الفصل الثامن

نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟

يكاد يكون من المؤكد أن كثيرين من القراء لن ترضيهم نتائج تحليلنا لمشكلة الحقيقة في الفصل السابق. فقد تبدو هذه النتائج نسبية غير قاطعة، أو قد تبدو المسألة بأسرها مؤدية إلى مذهب ضمني في الشك. وقد يشعر المرء كما يشعر كثير من الطلاب بعد مناقشة المشكلة، بأن هناك ما يغريه على التساؤل: «ولكني أريد أن أعرف! فما قيمة الفلسفة إن لم يكن في استطاعتها الإجابة عن أسئلتي؟ ألم يستقر الفلاسفة على رأي قاطع حول مسألة ما إذا كانت هناك أية حقيقة أصيلة، ما إذا كنا نستطيع معرفتها أم لا؟»

لا شك أن مما يوضح الموقف أن نكون صرحاء في هذه المسألة، ونكتسب ثقة الطالب. فمشكلة الحقيقة، مع تعقيدها وصعوبتها، ليست إلا جزءًا واحدًا من مسألة أشمل وأوسع منها بكثير. تلك هي المشكلة الإبستمولوجية أو المعرفية: ماذا يمكننا أن نعرف، أو ما حدود المعرفة؟ ومن الطبيعي أن أية مسألة أساسية إلى هذا الحد تنطوي على مسائل فرعية متعلقة بمصادر المعرفة، وأنماط المعرفة أو أساليبها، ومناهج البحث العلمي، وما إلى ذلك. غير أن المشكلة الجوهرية هي في الواقع مشكلة صادفناها من قبل في المقدمة التي عرضناها في الفصل الأول لمشكلات الفلسفة، فماذا يمكننا أن نعرف، وكيف نعرف ذلك؟ إن هناك تعبيرًا دارجًا كثر استخدامه في التحية في الآونة الأخيرة، وهو يشيع كثيرًا في جماعات اجتماعية معينة، وهو: «ما الذي تعرفه عن يقين؟»١ وإنه لمن العسير أن نجد صيغةً تعبر عن بحثنا في المعرفة تعبيرًا أكثر دقة وإيجازًا، وكل ما في الأمر أن الفيلسوف يهتم بقدرات الذهن البشري بوجه عام، لا بمضمون أي ذهن فردي. وهكذا تكون الصيغة الحقيقية للسؤال في نظر الفيلسوف هي: «ما الذي يمكننا، بوصفنا جنسًا بشريًّا، أن نعرفه عن يقين؟»

إننا نجد في صدد هذه المشكلة، كما نجد في صدد كل مشكلات الفلسفة، عديدًا من المدارس الفكرية. ولكن كل ما يمكننا أن نحاول عمله في مدخل كهذا الذي نقدمه في هذا الكتاب، هو أن نعرض أهم وجهات النظر هذه، ثم ندع القارئ يتخذ قراره الخاص فيما يتعلق بحل مشكلة المعرفة الذي يبدو له مرضيًا أكثر من غيره. وقد يختار القارئ إجابة واحدة، أو قد يحاول الجمع بين إجابات عدة في حل واحد أكثر شمولًا. وقد نتخذ قرارًا على أساس ما تعلمناه منذ الطفولة، أو على أساس تفضيل مزاجي من نوع ما — وربما على أساس رد فعل مضاد لما تعلمناه منذ الطفولة. وعلى أية حال، فسوف يكون القرار شخصيًّا تمامًا، بغضِّ النظر عن المعيار الذي يحكم به المرء على مختلف نظريات المعرفة ويختار على أساسه من بينها.

