن ثم فإن أي عرض نحاول تقديمه قد يغدو بعد سنوات قلائل متخلفًا عن ركب الزمان، ويقدم إلى الطلاب صورة مزيفة عن حدث هام في تاريخ الأخلاق؛ ولذا يبدو أن من الأفضل التركيز على التأثير الأوضح بكثير الذي مارسته العلوم الاجتماعية على الأخلاق المعاصرة. وعلى حين أن كثيرًا من المشكلات التي أثارتها العلوم الاجتماعية لم يبت فيها بعد، من وجهة النظر الأخلاقية، فإن هذه المشكلات قد أصبحت الآن مبوبة ومعروضة بقدر من الدقة يتيح تقديم عرض متوازن لها؛ لذلك فسوف نكرس ما لدينا من حيز محدود لهذه المشكلات.

(١) الأخلاق والعلوم الاجتماعية

كان من المحتم، بمجرد أن وصلت العلوم الاجتماعية إلى مكانتها العقلية الراهنة، أن يكون لها تأثير في التفكير الأخلاقي. فعلى عكس الفكرة السائدة بين الناس، والقائلة إن الفلاسفة (وضمنهم فلاسفة الأخلاق)، يسكنون أبراجًا عاجية لا تربطها بالعالم الخارجي للحياة اليومية البشرية أدنى صلة، نجد أن التفلسف النظري في الأخلاق كان دائمًا وثيق الارتباط بالتفكير النظري والممارسة العملية المتعلقَين بالميدان الاجتماعي المحيط به. بل لقد كان هذا التفلسف عادةً مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالإطار الاجتماعي المباشر الذي يوجد فيه، ولو كان في التفكير النظري الأخلاقي ضعف عام واحد، فما ذلك إلا اتجاهه إلى أن يكون مجرد تبرير غير ظاهر أو «بطانة» عقلية صنعت بحيث يمكن أن تبنى عليها العادات الأخلاقية الرسمية أو المعترف بها في مجتمع معين وعصر معين. وبالاختصار فقد كانت الأخلاق، على وجه العموم، محلية أو إقليمية. ولم تكن معظم المذاهب الأخلاقية «شاملة» أو «أزلية» أو «مطلقة» أو «مثالية» كما تزعم عادة، وإنما كانت نسبية تبعًا للحضارة والعصر التاريخي اللذين ظهرت فيهما. وفضلًا عن ذلك كان الكثير منها ينتسب بوضوح إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفيلسوف، أو التي ارتبط بها دون وعي.

ولو كان علينا أن نلخص التأثير العام للعلوم الاجتماعية في الأخلاق، لكان من الإنصاف أن نصفه بأنه زيادة في اتجاه الدقة والعمق، ونقص في الاتجاه المضاد، وهو اتجاه الإقليمية أو المحلية. هذه الدقة والعمق هي في الواقع مزيد من الوعي الذاتي والموضوعية؛ أي الإدراك المتزايد بأن الأخلاق تتعرض دائمًا للخطر الذي وصفناه من قبل، وهو أن تغدو مجرد أساس نظري للقواعد الأخلاقية المعمول بها في العصر الراهن. ومعنى ذلك أن المفكرين الأخلاقيين يبذلون جهدًا مطردًا لعبور مجالات المناخ الحضاري وتجاوز حدود القواعد الأخلاقية السائدة محليًّا، من أجل الوصول إلى الأسس الحقيقية للحكم الأخلاقي. وقد أصبحنا الآن أقوى شعورًا مما كنا في أي وقت مضى بضرورة (وصعوبة) تحديد أساس نظام أخلاقي شامل بحق، بدلًا من ذلك الذي ينطبق على المدنية الغربية وحدها، ويلائم المسيحيين دون غيرهم.

الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأخلاق: من الجائز أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي التي كان لها أكبر الأثر في هذا الصدد. ولقد أشرنا في فصل سابق إلى أن العالم الأنثروبولوجي لم يكن أول من اهتدى إلى أن العادات البشرية والمعايير الأخلاقية تتنوع إلى حدٍّ بعيد في شتى أرجاء العالم. ومع ذلك فقد كان أول من أماط اللثام عن كثير من الأسس الأيديولوجية التي تبرر هذه التنوعات. فقد كشفت لنا الأنثروبولوجيا عن مدى الاختلاف الجذري الذي يوجد بين بعض هذه الأيديولوجيات، بحيث لا يكون من المبالغة أن نقول إن أفراد جماعة حضارية معينة لا يعيشون في نفس العالم الذي يعيش فيه أفراد جماعة أخرى. فإذا قارنا مثلًا بين فكرة حيوية الطبيعة، وهي الفكرة التي تضفي على الأشياء والقوى المادية عقلًا وإرادة، وبين النظرة العلمية التي تحرص على استبعاد هذه الأرواح من العالم المادي، لتبين لنا أن القائل بحيوية الطبيعة والعالم لا يتكلمان لغة واحدة بأي معنى حقيقي لهذا اللفظ. ويستنتج علماء الأنثروبولوجيا من ذلك أن من العبث لذلك أن نتوقع من الطرفين أن يتكلما لغة أخلاقية واحدة؛ ذلك لأن من حقنا أن نتساءل: أليس من الممكن، بل من المرجح، أن يكون عالما القيم اللذان يعيش فيهما القائل بحيوية الطبيعة والعالم متباينين بقدر ما تتباين نظرتاهما إلى العالم الطبيعي؟

ولقد أخذت تتزايد على الدوام، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر صعوبة مسايرة الأخلاق التقليدية — التي كانت تلتزم عادةً بالبحث عن مذهب واحد، ثابت على مر الزمان، للقيم — للنتائج النسبية الواضحة التي ترتبت على الكشوف الأنثروبولوجية. فكلما ازدادت الوقائع الأنثروبولوجية تراكمًا، أصبحت مهمة تفسير ذلك التنوع الهائل للمعايير الأخلاقية على أساس مفهوم واحد للخير أصعب إلى حد يبعث على اليأس. حتى ظهر بوضوح في أوائل هذا القرن أن من الضروري النظر إلى المشكلة بأسرها من زاوية جديدة. وكان السؤال الذي يتعين البحث عن إجابة له هو في أساسه: هل يمكن أن تبنى الأخلاق، أو أية نظرية في القيمة، على العلم — ولا سيما العلم الطبيعي. أم أن عالم القيم مجال لا يستطيع المنهج العلمي أن يغزوه أو أن يسهم فيه بأي نصيب مفيد؟ وبالاختصار، فهل تكون تقويمات الإنسان وأحكامه المعيارية عالمًا متميزًا تمامًا، لا صلة له ببقية تجربته؟

والواقع أن الموقف الذي أصبح يواجهه المفكرون الأخلاقيون كان شبيهًا بذلك الذي واجهه الدين منذ ظهور العلم، ولا سيما منذ فترة النمو الهائل للمعرفة العلمية خلال الأعوام المائة الأخيرة. فقد اضطر المفكرون الدينيون — وبخاصة أولئك الذين كانوا مسئولين عن اتخاذ القرارات العقيدية — إلى الاختيار بين أمرين؛ فهل ينبغي عليهم أن يظلوا يتقبلون هذه المعرفة الجديدة بمجرد الإعلان عنها، والتوفيق بينها وبين العقيدة الدينية على نحو ما، حتى ولو كان ذلك مقابل تخفيف هذه العقيدة إلى حد تصبح معه أوجه الشبه بينها وبين المذهب المسيحي كما عرفته الأجيال السابقة ضئيلة للغاية؟ أم أن من واجبهم، على العكس من ذلك، أن يتمسكوا بموقف الدين ويتجاهلوا الكشف العلمي، بل يفندوه؟ الواقع أن هذا الاختيار كان عسيرًا بحق. وفي أمريكا سلكت الجماعات البروتستانتية المتحررة الطريق الأول، والجماعات المتمسكة بالعقيدة الأساسية Fundamentalists الطريق الثاني، غير أن ثمن كل اختيار كان باهظًا إلى حد يصعب معه أحيانًا على من يتأمل الأمور من الخارج أن يقرر أيهما كان يؤدي إلى خسارة في الهيبة والنزاهة العقلية أكبر مما يؤدي إليه الآخر.

