الفصل الخامس

أصل الحياة ومجراها

يبدي كثير من الطلاب اهتمامًا بالمشكلات التي تثيرها العلوم البيولوجية، ويفوق اهتمامهم بأية مشكلات أخرى تعالجها الفلسفة. وهذا أمر طبيعي؛ إذ إن هذه المشكلات أقل تجريدًا من كثير من المشكلات التي تعالجها الفلسفة، وهي تتعلق بأكثر الموضوعات كلها أهمية، ألا وهو المخلوقات الحية. وفضلًا عن ذلك، فتلك مسائل ذات صلة مباشرة بتاريخنا نحن: فمن أين أتت الحياة؟ وماذا كان شكل الحياة الأصلية؟ وما التغيرات التي حدثت منذ هذا الأصل، ما الذي سببها؟ وهل ما زالت التحولات مستمرة؟ وهل الإنسان مجرد نوع آخر من الحيوانات، أم أن له طبيعة فريدة لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض خلق خاص — أو على الأقل بافتراض اهتمام خاص من جانب الكون؟ وباختصار، نحن نواجه الآن مباشرة تفريعات متنوعة لذلك البحث الذي يعد موضوعًا من الموضوعات الثلاثة الرئيسية في الفلسفة، وهو: من أين نأتي؟

تحت هذا السؤال الواحد الشامل، تندرج ثلاثة أسئلة فرعية، تتعلق بطبيعة الحياة، وأصل الحياة، ومجرى الحياة. ولعل من المستحسن، ونحن نستهل هذا الفصل الذي يتعين أن يكون مكتنزًا مكدسًا، أن نذكر أنفسنا بأن كل الوقائع والنظريات التي نصادفها تتعلق بثلاث مشكلات: (١) ما الحياة؟ (٢) من أين أتت، أو كيف بدأت؟ (٣) ما الأسباب التي أدت إلى ذلك التنوع اللانهائي للكائنات العضوية التي تعمر الأرض الآن؟ ومن المألوف أن نجد الطلاب الحديثي العهد بالفلسفة أكثر اهتمامًا بأصول الحياة، ولكن سيكون لزامًا علينا أن نركز اهتمامنا بالأحرى في المسألتين الأخريين. ذلك لأن العالم البيولوجي والفيلسوف هما معًا أكثر اهتمامًا بمجرى الحياة من اهتمامهما بأصلها، وإن كان من الواضح أن أية مناقشة لأي من هذين الموضوعين ينبغي أن تكون متوقفة على الآراء التي نقول بها بشأن طبيعة العملية الحيوية.

ما الحياة؟ من المنطقي إذن أن نبدأ بالسؤال: ما الحياة؟ أما العالم البيولوجي فيفضل أن يتساءل: ما العملية التي نطلق عليها اسم الحياة؟ ومع ذلك فإن كلًّا من العالم البيولوجي والفيلسوف متفقان على أننا إذا كنا نستطيع أن نحدد ما الذي يميز المادة الحية من غير الحية، لكنا بذلك قد قطعنا شوطًا بعيدًا نحو الإجابة عن سؤالنا الأول. على أن من الضروري، قبل أن نبدأ مناقشة الخواص الفريدة للحياة، أن نفهم تمييزًا لا بد منه من أجل فهم هذا الفصل وعدة فصول مقبلة — وأعني به التمييز بين النظريتين الجوهرية Substantive والوظيفية Functional للحياة. ومن سوء الحظ أن هذا التمييز، على قدر ما له من أهمية، صعب الفهم إلى حدٍّ بعيد. وهو يمثل بالنسبة إلى معظم الناس خروجًا جذريًّا عن كل العادات الفكرية السابقة، يشعرون معه وكأنه قد طلب إليهم فجأة أن يفكروا بلغة جديدة.

(١) النظرة الجوهرية

النظرة الجوهرية إلى الحياة، التي اعتنقناها كلنا تقريبًا منذ طفولتنا، والتي نعدها بالتالي «موقفًا طبيعيًّا»، تعد الحياة جوهرًا. ولكيلا يبدو تعبيرنا السابق هذا تحصيل حاصل مفرطًا في السذاجة، فلننظر إلى لفظ «الجوهر» مؤقتًا على أنه مرادف «للشيء». وهكذا يتضمن هذا الرأي اعتقادًا بأن الحياة شيء، أو كيان، أو وجود مادي من نوع ما، على أن مفهوم الجوهر ينطوي عادةً على شرطين منفصلين، فالجوهر لا بد أولًا أن يكون قادرًا على الوجود المستقل، وذلك على الأرجح حتى بعد أن تختفي جميع صفاته وخصائصه وتغدو عدمًا١ والجوهر ثانيًا لا بد أن يتصف بالدوام، بل إن هذا المعيار الثاني يصبح دائمًا هو المحك العملي للجوهرية. «ذلك لأن الطريقة الوحيدة التي نعرف بها أن الشيء قادر على أن يوجد وحده هي أن نلاحظ أنه يوجد في وقت ما في غياب الأشياء الأخرى التي يرتبط بها عادةً. وهكذا فإن الشيء إن لم يكن يتصف بالدوام، لما أمكن أن يعد جوهرًا. ونستطيع أن نتصور حالة يكون فيها الشيء دائمًا دون أن يكون جوهريًّا، ولكنه لا يمكن أن يكون جوهريًّا دون أن يكون دائمًا».٢ ومن الواضح أن «الدوام» لفظ نسبي. ولكنه يتضمن في استخدامه العملي ثباتًا أو استقرارًا بالنسبة إلى عمر الحياة البشرية. وهكذا تكون النجوم دائمًا على حين أن الزهرة ليست كذلك.
وهناك وسيلة أخرى لوصف النظرة الجوهرية إلى الحياة، هي القول إنها تعد الحياة «مادة Stuff». والواقع أن كثيرًا من مجازاتنا الكلامية ينطوي على هذا المفهوم: فنحن نتحدث عن «إضاعة حياتنا» أو «تبديد المرء لحياته في ميدان القتال» أو «وهب حياتنا من أجل قضية» أو «إنفاق حياتنا في جهد عقيم»، بل إن كل لفظ يستخدم في الكلام عن الحياة، خارج معمل البيولوجيا، وربما خارج قاعة محاضرات الفلسفة، يكاد في كل الأحيان يكشف عن هذا الاتجاه إلى النظر إلى الحياة على أنها مادة أو شيء من نوع ما؛ تتصف بكل الدوام والاستقلال في الوجود، اللذين نربط بينهما عادةً وبين شتى أنواع «الأشياء». وسوف نناقش في فصلنا الأخير عن مشكلة الخلود بعضًا من الآثار المضللة للنظرة الجوهرية إلى الحياة (والنظرة الجوهرية إلى الذهن، وهي أسوأ من الخطأ السابق). وحسبنا في هذه المرحلة أن نشير إلى أن هذا الرأي يؤدي حتمًا إلى إيمان بالبقاء بعد الموت. ذلك لأن الحياة — كما يقال عادةً — لا يمكن أن تختفي وكأنها لم تكن: «فالشيء» لا يحدث له ذلك، بل إن أقصى ما يحدث للأشياء هو أن تغير صورتها؛ ومن هنا كان من المعقول أن نفترض أن حياتنا ستستمر في صورة ما بعد الموت، على أن هذا موضوع سنعرض له فيما بعد بمزيد من التفصيل.

(٢) النظرة الوظيفية إلى الحياة

إن رد الفعل المعتاد للطلاب على أول تحد يصادفونه للنظرة الشيئية إلى الحياة، هو رد فعل يتسم بالدهشة الشديدة. فهم يتساءلون: «ماذا عسى أن تكون الحياة أن لم تكن شيئًا من هذا القبيل؟ أليس وجود اسم هو «الحياة» دليلًا على أن من الضروري وجود شيء جوهري يناظر هذا الاسم؟ إن اللفظ قطعًا لا يدل على بدعة من صنع الخيال!»

وهنا قد يكون من المفيد، قبل عرض الرأي الآخر، أن نقضي لحظة في تحليل هذه المسلَّمة الأخيرة، القائلة إن الأسماء لها دائمًا مقابل جوهري. وأن كل معلم للفلسفة ليشعر في كثير من الأحيان بخيبة الأمل؛ إذ يكتشف مدى السهولة التي يقع بها الطلاب في خطأ التسليم بهذا الأمر، لا سيما وأن من الممكن تجنب هذا الخطأ بقليل من التفكير. فالأسماء تشير أساسًا إلى تجارب من أنواع شتى. ومعظم هذه التجارب عينية: كالكتاب، والكرسي، والكلب، والقمر، وما إلى ذلك. وهناك أسماء أخرى تمثل تجربة وهمية أو متخيلة، كالشبح والطيف والجن … إلخ، غير هذه وتلك؛ أسماء تدل على تجريد أو مفهوم فكري خالص: كالعدالة واللانهائية والله مثلًا. وهناك أسماء أخرى تمثل سلسلة كاملة من التجارب، تكاد تكون لا نهائية العدد، وكل وظيفتها هو تلخيصها تحت لفظ واحد لأغراض الاتصال. ومن الأمثلة المشهورة لهذا النوع من الأسماء، الذهن، والنفس، والوعي، وهكذا فإننا عندما نستخدم هذه الألفاظ لا نشير بالضرورة إلى أي «شيء»، أو «مادة» أو «جوهر». فمن الواجب قبل كل شيء ألا نفترض أن كون اللفظ ذاته مفردًا ويوحي إلى ذهننا بالوحدة، يجعل لنا الحق في النظر إلى ما يدل عليه اللفظ على أنه بدوره مفرد، موحد، جوهري.

أما النظرة الأخرى إلى الحياة، التي يفضلها معظم البيولوجيين، فتُعرف عادةً بالنظرة الوظيفية أو العملية Operational. هذه النظرة تعد الحياة عملية Process، أو بالأحرى سلسلة كاملة من العمليات، بدلًا من أن ترى فيها شيئًا أو جوهرًا. وهكذا تصبح «الحياة» مجرد اسم بسيط نطلقه على مجموع أوجه النشاط أو الوظائف أو العمليات التي تميز الكائن العضوي، والحد الأدنى لقائمة هذه الوظائف هو عادةً شيء من هذا القبيل. التكاثر، والتكيف، والتعويض الذاتي، والقابلية للتأثر (أي القدرة على الاستجابة لتغيرات البيئة). وتسعى النظرة الوظيفية عادةً إلى تفسير كل هذه العمليات الحيوية على أسس فيزيائية وكيموية. ولهذا فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنزعة الآلية في البيولوجيا، أما النظرة الجوهرية فتكاد تكون مرادفة للنزعة الحيوية Vitalism وسوف يخصص الجزء الأكبر من هذا الفصل لعرض النزاع بين النزعتين الآلية والحيوية، وهو النزاع الفلسفي الرئيسي الذي تثيره العلوم البيولوجية. وعندما نصل إلى هذا العرض، ستتاح لنا فرصة الإشارة مرارًا إلى التقابل بين النظرتين الجوهرية والوظيفية. ولكن من الواجب، إلى أن يجيء الوقت الذي نبلغ فيه هذه المرحلة، أن نتأمل النظريات المختلفة المتعلقة بأصل الحياة ومجراها. وعندما تستقر هذه النظريات في أذهاننا بوضوح، يكون من المفيد عندئذٍ أن نعود إلى مناقشتنا لطبيعة الحياة.

(٣) أصل الحياة: ثلاث نظريات

كانت هناك ثلاث نظريات تقليدية عن أصل الحياة، تعرف على التوالي باسم الخلق الخاص Special Creation والنقل Transmission والبداية التلقائية Archebiosis. وقد استعيض عن اللفظ الأخير، في العهود القريبة، بلفظ الانبثاق Emergence في معظم الأحيان، على الرغم من أن المفهومين لا يعنيان شيئًا واحدًا. ولقد كانت هناك، من الوجهة التاريخية، عدة نظريات فرعية تندرج تحت هذه الفئات الرئيسية، ولكن يكفينا لكي نحقق غرضنا أن نصف هذه النظريات الثلاث:
  • (١)
    الخلق الخاص: تكاد نظرية الخلق الخاص تشرح نفسها بنفسها. فهي تذهب إلى أن الحياة قد استُحدثت في عالم من المادة غير الحية بفضل فعل خاص للخلق، يُفترض أن الله هو الذي قام به، وأن هذا الفعل حدث بعد خلق سابق للكون ثم على يد نفس هذه القوة الفاعلة. وينبغي أن نشير إلى أن هذه النظرية، بما هي كذلك، لا تنطوي بالضرورة على التفسير الوارد في سفر التكوين بالإنجيل عن الخلق. فكل ما تشترطه النظرية هو الإيمان بأن الحياة قد خُلقت عمدًا في صورةٍ ما بفضل قوة فاعلة متدخلة. وهكذا فإن المرء لا يستطيع فقط أن يستبعد وصف الإنجيل للخلق، بل يستطيع أن يؤمن بالنظرية العامة للتطور، ويظل مع ذلك داخلًا في إطار فرض الخلق هذا. فما دام يفترض أنه كان لا بد من فعل خاص معين من أجل بدء النشاط الحيوي، فإن الأسئلة الخاصة بوقت حدوث فعل الخلق هذا، أو كيفية حدوثه، أو من الذي أحدثه، تغدو عندئذٍ أمورًا ثانوية. كذلك فإن هذا الافتراض يجعل جميع الأسئلة المتعلقة بالصورة الأصلية للحياة أسئلة ذات أهمية ثانوية.