الطابع الشخصي للمعرفة: هناك دائمًا عقول معينة يدهشها كل الدهشة أن يقال لها أنها تصنع معرفتها الخاصة. أما الفيلسوف فتبدو له هذه النتيجة محتومة لا مفر منها. والواقع أن كلًّا منا يعتنق نظرية خاصة في المعرفة، سواء أكان ذلك عن وعي أم بلا وعي. فكلٌّ منا يقرر ما هي مصادر المعرفة التي سيعطيها الأولوية: أهي التجربة الحسية، أم السلطة، أم العقل، أم الحدس … إلخ. ومن الجائز أن القارئ قد نشأ على عقيدةٍ تولِي السلطة اهتمامًا كبيرًا. فإن كان الأمر كذلك بالفعل، فأغلب الظن أنه سيظل يقبل سلطة من نوع ما، بوصفها المصدر الأساسي للمعرفة — ما لم يكن قد ثار على تنشئته الأولى بالطبع، والأرجح أنه سيرتكز في هذه الحالة على التجربة الحسية والعقل بوصفهما مصدرين نهائيين. وبعبارة أخرى، يبدو أن من المستحيل تجنب النتيجة القائلة إننا، مثلما يصنع كلٌّ منا «فلسفته في الحياة»، أو «نظرته إلى العالم»، فنحن نخلق أيضًا — إلى حدٍّ بعيد — مضمون عالمنا الفردي في المعرفة. وهذا ما ينبغي أن يكون إذا أخذ لفظ الفلسفة بأوسع معانيه. ذلك لأن فلسفتنا ليست إلا مجموع آرائنا المتعددة عن الحياة والتجربة البشرية، ولا شك أن لأفكارنا الخاصة عن قيود المعرفة وحدود اليقين أعظم قدر من الأهمية بين هذه الآراء.
العلاقة بين مشكلة المعرفة ونظريات الحقيقة: توحي مصادر المعرفة التي عددناها منذ قليل — وهي الإحساس، والسلطة، والعقل، والحدس — بأن مشكلة المعرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمشكلة الحقيقة. وعلى الرغم من أن الأمر كذلك بالفعل، فإن المشكلتين ليستا متماثلتين تمامًا. فمشكلة المعرفة أشمل من مشكلة الحقيقة وأعمق أسسًا. ومن ثم فقد يتساءل المرء عن السبب الذي دفعنا إلى عدم البدء بمناقشتها أولًا. والواقع أن هذا السبب تربوي إلى حدٍّ بعيد: فإثارة الاهتمام بمشكلات الحقيقة أيسر من إثارة الاهتمام بمشكلة المعرفة، بل إنه من السهل دائمًا أن نقنع المبتدئ في دراسة الفلسفة بأن هناك أية مشكلة للمعرفة. فهو قد استمع إلى حجج متعلقة «بالحقيقة» والبطلان قبل أن يسمع عن الفلسفة بوقت طويل، غير أن في الحياة العادية مواقف قليلة جدًّا تؤدي إلى مناقشة مشكلة «المعرفة» وعدم المعرفة. فقد نتهم شخصًا ما «بعدم معرفة» ما يتكلم عنه، ولكن لا بد لك من قدر كبير من التعمق العقلي لكي تفكر أن تسأل خصمك عن مصادر المعرفة الصحيحة لديه، وعما إذا كان يستخدم المصادر الصحيحة وحدها، وكيف يعرف أنه يعرف أي شيء على وجه اليقين.

كل ذلك لا يعني إلا أننا نأخذ معرفتنا قضيةً مسلَّمة إلى حدٍّ بعيد. فموقف معظم الأشخاص هو ذلك الذي يطلق عليه الفيلسوف اسم الموقف «غير النقدي» أو «الساذج من الوجهة المعرفية»، ذلك لأننا نسلم على نحو طبيعي تمامًا بأن أذهاننا قادرة على معالجة التجربة (أو موضوعات التجربة إذا شئنا الدقة). وعلى حين أننا قد اعتدنا أن يتحدى البعض، من آنٍ لآخر، الطريقة التي نصف بها هذا الشيء أو ذاك بأنه حقيقة، فإنا ندهش إلى حد يقرب من الذهول إذا ما سألنا شخص: كيف نعرف أي شيء؟ فتأثير هذا السؤال في الشخص الذي يوجهه لنفسه جديًّا للمرة الأولى هو عادةً تأثير لا يقل في إثارته للحيرة إلا بمقدار طفيف عما يحدث له عندما يسأل جديًّا للمرة الأولى: كيف يعرف أنه موجود؟ ذلك لأن كلًّا من السؤالين ينطوي على تحدٍّ لمسلَّمات تبلغ ضرورتها بالنسبة إلى الفكر، ويبلغ ارتكازها على موقف الإنسان الطبيعي، حدًّا يجعل مجرد السؤال عنها يبدوا أمرًا سخيفًا. ومع ذلك فإن المفكر المحترف يوجه كلًّا من السؤالين بنية طيبة تمامًا، وربما كان أكثر المهام إلحاحًا بالنسبة إلى الفلسفة الحديثة، هي الاهتداء إلى إجابة مرضية لمشكلة المعرفة.