وهكذا الحال في التفكير الأخلاقي في القرن الحالي؛ فهل يجب على الأخلاق ونظرية القيم أن تبذل جهدًا مستمرًّا للانتفاع من المعرفة العملية، ولا سيما الأنثروبولوجيا وعلم النفس؟ أم أن عليها أن تتجاهل العلم على أساس أنه لا صلة له بمشكلتي «الخير» و«الحق»؟ إن أهم انقسام رئيسي في الأخلاق المعاصرة هو ذلك الذي يترتب على الإجابات المتعارضة عن هذا السؤال العظيم الأهمية. وعلى حين أن في علم الأخلاق المعاصر بالطبع مدارس متعددة، كما كانت الحال في الماضي، فإن هذه المدارس في عمومها تتبلور حول هذين القطبين الرئيسيين للتفكير الأخلاقي. ولو استطعنا أن نكون صورة واضحة عن هذا الاستقطاب الأساسي، لأمكننا تبديد كثير من الغموض والنزاع الناشب في هذا الميدان.

(٢) «مغالطة المذهب الطبيعي»

يمكن القول بأن ج. أ. مور، الفيلسوف الإنجليزي الذي أسهم بالكثير في فروع متعددة من الفلسفة المعاصرة، هو المفكر الذي يرجع إليه الفضل أكثر من غيره في إيضاح معالم هذا الخلاف. ففي كتابه «مبادئ علم الأخلاق Principa Ethica»، الذي هو دون شك الكتاب الذي أثار أكبر قدر من المناقشات في علم الأخلاق الحديث، يعرض الرأي القائل إن القيم الكامنة أو الباطنة تتميز بأنها (١) فريدة على نحو مطلق، (٢) وغير قابلة للتعريف، (٣) وتدرك بالحدس. ثم اتهم المفكرين الذين لا يقبلون هذه القيم على أنها فريدة غير قابلة للتعريف ومعروفة بالحدس «بمغالطة المذهب الطبيعي Naturalistic Fallacy» ولقد ظل تأكيد هذه «المغالطة» ونفيها، طوال عشرات متعددة من السنين في الآونة الأخيرة هو المحور الذي تدور حوله الخلافات في علم الأخلاق، بحيث إن فهم هذه المغالطة يعد مدخلًا معقولًا إلى فهم الأخلاق المعاصرة.
طبيعة القيمة الكامنة: استخدمنا في عدة مواضع من الفصول السابقة اللفظ المنطقي «فريدًا في نوعه» للتعبير عن شيء يكون فئة قائمة بذاتها، أعني شيئًا لا يندرج تحت هذه الفئة أو تلك، ولا يمكن بأي حال تصنيفه تحت باب آخر. ويرى الموقف الأخلاقي الذي نبحثه الآن — الذي يمثله «مور»، أن أوضح مثال لما هو «فريد في نوعه» يوجد في عالم القيم. فهذه النظرية، في صميمها، تقول إن «القيمة» أو «الخيرية» فريدة بمعنى الكلمة، فهي ليست اسمًا آخر لشيء غيرها، «كاللذة» أو «السعادة». و«الخير» (حتى لو لم يؤخذ بمعنى شامل) متميز تمامًا عن كل ما يمكننا معرفته عداه. ونحن لا نسمي الأشياء «خيرة» لأنها تتصف بصفات معينة يمكن أن توجد أيضًا في أشياء مفتقرة إلى الخيرية؛ أي إن الخيرية ليست مجموع صفات طبيعية أو وصفية، وليس ثمة وسيلة لاستخلاص الخيرية من صفات طبيعية بالتجريد أو التخليص. وهكذا نصل إلى أول تعبير محدد المعالم عن مغالطة المذهب الطبيعي التي سنعرفها بألفاظ مور ذاتها: «مغالطة المذهب الطبيعي هي القول بأن الخير لا يعني إلا فكرة بسيطة أو معقدة يمكن تعريفها على أساس صفات طبيعية».١
ولقد كانت فكرة مغالطة المذهب الطبيعي ترتبط عادةً بالاعتقاد بأن هناك انقسامًا ثنائيًّا دائمًا بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ أي بين الواقع والقيمة، والمعياري والوصفي.٢ ويرى مور وأتباعه من خصوم المذهب الطبيعي أن هذه المغالطة تنشأ كلما حاولنا عبور الهوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبخاصة إذا حاولنا أن نستخلص الأخير من الأول. والمثل المألوف لهذه المحاولة هو القول بأن اللذة خير لأن كل الناس يسعون إليها، وبذلك نستمد القيمة من الواقع في هذه الحالة. أما خصم المذهب الطبيعي، أو الحدسي، فيتساءل دائمًا، كلما سمع استدلالًا كهذا: «ما شأن هذا بالموضوع؟ هل يصبح خيرًا لمجرد كون الناس يرغبون فيه — وفي هذه الحالة، كم يجب أن يكون عدد هؤلاء الناس؟ وما هي النسبة المئوية من الجنس البشري التي ينبغي أن تتفق في رغباتها قبل أن تصبح هذه الرغبات خيرًا — أم أن من الممكن أن تعد رغبة شخص واحد، مهما تكن مضادة للمجتمع، خيرًا؟»

لقد اقتبسنا من قبل سؤال اسبينوزا المشهور في هذه النقطة: هل نرغب في الأشياء لأنها خير في ذاتها، أم أننا نقتصر على تمجيد رغباتنا وتبريرها إذ نسمي موضوعها «خيرًا»؟ لقد انحاز اسبينوزا إلى الرأي الثاني، كما فعل معاصره الإنجليزي «توماس هوبز»، الذي كتب يقول: «إن الإنسان يسمي «خيرًا» كل ما هو موضوع لشهوته أو لرغبته». وقد اتفقت معظم أشكال المذهب الطبيعي في الأخلاق مع مفكري القرن السابع عشر هذين. غير أن الحدسيين من أمثال مور يختارون الرأي الأول على نحوٍ قاطع. فالخيرية كامنة في بعض الموضوعات والمواقف، مثلما أن اللون الأصفر كامن في أشياء معينة. وفي استطاعتنا أن نمضي في التشبيه أبعد من ذلك: فكما أن اللون، من حيث هو تجربة، يستحيل تعريفه، ولا يمكن أن يعرف إلا بالمواجهة المباشرة لأشياء ملونة، فكذلك لا تعرف القيمة أو الخيرية إلا بالحدس، عن طريق كشفها في الموضوعات والمواقف. فمن المستحيل الاستدلال عليها أو المناقشة حولها. فالخيرية كامنة، وإذا كان هناك فرد معين يعجز عن إدراكها فلا بد أن نفترض أن هناك عمى أخلاقيًّا مثلما أن هناك عمى للألوان.

ولعل «دافيد هيوم» كان أول من أدرك أن المفكرين الأخلاقيين كثيرًا ما يتحولون من الواقع إلى القيمة؛ أي مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون — في مرحلة معينة من مناقشتهم، وأن معظم أنصارهم كانوا يقبلون هذا التحول بسهولة دون نقد. والواقع أن تعليق هيوم على هذا الموضوع جدير بأن يقتبس بأكمله:
«لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أضيف إلى هذه الاستدلالات ملاحظة ربما تبين أن لها بعض الأهمية. ففي كل مذهب أخلاقي صادفته من قبل، لاحظت دائمًا أن الكاتب يمضي بعض الوقت في الطريق المألوف للاستدلال، ويثبت وجود الله، أو يقوم بملاحظات عن أمور البشر، ولكني أندهش إذ أجد فجأة، بدلًا من الروابط المعتادة للقضايا، وهي «يكون» أو «لا يكون»، أن كل القضايا ترتبط بألفاظ «ينبغي» أو «لا ينبغي». هذا التغير لا يمكن إدراكه، ولكن له مع ذلك أهمية كبرى. ذلك لأنه لما كان لفظ «ينبغي» و«لا ينبغي» هذا يعبر عن علاقة جديدة أو تأكيد جديد معين، فمن الضروري أن يلاحظ ويفسر، وفي الوقت ذاته فمن الضروري تقديم سبب لما يبدو أمرًا لا يتصور على الإطلاق، وهو كيفية استنباط هذه العلاقة من غيرها من العلاقات التي تختلف عنها كل الاختلاف. ولكن لما كان الكتاب لا يحتاطون على هذا النحو عادة، فسوف أوصي القراء بذلك وأنا على ثقة أن قدرًا بسيطًا من التنبه إلى هذا الأمر كفيل بهدم جميع المذاهب الفجة في الأخلاق، وجعلنا ندرك أن تمييز الرذيلة من الفضيلة لا يبنى فقط على علاقات الأشياء، ولا يدرك بالعقل».٣

وبعبارة أكثر إيجازًا، فإن هيوم يقول إننا لا نستطيع استخلاص نتائج أخلاقية من مقدمات غير أخلاقية. ويمضي الحدسيون أبعد من ذلك بكثير، فيؤكدون أننا لا نستطيع تعريف المفاهيم الأخلاقية على أساس مفاهيم غير أخلاقية؛ ذلك لأن عالم الأخلاق أو القيمة منفصل تمامًا عن العالم غير الأخلاقي ولا يمكن أن يرد إليه، ما دامت الكيفيات الأخلاقية مختلفة في النوع كل الاختلاف عن الكيفيات غير الأخلاقية.