    ولسنا بحاجة إلى القول بأن نظرية الخلق الخاص هذه قد حظيت خلال التاريخ بقبول شبه إجماعي. وهذا لا يصدق فقط على المسيحيين، بل إنه يصدق على أغلبية المذاهب الفكرية القائمة على الدين وفكرة الألوهية. وبالنسبة إلى الغرب فقد كان لمذهب الخلق سيادة لا ينازعه فيها أي مذهب آخر — هذا إذا استثنينا بضعة أفكار ساذجة ولكنها ذكية ظهرت بين المفكرين اليونانيين الأوائل — وذلك حتى أواخر عصر النهضة، عندما بدأت النظريتان الأخريان تصبحان موضوعًا للنقاش.

  • (٢)
    النقل: تحاول نظرية النقل حل مشكلة كيفية بدء الحياة عن طريق تجنبها، أو على الأصح إرجائها إرجاءً دائمًا. وترى هذه النظرية، وباختصار، أن الحياة قد أتت إلى أرضنا من كوكب آخر، بل ربما من نظام شمسي آخر. والوسيلة المفترضة لهذا النقل هي أبواغ Spores شديدة الضآلة تشتمل عليها الشهب الصغيرة، أو بعض الفتات الأخرى للمادة الموجودة بين الكواكب. والواقع أننا نعرف في الوقت الحالي أنواعًا معينة من الأبواغ تبلغ من الصلابة وطول العمر حدًّا يجعل طريقة النقل هذه من كوكب إلى آخر لا تعود مسرفة في الخيال كما تبدو للوهلة الأولى. ولكن هذه النظرية تصادف مع ذلك، من وجهة النظر الفلسفية، اعتراضًا هادمًا؛ فهي قد تفسر كيف أتت الحياة إلى الأرض، ولكنها لا تبذل محاولة لتعليل وجود الأشكال الحية في الكوكب الذي يفترض أنها انتقلت منه. وقد يكون في هذا الكفاية من حيث هو مجرد تعليل بيولوجي «لأصل» الحياة، ولكنه لا يكاد يستحق اسم التفسير بالمعنى المعتاد لهذا اللفظ.
  • (٣)
    البداية التلقائية: وهكذا يبدو أن علينا أن نختار بين نظرية في الخلق الخاص وبين نوع من البداية التلقائية. وتعد وجهة النظر الأخيرة هذه، بوجه عام، معبرة عن موقف العلم الحديث. وهي، بالاختصار، تذهب إلى أن المادة العضوية قد ظهرت من المادة غير العضوية في وقت معين من الزمان، وهي لا تفترض أن أية قوة خارجية أو قدرة خالقة كانت لازمة لإحداث هذا التغيير، وإنما هو قد حدث بوسائل طبيعية محضة؛ أي نتيجة لتجمع عفوي لظروف طبيعية. ولا تدعي هذه النظرية القدرة على وصف هذه الظروف بدقة، كما أنها لا تدعي الآن القدرة على تكرارها من جديد في المعمل. الواقع أن من الواجب النظر إلى فرض البداية التلقائية على أنه عقيدة قبل كل شيء، فهو ليس صيغة تفسيرية دقيقة، وإنما هو أقرب إلى أن يكون تعبيرًا عن إيمان بأن من الممكن الوصول إلى تفسير طبيعي محض لأصل الحياة.

ولقد كان الاعتقاد بأن المادة يمكن أن تصبح، على نحو ما، كائنًا عضويًّا حيًّا، خليقًا بأن يبدو مسرفًا في الخيال حتى العلماء أنفسهم منذ مائة عام. ومع ذلك فمنذ حوالي قرن على وجه التحديد، أخذ معمل الكيموي ينتج «معجزة» تلو الأخرى في صور مركبات عضوية خلقت من مادة غير عضوية. ولنسمع إلى ما يقوله واحد من كبار مؤرخي العلم في هذا الموضوع:

ظل الناس طويلًا يعتقدون أن المواد الشديدة التعقيد، التي تميز الأنسجة الحيوانية والنباتية، لا يمكن أن تتكون إلا تحت تأثير عمليات حيوية، وكان يعتقد أن مصير الإيمان بالتفسير الروحي للحياة متوقف على صحة هذا الرأي. ولكن تحضير «اليوريا» (البولينا) صناعيًّا في عام ١٨٢٨م، على يد «فريدرش فولر Fredrish Wohler أثبت أن من الممكن أن تصنع في المعمل مادة لم تكن توجد من قبل إلا في الكائن العضوي الحي. وتلا ذلك تحضير مواد طبيعية أخرى بطريقة صناعية، حتى نجح إميل فيشر Emil Fischer في عام ١٨٨٧م في تركيب الفركتوز (سكر الفاكهة) والجلوكوز (سكر العنب) من عناصرهما. وهكذا انهار التمييز بين العضوي وغير العضوي، غير أن المواد المسماة «بالمركبات العضوية» تبلغ من الكثرة ومن التعقد حدًّا يظل من المفيد معه التفرقة بين الكيمياء العضوية وبين الكيمياء غير العضوية والكيمياء الفيزيائية.٣
والواقع أن التجارب الأخيرة في الإخصاب الكيموي لأنواع معينة، تقدم أدلة متزايدة تثبت وجود خط متصل بين العالمين غير العضوي والعضوي. فقد اكتشف منذ بضع سنوات أن من الممكن إخصاب بويضة قنفذ البحر Sea-urchin بوسائل أخرى غير الوسائل الطبيعية، كما أمكن بنجاح إخصاب أنواع أخرى كالأرانب بوسائل صناعية.٤ وهكذا، فعلى حين أنه من المستحيل على العلم، حتى الآن، أن يصف بدقة، أو يكون من جديد بنجاح، تلك الظروف التي كان يمكن عن طريقها ظهور الحياة بطريقة طبيعية خالصة، فإنه يكتشف على الدوام وقائع جديدة تؤكد أن من الممكن (بل من المرجح في نظر كثير من الثقات) أن تكون الحياة قد بدأت بالفعل على هذا النحو.
الحلول الممكنة: سوف يكون علينا أن نذكر المزيد عن نظرية المذهب الطبيعي في أصل الحياة عندما نناقش التضاد بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي في موضعٍ تالٍ من هذا الفصل، على حين أن المناقشة التي سنجريها في الفصل التالي لمختلف النظريات المتعلقة بطبيعة الذهن وأصله سوف تلقي مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع. أما الآن فحسبنا أن يكون الطالب قد أدرك أن الحلول المختلفة لسؤالنا عن كيفية بدء الحياة تبدو وكأنها ترتد كلها إلى حلين ممكنين فحسب. ففي استطاعتنا أن نقبل نظرية الخلق الخاص، وهي نظرية لا تفسر إلا القليل جدًّا، وليست لها علاقة بالعلم الحديث، مهما تكن مزاياها اللاهوتية، كما أن في استطاعتنا أن نختار بدلًا من ذلك التفسير العلمي الذي لم يكتمل بعد، والذي يرى أن الحياة قد انبثقت من غير الحي بوسائل طبيعية خالصة دون أي نوع من التدخل الخارجي.

(٤) التطور قبل دارون

سوف ننتقل الآن إلى استعراض لمختلف النظريات المتعلقة بمجرى الحياة. هذه النظريات تتعلق بتفسير طريقة ظهور تلك المجموعة الهائلة من أشكال الحياة الموجودة الآن. وإذن فنحن الآن على أهبة التصدي لتلك المشكلة الشديدة التعقيد، ألا وهي مشكلة التطور، ناظرين إلى هذا اللفظ الأخير على أنه يعني عملية بيولوجية، كما يعني في الوقت ذاته مقولة عامة تصف نواحي معينة من عالم التجربة الذي نعيش فيه.

والواقع أن اسم تشارلس دارون يحتل من الأهمية في أية مناقشة للتطور، ما يعرض الطالب دائمًا لخطر الاعتقاد بأن هذا العالم الكبير قد صاغ نظريته هذه بجهوده الخاصة وحدها في فراغ عقلي تام. ولكن الواقع أن فكرة المجرى التطوري للحياة أقدم بكثير من دارون، وأن الفكرة كانت شائعة في الأوساط الثقافية في الوقت الذي بدأ فيه دراسة المشكلة، بل إن بعضًا من أقدم المفكرين اليونانيين لم يكتفوا بالاعتقاد بأن التغير هو الحقيقة النهائية في الكون (ومنهم هرقليطس مثلًا)، بل لقد نظروا إلى مجرى الحياة على أنه عملية متدرجة يستعاض فيها عن الأشكال الناقصة بأشكال أكثر منها كمالًا. ومنهم أنبادقليس مثلًا). وبحلول عصر أرسطو، ظهرت الفكرة القائلة إن الأكثر كمالًا يمكن أن يتطور من الأقل كمالًا. وفي عصر النهضة بعثت من جديد الفكرة القائلة بإمكان وجود نوع من النمو المتدرج، على الرغم من أن الفلاسفة، لا العلماء الرواد، هم الذين أبقوا شعلة فكرة التطور متوهجة، فقد ألقى بيكون، وديكارت، وليبنتس، و«كانت»، أفكارًا كانت بمثابة الوقود في هذه النار. وخلال ذلك كان العلماء يجمعون ببطء تلك الوقائع التي زودت دارون وغيره من مفكري القرن التاسع عشر، في الوقت المناسب، بأساس يكفي لجعل فرض التطور أكثر من مجرد ألعوبة فلسفية.

ومن الطريف أن نلاحظ أن كفة الجانب المعرَّض لفرض التطور، في الرأي العام العلمي، كانت حتى وقت نشر نظرية دارون هي الراجحة. ولكن من حسن الحظ أن بداية القرن التاسع عشر قد شهدت ظهور عدد من علماء البيولوجيا وعلماء النبات يؤيدون فكرة النمو المتدرج بشكلٍ من أشكالها؛ مما أدى إلى نشر فكرة بين الأوساط العلمية — وإن لم تكن قد عرضت على سلطات الكنيسة بعد. فقد كان أرازموس دارون Erasmus Darwin (١٧٣٨–١٨٠٢م)، وهو جد تشارلس قد ذهب إلى أن كل الحيوانات الحية نتجت مما أسماه «نسيجًا حيًّا واحدًا»، كما أيد بوفون Buffon الفرنسي فكرة قيام ظروف البيئة بإدخال تعديل مباشر على الأشكال الحيوانية.٥
نظرية لامارك: على أن الفضل لا بد أن يرجع إلى لامارك (١٧٤٤–١٨٢٩م) في الإتيان بأول نظرية تطورية محدودة ومنطقية بحق. فقد كان يعتقد، مثل «بوفون»، بقدرة الظروف الخارجية على تعديل الكائن العضوي. ومن هذا الاعتقاد جاءت نظريته المشهورة «وراثة الصفات المكتسبة». وأساس هذه النظرية هو أن التغير في البيئة يؤدي إلى تعديل التركيب الجسمي للنوع. ولنستخدم المثال الكلاسيكي الذي أورده لامارك، فنقول إن نظريته تذهب إلى أن رقبة الزرافة الطويلة قد أتت من قيام أجيال متعاقبة من الزراف بمد رقابهم من أجل الوصول إلى غذاء نباتي شحيح أو رقيق كان ينمو في مكان أبعد مباشرة عن متناولهم. والمفروض أن هذا المد المستمر قد أدى إلى تعديل في الكائنات العضوية الفردية وهذه التعديلات (التي هي ضئيلة جدًّا في أية حالة فردية) قد زادت بالوراثة.