(١) نظرية المعرفة والفلسفة الحديثة

جرت العادة على تحديد تاريخ بداية التفكير الحديث في مشكلة المعرفة بالسنة التي طبع فيها كتاب لوك: «دراسة في الذهن البشري Essay Concerning Human Understanding»، وهي سنة ١٦٩٠م. ويمثل هذا الكتاب الذي افتتح عهدًا جديدًا في تاريخ التفكير في مشكلة المعرفة، ثمار نظر فلسفي دام وقتًا طويلًا منذ شباب المؤلف. ويصف لوك في مقدمة «الدراسة» كيف أن مجموعة من أصدقائه كانت لديها عادةُ التلاقي من أجل مناقشة المسائل الفلسفية. ويبدو أن النتائج التي أسفرت عنها هذه الجلسات لم تكن مرضية تمامًا؛ إذ إنه، كما قال لوك: «… قد طرأ بذهني أننا قد سلكنا مسلكًا باطلًا، وأنه كان من الضروري، قبل أن نشرع في القيام ببحوث من هذا النوع، أن ندرس قدراتنا الخاصة، ونرى أي الموضوعات تستطيع أذهاننا أن تعالج وأيها لا تستطيع.» وبهذه الطريقة المتواضعة بدأ بحثٌ قُدِّر له أن يؤثر في كل التاريخ اللاحق للفلسفة. فقد بدأ لوك، بناء على تشجيع نفس هؤلاء الأصدقاء، يهتم بهذه المشكلة جديًّا، وبعد وقت معين، نشر أول بحث حديث في نظرية المعرفة.

وكما يوحي النص المقتبس، فإن لوك قد أدرك أن مشكلة قدرات الذهن هذه هي مشكلة سابقة على أي نظر ميتافيزيقي. وقد اتفق معظم المفكرين المحدثين مع لوك في هذا الموضوع، مؤكدين أن أي بحث في الفلسفة ليس له أن يأمل في أن يكون مثمرًا، ما لم نكن قد حددنا في البداية مقدار فعالية أدواتنا التي نستخدمها في هذا البحث. أما اليوم، فيبدو الفلاسفة أحيانًا مهتمين بمشكلة المعرفة أكثر مما ينبغي؛ ذلك لأن الفلاسفة التأمليين المحدثين لما كانوا يعتقدون أن من الواجب الاستقرار على نوع معين من نظرية المعرفة قبل أن نستطيع أن نتحول بطريقة مثمرة إلى بحث المشكلات الخاصة في مجال المنطق والأخلاق والميتافيزيقا وعلم الجمال، فقد وضعوا ما يعرف باسم «الفلسفة النقدية»، التي تركز كل النشاط الفلسفي حول مشكلة المعرفة.

بعض النتائج المؤسفة للبحث في المعرفة: لا شك أن الاهتمام بإجراء هذا التحليل الأولي يمثل، نظريًّا، موقفًا معقولًا، ولكن ينبغي أن نعترف بأن بعض نتائج هذا الحذر كانت مؤسفة جدًّا. فتأثيره العام في الفلسفة الحديثة هو أنه جعلها مريضة عقليًّا. ذلك لأن المفكرين قد أصبحوا منهمكين في المشكلات المتخصصة الدقيقة في ميدان المعرفة إلى حد أنهم أخذوا يفقدون بالتدريج اتصالهم بالمسائل ذات النطاق الأوسع، التي كانت الفلسفة تهتم بها تقليديًّا. وهكذا أصبحت الفلسفة أشبه بالشخص المصاب بالوسواس، الذي يهتم بنفسه إلى حد أن أبسط التقلبات في حالته الصحية تتضخم أهميتها وتحتل في ذهنه مكانة تزيد على مكانة الحوادث الحقيقية الهامة في العالم الخارجي. وكذلك يصبح الذهن الفلسفي شاعرًا بذاته أكثر مما ينبغي. فبدلًا من أن تسعى الفلسفة إلى إصدار أحكام لها دلالتها بشأن طبيعة الواقع، أو معنى التجربة البشرية، نراها تكرس جهودها لإصدار أحكامها الخاصة. وبدلًا من أن ينظر المفكرون المحدثون إلى العالم تلك النظرة الصريحة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة العقلية، وبينما الفلسفة الكلاسيكية كانت في أساسها موضوعية، فقد أصبحت الفلسفة في عصرنا هذا ذاتية قبل كل شيء.