وهناك قائمة طويلة للأشياء التي ينكر الحدسيون أن القيمة يمكن أن ترد إليها على التخصيص، ولكن من المفيد أن نذكر بعضها؛ إذ إن من المحتمل أن يكون القارئ نفسه قد قام بعملية رد كهذه؛ ولذا يحسن به أن يتنبه إلى ما فعل. ولا شك أن إيراد قائمة «الرد» هذه سوف يقتضي الكلام عن كثير من المدارس المتنافسة في التفكير الأخلاقي، ولكن لما كنا قد ناقشنا من قبل عدة مدارس من هذه، فسوف يكون عرضنا لهذه المدارس موجزًا.

القيمة ليست عملية طبيعية: ينكر المذهب الحدسي، كما هو واضح، إمكان إرجاع القيمة إلى عملية طبيعية أو ما يترتب عليها. ومن ثم فهو يرفض الأخلاق التطورية، التي ترى أن القيمة هي آخر الأمر كل ما يعين على البقاء أو يحقق مصلحة النوع.

بل إن الحدسيين يأبون أن يدرجوا صفات بشرية رفيعة، كالتعاون والتعاطف (التي يعتقد بعض التطوريين، ومنهم دارون، أنها نواتج للانتقاء الطبيعي)، ضمن القيم التي يعترفون بها إذا كان أساس قبولها هو أنها تساعد البشر. وليس معنى ذلك أن مفكرًا مثل مور ينكر أن التعاطف والتعاون من ضمن القيم، وإنما هو ينكر أن تكون هاتان خيرًا لأن لهما قيمة تفيد في حفظ النوع، أو لأنهما تخففان من مصاعب الحياة البشرية، أو لأنهما تستتبعان نتائج طيبة. ولنقل مرة أخرى إن هذه الصفات كامنة؛ أي إنها خير لأنها خير، لا لأي سبب يعد وسيلة لشيء آخر.

كذلك يرفض الموقف الحدسي بشدة الرأي القائل إن العمليات الاجتماعية، المتميزة عن عملية بيولوجية كالتطور، تتحكم على أي نحو في تحديد القيم. وهو يهاجم بوجه خاص النظريتين الأكثر شيوعًا من بين النظريات القائلة بالعملية الاجتماعية، وهما الماركسية والبرجماتية، فالمذهب الماركسي مثلًا يرى أن القيم الرئيسية في أي مجتمع هي إلى حدٍّ بعيد تعبير عن مصالح الطبقة ذات السيطرة الاجتماعية والاقتصادية على هذا المجتمع. ولذا لم تكن هناك قيم شاملة، ولا سيما في ميدان الأخلاق. ولا يمكن أن يكون هناك إلا «أخلاق بورجوازية» (وهو تعبير أثير لدى الماركسيين)، أو «أخلاق رأسمالية»، أو «قيم جماعية عمالية». وهذا يؤدي إلى جعل القيم نسبية تمامًا، وتصبح النظرية الحدسية القائلة بقيم كامنة تدركها كل الأذهان ممتنعة تمامًا. فأقصى ما يمكن أن تكونه الأخلاق هو أن تكون مشتركة بين كل أفراد الطبقة الواحدة فحسب، وهم الذين يشتركون أيضًا في نفس المصالح الاقتصادية والسياسية.

القيمة لا تتوقف على الموافقة: ويعارض الموقف الحدسي بنفس القوة نظريات القيمة المتعددة التي تحاول التوحيد بين التقويم وبين الموافقة أو الاستحسان. هذه الآراء المرفوضة تتفق مع موقف اسبينوزا وهوبز في القول بأن تسمية هذه الشيء «خيرًا» لا تعني إلا أننا (بوصفنا أفرادًا أو مجتمعًا) نوافق على هذا الشيء، ونجده «باعثًا للذة» أو «مرغوبًا» فيه أو «مرضيًا» أو ما شاكل ذلك. ويرى الحدسي أن هذه الآراء المبنية على فكرة الموافقة أو الإقرار تكشف عن ماهية «مغالطة المذهب الطبيعي» ذاتها، ما دام من الواضح أنها تجعل ما هو كائن؛ أي ما يرغب فيه، مساويًا لما ينبغي أن يكون؛ أي لما يطلب إلينا أي مذهب أخلاقي أن نسعى إليه.

ولعل أعنف نقد يوجهه الحدسي إلى النظريات التي تبني القيمة على الموافقة، هو أن هذه النظريات، آخر الأمر، تجعل القيمة ذاتية وشخصية تمامًا، وبذلك تسمح بحالة تقترب من الفوضى الأخلاقية؛ ذلك لأن من الواضح أن هذه النظريات تسمح لي بالموافقة على شيء ترفضه أنت. ولكن إذا لم يكن «الخير» يعني إلا الموافقة، فلا بد أنك ستصادف مواقف يوصف فيها الشيء الواحد بأنه «خير» و«شر» — مما يجعل هذين اللفظين خلوًا من المعنى في نظر أي مذهب شامل للقيم. ويرى الحدسي أن ما نحتاج إليه هو معيار عام أو شامل للقيمة، ولكن الاختلاف الواضح بين الناس حول ما ينبغي الموافقة عليه يجعل نظريات الموافقة مستحيلة. وحتى لو اشترطنا موافقة المجتمع أو الجماعة فسيظل هناك الاختلافات بين الجماعات الاجتماعية، وبذا لا نقترب من المعيار العام أكثر كثيرًا مما كنا عندما اتخذنا من موافقة الفرد مقياسًا لنا.

القيمة لا تتوقف على الله أو الحقيقة الشاملة: لا بد أن يكون القارئ قد أدرك الآن أن المذهب الحدسي الأخلاقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمذهب كانت في الأخلاق المطلقة، وكذلك بالمذاهب المثالية عامة (وربما بمذهب الألوهية المفارقة)؛ لذا قد يكون مما يدعو إلى الدهشة أن يعلم القارئ أن الحدسي، إلى جانب رفضه أية محاولة لبناء القيم على الطبيعة المادية أو الطبيعة البشرية، يحمل أيضًا على الجهود التي تبذل لبناء القيمة على أي نوع من النظام الميتافيزيقي (كما تفعل المثالية) أو حتى وضعها في إطار لاهوتي (كما يفعل رجل الدين). وهو يحمل بوجه خاص على الرأي المميز لمذهب الألوهية، والقائل إن «الخير» أو «الحق» يتحددان بإرادة الله أو مشيئته. وعلى الرغم من أن الحدسي عادةً لا يتوسع كثيرًا في هذه المسألة، فإن تعاليم معظم أفراد هذه المدرسة تنطوي على القول بأن الله يقر أشياء معينة لأنها خير في ذاتها، مستقلة عن الطبيعة الإلهية. فخيريتها سابقة للألوهية، والله يمجد القيم ويسعى إلى تحقيقها لنفس السبب الذي نفعل نحن من أجله ذلك: أي لأنها كامنة ولا ترد إلى أي شيء أكثر أساسية منها. وليس الله هو الذي يصنع هذه القيم الكامنة، وإنما هو يستجيب لها استجابة الرضا فحسب، مثلما أفعل أنا وأنت، ولا يمكن أن يؤدي أي فعل للإرادة الإلهية إلى تغيير خيريتها.
والأمر كذلك بالنسبة إلى العلاقة بين «الخير» وبين «الواقع Real» كما يتصور على أساس ميتافيزيقي. فالقيم لا تكون في نظر الحدسي «خيرًا» لأنها تندمج في العقل المطلق أو الكلي، وإنما هي مستقلة واقعية في ذاتها. وإذا لم يكن هناك بد من بيان العلاقة بينهما، فلنقل إنها تساعد على تحديد طابع «الواقع الشامل»، لا العكس كما يعتقد معظم الميتافيزيقيين.
كيف تعرف القيم؟ هذا التأكيد المستمر لاستحالة إرجاع القيم الكامنة إلى أي شيء، طبيعيًّا كان أم فوق الطبيعي، فيما عدا الطابع الفريد لهذه القيم ذاتها، يؤدي بنا إلى هذه المشكلة الإبستمولوجية: كيف يمكن معرفة هذه القيم؟ أو بعبارة أعم، كيف يمكن معرفة أي شيء يكون فريدًا تمامًا في نوعه، بحيث لا تنطبق عليه الألفاظ المنسوبة إلى بقية تجربتنا؟ ولو كانت القيم فريدة بحيث لا تلائمها الألفاظ الوصفية التي تستخدم عادةً في تصنيف تجاربنا، فما الذي يمكننا أن نقوله عن هذه القيم، دون أن يكون من قبيل الخزعبلات الصوفية؟ وكيف نستطيع تبادل المعلومات المتعلقة بها، وكيف نربطها ببقية عناصر تجربتنا الشخصية؟ أو نتساءل، من وجهة النظر الإبستمولوجية: أليس أي رأي مثل رأي مور هذا موازيًا للتجربة الصوفية لله، وهي التجربة التي لا توصف ولا تعبر عنها الألفاظ؟
الواقع أن المفكرين الذين يتخذون هذا الموقف لا يصفونه بأنه مذهب صوفي، ولكنهم في الوقت ذاته لا يتهربون من الوقائع الإبستمولوجية. فهم يعترفون بأن ما هو فريد لا يمكن أن يعرف إلا بالإدراك الحدسي المباشر. فهذه المعرفة مباشرة بالضرورة، لا مقالية أو لغوية Discursive. وقد استخدمنا من قبل التشبيه الأثير لدى مور، وهي تجربة إدراك اللون: «فالأصفر» ليس شيئًا يمكن وصفه أو معرفة بعملية استدلالية، وإنما هو يعرف مباشرة بالمواجهة، أو لا يعرف على الإطلاق. وهكذا الحال في «الخيرية» فإذا لم نعرفها مباشرة كلما واجهنا مواقف وموضوعات معينة، فلن نعرفها على الإطلاق. وليس في وسع أحد أن يقنعنا أو يجادلنا لكي يجعلنا نعترف بالخيرية؛ إذ إننا لو كنا ندركها فلن نحتاج إلى استدلال، أما لو لم نكن ندركها فلن يكون للاستدلال جدوى.٤