وينبغي أن نلاحظ أن نظرية لامارك، على ما تتسم به من طابع منطقي ومن معقولية في نظر الإنسان العادي، ظلت مجرد فرض نظري دون أية أدلة مباشرة تؤيدها. ومع ذلك فقد أوحت لعلماء البيولوجيا التالين باتجاهات مثمرة في البحث للقيام بتلك الكمية الهائلة من الأعمال التفصيلية المرهقة التي كان لا بد منها لكي يصبح من المستطاع صياغة أي فرض علمي حقيقي.

(٥) دارون والانتقاء الطبيعي

يرجع إلى دارون الفضل الأعظم في صياغة هذا الفرض علميًّا؛ وبالتالي في الجمع بين التيارين المتلازمين، تيار البحث العلمي وتيار النظر الفلسفي. ولقد كان دارون، في مزاجه الطبيعي وفي تكوينه، عالمًا طبيعيًّا بيولوجيًّا بالمعنى الصحيح. فقد كان مقتنعًا، حتى في شبابه، بأن هناك نموًّا متدرجًا لأنواع Species جديدة في الطبيعة، مثلما أن هناك نموًّا لفروع Varieties جديدة في الطبيعة وفي السلالات الحيوانية التي يربيها الإنسان. وكان الرأي التقليدي هو أنه على الرغم من أن الفروع يمكن تعديلها بتربية السلالات أو بفضل ظروف البيئة، فإن الأنواع المختلفة كانت ثابتة مثلما خلقت؛ لذلك أدت هذه الفكرة التي اقتنع بها دارون إلى إثارة مشكلتين في ذهنه، فقد كان عليه أولًا أن يجد نوعًا من التفسير المنطقي لما يقول به من ظهور للأنواع الجديدة، وكان عليه ثانيًا أن يجمع أدلة تزيد على ما كان موجودًا من قبل، لإثبات أن مثل هذا التعديل للأنواع «الثابتة» يحدث بالفعل. ومن حسن الحظ أنه اهتدى في سن مبكرة إلى طريقة ممكنة للتفسير، بحيث إن مشكلته المزدوجة قد اختصرت إلى نصفها. فعندما كان في التاسعة والعشرين فقط من عمره، توصل من خلال كتابات المفكر الاقتصادي الإنجليزي «مالثوس Malthus» إلى الفكرة التي كان يبحث عنها. وكانت النتيجة — كما وصفها بألفاظه هو — واحدة من تلك الفتوحات الفكرية الكبرى التي كانت لها أهميتها العظمى في تاريخ العلم:
في أكتوبر عام ١٨٣٨م، تصادف أن قرأت على سبيل التسلية كتاب مالثوس في السكان، ولما كانت ملاحظتي الطويلة المستمرة لعادات الحيوانات والنباتات قد هيأت ذهني لتقدير أهمية الصراع من أجل الوجود، وهو الصراع الذي يدور في كل مكان، فقد تبادر إلى ذهني على الفور أن من الممكن، في ظل هذه الظروف أن تُحفظ التغيرات المواتية ويُقضى على التغيرات غير المواتية، فتكون نتيجة ذلك تكوين نوع جديد. وهنا أصبحت لدي نظرية أستطيع أن أبدأ العمل بها.٦
وهكذا اتخذ دارون من هذه الفكرة النيرة مرشدًا، وقضى بعد ذلك واحدًا وعشرين عامًا يجمع الأدلة البيولوجية لتأييد فرضه. وأخيرًا ظهر في عام ١٨٥٩م كتاب «أصل الأنواع The Origin of Species»، وهو من أعظم المؤلفات إثارة للفكر. ففيه يعرض مجموعة هائلة من الأدلة بوضوح كبير، ويدلل على الفرض الأساسي بطريقة مقنعة كل الإقناع، بحيث إن كتابه هذا لا يمثل العرض الكلاسيكي لوجهة النظر التطورية فحسب، بل إنه يعد أيضًا واحدًا من أبرز الأمثلة التي توضح كيف يعمل العقل العلمي. وفور ظهور هذا الكتاب اقتنع عدد كبير من العلماء بأدلة دارون، لم تمضِ سنوات قلائل إلا وكان فرض التطور قد حظي بقبول أغلبية الأذهان العلمية. ولكن من سوء الحظ أن ضمان القبول لهذه الفكرة خارج نطاق الأوساط العلمية كان أمرًا أصعب بكثير. فقد كان الكنيسة متحاملة بوجه خاص على هذه النظرية؛ إذ إنها بدت لها مناقضة لتفسير الكتاب المقدس للخلق، ومؤدية إلى الحط من الإنسان إلى مستوى النوع الحيواني. ولكن من حسن الحظ أن دارون، الذي كان هو ذاته خجولًا انطوائيًّا، وجد له نصيرَين قويَّين في شخص هربرت سبنسر وتوماس هكسلي. وكان الأخير بوجه خاص مجادلًا رائعًا، أسمى نفسه «كلب حراسة دارون». فقد تحمَّل بشجاعة رائعة ومقدرة ووضوح في العرض، العبء الأكبر للهجوم الموجَّه من جميع الجهات على كتاب دارون، وقاد مرارًا وتكرارًا هجمات مضادة ناجحة على خصومه المقهورين».٧
عوامل ثلاثة في الانتقاء الطبيعي: على الرغم من أنه قد ظهرت بعد دارون عدة كشوف علمية أدت إلى إدخال تعديلات في تفاصيل أعماله، فإن هذه الأعمال تستحق الدراسة بوصفها أكثر من مجرد مرحلة تاريخية في العلم. فقد كان دارون، شأنه شأن أي عالم آخر، يبحث عن وسيلة يستطيع بها تفسير الطريقة التي تحدث بها التغيرات في الأنواع. ولما كان يعتقد أن لديه من الأدلة ما يجعله موقنًا بأن مثل هذه التغيرات تحدث بالفعل، فقد تركزت جهوده الأساسية في بحث الوسيلة التي يتم بها هذا التغير. فلاحظ أن العملية الفعلية تنطوي على ثلاثة عوامل منفصلة: الصراع من أجل الوجود، والتنوعات بين أفراد النوع الواحد، ونقل هذه التنوعات عن طريق الوراثة. ومن الضروري إلى أقصى حد أن نفهم هذه العوامل الثلاثة:
  • (١)

    إن الصراع من أجل الوجود شيء يكاد يفسر نفسه بنفسه. فنظرًا إلى الخصب الهائل للطبيعة، فإن عدد الكائنات العضوية التي تولد يزيد كثيرًا على ما تتحمله البيئة الطبيعية. ويؤدي التنافس على الغذاء، الناجم عن هذه الزيادة العددية، بالإضافة إلى خطر الأعداء الطبيعيين الذي يهدد أغلب أشكال الحياة الحيوانية، إلى جعل الحياة صراعًا مستمرًّا من أجل البقاء. ومن الواضح أن هذه مسألة حياة أو موت، فالمنتصر يبقى، والمهزوم يفنى. وليست هناك جائزة ثانية للمهزوم، أو محكمة عليا يستأنف أمامها، بل إن الصراع مميت لا يرحم وهو يستمر طيلة حياة الفرد.

  • (٢)

    في هذا الصراع الذي لا ينقطع، يجد كثير من الأفراد ظروفًا مواتية لهم، بينما تعاكس الظروف أفرادًا آخرين. ومصدر هذه المزايا والمضار هو التنوعات أو الفوارق الفردية التي توجد داخل أي نوع. ولم يكن في استطاعة دارون تقديم تفسير لهذه التنوعات، غير أن وجودها كان حقيقة لا تقبل الجدل. (ولقد كان دارون يعتقد أن هذه التنوعات ضئيلة جدًّا، وتلك نقطة حدث فيها تغير من أهم التغيرات التي أدخلت على النظرية بعد دارون.) ولكن، أيًّا كان سبب هذه التغيرات، فإنها تنفع الفرد المحظوظ من حيث إنها تعطيه مزيدًا من السرعة أو القوة، أو مخالب أو أنيابًا أشد حدة، أو ألوانًا أفضل تحميه، أو أية صفة جسمية أخرى تفيد في بقاء الحيوان. ونتيجة ذلك هي أن احتمال بقائه يزيد، كما تزيد فرصته في كسب المنافسة التي تدور من أجل الحصول على رفيقات في الجنس. وهنا أيضًا نجد أن الفرد الذي يتميز بتنوعات غير ملائمة تعمل على إعاقته. قد لا يجد جوائز تعويضية في هذا الصراع، فيكون عليه إما أن يموت جوعًا، وإما أن يلتهم، وإما أن تظل حياته في عقم لأنه لا يستطيع كسب رفيقة.

  • (٣)

    ومع ذلك فإن مجرد اكتساب فارق عفوي يفيد في بقاء الفرد، لا يكفي لتفسير تغيرات النوع، بل إن من الواضح أن هذه التنوعات ينبغي أن تكون قابلة للنقل عن طريق الوراثة، ولولا ذلك لعادت ذريته إلى المستوى العادي للنوع، مهما كانت المزايا التي يتمتع بها الفرد نفسه، ولكان معنى ذلك أن نعود من حيث بدأنا. فمن الواضح إذن أن فرض التطور بأسره يتوقف على إمكان أو عدم إمكان نقل هذه التنوعات عن طريق وسيلة الوراثة العادية. ومن حسن حظ هذا الفرض أن الملاحظة والتجربة قد أثبتتا أن نقل الفوارق المفيدة والضارة هو حقيقة واقعة. وإذن فحتى لو كانت هذه الفوارق شديدة الضآلة يكون واحد من أبوينا قد اكتسبها بالميلاد. وهذا الفارق راجع إلى نوعي كما كان دارون يعتقد، فإن النتيجة التراكمية لعدة أجيال من هذه التنوعات يمكن بسهولة أن تكون نوعًا جديدًا.

لامارك في مقابل دارون: تشكل العوامل الثلاثة التي عرضناها ما يعرف باسم قانون أو مبدأ الانتقاء الطبيعي. وهناك أمران متعلقان بهذا المبدأ ينبغي تأكيدهما، لا يسما وإنهما ما زالا صحيحين إلى اليوم كما كانا عند نشر كتاب دارون عام ١٨٥٩م: أولهما هو الاختلاف بينه وبين نظرية لامارك، التي يخلط الناس عادةً بينهما وبين فرض دارون. ففي مقابل ما يقول به لامارك من وراثة للصفات المكتسبة؛ أي تلك الناتجة عن التدريب والاستجابة المتكررة بالتعود — يفترض دارون وراثة فوارق عفوية يتصادف أنها تفيد في بقاء الحيوان. وعلى ذلك فنحن لا نرث ما قد يكون آباؤنا قد اكتسبوه بالتمرين من عضلات أو مهارات، ولكنا نستطيع أن نرث — ونرث بالفعل — فوارق في التركيب الجسمي يكون واحد من أبوينا قد اكتسبها بالميلاد، وهذا الفارق راجع إلى نوعَي أو نظامَي الخلايا التي لدينا، وهي مسألة سنشرحها بعد قليل. والأمر الثاني الذي ينبغي ملاحظته في مبدأ الانتقاء الطبيعي هو صفة «الطبيعي». ففي مذهب دارون نجد تفسيرًا كاملًا مفصلًا لتغيرات نوعية لا يفترض فيها أي نوع من التدخل الخارجي. فالعملية كلها قابلة للتفسير على الأسس الطبيعية الخالصة التي عرضناها الآن، ولا ضرورة فيها لتدخُّل أية قوة خارجية أو «خارقة للطبيعة».

وأغلب الظن أن هذا الاستغناء عن أي فاعل عاقل أو غائي في عملية التطور، كان هو العامل الأكبر في إثارة المعارضة الأخلاقية والكنسية لكشوف دارون، فقد بدا أن هذه الكشوف توحي بأن الله أقل ضرورة في تدبير الأشياء مما كان يعتقد من قبل. ومع ذلك فمن المستحسن الانتظار حتى نعالج كل النتائج الضمنية لفرض التطور في قسم مستقل سنورده في هذا الفصل فيما بعد.