وهناك نتيجة أخرى مؤسفة لهذا الاهتمام المفرط بعملية المعرفة، هو إبعاد الجمهور العام عن الفلسفة؛ ذلك لأن مشكلات المعرفة فنية متخصصة إلى حدٍّ بعيد وتحتاج إلى مصطلح خاص وأساس معين من المعارف. ومن ثم فإن الجزء الأكبر من الكتب المعاصرة المتعلقة بالفلسفة يظل غير مفهوم حتى بالنسبة إلى القراء المثقفين من ذوي الاهتمامات العامة. فالفيلسوف المحترف هو وحده الذي يستطيع أن يدخل إلى أعماق هذه المؤلفات، أو هو وحده الذي يستطيع، بعد دخوله، أن يخرج من الطرف الآخر دون أن تبدو عليه أية آثار من العناء الذي ألم به. وهكذا ندور في حلقة مفرغة: فلم كانت الكتابة الفلسفية قد أصبحت أبعد على نحو متزايد عن فهم القارئ العام، فإن قراءته لها تتناقص؛ ومن ثَم فإن معظم الكتاب في هذا المجال لم يعودوا يعملون في كتابتهم حسابًا للقارئ غير المحترف. وهذا بدوره قد جعل الفيلسوف أقل حرصًا على محاولة الوصول إلى استبصار عميق بالمشكلات العامة للتجربة البشرية. وسواء أكان من الإنصاف اتهام الفيلسوف بأنه يعيش في برج عاجي أم لم يكن، فليس من شك في أنه يقضي اليوم معظم وقته في «الورشة» الفلسفية. فهو قد أصبح، كالعالم، باحثًا قبل كل شيء، يهتم بمشكلات فنية ومتخصصة إلى أبعد حد.

هل هناك ضرورة للبحث في المعرفة؟ يشعر المبتدئ في ميدان الفلسفة أحيانًا بالرغبة في تجاهل مشكلة المعرفة وإغفالها، وذلك كرد فعل منه على الطابع الفني والذاتي المفرط، الذي تتميز به الفلسفة المعاصرة. وهو على الأرجح يبرز ذلك على أساس أن كل ما نحتاج إلى افتراضه هو (١) وجود العالم الخارجي، (٢) ووجود أذهاننا الخاصة، (٣) وإمكان وجود نوع من العلاقة المعرفية بين الاثنين. وهو قد يشعر أن لنا الحق في افتراض فاعلية هذه العلاقة بين عالم المعرفة الباطن، وعالم الأشياء الخارجي، ما دام من المحال، على أساس فرض التطور، أن نكون قد تمكنا من البقاء بوصفنا نوعًا، ما لم يتحقق لنا، بفضل عملياتنا المعرفية، اتصال مُرضٍ بالعالم الذي نعيش فيه. فلو لم تكن أذهاننا قادرة على التعامل مع الواقع، ولو كانت حواسنا تعطينا صورة مشوهة تشويهًا خطيرًا «للأشياء كما هي في ذاتها»، لما استطاع الجنس البشري أن يبقى طوال المدة التي عاشها بالفعل. ولما كان هذا الجنس قد استطاع البقاء، وتكاثر عدديًّا، فإن هذا يبدو دليلًا على فعالية عملية المعرفة لدينا. وإذن فأي سبب يمكن أن يبرر لنا الشك في رأي الموقف الطبيعي في المعرفة؟ أليس للشخص البريء فلسفيًّا كل الحق في ادعاء أن حواسه وعقله يشتركان في إعطائه صورة موثوقًا منها للعالم الخارجي؟

هذا التبسيط في مجال معرفة هو أمر يغري كل مستجد في ميدان الفلسفة على الدوام. ومن المؤكد أنه كفيل بإزالة كثير من الخلافات التي تعاني منها الفلسفة اليوم. ولو تحقق له القبول، لنقص عدد المشكلات الفكرية نقصًا ملموسًا، ولأصبحت المشكلات المتبقية أبسط بكثير. ولكن من المؤسف أن مثل هذا المخرج البسيط غير متاح لنا. فليس في وسعنا أن نصل إلى أية نتيجة في الفلسفة بدون أن تطل علينا مشكلة المعرفة برأسها، وعندما نحاول أن نصيب الأفعى بتلك الصيغة الصغيرة البسيطة التي يضعها المبتدئ، فإن الأفعى لا تتأثر بشيء. ومن هنا فإن أبسط مدخل إلى الفلسفة ينبغي أن يشتمل على عرض لبعض الحلول الهامة التي اقترحت لمشكلة المعرفة.