(٣) المذهب الحدسي والإلزام

يذكر القارئ أن هناك مشكلتين كبريين تحتلان في البحث النظري للأخلاق مكانة رئيسية، وتتساويان في أهميتهما وتعقيدهما. هاتان المشكلتان تتعلقان بطبيعة الخير ومصدر الإلزام. وأغلب الظن أنه لم يكن هناك مفر، بعد أن شاع الاعتراف بالنظرية الحدسية في الخير، من أن تظهر نظرية موازية لها في الإلزام. ولقد كان أشهر المدافعين عن هذه النظرية مفكر إنجليزي آخر، ﻫ. أ. برتشارد H. A. Prichard. فقد نشر من سنوات طوال، في عام ١٩١٢م، مقالًا من أكثر مقالات الأخلاق الحديثة إثارة للجدل تحت عنوان مشوق هو «هل ترتكز الفلسفة الأخلاقية على خطأ؟»٥ ويبدأ برتشارد بالاعتراف بفردانية الخير، بنفس لهجة «مور» القاطعة، ولكنه بعد ذلك ينكر أن يكون الخير هو العامل الوحيد في الأخلاق، أو أن يكون من الممكن استخلاص الواجب أو الإلزام من الخير. فكما ينكر الحدسيون إمكان استخلاص «ما هو خير» «مما هو موجود»، فكذلك ينكر برتشارد بدوره إمكان استخلاص الواجب من الخير. وكذلك لا يمكن استخلاص الإلزام من أي شيء آخر؛ فهو بدوره غير قابل للرد، مستقل بذاته، فريد في نوعه.

والواقع أننا نبدأ في إدراك مدى التغيير الجذري الذي يمثله موقف برتشارد عندما نتريث لحظة ونتأمل كيف أننا نبث بانتظام في نفوس الصغار من أفراد مجتمعنا الفكرة القائلة إنه ينبغي أو لا ينبغي لهم أن يفعلوا أشياء معينة؛ لأن هذه الأفعال (١) تساعد الآخرين أو تضرهم (٢) تجعل الآخرين سعداء أو تعساء، (٣) تجعلهم هم أنفسهم سعداء أو تعساء (٤) تؤدي إلى استحسان المجتمع أو استهجانه، (٥) تنطوي على إطاعة أو عصيان لأوامر الله، بل إن الأمر المطلق ذاته عند (كانت)، وإن يكن قريب الشبه ما نحن بصدده إلى حدٍّ بعيد. يبدو أقل تطرفًا لأن «كانت» قد أوضح بعد ذلك أن خرق الأمر «افعل واجبك لأنه واجبك» ينطوي على تناقض منطقي، كما رأينا في الفصل الثالث عشر، بل إن برتشارد يخالف التراث على نحو أكثر تطرفًا عندما ينكر أن الالتزام بأداء فعل يتوقف على خيرية شيء متضمن في الفعل — كإطاعة القانون مثلًا. فالفعل يكون خيرًا لأنه يؤدى بوصفه واجبًا؛ أي إن سبب أداء الفعل هو الذي يمكن أن يجعله خيرًا، لا نتائجه.

كذلك تعتمد نظرية الإلزام هذه على إحساس بالإلزام يتصف بأنه مباشر، غير متوقف على العقل، هو الذي يكشف لنا عن واجبنا. فإذا كنا واعين لكل الوقائع في موقف معين، فعندئذٍ ندرك الإلزام إدراكًا كاملًا مباشرًا. ويشبه برتشارد هذا الفهم بفهم العلاقات الرياضية، ويرى أن الموقفين يتضامنان إدراكًا لحقائق واضحة بذاتها. وكما يقول هو ذاته في المثل الذي يضربه، فإذا لم نكن واثقين أننا أتينا بالحل الصحيح لمسألة رياضية، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نحلها مرة أخرى. فليس في استطاعتنا أن نلجأ إلى مصدر خارج عن الرياضيات لكي نتأكد منه. وهكذا الحال في المواقف الأخلاقية المتعلقة بالواجب: فإذا لم نكن واثقين من أن هناك واجبًا، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نعيد حل المسألة الأخلاقية — أرى أن نعيد النظر في الوقائع الأخلاقية.

ولا يستطيع برتشارد أن ينكر أن هناك أشخاصًا يجدون صعوبة في إدراك الالتزامات، مثلما أن هناك أشخاصًا يجدون أن من العسير عليهم فهم العلاقات الرياضية. ولكن، مثلما أننا عندما ندرك العلاقة آخر الأمر في الرياضيات، نعجب كيف غابت عنا من قبل، فإننا عندما ندرك الإلزام في النهاية قد نعجب كيف فاتنا من قبل — وكيف لا يزال يوجد من يعجزون عن رؤيته. وفي كلتا الحالتين تصبح الحقيقة مطلقة واضحة بذاتها، كما تصبح مكتفية بذاتها من حيث إن أي شيء من خارج الموقف لا يلزم لجعلها صحيحة.

المذهب الحدسي والعلوم الاجتماعية: من الواضح أن هذه المواقف الحدسية تمثل رد فعل على العلم الاجتماعي، وذلك على الأقل بالنسبة إلى ما قد يكون لهذا العلم من تأثير في مجال الأخلاق. ومن الواضح أيضًا أنها تشكل رد فعل مماثل لرد فعل المتمسكين بأساسيات الدين (Religious Fundamentalist) على العلم الجيولوجي والبيولوجي؛ أعني أن رد فعلها هو الدحض والتفنيد. فالمذهب الحدسي في الأخلاق هو في أساسه رفض للتعامل مع العلوم الاجتماعية، بإنكار إمكان وجود أية صلة لعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والعلوم السياسية والتاريخ بالأخلاق. وهكذا فإن الحدسي؛ إذ يرفض أن يدع الأخلاق «تتلوث» بمثل هذه المؤثرات، يحفظ «للخير» و«الواجب» نقاءهما. أما كونه يجعلهما عقيمين نتيجة لموقفه هذا أم لا، فتلك مسألة ما زالت موضوع مناقشة في الأوساط الأخلاقية. فمن الواضح إذن أن الموقف الحدسي مضاد للنسبية، وعلى الرغم من أن أنصاره يتجنبون عادةً إدراج أنفسهم ضمن القائلين بمذهب المطلق، فإن خصومهم يجدون من اليسير أن يصفوهم بهذا الوصف.
خصوم المذهب الحدسي: على الرغم من أن المذهب الحدسي قد انتقد من مصادر متعددة، فلا جدال في أن أعنف معارضة له جاءت من تلك المدارس التي تحاول بالفعل أن تتلاقى مع العلوم الاجتماعية الدائمة التوسع، عن طريق استيعاب كشوفها ومواجهة نتائجها. ومن الواضح أن مثل هذه المدارس تعمل في جو عقلي مختلف تمامًا عن ذلك الذي يتنفس فيه الحدسيون. ويمكن القول باختصار أن هذه الفئة التي تعارض المذهب الحدسي تجمع بينها حقيقة واحدة. فكلها تنكر أن تكون «مغالطة المذهب الطبيعي» المزعومة مغالطة بالفعل، وتؤكد بدلًا من ذلك أن القضايا الأخلاقية لا يمكن فقط أن تستمد من العالم الواقعي للطبيعة المادية والطبيعة البشرية، بل ينبغي أن تستمد من هذا العالم إذا شئنا أن يكون للأخلاق أي معنى أو أي مجال. وبالاختصار، فهي تنكر إمكان القيام بالتفكير الأخلاقي في فراع ثم تحويله إلى عالم الأمور البشرية. وهذا يعني أن هذه المدارس المؤمنة بالمذهب الطبيعي تفند صراحة الفكرة الأساسية في المذهب الحدسي، وهي فكرة الاستقلال الذاتي للقيم، وفردانيتها، واستحالة ردها إلى غيرها.