(٦) التطور بعد دارون

في خلال الأعوام المائة التي انقضت منذ نشر كتاب دارون الهائل حدثت تغيرات متعددة في تفاصيل النظرية التطورية، على الرغم من أن خطوطها العامة ما زالت تعد دعامات أساسية للعلوم البيولوجية. ولقد كانت معظم هذه التغيرات ناتجة عن اتساع نطاق معرفتنا للعمليات الآلية للوراثة. والواقع أن من أفيد النتائج التي أسفر عنها نشر كتاب «أصل الأنواع» أنه أحدث زيادة كبيرة في كمية البحوث التجريبية في علم البيولوجيا. ولقد وصلت معرفتنا لقوانين الوراثة في الوقت الحالي إلى حد أصبحت معه المصطلحات الفنية، من أمثال «الجين» (المورث) و«الكروموزوم» (الصبغية)، والطفرة Mutation والسائد dominant،٨ وما إلى ذلك، جزءًا من الألفاظ التي يتداولها أي شخص مثقف، وليس من المستحسن، في كتاب من هذا النوع، أن ندخل في تفاصيل هذا الميدان الذي هو شاق وشائق في آن واحد، لا سيما وأنه توجد، في أية مكتبة جامعية، كتب عديدة تعرف لآليات الوراثة بإيجاز ووضوح.٩ ومع ذلك، فمن الواجب — بغضِّ النظر عن الصعوبات الفنية — أن نتحدث عن تعبيرين جذريين أدخلا على فرض التطور منذ صياغته الأصلية.
اكتشاف فيزمان: أول هذين الاكتشافين لا يمثل تعديلًا على النظرية الداروينية، بقدر ما يمثل امتدادًا وإثراء لها. وقد كان فيزمان Weismann هو الذي قام بالكشف العظيم الأهمية، الذي اتضح منه أن للجسم نظامين منفصلين وشبه مستقلين للخلايا. فالجزء الأكبر من تكويننا العضوي المادي يتألف من خلايا جسمية Somatic تأثر بالاستعمال والتموين. ومن ثم فهي مقر «الصفات المكتسبة» عند لامارك. أما النظم الثاني للخلايا فهو الخلايا الجرثومية Germ-Cells. هذه الخلايا تتصف بما يمكن تسميته بالخلود؛ إذ إن الخلية الجرثومية تستمر من أول كائن بشري (وربما من أول كائن عضوي حي) حتى تصل إليك؛ أعني إلى قارئ هذه الصفحة. وهكذا فإن كل فرد يستمد أصله، لا من الخلايا الجسمية القابلة للتعديل، التي كانت لدى أبويه، وإنما من الخلايا الجسمية الخالدة التي لم يكن أبواه إلا حاملَين أو ناقلَين لها. وأهم الحقائق هي أن هذه الخلايا الجرثومية، التي تختزنها الخلايا الجسمية أو تحملها، تظل مستقلة تمامًا عن التغيرات التي تحدث في النوع الآخر من الخلايا. وهكذا يبدو كأن نظرية لامارك قد تُركت بلا أساس من الوراثة ترتكز عليه، ما دامت الوراثة تتوقف تمامًا على نقل الخلايا الجرثومية، التي لا تتأثر إلا بالتنوعات المستقلة التي تطرأ عليها.

ولقد وقع دارون في نفس الخطأ الذي وقع فيه لامارك عندما افترض أن تغيرات النوع تأتي من تعديل في الخلايا الجسمية. ولكن من حسن الحظ أن هذه المسألة لم تكن لها، في نظرية دارون، نفس الأهمية الرئيسية التي كانت لها في نظرية لامارك بأسرها. ومن هنا فإن كشف فيزمان لم يسفر إلا عن تحسين في فرض دارون، على حين أنه قد سدد ضربة قاتلة إلى نظرية لامارك السابقة على هذا الفرض، والواقع أن من أروع سمات الصيغة الأصلية لنظرية دارون، أنها استطاعت أن تتحمل عددًا كبيرًا من التغيرات وتظل مع ذلك باقية. فكل ما فعلته الكشوف التالية هو تعديلها، غير أن أساسيات الفرض الأصلي ظلت على ما هي عليه.

كشف الطفرات: أما الكشف الثاني فكان يمثل اختبارًا لفرض دارون أقسى بكثير مما كان يمثله فيزمان. ففي عام ١٩٠٠م أتم العالم التجريبي الهولندي دي فريس De Vries بحثًا بدا لفترة معينة أنه يهدد بهدم نظرية دارون من أساسها، وهو أمر كان مصدر ابتهاج كبير لذلك العدد الكبير من خصوم نظرية التطور، الذين كانوا لا يزالون محتفظين بنشاطهم في ذلك الحين. ومع ذلك فقد أُدخل مرة أخرى تعديل على الفرض الأصلي بحيث أصبح يتسع للمعلومات الجديدة، وبذلك ضمن فسحة جديدة من العمر. فلقد رأينا من قبل أن التعبير الأصلي عن النظرية يفترض وراثة التنوعات التي تفيد في البقاء، وكان المعتقد أن هذه تنوعات ضئيلة تحدث بطريقة عفوية. ولكن دي فريس اكتشف في سلسلة مشهورة من التجارب التي أجراها على نبات زهرة الربيع المسائية Evening Primrose أنه تحدث أحيانًا تغيرات تبلغ من الضخامة حدًّا تكون معه نمطًا جديدًا كل الجدة. وفضلًا عن ذلك فإن بعضًا من هذه الزهرات تتكاثر. وقد أطلق على هذه التغيرات الكبرى اسم «الطفرات Mutations»، تمييزًا لها من التنوعات الضئيلة التي افترضها معظم الباحثين السابقين عليه. وهكذا فإن من الممكن أن يظهر فجأة، ودفعة واحدة، تنوع جديد، بل ربما نوع جديد، بدلًا من أن يظهر نتيجة تراكم تدريجي لتنوعات ضئيلة. ولقد كان أنصار نظرية التطور، قبل هذا الكشف الهام، يجدون لزامًا عليهم أن يفترضوا انقضاء مدد زمنية هائلة لتعليل ظهور ألوف الأنواع المختلفة التي توجد الآن على سطح الأرض. ولكن يبدو أن الحاجة إلى افتراض مثل هذه الفترة الزمنية التطورية الهائلة قد زالت بفضل «زهرة الربيع» المتواضعة وعاداتها التناسلية غير المنتظمة. وهكذا فإن النتيجة الكاملة لكشف الطفرات هذا لم يكن أضعاف فرض دارون، بل كانت هي جعله أكثر منطقية وأقرب إلى التصديق.

والواقع أنه لم تكن هناك صعوبة كبيرة في إدماج هذا الكشف الجديد في النظرية الأصلية. ذلك لأن الطفرات ما إن تحدث (ولم يكن دي فريس يقل جهلًا بأسبابها الدقيقة عما كان دارون بالنسبة إلى «تنوعاته») حتى يسير بقاؤها إلى عدم بقائها تبعًا لمبادئ الانتقاء الطبيعي، التي ناقشناها من قبل. ولقد ظهرت منذ عام ١٩٠٠م أدلة كثيرة في علم الحفريات تؤيد كشف دي فريس.

(٧) الحجج المؤيدة للتطور

على الرغم من أن النظرية العامة للتطور أصبحت تُقبل الآن بوصفها أساس العلم البيولوجي الحديث، فإنها لم تلقَ بعدُ قبولًا تامًّا خارج الدوائر العلمية. أما بالنسبة إلى أرقى الناس ثقافة، فإن الخلاف الذي كان محتدمًا من قبل، حول «التقابل بين التطور والكتاب المقدس» يبدو اليوم وكأنه كاد يصبح مسألة تاريخية بحتة، شأنه شأن المعركة المماثلة التي نشبت بين النظام الشمسي المرتكز حول الشمس، وبين النظام الشمسي المرتكز حول الأرض، الذي كان يستند إلى تأييد الكتاب المقدس. ومع ذلك فإن ما يدفعنا إلى تلخيص الحجج التي يأتي بها كلٌّ من أنصار نظرية الخلق ونظرية التطور ليس هو الأهمية التاريخية للنزاع بينهما فحسب. ذلك لأن القيام بهذا التلخيص هو أفضل وسيلة لإدراك النتائج الفلسفية لكل رأي، وهذه النتائج هي ما يهمنا بوجه خاص.

وسوف نفرق، في العرض الذي سنقدمه لحجج كل جانب، بين الحجج «العلمية» والحجج «الأخلاقية» — على أن يفهم كل لفظ من هذين بأوسع معانيه. وكما هو متوقع، فإن القائل بنظرية التطور يبدي اهتمامًا أعظم بالأدلة العلمية، على حين أن القائل بنظرية الخلق يرتكز في حججه أساسًا على وجهة النظر الأخلاقية. غير أن لكلٍّ منهما حججًا تنتمي إلى المجالين معًا. ومن الواجب أن نوازن بين كل واحدة وبين مقابلتها. وسيكون الأقرب إلى المنطق أن نبدأ بوجهة نظر المذهب التطوري؛ إذ إن دعاته هم الذين كان عليهم — تقليديًّا — أن يأتوا بالبينة على ما يدَّعون.

الحجج السبع الرئيسية: ترتد الحجج العلمية المؤيدة للموقف التطوري العام إلى ست حجج أو نحوها.١٠
  • (١)
    أقوى الحجج تأثيرًا في نظر كثير من الأذهان هي الحجة المستمدة من علم الحفريات Paleontology. ذلك لأن بقايا الحفريات تشكل ما يكاد يكون سلسلة كاملة من الأشكال التي تؤدي من نمط من الكائنات العضوية إلى نمط آخر مختلف عنه كل الاختلاف. في هذه السلسلة من الحفريات يكون الفارق بين أفراد السلسلة عادةً ضئيلًا إلى حد يكاد الاعتقاد بوجود نمو تدريجي يصبح معه أمرًا لا مفر منه. ومن أشكال الحفريات المشهورة بوجه خاص، تلك التي توضح التدرج من الفرس القديم الصغير Eohippus أو ما يسمى «بحصان الفجر Dawn Horse» حتى الحصان كما نعرفه الآن. ولو قدر لك أن تلاحظ هذه السلسلة في متحف، لكانت هذه الملاحظة أشبه بمشاهد فيلم سينمائي يصوِّر تفتُّح زهرة: فالهيكل الصغير ينمو تدريجيًّا بقفزات واضحة، وعدد أصابع الأرجل يتناقص ويكون بالتدريج حافرًا … إلخ.
  • (٢)
    والحجة المستمدة من علم الأجنة Embryology تؤثر بدورها تأثيرًا متساويًا في أذهان الكثيرين. وتدل هذه الحجة على أننا كلما رجعنا القهقرى في نمو الجنين، كان التشابه أعظم بين تلك الأنواع التي يعتقد القائل بالتطور أنها مرتبطة. ولنتأمل المثل الكلاسيكي في هذا الصدد، فأجنة البشر والقرود شبه البشرية أقوى تشابهًا بكثير في الشهر الثالث من الحمل منها في الشهر الأخير. وثانيًا فإن الجنين يمر بمراحل في النمو تناظر بوجه عام تلك التي تعتقد النظرية التطورية أن النوع قد مر بها. ففي حالة البشر، نجد أن أبرز هذه المراحل الجنينية هي ظهور فتحات خيشومية، وذيل، وأضلاع أكثر من تلك التي لدى البالغ السوي. هذه المراحل يمر بها الجنين عادةً بسرعة كبيرة، ومع ذلك فقد عرفت حالات استمرت فيها هذه المراحل إلى ما بعد الولادة، كما يحدث عندما يولد طفل بعدد من الفقرات الزائدة يكفي لتكوين ذيل متميز. هذه السلسلة من «الذكريات القديمة» تسمى بالمراجعة Recapitulation؛ إذ يبدو فيها أن نمو النوع يمر بما يشبه العرض السريع المجمل.
  • (٣)
    وهناك أدلة وثيقة الصلة بالحجة المستمدة من علم الأجنة، هي تلك التي تستمد من علم التشريح المقارن Comparative Anatomy. هذه الحجة تشير إلى أن التجربة تعلِّمنا أن التشابه المادي يعني عادةً وجود أصل مشترك — بحيث إننا عندما نجد شخصين متشابهين جدًّا، فإننا نفترض وجود قرابة بينهما. وعلى ذلك فعندما نكتشف أوجه شبه قويه في التركيب أو الوظيفة بين أنواع مختلفة (كالبشر والقرود مثلًا)، فمن المنطقي أن نشتبه في وجود أصل مشترك.
  • (٤)

    ولقد كشف تحليل دم أنواع متعددة وجود أوجه تشابه أقوى بين الأنواع التي يقول التطوريون (على أساس أدلة أخرى) بوجود صلة وثيقة بينها، وبين تلك التي يعتقد أنها متباعدة الصلة. وأفضل مثال لذلك هو البشر والقرود مرة أخرى؛ إذ إن التحليلات تدل على أن الصلة بين دم هذين النوعين أقوى من الصلة بين دم أيٍّ منهما وبين دم أي نوع آخر.