(٢) مصادر المعرفة: مذهب السلطة

هناك أولًا بعض الطرق الأساسية للمعرفة، ومن الممكن تصنيف المدارس المختلفة في نظرية المعرفة على أساس مدى تأكيد كلٍّ منها واحدة من هذه الطرق. أولى وسائل المعرفة هي: مذهب السلطة Authoritarianism.٢ والفكرة الأساسية في هذا المذهب هي أن المصدر النهائي للمعرفة هو سلطة من نوع ما: كالكنيسة، أو الدولة، أو التراث، أو الخبير. ولا شك أن المشكلة التي نبحثها ها هنا متداخلة مع مشكلة السلطة في صلتها بالحقيقة، وهي المشكلة التي ناقشناها في الفصل السابق، غير أن الباحث في نظرية المعرفة يمضي في التحليل شوطًا أبعد بكثير.
لماذا لم تكن السلطة كافية: إن أفضل سبيل إلى البدء في تحليلنا للسلطة بوصفها المصدر النهائي للمعرفة هو أن نعلن مقدمًا النتائج التي سوف يسفر عنها التحليل. فالسلطة، في نظر الفلسفة، لا قيمة لها بوصفها حلًّا لمشكلة المعرفة. وتبدأ أسباب هذا الاستنتاج في الظهور حالما نتساءل عن قوام السلطة. وعن المعيار الذي ينبغي أن نفضل به سلطة على أخرى. وتلك أسئلة لا يستطيع القائل بفكرة السلطة أن يتجنبها؛ لأن السؤال «أية سلطة؟» هو سؤال عملي تمامًا، وهو يثار في أحيان كثيرة. فعندما نجد أنفسنا إزاء اثنين أو أكثر يطالب كلٌّ منهما بالعرش، فلا بد من أن يكون هناك معيار معين للاختيار بين المتنافسين. وهذا المعيار، كما سنرى فيما بعد، ينبغي أن يكون مقياسًا معينًا خارجًا عن نطاق السلطات المتنافسة ذاتها. وبالاختصار، فعلى حين أن السلطة قد تكون هي المصدر النهائي للمعرفة، فإن هذا يبدو أمرًا بعيد الاحتمال تمامًا، ما دامت لا تنطوي في ذاتها أبدًا على ما يشهد بوجوب التوقف عندها؛ ذلك لأن نفس عبارتها القائلة: «أنا السلطة» ليست كافية، ولا بد أن يكون هناك شيء مستقل عن كل سلطة — حقيقية أو مزعومة — يساعدنا على تمييز الغث من السمين. ومن ثم فإن تحليلنا لمذهب السلطة يصبح دراسة للمعايير الخارجة عن نطاق السلطة التي يلتجئ إليها دعاة المذهب لدعم موقفهم. فلنختبر هذه المعايير إذن، وندرك لماذا كانت الفلسفة تجد معظمها غير صحيح.

معايير السلطة

  • (١)
    القدم: من المعايير الأكثر شيوعًا، المستخدمة في الاختلاف بين السلطات المتنافسة: معيار القدم Antiquity. فأقدم مصادر المعرفة هو أكثرها يقينًا، وينبغي الحكم على كلِّ من يطالبون بدور السلطة المطلقة على أساس السن. وهكذا فإن أقدم نظم الحكم، وأقدم الكنائس، وأقدم العادات، هي على الأرجح تلك التي تمثل الحقيقة والصواب، «فأقدم الطرق أفضلها» و«الذي تعرفه خير مما لا تعرفه» — أو هو على الأقل أحق بأن يكون على صواب.