ولكن من سوء الحظ أن هذه المدارس، بعد أن اتحدت في معارضتها للمذهب الحدسي، قد سلكت طرقًا متشعبة إلى حدٍّ بعيد. وهذا يزيد من صعوبة تقديمها إلى القارئ، بل يجعله مستحيلًا في حدود كتاب كهذا. فلا بد من صفحات كثيرة لتقديم عرض معقول للمدارس الرئيسية التي تؤمن بالمذهب الطبيعي في الأخلاق، أما إذا شئنا تقديم عرض شامل لها، فسوف نحتاج إلى فصول كاملة. ذلك لأن كل مدرسة تبذل جهودها الخاصة لاستخلاص القيمة من الواقع، و«الخير» من «الموجود». وكثير من هذه المحاولات بارعة، بل إن بعضها رائع — وكلها تقريبًا معقدة عسيرة، ولا بد من الاعتراف بأن أيًّا منها (أو حتى كلها مجتمعة) لم تفلح في تحويل الكثير من خصوم المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى هذا المذهب.

والأجدر بنا، بدلًا من أن نبعث الاضطراب في ذهن القارئ بتقديم موجزات لا بد أن تكون سريعة غير وافية لمدارس المذهب الطبيعي هذه، أن نلخص بعض الصعوبات التي تعترض أي مفكر لديه إحساس بالمسئولية، يحاول إدماج الأخلاق في العلوم الطبيعية. هذه الصعوبات هي نفسها بالطبع التي تقنع معظم الحدسيين بأن الأخلاق لا يمكن أن تستمد من العلم أو حتى أن ترتبط به، وتدفعهم إلى اتخاذ موقفهم المتطرف. وهذه كذلك هي المشكلات التي تؤدي إلى ظهور رد فعل ثالث ممكن، يتخذ على طريقته الخاصة موقفًا لا يقل تطرفًا من موقف المذهب الحدسي — هذا الاتجاه الثالث هو مذهب الشك الأخلاقي الذي ينكر إمكان قيام أية نظرية صحيحة في القيمة، أو إمكان الاهتداء إلى أي أساس منطقي للإلزام. ويرى الشكاك أن القيم كلها بلا استثناء، ليست نسبية فحسب، بل هي فردية وشخصية بالمعنى الدقيق، وهي أيضًا اعتباطية في نهاية الأمر؛ إذ إنها ترتد إلى حكم أو اختيار لا عقلي، وقد يكون لا شعوريًّا.

المواقف الثلاثة الممكنة: وهكذا فإننا عندما ندرس الأخلاق المعاصرة والعلوم الاجتماعية في مجموعها، نجد أن هناك ثلاثة مواقف رئيسية ممكنة إزاء هذه العلوم ومعرفتها المتراكمة. ففي الطرفين القصيَّين نجد المذهب الحدسي ومذهب الشك، كليهما ينكر أننا نستطيع استخلاص القيمة والإلزام من الواقع الاجتماعي أو الأنثربولوجي أو النفسي، ولكن بينما أحدهما يعود إلى الإدراك الحدسي للحقائق الأخلاقية الفريدة الواضحة بذاتها، فإن الآخر يظل يؤكد أن هذا مذهب يائس، صوفي، غيبي في أساسه، وأن المبررات التي يرتكز عليها أضعف حتى من تلك التي يبرر بها المذهب الطبيعي جهوده للتخلص من النزعة الذاتية والاعتباطية عن طريق استخلاص «القيمة» من «الواقع» و«الإلزام» من «العادات الاجتماعية». وهكذا فإن الشكاك ينظر إلى المذهب الطبيعي والمذهب الحدسي معًا على أنهما غير صحيحين، وينكر إمكان كشف أية معرفة أخلاقية. أما صاحب المذهب الطبيعي، فهو إذ يرفض ما يرى أنه نزعة يأس في أحد الموقفين، واتجاه انهزامي في الموقف الآخر، يواصل مهمته العسيرة التي كثيرًا ما تكون مثبطة للهمم — مهمة استخلاص القيم من عالم الطبيعة المادية والطبيعة البشرية، واثقًا أنه سيتمكن بمضي الوقت من بناء مذاهب في القيمة على أسس من العلم مشابهة لمذهب المعرفة التي نستطيع الآن بناءها على هذه الأسس.

(٤) الصعوبات التي تواجه الأخلاق المعاصرة

فلننتقل الآن إلى الصعوبات التي لا مفر للعلم الاجتماعي من أن يثقل بها كاهل الأخلاق المعاصرة، وهي صعوبات تؤدي بأحد الأطراف إلى التراجع الصوفي، وبالآخر إلى الانهزام الشكي، وبالثالث إلى الإصرار العنيد. ولقد تكررت إشارتنا من قبل إلى النتائج النسبية التي يبدو أنها تتولد حتمًا عن التراكم الهائل للبيانات والوقائع الأنثروبولوجية التي أصبحت الآن في متناول أيدينا، بحيث لا نحتاج الآن إلى أن نضيف الكثير إلى ما قلناه في هذا الموضوع؛ ذلك لأن التنوعات في المعايير البشرية ونظم القيم تبدو في نظر علماء الأنثروبولوجيا لا نهائية العدد، ولا جدال في أنه يندر أن نجد مشتغلًا في هذا الميدان يؤمن بوجود عناصر مطلقة في الأخلاق والقيم، مستقلة عن إطارها الحضاري. ويرى علماء الأنثروبولوجيا عادةً أن أقصى ما يمكننا أن نفعله هو أن نكتشف قيمًا مشتركة محدودة مصدرها وجود عنصر أساسي مشترك لا يرد إلى غيره في الطبيعة البشرية، وهو عنصر لا يمكن أن تقضي عليه الاختلافات الحضارية؛ ومن ثم فإن هؤلاء العلماء الاجتماعيين يبدون أحيانًا استعدادهم للاعتراف على حذر بإمكان وجود مشاعر اجتماعية مشتركة بين الناس جميعًا، تسمح بوضع إطار أخلاقي عام غير محدد المعالم، ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن علماء الأنثروبولوجيا ينظرون إلى هذا الإطار على أنه شيء لو أمكن أن يتحقق، لما كان مستمدًّا إلا من الطبيعة البشرية. وهكذا فإنهم يقدمون بذلك عونًا لأصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق، لا للحدسيين؛ إذ إن إمكان استخلاص الأخلاق من الطبيعة البشرية على هذا النحو ينطوي، كما هو واضح. على «مغالطة» المذهب الطبيعي …