  • (٥)
    أما الحجة المتعلقة بالأعضاء المتخلفة Vestigial Organs فهي حجة مألوفة لنا جميعًا. تؤكد أن الكائنات العضوية البالغة ذاتها يمكن أن تكون لها آثار تشريحية متخلفة، كالزائدة الدودية، التي ليست لها فائدة، بل قد تكون مصدر ضرر. فليس في وسع الفرض المرتكز على فكرة الخلق أن يقدم تعليلًا لهذه الأعضاء المتخلفة. أما النظرية التطورية فتقول إنها مخلفات من مخلوق قديم من الجدود الأولين. كان لها نفع لديه.
  • (٦)
    وهناك طلاب كثيرون يتأثرون خاصة بالحجة المستمدة من التوزيع الجغرافي وهي الحجة القائلة إن تلك الجزر أو كتل اليابس التي يعتقد علم الجيولوجيا أنها ظلت معزولة أطول فترة ممكنة (كأستراليا وجزر «جالاباجوس Galapagos» مثلًا) يوجد فيها عادةً أكبر عدد من الأنواع النادرة أو «الشاذة». وهذا ما ينبغي توقعه، حسب الفرض التطوري، ما دام من الضروري أن تكون تلك البقاع التي انفصلت عن بقية العالم منذ أقدم عهد ممكن هي التي أتيح لها أكبر قدر من الوقت لإظهار أنواع تختلف عن تلك التي توجد في البقاع الأخرى.
  • (٧)
    وأخيرًا فهناك حجة مستمدة من التجربة المرسومة أو المدبرة Controlled Experiment فتربية السلالات النباتية والحيوانية تقدم أوضح الأمثلة كالتجارب المشهورة التي قام بها لوثربيربانك Luther Burbank١١ ولقد أشرنا من قبل إلى أعمال مماثلة قام بها دي فريس، طبقت فيها ضوابط دقيقة من أجل إحداث تغير ملحوظ في النوع.

ويعترف نصير نظرية التطور عادةً بأن أية حجة من هذه الحجج، إذا ما نظر إليها في ذاتها، لا يمكن أن تكون مقنعة إقناعًا تامًّا، ولكنه يعتقد أنها إذا ما أخذت سويًّا ودعمت بعضها البعض، كان لتجمعها تأثير لا يقاوم. وبالاختصار فإن هذه النقاط السبع تنطوي، في نظر المدافع عن هذه النظرية، على مجموعة من القواعد الملاحظة التي يفسرها فرضه على نحو أفضل بكثير مما يفسرها الفرض القائل بالخلق. ولما كان فرضه هذا يؤدي إلى تكامل وتفسير أفضل للوقائع، فمن الواجب إذن الأخذ به ورفض الفرض المضاد.

(٨) الحجج العلمية عند القائلين بنظرية الخلق

يمكن القول إن الحجج العلمية لنظرية الخلق سلبية إلى حدٍّ بعيد، من حيث إنها تشكل هجومًا على موقف نظرية التطور، أكثر مما تشكل وجهة نظر إيجابية.١٢
  • (١)

    فهي أولًا تذهب إلى أن هناك ثغرات خطيرة في السلسلة التطورية المزعومة، ولا سيما بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين المركبات الكيموية والكائنات العضوية من جهة أخرى. وهذا الفاصل الأخير واضح بصورة خاصة، ولم يحدث تقدم ملحوظ نحو سد الثغرة بينهما.

  • (٢)

    والأدلة المباشرة على التطور قليلة جدًّا — إن كانت هناك أدلة على الإطلاق. والمقصود بالأدلة المباشرة، الأمثلة الملاحظة لحدوث تعديل فعلي. وإذن فينبغي أن تظل النظرية بأسرها دون إثبات، بل تظل غير قابلة للإثبات ما لم تتم ملاحظات كهذه.

  • (٣)

    ولا يستطيع من يدافع عن نظرية التطور أن يقدم تفسيرًا مرضيًّا لأصل الحياة؛ إذ إن حججه كلها تفترض أن الحياة موجودة من قبل، وهو بالطبع هروب من مسألة عظيمة الأهمية.

  • (٤)

    ويذهب القائل بنظرية الخلق أخيرًا إلى أن النظرية التطورية تمثل تبسيطًا مفرطًا لوقائع هي في ذاتها شديدة التعقيد. فالكلمة «يتطور» مثلًا تستخدم بحيث تدل على عوامل كثيرة، وما هي في الواقع إلا قناع يخفى جهلنا بالوسيلة التي كان يمكن أن يحدث بها هذا النمو المتدرج بالفعل.

وردًّا على ذلك، يعترف القائل بنظرية التطور بوجود ثغرات حقيقية بالفعل في كثير من سلاسل النمو المتدرج، ولكنه يشير إلى أن استمرار التقدم العلمي يؤدي إلى سد هذه الثغرات بالتدريج. وعلى أية حال، فمن المؤكد أنها أقل اتساعًا مما كانت من قبل. وهو أيضًا يعترف بالجهل فيما يتعلق بأصل الحياة، ولكنه يذهب إلى أن الاعتراف النزيه بالجهل أفضل إلى حد لا متناهٍ من التعليل الخيالي الساذج — ولا نقول الخرافي — الذي يفترضه كثير من القائلين بنظرية الخلق لأصول الأشياء. وفضلًا عن ذلك فإن الافتقار إلى أدلة ملاحظة مباشرة على التطور ليس أخطر في هذه الحالة مما هو في حالة بناء فرضي آخر هائل، هو المذهب الذري للفيزياء الحديثة. فكلتا النظريتين تمثل أفضل محاولة للقيام بما ينبغي على كل فرض علمي أن يقوم به: أعني تفسير كل الوقائع المتعلقة بالموضوع بأبسط الطرق الممكنة وأكثرها فعالية وأقربها إلى المنطق. وأخيرًا فإذا كان الأساس اللازم للبت في هذا الموضوع هو الأدلة الملاحظة المباشرة، فهل في استطاعة القائل بنظرية الخلق أن يضرب لنا مثلًا لحالة لاحظ فيها أي شخص خلق من نوع جديد؟

(٩) الحجج الأخلاقية

من الأفضل، عند استعراض الحجج الأخلاقية التي يتقدم بها كلٌّ من الطرفين، أن ندع القائل بنظرية الخلق يتحدث أولًا؛ إذ إن معظم عتاده الثقيل مستمد من المجال الأخلاقي.

  • (١)

    ما زال كثير من القائلين بنظرية الخلق يشعرون بالقلق لأن التفسير الدارويني لأصل الأنواع لا يتمشى مع تفسير الإنجيل، وإن كانت هذه الحجة قد أصبحت اليوم أكثر ترددًا على الألسن مما كانت عليه من قبل.

  • (٢)

    كذلك فإن الصورة التطورية، التي تشمل الإنسان، تنطوي على الحط من الجنس البشري. فلم يعد الإنسان يبدو آخر مخلوقات الله (وأثرها لديه)، وإنما أصبح مجرد نوع حيواني آخر.

  • (٣)

    كذلك فإن نظرية التطور، كما قلنا من قبل، تبدو وكأنها تلغي الحاجة إلى غاية أو إرادة خلاقة في الكون، بما تقدمه من تفسير طبيعي بحت للظواهر البيولوجية، بل إن النظرية بأسرها إنما هي محاولة أخرى للقضاء على العنصر فوق الطبيعي في تفكير الإنسان.

  • (٤)

    وليس في استطاعة فرض التطور أن يقدم إلينا صورة لبداية مرسومة أو غاية مرغوب فيها للحياة على الأرض. ذلك لأن العلوم المختلفة يبدو أنها توحي بأن أرضنا ستنجذب في وقت ما، إلى الشمس نتيجة لفقدانها قدرتها على الاندفاع المستقل، أو ستفقد حرارتها نتيجة لبرودة الشمس تدريجيًّا، أو ربما صادفت كارثة من التصادم مع جرم فلكي آخر. فإذا كانت هذه هي الصورة الصحيحة لمصير الإنسان، فعندئذٍ يكون الإنسان عقيمًا تمامًا، وكذلك الحال في مُثله العليا.

  • (٥)

    وأخيرًا فإن نظرية التطور، بما تفترض من تطور لمُثلنا العليا مع تطور تركيبنا الجسمي، تقترح أصلًا طبيعيًّا بحتًا لوجود الإنسان الأخلاقي. وهنا أيضًا يُستبعد ما فوق الطبيعي، ويُقترح علينا تفسير مادي آلي لطبيعة الإنسان الروحية.

التطوري يرد: أما التطوري، فلديه بدوره بعض العتاد الأخلاقي، الذي صنع الجزء الأكبر منه لغرض صريح هو الرد على اعتراض القائل بنظرية الخلق.
  • (١)

    فهو عادةً يعترف صراحة بالتعارض بين التفسير الدارويني وبين التفسير الوارد في سفر التكوين، ولكنه يشير إلى أن نفس الاعتراض قد أثير في وجه النظام الكوبرنيقي في الفلك عندما صيغ لأول مرة في القرن السادس عشر. وكما أمكن التخلي عن المعلومات الفلكية الواردة في الكتاب المقدس دون مساس بسلطته الروحية، فمن المؤكد كذلك التخلي عن المعلومات البيولوجية الواردة فيه دون إنقاص من قدرته الأخلاقية.

  • (٢)

    كذلك لا يرى القائل بالتطور أي حط من قدرنا إذا كنا قد ارتفعنا من أشكال دنيا للحياة. ذلك لأن موضوع فخرنا ليس ما أتينا منه، بل ما تحولنا إليه.

  • (٣)

    والتفسير الطبيعي لأصلنا لا يؤدي بالضرورة إلى حذف فكرة الله من الصورة، حتى بوصفه خالقًا؛ ذلك لأن من الممكن النظر إلى التطور — أو بتعبير أدق، إلى الانتقاء الطبيعي — على أنه هو الوسيلة التي تتحقق بها «الغاية الإلهية». وهذا أمر وجد تقديرًا لدى كثير من المثاليين والمفكرين الدينيين المحدثين، فتراهم ينظرون إلى العملية التطورية بأسرها على أنها هي «الاستراتيجية الكبرى» التي حقق بها الذهن الشامل ذاته في العالم المادي.

  • (٤)

    ويعترف القائل بالتطور بجهله بالأصول (كما رأينا من قبل)، ويرفض الاعتراف بأن لفرضه أية صلة بموضوع غاية الحياة أو هدفها، أو أية مسئولية عنه. غير أنه يعتقد أن رأيه يجعل من الحياة والتاريخ البشري مغامرة مليئة بالتحدي، وهو ما لا يؤدي إليه القول بوجود مصير مقدر مقدمًا.

التطور ومشكلة الشر: توجد لدى المدافع عن نظرية التطور حجة أخلاقية كبرى خاصة به، بالإضافة إلى هذه الردود. هذه الحجة تتعلق بمشكلة الشر، وهي مشكلة ستطل برأسها في كثير من الفصول التي سترد فيما بعد. وقد قدم «دوترر» عرضًا موجزًا واضحًا للموقف كما يراه أنصار التطور (وقد استخدم دوترر للتعبير عن التطورية لفظ «التحولية Transformism»، فقال:

على أن أخطر اعتراض يوجه إلى الفرض القائل بالخلق الخاص، هو ذلك الذي ينجم عن التفكير في وجود الشر في العالم. فأي تعليل يستطيع فرض الخلق أن يقدمه لأصل جراثيم الأمراض بوجه خاص؟ أنستطيع حقًّا أن نفترض أن الله قد تعمد خلق الكائنات العضوية الجرثومية التي تسبب الالتهاب الرئوي وشلل الأطفال، والطاعون الدملي، والتهاب السحايا المخية الشوكية، وسائر الأمراض اللعينة المخيفة التي تفتك بزهرة الجنس البشري؟

فإذا ما قلنا، محاولين تجنب الصعوبة الناجمة عن وجود هذه الأنواع الكثيرة من البكتريا المسببة للأمراض، أن هذه البكتيريا لم تكن في الأصل مسببة للمرض، لكان ذلك اعترافًا منا بقابلية الأنواع للتعديل على نحو جذري، ولكنا بذلك نقبل من حيث المبدأ وجهة النظر التحولية؛ ذلك لأننا إذا كنا نعترف بأن الأنواع المؤذية قد ظهرت من أصل طبيعي، فكيف نستطيع أن ننكر أن الأنواع الأخرى ربما كانت قد ظهرت على نفس النحو؟١٣

ولا بد أن يكون القارئ قد أدرك أن الخلاف بين القائل بنظرية الخلق والقائل بنظرية التطور يرتد إلى صراع بين النزعة الطبيعية والنزعة فوق الطبيعية. فالفيلسوف المؤمن بالمذهب الطبيعي ينظر إلى الفرض الدارويني — عن حق تمامًا — على أنه واحد من أقوى أسلحته؛ إذ إن هذه النظرية هي التي أسهمت بالدور الأكبر في إتاحة امتداد التفكير الطبيعي إلى الميادين البيولوجية والنفسية والاجتماعية. أما القائل بنظرية الخلق فلا بد أن يكون من المؤمنين بالنزعة فوق الطبيعية؛ إذ إن نفس مفهوم الخلق الخاص يقتضي فاعلًا أو قدرة خارجية (أي فوق الطبيعية) من نوع ما. ولو نظرنا إلى المسألة من خلال النزاع بين مختلف المدارس الفلسفية، لوجدنا أن التأثير العام للمذهب التطوري كان دعم المذهب الطبيعي إلى حدٍّ بعيد. وعلى العكس من ذلك، فربما كان المذهب التطوري هو أقوى عامل منفرد أرغم النزعة فوق الطبيعية على الوقوف موقف الدفاع، بل إن المثالي نفسه قد وجد لزامًا عليه، في كثير من الأحيان، أن يعدل تفكيره على نحو يتسع معه للنظرية الجديدة ونتائجها الضمنية.