على أن أهم الصعوبات المؤدية إلى الشك تأتي اليوم من جانب علم الاجتماع وعلم النفس، لا من جانب الأنثروبولوجيا. فهذا الأخير قد خلق إشكالات للمفكرين الأخلاقيين في القرن التاسع عشر، أما في هذا القرن فإن علم النفس وعلم الاجتماع هما اللذان يسببان إشكالات أصعب للمفكرين النظريين في ميدان الأخلاق. والواقع أن هذين العلمين الاجتماعيين بعينهما يتضافران أساسًا على إيجاد عقبة كأْداء أمام الأخلاق المنهجية والبحث العقلي في النظم الأخلاقية. هذه العقبة هي اقتناع كل علماء النفس، ومعظم علماء الاجتماع — وهو اقتناع تؤيده أدلة دائمة التزايد — بأن الإنسان حيوان لا عقلي يفتقر سلوكه، حتى في الحالات التي يبدو فيها أخلاقيًّا ومراعيًا للقيم تمامًا، إلى أي منطق أو تعقل. ويضيف عالم الاجتماع إلى هذا الاقتناع أدلته على أن الإنسان هو إلى حدٍّ بعيد نتاج للتكيف الاجتماعي، الذي يكون في كثير من الأحيان فعالًا إلى درجة تؤدي إلى تشويه الأحكام الأخلاقية إلى حد يغدو فيه أي ادعاء بأن هذه الأحكام موضوعية أو صحيحة ادعاء يثير السخرية.٦ ومع ذلك فلنستمع إلى ما يقوله ثلاثة من رواد العلوم الاجتماعية، كان لتأثيرهم معًا دور كبير في إعطاء علمهم طابعه المعاصر.
علم الاجتماع ونزعة الشك في الأخلاق: هناك اثنان من علماء الاجتماع اشتهرا بوجه خاص بوصفهما متحدثين باسم نزعة الشك الأخلاقية، وعلى حين أن بعض زملائهما يعدون وجهة نظرهما متطرفة، فليس ثمة شك في أنها كانت قوية التأثير. ففي أوائل هذا القرن، وضع العالم الأمريكي وليام جراهام سمنر نظريته في العادات الشعبية Folkawys، التي أرجعت الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلية في أساسها، لقوى اجتماعية هي ذاتها غير عقلية. ويعني «سمنر» بتعبير Folkways العادات الشائعة في أية جماعة اجتماعية وهذه قد تتفاوت ما بين وضع أزرار لا فائدة منها في أكمام سترة الرجال، إلى الحظر القانوني لزواج المحارم. هذه العادات مستقلة عن أفكارنا عنها، ولا تسير حسب قواعد معقولة، وهي لا تتفق إلا مع المزاج أو الموقف العام لزمانها ومكانها الخاص٧ ولها ما يمكن أن يعد حياة خاصة بها: ذلك لأن «سمنر» يرى أنها تولد، ويتقدم بها العمر، وتموت ولا يمكن أن تؤثر فيها بوضوح إلا قوى قليلة (منها التعليم).
وعندما يعتقد أفراد مجتمع معين أن هذه العادات تسهم في تقدم المجتمع، فقد يسمونها «سننًا Meres» (وهو اللفظ الذي اشتقت منه كلمة الأخلاق في اللغات الأوروبية)، غير أن هذه السنن ذاتها ليست أخلاقية بمعنى كونها عقلية وموضوعية. ذلك لأنها لا تتولد عن مُثل عليا، وإنما عن قوى اجتماعية خارجية. وليس ما تعده تقويمات أخلاقية سوى تعبيرات عن عادات اجتماعية بالغة الأثر، أو تبريرات لها، وهي عادات نألفها إلى حد أنها تبدو لنا أكثر من مجرد عادات، وتصبح لها بسهولة مكانة القوانين الأخلاقية المطلقة، والأوامر الإلهية، وما شابه ذلك. ويسدد «سمنر» ضربة أخيرة إلى ادعاءات المعقولية والموضوعية والشمول من جانب المذاهب الأخلاقية، فيؤكد أن الفلسفة والأخلاق النظرية تستمدان معًا من العادات الشعبية. فليس في وسعهما أن تفلتا من الحدود التي يفرضها عليهما أصلهما، أكثر مما يستطيع الإنسان أن يحمل نفسه من أربطة حذائه. بل إن العالم الاجتماعي ذاته ليس أكثر تحررًا من هذا القيد، فهو بدوره خاضع لتلك الحدود التي تفرضها العادات الشعبية لعصره وحضارته.

وبالاختصار، فإن المفكر الأخلاقي، حتى عندما يحاول بناء مذهبه على أسس من العلم، فهو لا يعبر إلا عن رغبة عندما يصوغ نظرية إيجابية في القيمة (وهذا الحكم يصبح أكثر انطباقًا عليه عندما يتجاهل هذا الأساس العلمي كما يفعل المذهب الحدسي). والأرجح من ذلك بكثير أنه إنما يبرر الأخلاق السائدة أو المعترف بها في عصره. ولما كانت هذه الأخلاق مهما كان من سموها، لا تعدو أن تكون تعبيرًا عن السنن الاجتماعية أو العادات الشعبية ذات الوجهة الاجتماعية فإن أرفع المذاهب الأخلاقية الشاملة وأكثرها معقولية إنما هو في أساسه خدعة وقور، من حيث إنه يدعي لنفسه ما لا يمكن على الإطلاق أن يكونه أي مذهب عقلي بحكم طبيعة الوقائع الاجتماعية ذاتها.

وهناك عالم أشهر في أوساط علم الاجتماع الدولية، هو العالم الإيطالي المعاصر «فلفريدو باريتو»، الذي ربما كان كتابه المؤلف من أربعة مجلدات: «الذهن والمجتمع» أقوى المؤلفات تأثيرًا من بين كل ما نشر في هذا الميدان في القرن الحالي. وهناك حقيقة تهم الفلاسفة والمناطقة بوجه خاص، هي أن باريتو قد تأثر بقوة بالتجريبية المنطقية — ولعل كتابه أفضل مثال لتفكير عالم اجتماعي يدور في إطار ذلك الموقف الإبستمولوجي الذي عرضناه في الفصل الحادي عشر، فهو يشترط أن تكون جميع النظريات والعبارات قابلة للتحقيق في التجربة. وكثيرًا ما يقول عندما يناقش النظريات الأخلاقية الكلاسيكية: «من المستحيل تصور الطريقة التي يمكن بها تحقيق قضية من هذا النوع في التجربة». وهكذا فإن قدرًا كبيرًا من شكه في الأخلاق والبحث النظري الاجتماعي يتسم بطابع التجريبية المنطقية، لا بطابع علم الاجتماع كما هي الحال عند «سمنر».

ومن الممكن التعبير عن بعض أفكار باريتو الرئيسية تعبيرًا مركزًا في فقرة أو اثنتين. فهو يرى أن تركيب المجتمع ينطوي على عنصرين رئيسيين، كلاهما لامنطقي ولا عقلي. فهناك أولًا البواقي Residues الأكثر أساسية: وتلك هي المقاصد التي تكمن من وراء جميع أفعالنا، والتي يعد الكثير منها غريزيًّا. هذه المقاصد تظل ثابتة نسبيًّا في الفرد، وإن كان من الممكن أن يطرأ عليها تغير تدريجي خلال فترة من الزمن. وهناك عناصر أخرى أقل أساسية، ولكنها أكثر وعيًا من الأولى، هي المشتقات Derivations وتعد هذه تعبيرًا صريحًا عن البواقي، ويتألف معظمها من الحجج التي نستخدمها في الدفاع عن هذه البواقي الكامنة أو في تبريرها. وليس للمشتقات، شأنها شأن جميع التبريرات، أو الأسباب التي نأتي بها لتبرير ما نريد القيام به (أو ما قمنا به فعلًا)، إلا قيمة منطقية ضئيلة، أو ليست لها قيمة على الإطلاق. ويصف باريتو معظمها بأنها براهين لفظية، إن لم تكن سفسطات فارغة.

وتعد معظم أحكامنا الأخلاقية (من أمثال: «هذا خير» و«ذاك شر») مشتقات؛ أي تبريرات للرغبات، تتفاوت درجة إحكامها. وهي بوصفها مشتقات، ليس لها تأثير كبير في البواقي التي تزينها أو تبررها، فليس للمثل العليا الأخلاقية إلا تأثير ضئيل في المجتمع أو الفرد، وإن كانت قد ترغمه على بذلك جهد كبير لكي يضفي على سلوكه مظهر الاتفاق مع الأخلاق المعترف بها. ولا يتردد باريتو في وصف معظم النظريات والأحكام الأخلاقية بأنها ضرب من النفاق، على الرغم من أنه لا يدعي أن هذا يكون في العادة نفاقًا شعوريًّا.

وأخيرًا يبدو باريتو قريبًا كل القرب من كارل ماركس عندما يصف الطريقة التي يسهل بها على النظريات الأخلاقية أن تخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى إلى الاحتفاظ بالسلطة واستغلالها. فهو يرى أن نسبة كبيرة من النظريات الأخلاقية تعبيرًا عن رغباتنا ومصالحنا الأساسية، فليس من المستغرب أن تكشف هذه الأحكام في كثير من الأحيان عن العاطفة أكثر من المنطق، وعن التبرير أكثر من العقل. كذلك فإنه لما كانت المعايير الأخلاقية لجماعة أو طبقة تعبر كذلك عن مصالح الجماعة ورغباتها، فمن المحتم أن تكون هذه المعايير كذلك بعيدة كل البعد عن الطابع المنطقي أو الموضوعي، مهما تكن الصورة المنطقية المزعومة التي تتخذها.

لذلك فليس لنا أن ندهش إذ نجد باريتو يمتدح ماكيافيلِّي، الذي كان يسعى على الدوام إلى وصف أفعال الشر على ما هي عليه بالفعل، لا كما ادعوا أو ظنوا أنها عليه. وليس لنا أن ندهش من أن باريتو يبدو لبعض الناس ساخرًا بالقيم، ولا سيما إذا كان هؤلاء الناس أنفسهم يتصفون بأي قدر من الحساسية العقلية. ولكن سواء أكان عالم الاجتماع الإيطالي هذا ساخرًا بالقيم، أم كان شخصًا واقعيًّا فحسب، فمن المؤكد أنه كان مصدرًا هامًّا من مصادر نزعة الشك الأخلاقية المعاصرة.

علم النفس ونزعة الشك الأخلاقية: هناك علماء نفس كثيرون، ومدارس كثيرة في علم النفس، أسهموا جميعًا في بث روح الشك الفعلي في إمكان قيام أي مذهب أخلاقي صحيح، ولكن من المؤكد أن فرويد وحركة التحليل النفسي التي كان هو مؤسسها كان لهما الدور الأكبر في هذا الصدد، بل إنه ليس من المبالغة أن نقول إنه حتى لو لم تكن توجد مصادر أخرى في ميدان علم النفس عملت على تغذية هذا الشك، فإن تأثير فرويد كان في ذاته كافيًا لإحداث هذه النتيجة ذاتها تقريبًا، ولجعل أكثر المفكرين النظريين الأخلاقيين ثقة يتساءل عما إذا كان يضيع وقته سدى عندما يحاول بناء الأخلاق على أساس عقلي.
ولقد أصبحت نظرية فرويد في حياة الإنسان العقلية معروفة الآن إلى حد يكفينا معه أن نقدم موجزًا بسيطًا لها فحسب. فهو يرى أن ما نسميه بالوعي أو الشعور؛ أي العقل الواعي، ليس إلا جزءًا من الحياة النفسية الكاملة لدى كل فرد. فهناك الذهن اللاشعوري، الذي هو أكبر بكثير في مضمونه، وأقوى أثرًا بكثير في تحديد سلوكنا. هذا الطابق السفلي، المليء بالأوحال، الذي يقوم عليه بنياننا الذهني، هو مقر الغرائز وشتى أنواع الرغبات، والذكريات التي كبتت على نحو أشد من أن يسمح لها بدخول مجال الوعي. ويحتوي هذا اللاشعور على ثلاثة عناصر أو قوى لا يفعل الذهن الواعي شيئًا سوى تلبية أوامرها، بل إن الوعي ليس إلا جهازًا آليًّا بلا إرادة خاصة به، فهو مجرد واجهة أو متحدث بلسان «الثلاثة الكبار» الذين يعملون من وراء الستار.٨
هؤلاء القادرون على كل شيء هم اﻟ: هي Id، والأنا Ego، والأنا الأعلى Superego. «فالهي» لها مطالب لا تشبع، وهي أنانية ولا أخلاقية تمامًا، والكلمة الوحيدة التي تعرفها هي «أريد»، وهي تجسد كل الرغبات العمياء والشهوات المحرمة. وفي مقابل هذه نجد الأنا الأعلى، الذي نسمي مظهره الواعي باسم «الضمير» وينظر فرويد إلى الأنا الأعلى على أنه صوت المجتمع في صيغته العامة، وبخاصة كما يتمثل في العصور التي نذكرها عن الآباء والمعلمين الذين بلوا جهودًا كبيرة لكي يهذبونا في سنوات عمرنا الأولى. هذا الأنا الأعلى مستبد، ومتمسك بما يجب أن يكون، وهو يفرض علينا، بطريقته الخاصة، مطالب لا تقل عن تلك التي تفرضها «الهي». فهو يعارض آليًّا مطالب «الهي»، وخاصة أقوى مطالبها وأكثرها إلحاحًا، كتلك المتعلقة بالإشباع الجنسي الذي لا تقيده حدود. أما الأنا فهو الوسيط الأعظم. فهو يسعى إلى اتخاذ موقف وسط بين القوتين الطاغيتين، الرغبة والضمير. ولو قلنا إن هذه المهمة عسيرة، لكان في هذا تخفيف كبير لحقيقة الموقف. ففي بعض الأحيان يصل إلى الوعي من هذه الحرب الدائرة ومن محاولة التوفيق الاضطرارية قدر يكفينا لندرك مدى شدتها، ولكن الذي يحدث في معظم الأحيان هو أن المعركة تدور من وراء أبواب تظل موصدة بإحكام بتأثير ما يسميه فرويد «بالرقيب» وهو عنصر رابع في حياتنا النفسية المضطربة. فالرقيب لا يسمح بدخول الوعي إلا لتلك الرغبات (وللقوى المضادة التي تكبتها) التي لا تستثير سخط معاييرنا الأخلاقية. غير أن هذه مجموعة منسقة مختارة من الرغبات، أما الجزء الأكبر من الرغبات فهو أكثر إباحية، ولا أخلاقية، وأنانية، وقسوة، من أن يسمح له الرقيب بالمرور، ولكن تأثيرها مع ذلك يظل قائمًا.

وأهم نقطة أتى بها فرويد فيما يتعلق بنزعة الشك الأخلاقية هي أن سلوكنا الواعي، العقلي، الأخلاقي، يتحكم فيه اللاشعور و«الثلاثة الكبار» المتصارعون فيه. ولما كانت هذه القوى كلها لا عقلية ولا أخلاقية تمامًا، فكيف يمكن ألا يكون سلوكنا لا عقليًّا، غير متأثر بالأحكام الأخلاقية؟ ذلك لأن الأنا الأعلى ذاته، الذي يبدو أخلاقيًّا، لا يقل عماء عن «الهي»؛ لأنه لا بد أن يعبر عن مضمونه المتراكم من التحريمات والتهديدات والعقوبات الأبوية، ومظاهر الاستهجان والنواهي الاجتماعية، والتحذيرات الدينية، وما شابهها — وكلها أمور لا عقلية وتعسفية. وفضلًا عن ذلك فمن الممكن أن يكون الأنا الأعلى قاسيًا جبارًا إلى حد لا يتصور، فيعذب الشخص الذي عصى أوامره عن طريق «عقدة ذنب»، أو «عصاب قلق» أو غيرها من العقوبات التي تدوم إلى الأبد، والتي أحكم وضعها بحيث تجعل السعادة مستحيلة.

يرى علماء النفس أن أفكارنا «العقلية» المؤدية إلى حكم أخلاقي «موضوعي»، أو إلى وضع مذهب أخلاقي، ليست إلا واجهة تخفي القوى الحقيقة التي تحركنا؛ أعني الرغبات اللاشعورية، وأجهزة الدفاع وأساليب التوفيق والحلول الوسطى. فنحن نخدع لأن الأنا يبدو عقليًّا، غير أن هذا راجع إلى أن الرقيب الدائم اليقظة لا يسمح إلا للجوانب الأفضل للحياة النفسية بأن تظهر على عتبة الوعي. والواقع أن أكثر الناس معقولية وأخلاقية يظلون في أساسهم مجرد دمى تحركها قوى عمياء بدأنا بالجهد نعترف بوجودها.

وعلى حين أن التحليل النفسي، بوصفه ضربًا من ضروب العلاج، قد حقق أعظم نتائجه في الحالات التي تعمل فيها قوى لا عقلية واضحة — كحالات الحصر والمخاوف (الفوبيا) والمرض العقلي — فإن المحللين يؤكدون أن الأفراد الأسوياء المتكيفين تكيفًا سليمًا، تحركهم نفس الدوافع اللاشعورية التي تحرك الأشخاص العصابيين. وكل ما في الأمر أن ذلك الشخص الذي نسميه سويًّا هو شخص كان من حسن حظه أن مداولات «الثلاثة الكبار» فيه أقرب إلى المتوسط أو إلى ما يقره المجتمع أو إلى النمط الفعال للسلوك من الشخص العصابي. غير أن هذه مجرد مصادفة سعيدة، وليست دليلًا على مزيد من المعقولية أو الأخلاقية من جانبه.