(١٠) صراع بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي

بعد أن أسفرت الحرب بين مذهب الخلق ومذهب التطور عن انتصار الأخير إلى حدٍّ بعيد في وقتنا الحالي، وذلك من وجهة النظر العلمية على الأقل، فإن الجدال بين أنصار المذهب الآلي وأنصار المذهب الحيوي قد أصبح أشد ميادين الخلاف حيوية في ذلك المجال الغامض المسمى «بفلسفة العلوم البيولوجية». ويبدو أن كل جيل يتعين عليه أن يقاتل في ميدان جديد؛ ففي الوقت الحالي أصبح الميدان الرئيسي للمعركة هو ذلك الفرع من الميدان البيولوجي، المسمى «بعلم النفس». ومع ذلك فالأفضل أن نبدأ بدراسة الجدال بين المذهبين الآلي والحيوي في علاقته بميدان البيولوجيا بوجه عام.

عرض موجز للموقفين: يدل لفظ المذهب الآلي في البيولوجيا على ما يعنيه هذا اللفظ بالضبط؛ فهو محاولة للامتداد بالنظرة الآلية إلى الكون بحيث تشمل الكائنات الحية. ويرى هذا المذهب باختصار أن من الممكن تقديم تفسير كامل للكائن العضوي على أساس المبادئ الآلية؛ أي عن طريق القوانين التي تسري على المادة في حركتها. ولو شئنا استخدام تعبير أدق وأقرب إلى الروح العلمية، لقلنا إن المذهب الآلي البيولوجي يرى أن الكائن العضوي نظام فيزيائي كيموي، يمكن تحليل سلوكه إلى تلك الأنواع من التفاعلات التي تدرس في معامل الفيزياء والكيمياء. وهكذا فإن القائل بالمذهب الآلي لا يعترف بوجود فارق هام بين العالمين العضوي وغير العضوي: فالسلوك على المستوى العضوي لا يمثل إلا صورة أشد تعقيدًا بكثير، من تلك التفاعلات التي تميز سلوك المادة غير العضوية. وينكر المذهب الآلي أن يكون أي عامل أو مبدأ غير فيزيائي قد ظهر في الطبيعة مقترنًا بظهور الحياة. وهكذا تصبح البيولوجيا مجرد امتداد للفيزياء والكيمياء في مجال يتضمن ظواهر أعقد من تلك التي يدرسها العلمان الآخران عادةً. ومع ذلك، فلما كان ميدان البيولوجيا متصلًا بميدانَي هذين العلمين الأقدم منه عهدًا، فإنه لا يحتاج إلى مبادئ جديدة أو مفاهيم أساسية جديدة كل الجدة.
أما المذهب الحيوي فيعتقد أن الظواهر العضوية لا يمكن تعليلها تعليلًا كافيًا على أساس معرفتنا الحالية للفيزياء والكيمياء، ولا على أساس أية معرفة مقبلة شاملة لقوانينهما. فصاحب هذا المذهب يرى أن ظهور الحياة في الكون قد أدى إلى إدخال عامل أو مبدأ جديد أصيل في الطبيعة. وهو يرى، فضلًا عن ذلك أن هذا المبدأ «حيوي» غير آلي وغير مادي وغير كيموي. وهكذا فإن المذهب الحيوي هو في أساسه المذهب القائل إن ظواهر الحياة فريدة في نوعها — إنها فئة لا نظير لها — ومن ثم فهي تختلف أساسًا عن الظواهر الفيزيائية الكيموية. فصاحب هذا المذهب يجد في الكائنات العضوية الحية شيئًا جديدًا ومختلفًا كل الاختلاف عما يمكن كشفه في أي مجال آخر من مجالات النظام الطبيعي؛ أعني شيئًا لا يمكن تعليله على أساس مجرد زيادة تعقد أو تعدد العوامل الموجودة من قبل. هذه الإضافة الجديدة المفترضة إلى الطبيعة تكاد تكون مما يستحيل تعريفه، ما دامت (كما قلنا الآن) فريدة في نوعها، والشيء الذي يكون منفردًا تمامًا يستحيل تعريفه؛ إذ إن كل تعريف ينبغي أن يكون بالنسبة إلى شيء آخر داخلًا في نطاق تجربتنا. وقد أطلق مختلف أنصار المذهب الحيوي على هذا العامل غير القابل للتعريف أسماء متباينة، «كالقوة الحيوية» أو «قوة الحياة» أو «الكمال Entelechy» أو «الدفعة الحيوية Élan Vital» أو «العالم شبه النفسي Psychoid»، وغيرها. وحاول آخرون وصف طبيعته المفترضة على أساس الاختلافات التي تفرق بين النشاط العضوي والنشاط غير العضوي، غير أن هذا العامل قد ظهر آخر الأمر غامضًا غير قابل للوصف.

(١١) حجج كلٍّ من الجانبين

لكلٍّ من جانبَي النزاع حججه القوية. وسوف نستمع إلى صاحب المذهب الآلي في البداية؛ إذ إن المذهب الحيوي إنما هو إلى حدٍّ بعيد نقد لما ينطوي عليه الموقف الآلي من تبسيطات أو نواقص (حقيقة مزعومة).

  • (١)
    حجج المذهب الآلي: (أ) يشير صاحب المذهب الآلي أولًا إلى أن وجهة النظر العامة للعلم، وكذلك منهجه العام، تتسم بأنها آلية. ومما له دلالته الخاصة أن أشد العلوم دقة؛ أعني أقرب العلوم إلى المثل الأعلى لكل نشاط علمي، هي الفيزياء والكيمياء. وهذان العلمان يقومان على أساس من العِلِّية الآلة. وفضلًا عن ذلك فإن العلم كلما ازداد دقة، ازداد اقترابًا من الطابع الآلي. وهكذا يكون لنا الحق في أن نفترض أن العلوم البيولوجية كلما ازدادت دقة، أصبحت تفسيراتنا أقرب إلى الطابع الآلي.

    (ب) وهناك علاقات عامة معينة بين البيولوجيا وبين العلوم الأخرى تشير إلى ضرورة تفسير العمليات الحيوية تفسيرًا آليًّا. ومثال ذلك أن كل الكائنات العضوية تخضع لقوانين المادة ومبدأ «بقاء الطاقة». وربما كان الأهم من ذلك أن كثيرًا من التركيبات والعمليات الحيوية الخاصة يمكن إرجاعها إلى تركيبات وعمليات آلية أو كيموية. ولعل أفضل مثال لذلك، التحليل الكيموي للخلايا، الذي يرجعها إلى أجزاء مكونة لها كالبروتينات والببتونات وما شابهها، وهذه بدورها ترد إلى تجمعات شديدة التعقيد من الهيدروجين والنيتروجين والكربون وغيره.

    (ﺟ) وهناك حقيقة تدعم موقف صاحب المذهب الآلي بقوة، هي أنه كان هناك اتساع مطرد، من الوجهة التاريخية، في تطبيق التفسير الآلي على العمليات البيولوجية، وضمنها تلك التي كان يُعتقد من قبل أنها بمنأى عن مثل هذا التفسير، كالاستجابة للمنبهات مثلًا. وعلى الرغم من وجوب الاعتراف بأن هناك عمليات عضوية متعددة لم تخضع بعد للتفسير الآلي، فإن هناك احتمالًا (بل ترجيحًا في نظر البعض) في أن تخضع هذه بمضي الوقت لتلك الطريقة في التفسير. وكما أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة، فإن صاحب المذهب الآلي هو إنسان لديه إيمان معين؛ أعني إيمانًا بالمناهج الآلية. فهل يستطيع أحد أن ينكر عليه حقه في هذا الإيمان، بعد ما توصل إلى تحقيقه الآن من إنجازات؟

    (د) ويستفيد القائل بالمذهب الآلي كثيرًا من الكشوف التي تم التوصل إليها، في ميدان إنتاج تركيبات صناعية تحاكي الكائنات العضوية بنجاح. وهناك أمثلة أقوى من هذه تأثيرًا في أذهان معظم الطلاب، وهي حالات الإخصاب الصناعي التي ذكرت في هذا الفصل من قبل، والتي أمكن فيها الاستغناء عن الحيوانات المنوية للذكر بطرق آلية أو كيموية. والواقع أن كثيرًا من الأذهان ترى في هذه المحاكاة للأشكال أو العمليات الحية، حتى مع كونها قليلة العدد، أقوى حجة ممكنة تؤيد المذهب الآلي فتراهم يتساءلون: إذا كنا قد استطعنا أن نفعل كل هذا الآن عن طريق محاكاة العمليات الحيوية، فما الذي يمكن أن يحمله المستقبل في طياته من الاحتمالات؟

  • (٢)
    حجج المذهب الحيوي: غير أن لصاحب المذهب الحيوي بدوره حججه القوية التي تؤدي واحدة أو اثنتان منها إلى هدم بعض النقاط التي يقول بها صاحب المذهب الآلي أو إضعافها، على الأقل، إلى حد خطير. (أ) فالمذهب الحيوي يرى أولًا أن المفاهيم الفيزيائية والكيموية لا تكفي بذاتها لتفسير ظواهر معقدة كالكائنات العضوية الحية. فهناك ثغرة هائلة تفصل بين السلوك الآلي (كسلوك جسم يهوي مثلًا) وبين السلوك البشري (كإجراء عملية جراحية دقيقة مثلًا) — وهذه الهوة تبلغ من الاتساع حدًّا يستحيل معه إرجاعها إلى مجرد فروق في الكم. ويواصل نصير المذهب الحيوي كلامه قائلًا إن من المستحيل أن تكون أية إضافة لعوامل أو أي تعديد للتجمعات الممكنة، كافيًا للجمع بين مجموعتَي السلوك هاتين، بل إنه حتى إذا أمكن إرجاع الفرق إلى ازدياد في التعقيد فإن التعليل الآلي يظل مع ذلك غير كافٍ. فلا بد أن يبلغ تنظيم المادة (أي التركيبات) الذي يحتاج ليه المذهب المادي في تفسيره، حدًّا من التعقيد يجعله شيئًا خياليًّا مبالغًا فيه — بل شيئًا لا يمكن تصوره.

    (ب) ويلاحظ ثانيًا أن ظاهرة «الحياة» تنطوي على عدة عمليات، كالتنفس والتعويض الذاتي، وهي عمليات لا يمكن تفسيرها إلا غائيًّا؛ أي على أساس هدف أو غاية من نوع ما. ومن الواضح أن الآلية والغائية مفهومان متعارضان: فالفرض الآلي يفسر كل شيء على أساس العلل الفاعلية (أي الحوادث السابقة)، على حين أن الغائية تفترض علة غائية؛ أي هدفًا أو نتيجة مرسومة. وفيما يتعلق بالتركيبات العضوية، يبدو هذا الهدف «معيارًا» أو شكلًا نموذجيًّا يتميز به كل نوع، ويسعى كل فرد في النوع إلى تحقيقه، وهذا يصدق أيضًا على العمليات الحيوية أو الوظائف الجسمية: فلكل جزء من الكائن العضوي، بل للكائن العضوي في مجموعه «معيار» وظيفي يتجه سلوكه إلى تحقيقه.