وينتهي فرويد، فيما يتعلق بأحكامنا التقويمية الصريحة، إلى نتائج مشابهة لتلك التي انتهى إليها «باريتو»: فليست الأحكام إلا تعبيرات عن ضميرنا، الذي لا يمكن الاعتماد عليه بوصفه مرشدًا للسعادة البشرية أكثر مما يمكن الاعتماد على الرغبة، لسبب بسيط هو أن جذور الضمير لا تقل انفعالية ولامعقولية عن رغباتنا ذاتها. ومن هنا فإن أحكام الناس التقويمية هي على أحسن الفروض، مجرد «محاولات يدعم بها الناس أوهامهم بالحجج والمناقشات»٩ حسب تعبير فرويد ذاته. وهو يعترف بأن الأخلاق إنما هي دفاع المدنية ضد العدوان، ولكنه يؤكد أن الأخلاق «يمكن أن تسبب من الشقاء قدر ما يسببه العدوان نفسه»١٠ وبالاختصار فإن الأخلاق، من حيث إنها مصدر للسعادة البشرية، «ليس لديها ما تقدمه هنا فيما عدا الرضا النرجسي الذي يرجع إلى اعتقاد المرء بأنه أفضل من الآخرين».١١ أي إن اعتقاد الإنسان بأن من الممكن توجيه السلوك البشري والتحكم فيه بالأخلاق العقلية ليس إلا واحدًا من أوهامه الكبرى.

أين نحن إذن؟ يمكن القول إننا حتى لو أقللنا من قدر أفكار «سمنر» و«باريتو» و«فرويد» على أساس أنها أنصاف حقائق مبالغ فيها، فإن النصف الباقي يظل يشكل كتلة هائلة تعترض مباشرة طريق التفكير الأخلاقي المعاصر. وهكذا نستطيع أن ندرك الآن السبب الذي جعل بعض المفكرين يتراجعون إلى اتخاذ الموقف الحدسي، وهم يهتفون: «مغالطة المذهب الطبيعي! …» وكأنها سبة. كذلك نستطيع أن ندرك السبب الذي جعل غيرهم ينسحبون إلى نزعة الشك وهم يصيحون: «لا أمل! لا أمل!» … ولكن قد يكون من العسير أن ندرك ما الذي يدعو صاحب المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى أن يغرق في خضم تلك المجموعة الهائلة من المعطيات الاجتماعية النفسية محاولًا إيجاد أساس سليم لأحكام القيم.

ولو سألنا أصحاب المذهب الطبيعي الأخلاقي هؤلاء، الذين هم حقًّا أناس يتصفون بقوة العزيمة، عن هذا الموضوع، لكان ردهم: «أين هو الشيء الآخر الذي نستطيع أن نجد فيه أساسًا متينًا لنظريتنا في القيم؟ وأن نستطيع أن نأمل في إيجاد مكان لها، بعد رفض المذهب فوق الطبيعي القائل بأن للقيم أساسًا سماويًّا، والرأي الحدسي القائل إنها فريدة في نوعها، واضحة بذاتها، لا ترتبط بالطبيعة أو بالتجربة البشرية بأسرها؟ من الواضح أن الطبيعة (وضمنها الإنسان ذاته) هي المصدر الوحيد الباقي. ولما كانت معرفتنا بالطبيعة تأتي من العلم، وأفضل معرفة لنا بالطبيعة البشرية تأتي من العلم الاجتماعي، فلا بد لنا من التحالف مع هذين المصدرين.»

وكم كان يسرنا أن نترك لدى الطالب إحساسًا يقينيًّا بأن أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يسيرون بخطوات جبارة في المهمة التي أخذوها على عاتقهم وهي تشييد بناء للقيم على أساس من الواقع. ولكن من سوء الحظ أن أي انطباعٍ مُرضٍ كهذا لا بد أن يكون مضللًا. بل إن المتشبثين من أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يعلنون أن تقدمًا قد حدث في هذا الاتجاه، فقد مهدت الأرض على الأقل، وقيست أبعاد المشكلة. فإذا تذكرنا أن المفكرين الرواد من أمثال سمنر وباريتو وفرويد لم يكشفوا عن ضخامة المشكلة إلا منذ عهد قريب، لوجب علينا أن نعترف عندئذٍ بأن تمهيد الأرض من حولها ليس بالأمر اليسير.

فهل يعني ذلك كله أن التفكير الأخلاقي المنهجي في أيامنا هذه مضطرب منقسم على نفسه؟ من الواضح أنه يعني هذا بالفعل. وهل يعني أيضًا أن المستقبل في علم الأخلاق غير مشجع، بل ميئوس منه؟ إننا عندما نرجع بأنظارنا إلى التاريخ الطويل للتفكير النظري الأخلاقي، لكي نرى كم من الأزمات استطاع هذا التفكير أن يجتازها، لن نعود نصف الموقف الراهن بأنه ميئوس منه، والأفضل أن نصفه بأنه يدعو إلى التروي، وينطوي على تحد، ولكنه ليس مثبطًا للهمم. وخلال ذلك، فحتى يجيء الوقت الذي يتسنى فيه للمفكرين الأخلاقيين أن يلموا الشتات ويبدءوا عملهم مرة أخرى على أساس جديد، فقد تكون مهمتنا، بوصفنا أبناء وبنات للقرن العشرين العاصف المضطرب، أن نتعلم كيف نعيش في ظل اللايقين، ونبني حياتنا على الاحتمالات بدلًا من القيم المطلقة التي كان يدعيها أجدادنا. ولا يبدو أن لنا، من وجهة نظر الأخلاق؛ أي مخرج آخر، إلا أن نقبل المذهب الحدسي أو المذهب فوق الطبيعي.

١  مبادئ علم الأخلاق Principa Ethica.
٢  انظر البحث الرابع الذي كتبه «فرانكينا W. F. Frankena» بعنوان «مغالطة المذهب الطبيعي The Naturalistic Fallacy»، والذي نشر أصلًا في مجلة Mind، المجلد ٤٨ (١٩٣٩م)، وقد أعيد طبعه في كتاب «قراءات في النظرية الأخلاقية Reading in Ethical Theory» الذي جمعه «سيلارز وهوسبرز Sellars & Hospers». ويعد هذا البحث أفضل عرض وأفضل تفنيد عثرت عليه لمغالطة المذهب الطبيعي.
٣  دراسة في الطبيعة البشرية A Treatise of Human Nature، الكتاب الثالث، الجزء الثاني، القسم الأول.
٤  أكد الحدسيون الأقدم عهدًا وجود «حاسة خلقية» يفترض أنها لا تقل تخصصًا عن حاسة الشم، وليست أقل منها يقينًا. ومع ذلك، فلما كان علم النفس الحديث لا يعلم شيئًا عن أية حاسة متخصصة كهذه، فإن الحدسيين في الوقت الحالي قلما يقولون بوجودها. ولذا فإن لفظ «الحاسة الخلقية» الذي يشيع استخدامه بينهم، لا ينبغي أن يؤخذ بمعناه الفني المتخصص أكثر مما يجب.
٥  نشرت أصلًا في مجلة Mind، السلسلة الجديدة، المجلد ٢١، ولكن أعيد نشرها الآن على نطاق واسع في كتاب «سيلارز وهوسبرز Sellars & Hospers» المذكور من قبل.
٦  إنني مدين لكتاب «النظرية الأخلاقية المعاصرة Contemporary Ethical Theory» من تأليف ت. أ. هل T. E. Hill ببعض هذه الأفكار المتعلقة بمصادر نزعة الشك الأخلاقية. وتتضمن الفصول الأولى لهذا الكتاب تلخيصًا ممتازًا لهذه المؤثرات.
٧  انظر: «هيل»، المرجع السابق، ص٥٠.
٨  انظر مقالة هوسبرز: «حرية الإرادة والتحليل النفسي Free-Will and Psychoanalysis» التي أعيد طبعها في الكتاب المذكور من قبل لسيلارز وهوسبرز. وقد استعرت تعبير «الثلاثة الكبار» من هوسبرز، كذلك فإن الأمثلة التي أوردها للسلوك الاضطراري جيدة بوجه خاص، وهي تجعل قراءة مقاله شائقة بحق.
٩  «المدنية ومتاعبها Civilization and its Discontents».
١٠  المرجع نفسه.
١١  نفس الموضع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