    (ﺟ) وربما كانت أشمل حجج المذهب الحيوي هي في الوقت ذاته نفس الحجة التي يجد صاحب المذهب الآلي أكبر قدر من الصعوبة في الرد عليها بطريقة مرضية. تلك هي الحقيقة القائلة إن الكائن العضوي هو كلٌّ منظم يسلك بطرق لا تسلك بها أية آلة أو نظام آلي. فكل سلوك عضوي يمثل عملية تكيُّف يحاول بها الكائن العضوي الوصول إلى التلاؤم أو الاحتفاظ بالتلاؤم مع البيئة المحيطة به. ويقدم «كننجهام» وصفًا دقيقًا لهذه العلاقة حين يقول: «إن حركة الأميبا نحو الطعام أو بعيدة عن أية مادة ضارة، مثلًا، هي حركة تخدم الحياة الفردية في مجموعها، ونشاطها له بعض الصلة بمصلحة الأميبا في المستقبل.»١٤

    هذا النشاط الغرضي المنظم هو الذي يفرق على أفضل نحو بين سلوك الكائن الحي وسلوك الكائن غير الحي، ويرى صاحب المذهب الحيوي أن أي تفسير آلي، حتى لو كان تفسيرًا لذهن محيط بكل شيء، لا يمكن أن يكفي لتعليل العمليات الحيوية. ومن هنا فإن افتراض «قوة للحياة» أو «فاعلية حيوية» من نوع معين هو أمر لا مفر منه.

(١٢) أسس المفاضلة بين المذهبين

إذا حاولنا أن نفاضل بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي، فلا بد لنا من أن نضع في اعتبارنا أمورًا معينة. فيبدو من الواضح أولًا أن أية مسألة لها مثل هذا الطابع العلمي الأساسي ينبغي أن يبت فيها على أساس الأدلة العلمية بقدر الإمكان. ولقد رأينا أن الأدلة حتى الآن غير قاطعة: فبعض الثقات يرون أن لدينا، على الأرجح، من المعطيات المتوافرة ما يكفي لتثبيت دعائم المذهب الآلي على نحوٍ قاطع، ولكن غيرهم يتخذ موقفًا أشد حذرًا. ولما كنا نفتقر إلى الدليل الحاسم. فلن يكون أمامنا إلا أن نكتفي بالحل الذي يلي ذلك في ترتيب الأفضلية: وأعني به أن نتخذ لأنفسنا فرضًا عمليًّا من الموقف الذي نعتقد أن الشواهد المؤدية له هي الأقوى. ومع ذلك فلما كان الافتقار إلى دليل علمي حاسم يؤيد أيًّا من جانبَي الخلاف بجعل المسألة فلسفية قبل كل شيء، فلا بد لنا أن نسعى إلى بناء قرارنا على أسس عقلية، لا على تفضيلات عاطفية. ولن يستطيع القائل بالمذهب الآلي أن يقاوم الإشارة إلى أن المذهب الحيوي يتمتع دون شك بتأييد من مدارس فلسفية معينة، أقوى من التأييد الذي يجده من العلماء. وعلى الرغم من أننا نجد من علماء البيولوجيا من هم من أنصار المذهب الحيوي، فإن أصحاب المذهب الثنائي في الفلسفة، والمثاليين على الأخص، هم الذين أيدوا الموقف الحيوي بقوة؛ إذ إن من المتوقع أن يكون المذهب الآلي مذهبًا غير مقبول على الإطلاق في نظر الفلسفات التي تتصور «الروح» على أنها «الحقيقة النهائية»، أو على أنها (في حالة المذهب الثنائي) واحدًا من عنصرين نهائيين لا يردان إلى غيرهما. فالصلة بين التفسير الآلي وبين المذهبين الطبيعي والمادي تبدو أقوى من أن تجعل هذا التفسير مقبولًا لدى أصحاب العقليات المثالية.

الأدلة العلمية في مقابل الإعجاب الانفعالي: إذا وقفنا خارج مجال هذا النزاع، محاولين استعراض المسألة كلها بطريقة موضوعية، فسوف نجد أن الواجب يقضي علينا بأن ننصح الطلاب المعجبين بالمذهب الحيوي، بأن يختبروا دوافعهم لكي يتأكدوا من أن الاعتبارات الدينية أو العاطفية ليست هي التي تحضهم على هذا الاختيار. ولا شك أنه لا توجد قاعدة تنهى عن اتخاذ قراراتنا على أسس عاطفية، ولكن المثل الأعلى في الفلسفة، كما في العلم، ينبغي أن يكون بناء أحكامنا على أسس عقلية. وأنه لمن الممكن تمامًا أن يكون المرء من أنصار المذهب الحيوي بناء على اعتبارات عقلية، كما يثبت ذلك وجود أقلية عنيدة من علماء البيولوجيا الذين يتمسكون بهذا الموقف. ومع ذلك، فلما كان الأسهل من ذلك أن يناصر المرء المذهب الحيوي على أسس عاطفية، فإن على الطالب الذي يدين للروح الفلسفية بأي قدر من الولاء أن يختبر دوافعه قبل اتخاذ قراره.

والأمر الثاني الذي ينبغي أن نضعه في اعتبارنا ونحن نقدر قيمة الموقفين هو الاتجاه التاريخي الذي ينطوي عليه كلٌّ منهما. فمن الواجب أن نذكر أن المذهب الحيوي ظل هو الرأي السائد أو «الرسمي» طوال قرون عديدة، على حين أن المذهب الآلي، مستجد نسبيًّا في الفكر الحديث. ونظرًا إلى الحداثة النسبية لموقف المذهب الآلي، فإن النتائج التي حققها يمكن أن تعد كبيرة بحق. فهو قد غزا ببطء، ولكن باطراد، أرضًا بدت في أول الأمر محصنة لا تُقتحم. وأجبر المذهب الآلي على التخلي عن جزء من أرضه هنا، وعن موقف هام هناك. ومن المعترف به على نطاق واسع في الأوساط الثقافية حاليًّا أن المذهب الحيوي أصبح الآن يتخذ موقف الدفاع. ومع ذلك فمن الخطأ تمامًا أن نتصور أن هذا يعني أن المذهب الحيوي ضعيف، ناهيك بكونه يحتضر. فعلى الرغم من كلِّ منجزات المنهج الآلي. فإن أمام المدافعين عن الآلية شوطًا طويلًا ينبغي أن يقطعوه قبل أن يكون في وسعهم ادعاء النصر التام. وكما قال الكثيرون من قبل، فمع أن المذهب الحيوي أصبح يتخذ موقف الدفاع، ويتخلى عن أرض واسعة، فما زال هذا المذهب قويًّا لأن الأراضي التي ينبغي عليه التخلي عنها شاسعة.

الاتجاه إلى التوحيد في العلم: وأخيرًا، ينبغي أن يلاحظ أن الاتجاه إلى الآلية في البيولوجيا هو جزء من معركة عامة نحو التوحيد في العلوم، ولو عدنا بأنظارنا إلى تاريخ العلم، لأحسسنا بأن هذه الحركة التوحيدية كانت موجودة بصورة ضمنية منذ اللحظة التي أصبح فيها العلم الحديث شاعرًا بذاته في شخص فرانسس بيكون وجاليليو. ومع ذلك لا يكاد يكون في وسع أحد أن يدعي أن هذين الرائدَين الأولَين كانا شاعرَين بأي اتجاه كهذا؛ إذ إن هذا الاتجاه لم يصبح هدفًا صريحًا بين المفكرين العلميين إلا في القرن الماضي. ومع ذلك فسواء أكانت حركة التوحيد مقصودة أم غير مقصودة، فإنها قد ظلت تتقدم باطراد.

ولما كانت الفيزياء والكيمياء هما أول علمين يبلغان سن الرشد؛ ومن ثَم كانا أول علمين يصلان إلى الدقة عن طريق الانتفاع الكامل من المناهج الكمية، فقد كان من المحتم أن يصبحا معيارًا أو مثلًا أعلى تسعى إلى بلوغه كل العلوم الأخرى. وقد أصبحت الفيزياء بوجه خاص هي العلم المثالي، وسرعان ما أصبحت طريقتها الدقيقة المحكمة في صياغة مبادئ الميكانيكا هي الحلم الذي ييأس من تحقيقه المشتغلون في ميادين أخرى أحدث وأقل تنظيمًا. وكان من الطبيعي أن تعمد العلوم الأخرى في محاولتها الوصول إلى قدر مناظر من الدقة والوضوح، إلى محاكاة مناهج الفيزياء، فنقلت وجهة نظرها الحتمية وأساليبها الآلية برمتها إلى مجالات الطبيعة الأحدث عهدًا، والتي لم تذلل بعد. وعلى الرغم من أنه قد اتضح قبل مضي وقت طويل أن كثيرًا من هذه المناهج يتعين تعديله قبل أن يغدو ملائمًا للميادين الجديدة، فإن الأسلوب الآلي العام ظل هو المثل الأعلى للمنهج العلمي.

والواقع أن وجهة النظر الآلية العامة ما زالت أساسية في العلم، على الرغم من التغيرات العديدة التي حدثت داخل علم الفيزياء، وضمنها التحسينات الهائلة التي أدخلت على مناهجه، وهكذا فإن القائل بالمذهب الآلي في البيولوجيا هو باحث في علوم الحياة يحاول أن يمتد بهذا المنهج العام إلى ميدانه الخاص، لكي يحقق مزيدًا من الدقة في تحليل الظواهر البيولوجية، وكذلك لكي يزيد من وثوق الصلة بين ميدانه وبين المجموع العام للعلم. وإذن فالطريقة الآلية في معالجة البيولوجيا ممتازة بوصفها مثلًا أعلى علميًّا. صحيح أن اللاهوتيين والمثاليين والثنائيين قد يعترضون عليها لأسباب أخلاقية، غير أن اعتراضاتهم هذه، في نظر العالم خارجة عن الموضوع. والمسألة الوحيدة الصحيحة من وجهة نظر العالم أو القائل بالمذهب الطبيعي في الفلسفة هي: هل المذهب الآلي كافٍ بوصفه تفسيرًا للسلوك العضوي؟ لقد عرضنا من قبل إجابتنا — أو على الأصح إجاباتنا. فهو بالنسبة إلى القائل بالمذهب الآلي تعليلٌ كافٍ، أو هو على الأقل يبشر بأن يكون كافيًا في المستقبل غير البعيد، وهو بالنسبة إلى القائل بالمذهب الحيوي غير كافٍ الآن، ولا يمكن أن يصبح كافيًا في المستقبل. وباختصار، فصاحب المذهب الحيوي يرى أنه مهما كانت كفاية المنهج الآلي في الفيزياء أو الكيمياء أو الفلك أو الجيولوجيا، فإنه ينهار حالما نحاول الانتقال به إلى ميدان الظواهر البيولوجية. ولنقل مرة أخرى إن صاحب المذهب الحيوي يرى أن ظهور الحياة في الكون ينطوي على إدخال عامل جديد تمامًا، متميز كيفيًّا، ولا بد لتفسير هذا العامل الحيوي من استخدام مفاهيم جديدة كل الجدة.١٥

(١٣) المذهب المثالي في مقابل المذهب الطبيعي في علم البيولوجيا

إذا ألقينا نظرة عامة على هذا الفصل، لوجدنا فيه اتجاهًا واضحًا نحو ذلك التقابل الأساسي بين المثالية والمذهب الطبيعي، وهو التقابل الذي عرضناه في الفصلين السابقين. ومن الواضح أن هناك، فيما يتعلق بأصل الحياة وتطورها، مدرستين فكريتين بينهما تضاد شديد. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع التوحيد بين مذهب الخلق وبين المذهب المثالي (إذ إن المثالي ينبغي أن يصل إلى تفاهم مع العلم الحديث، كما ينبغي أن يفعل الفلاسفة في كل مدرسة) فإن المثالي، حتى حينما يقبل الفرض التطوري، يجد في عملية التحول والنمو خطة أو غرضًا أو «استراتيجية» من نوع ما. وهكذا فإنه، في نظر المدافع عن المذهب الطبيعي لا يقبل ارتباطًا بالمذهب فوق الطبيعي عن مذهب الخلق. والواقع أن المثالي، والقائل بالمذهب فوق الطبيعي، يفترضان قوة أو فاعلًا خارجًا عن نطاق العمليات العادية للطبيعة. فالقائل بالخلق مثلًا يجعل من هذه القوة شيئًا لا يرسم خطة أو يضع هدفًا فحسب، بل يتدخل في النظام الطبيعي لكي يحقق هذه الخطط. وهناك تشابه بين القائل بالمذهب فوق الطبيعي في العصر الحديث. وبين المثالي في هذه المسألة — بل إن الصلة بين المدرستين في هذه المسألة تبلغ من الوثوق حدًّا يستحيل معه التمييز بينهما. فكلتاهما تقبل الموقف التطوري العام، ولكن كلًّا منهما تبدي اهتمامًا هائلًا بالعملية التطورية من حيث هي أداة, فالمدرستان تنظران إلى التطور (وضمنه التغير الفلكي والجيولوجي، فضلًا عن النمو البيولوجي المتدرج) على أنه لا يعدو أن يكون الوسيلة أو العملية الخلاقة التي أنتج بها الذهن الشامل ذهنًا بشريًّا، والروح الشاملة روحًا بشرية؛ أي إنه أداة كبرى استخدمها الذهن الإلهي أو المطلق في تكوين أذهان بشرية؛ وبالتالي في إيجاد القيم أو الخير بطريق غير مباشر.

والواقع أن من المنطقي، وربما من المحتم، أن ينظر المثالي إلى التطور في هذا الضوء. فلما كان قد التزم الاعتقاد بأن أساس الكون روحي، واتجاهه خاضع لتحكم القيم، فمن الطبيعي أن يذهب إلى أن كل العمليات الكونية لها آخر الأمر طابع منتج للقيم. وهذا الاعتقاد العميق المتأصل هو الذي أتاح للمثاليين قبول التطور، على حين أن كثيرًا من معاصريهم القائلين بمذهب الألوهية، ولكن من وجهة نظر ضيقة، قد وجدوا فيه عقبة خطيرة في وجه الإيمان الديني.

وبطبيعة الحال فإن القائل بالمذهب الطبيعي يقبل وجهة النظر التطورية قبولًا تامًّا، ولا يحتاج إلى الاهتداء إلى غرض أو خطة في العملية التطورية لكي تصبح مقبولة لديه. ففي استطاعة المذهب الطبيعي أن يواجه النظرية القائلة إن العضوي قد انبثق من غير العضوي، وأن الحياة قد تدرجت من أشكال دنيا إلى تلك المجموعة الهائلة من الأنواع الموجودة حاليًّا، دون أن يفترض قوة أو غاية أو شخصًا أعلى يقف من وراء هذه العملية. ومن الواضح أن هذا يعود بنا إلى المصادرة الثالثة من مصادرات المذهب الطبيعي التي عرضناها في الفصل السابق. هذه المصادرة تقول إن سلوك الكون، سواء في مجموعه وفي كل تفاصيله، لا يتحدد إلا بطابع الكون ذاته، الذي يعمل بوصفه نظامًا واحدًا مكتفيًا بذاته ومعتمدًا على ذاته. ومن هنا فإن صاحب المذهب الطبيعي ينظر إلى التطور في مجموعه على أنه عملية طبيعية خالصة، ليس فقط في ألياتها المحددة، بل أيضًا في بدايتها الأولى. وواضح أن ذلك يؤدي إلى استبعاد أي فاعل متدخل يبدأ حركة التطور، وأي هدف يفترض أن العملية تتجه إلى تحقيقه.

وبالاختصار فإن التطور غائي في نظر المثالية (وفي نظر مذاهب الألوهية التي استطاعت التفاهم مع النظرية التطورية). أي إنه يسير نحو تحقيق هدف أو غاية. وهكذا فإن القوة الأساسية فيه هي قوة جاذبة من الأمام؛ أعني أن هناك حالة مقبلة، أو هدفًا، يدفعان عملية النمو المتدرج وينشطانها. أما المذهب التطوري فيرى، على العكس من ذلك، أن القوة الدافعة هي قوة من الخلف Vis a Tergo (أي إن كل شيء يحدث نتيجة لحوادث ماضية). وفي هذا المجال يكون المذهب الطبيعي ذا اتجاه حتمي تمامًا، إذ ينظر إلى التغيرات التطورية على أنها نتيجة لعلل طبيعية بالمعنى الدقيق؛ أعني حوادث سابقة تنجت هي ذاتها بفعل قوى يشتمل عليها الكون الذي يسير ذاته بذاته.

ولا شك أن موقف كلٍّ من المذهب الطبيعي والمذهب المثالي من الصراع بين النظرتين الآلية والحيوية واضح. فعلى الرغم من أن من الممكن أن يقول المفكر بالمذهب الحيوي وبالمذهب الطبيعي في آن واحد، فإن هذا، إذا حدث، يكون جمعًا نادرًا. وفي استطاعة من يتخذ موقف الجمع بين هذين المذهبين أن يقول مثلًا إن «قوة الحياة» أو «الكمال» الغامض، مهما يكن من استحالة إرجاعها إلى عوامل فيزيائية وكيموية، تظل طبيعية بمعنى أنها لا تمثل عنصرًا مقحمًا من خارج نظام الطبيعة الفيزيائية. غير أن هذا الموقف الممكن نظريًّا يبدو أنه لا يجذب إلا مفكرين قلائل: فالقائلون بالمذهب الحيوي في البيولوجيا هم على وجه العموم مثاليون. وهذه الحقيقة توحي بسؤال محير: فأيهما جاء قبل الآخر: أهو مذهبهم الحيوي الذي أدى إلى نظرة شاملة إلى الحياة، أم مثاليتهم، التي لم تكن تستطيع أن تقبل إلا نظرية حيوية؟

وأغلب الظن أننا سنجد مفكرين أقل حتى من الفئة التي تحدثنا عنها من قبل، يجمعون بين الآلية في المجال البيولوجي وبين المثالية في المجال الفلسفي. ولنقل مرة أخرى إن الجمع بين وجهتَي النظر هاتين ممكن نظريًّا؛ ففي استطاعة المرء أن يقول بأنه، لو أن أساس الوجود كله ذهني أو روحي، فإن العملية الحيوية لا يمكن تعليلها بالتحليل الفيزيائي تعليلًا كاملًا. ولكن لما كان أقوى الدوافع التي تؤدي بالفكر إلى اتخاذ موقف مثالي في الميتافيزيقا هو عادةً الحاجة إلى صياغة مذهب في العالم يجعل لذهن الإنسان وروحه المكانة الأولى، فإنه يكون من الغريب حقًّا أن يبدأ شخص إلى تفسير أسبقية الروح في الكون، بأن يفترض أساسًا فيزيائيًّا أو آليًّا للحياة ذاتها. وبعبارة أخرى، فلما كان «الذهن» و«الروح» معتمدَين على عمليات حيوية تتم في الكائنات العضوية، فإن من المنطق الغريب أن يؤكد المرء أن هذه العمليات ذاتها ذات طابع فيزيائي فحسب؛ إذ إن هذا يعني الاعتراف بأن أساس الوجود مادي، وهو بالطبع مضاد للمسلَّمة المثالية الأساسية المتعلقة بطبيعة الواقع. وأيًّا ما كانت نتيجة الخلاف بين المذهب الآلي والحيوي، فيبدو أن من المؤكد أن المثالي سيظل يؤيد النظرية الحيوية ما دام من الممكن عقليًّا أن يفعل ذلك.

أما الآن، فلا بد لنا من أن نواصل سيرنا، ونتعرف بقية أفراد أسرة المشكلات الفلسفية.

١  انظر Dotterer: Philosophy by Way of the Science.
٢  المرجع نفسه.
٣  السير وليام دامبير: تاريخ العلم Sir William Dampier: A History of Science.
٤  مجلة «تايم»، عدد ١٢ مارس ١٩٣٤م وأول ديسمبر ١٩٤١م. من الواجب عدم الخلط بين هذا الإخصاب الكيموي البحت وبين شيء آخر أقدم وأكثر شيوعًا بكثير، هو التلقيح الصناعي، حيث تدخل الحيوانات المنوية للذكر بطريقة آلية في الجهاز التناسلي للأنثى.
٥  انظر «دامبير»، المرجع المشار إليه من قبل. ولست أستطيع أن أقاوم التوصية بقراءة هذا الكتاب في تاريخ العلم؛ ولذلك نظرًا إلى معالجته لمشكلتنا الخاصة هنا، وللمشكلات العلمية بوجه عام، وخاصة في صلتها بالفلسفة.
٦  اقتبس هذا النص «دامبير».
٧  دامبير، المرجع السابق.
٨  يستخدم لفظ «السائد» للتعبير عن العامل الوراثي (الجين) المتحكم في تحديد صفة معينة تظهر في الوراثة، في مقابل لفظ «المتنحي أو المرتد Recessive» الذي يعبر عن العامل الذي يختفي أثره في الوراثة. (المترجم)
٩  منها مثلًا كتاب دوترر: الفلسفة عن طريق العلوم Dotterer’s Philosophy by Way of the Sciences وكتاب: باتريك: مدخل إلى الفلسفة Patrick: Introduction to Philosophy (طبعة منقحة)، الفصلان العاشر والحادي عشر. والكتاب الأخير يفيد في تخفيف غلواء الطلاب الذين قد يؤدي بهم إيمانهم بالمذهب الطبيعي إلى الثقة المفرطة في الأساليب الآلية.
١٠  على الرغم من أن هذه السلسلة من الحجج قد أصبحت مشاعًا، وكثيرًا ما تظهر في صورة مقاربة جدًّا للصورة التي نقدمها ها هنا، فإني أعتقد أن أفضل عرض لها هو ذلك الذي جاء في كتاب «دوترر» المشار إليه من قبل. وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأعترف بما أدين به لذلك الكاتب من فضل.
١١  لوثر بيربانك (١٨٤٩–١٩٢٤م)، باحث أمريكي اشتهر بتربية سلالات جديدة وخاصة من النباتات، مثل «بطاطس بيربانك» وغيره. (المترجم)
١٢  هذه الحجج السلبية مستمدة جزئيًّا من كتاب: كونجر: منهج دراسي في الفلسفة Conger: A Course in Philosophy.
١٣  دوترر: المرجع المشار إليه من قبل.
١٤  كننجهام: Problems of Philosophy.
١٥  ظهر في السنوات الأخيرة اتجاه ثالث في الفكر البيولوجي، يحاول اتخاذ موقف وسط بين طرفَي المذهب الحيوي والمذهب الآلي. هذا الاتجاه الذي يعرف باسم الرأي العضوي Organismic، يرى أن المذهب الآلي الكل هو مجرد مجموع أجزائه؛ أي إن الأجزاء ظهرت أولًا، ولم يكن يفترض «كيانًا نفسيًّا» أو «قوة حيوية» لا يمكن إثباتها. والواقع أن صاحب المذهب العضوي يأخذ على المذهب الآلي بوجه خاص الطابع الذري، أو الانفصالي لتحليله. إذ إن هذا الموقف الآلي يتضمن القول بأن الكل هو مجرد مجموع أجزائه؛ أي إن الأجزاء ظهرت أولًا، ولم يكن الكائن العضوي إلا تجمعًا لها. وفضلًا عن ذلك فالمذهب الآلي ينطوي على تحديد مكاني، وكأن الأجزاء تسلك مستقلة عن الكل.
أما موقف المذهب العضوي فهو موقف «كلي». فهو ينظر إلى الكل (أي الكائن العضوي)، على أنه أكثر من مجرد مجموع أجزائه (أي الخلايا والغدد والأعضاء، إلخ) لا بالمعنى الذي يقول به المذهب الحيوي؛ أعني وجود عنصر «زائد» غامض يضاف إلى الأجزاء ويربطها معًا، ولكن بمعنى أن الكليات توجد أولًا وتتحكم في الأجزاء. فالكائن العضوي ليس تجمعًا للخلايا، بل إن الكائن العضوي ينتج الخلايا، لا العكس. وفي هذا الصدد يقول ج. ف. براون J. F. Brown في كتابه «علم النفس والنظام الاجتماعي Psychology and the Social Order»: «وبعبارة أخرى فالكل لا يستنبط من الأجزاء، ولا يؤثر الجزء في الجزء لكي يكون الكل، بل إن ما يحدث في أي موقع معين داخل الكل يتحدد بتركيب الكل». وهو يشير في هذا الكتاب إلى أنه، في الوقت الذي ينظر فيه المذهب الآلي إلى الإنسان على أنه آلة، والمذهب الحيوي إليه على أنه آلة أضيف إليها كمال أو «نفس»، فإن الرأي العضوي أكثر إقناعًا من وجهة النظر العلمية، من حيث إنه ينظر إلى الكائن العضوي البشري على أنه نظام من الطاقة. وبهذه المناسبة فإنا نحبذ قراءة العرض الذي قدمه براون بوصفه تعبيرًا واضحًا عن المواقف الثلاثة، على الرغم من أن أنصار المذهبين الآلي والحيوي قد يجدون في دفاعه عن وجهة النظر العضوية، إجحافًا بوجهتَي نظرهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