    هذا المعيار مبني على مسلَّمتين: إحداهما صحيحة والأخرى واضحة البطلان. فالمسلَّمة المقبولة هي أن المذهب أو النظام كلما كان أقدم، كان قد اجتاز اختبار الزمن أكثر من غيره، وكان عمره ذاته دليلًا على أنه قد اجتاز هذا الاختبار بنجاح. فلما كانت أجيال متعاقبة من الناس قد وجدته صحيحًا، فإن احتمال أن يكون صحيحًا بالفعل أقوى من احتمال صحة ما لم يمر إلا بفترة اختبار قصيرة. ومن الممكن أن تعد هذه القاعدة فرعًا من قاعدة «بقاء الأصلح»، وقد اتفق جميع المفكرين على أنه، إذا تساوت كل الظروف الأخرى، فمن الممكن أن يكون اختبارًا صحيحًا للمعرفة. وبعبارة أخرى فإن المذهب أو النظام الذي استطاع البقاء وقتًا طويلًا، لا يستطيع أن يطالب لنفسه بنسبة أكبر في احتمال أن يكون سلطة مشروعة إلا إذا كانت المنافسة بين الخصوم حرة، بحيث يكون من كتب له البقاء هو الأصلح بحق. أما إذا كانت السلطة تتمتع باحتكار، وكان سبب قدرتها على الاحتفاظ بمركزها هو أنها قد قضت على كلِّ منافسة، فعندئذٍ لا يكون القدم ضمانًا بأن أية سلطة هي مصدر صحيح للمعرفة. ويضيف الفيلسوف إلى هذا أن الأمر كان كذلك طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشر: ذلك لأن شتى أنواع السلطات كانت تستخدم مركزها، على نحو يكاد يكون محتومًا، من أجل القضاء على المعارضة؛ وبالتالي من أجل الاحتفاظ لنفسها بمركز مميز. ومن هنا فلا يمكن السماح للسلطة أن تدعي بأنها مشروعة على أساس القِدم وحده إلا في حالات قليلة جدًّا، وربما لم يكن من الممكن السماح لها بذلك على الإطلاق.

    أما المسلَّمة الأخرى التي ترتكز عليها حجة القدم فسرعان ما يتضح لنا بطلانها بمجرد أن نركز انتباهنا عليها، بل إننا لنعجب لكون الناس قد انخدعوا بهذا الخطأ الواضح في أي وقت. فكثيرًا ما يقول أنصار مذهب السلطة إنه «لما كانت السن الكبيرة أحكم من الشباب، فمن الواجب أن نبجل آراء أجدادنا». وكما قال و. ب. مونتاجيو، فإن هذه مغالطة تتعرض لها الأذهان المحافظة بوجه خاص. ولنقتبس هنا جزءًا من تحليله لهذا الخطأ:

    «لو كان أجدادنا أحياء الآن لكانوا مسنين جدًّا، ولكانت آراؤهم، بوصفها نتيجة أجيال من الخبرة، جديرة بالتبجيل حقًّا. ولكن في الوقت الذي صرح فيه أجدادنا بالآراء التي أصبحت الآن موغلة في القدم، والتي يطلب إلينا تبجيلها، كانوا صغارًا في السن مثلنا، وكان العالم الذي يعيشون فيه أصغر بكثير من حيث خبرة النوع. فمهما يكن قِدم آرائهم، فإنها تعبر عن طفولة الجنس البشري، لا عن نضجه. ومن هنا فإن قدم الرأي أو الاعتقاد هو في واقع الأمر قرينة تنقص من حقيقته ولا تزيدها».٣
  • (٢)
    العدد: والمعيار الثاني، الخارج عن نطاق السلطة، للمفاضلة بين الادعاءات المتعارضة هو معيار العدد. وصيغة هذا المعيار بسيطة، فالمذهب أو السلطة التي يقبلها أكبر عدد من الأشخاص هي الصحيحة. ولهذه الحجة ذاتها صيغة أخرى يمكن أن تسمى بعبارة العمومية، تذهب إلى أن أي اعتقاد يحظى بقبول عام يكاد يكون من المحقق أنه صحيح. ولنعبر عن هذا الرأي ذاته من خلال مشكلتنا الحالية فنقول إن السلطة التي يعترف بها في كل مكان هي التي يُعتمد عليها أكثر من غيرها بوصفها مصدرًا للمعرفة.

    ويلاحظ أن المسلَّمة التي يبنى عليها هذا المعيار هي في أساسها نفس مسلَّمة القدم، فكلما ازداد عدد الأذهان التي تقبل مذهبًا ما كان عدد الاختبارات التي يواجهها أكبر؛ وبالتالي كان احتمال صحته أكبر. ويبدو هذا المعيار في ظاهره أمرًا يمكن الاعتماد عليه، ولكن إعمال الفكر فيه سرعان ما يكشف نقاط ضعفه. فمجرد العدد لا يمكن أن تكون له أهمية بوصفه عاملًا في تحديد الحقيقة إلا إذا كانت الأذهان قد توصلت إلى أحكامها المختلفة كلٍّ على نحو مستقل عن الآخر. ففي المحكمة مثلًا لا تكون هناك أهمية لعدد الشهود الذين يدلون بنفس الشهادة إلا إذا كنا على ثقة بأنهم قد توصلوا إلى آرائهم بحيث إن كل واحد منهم مستقل عن الآخر. ومثل هذا يصدق على شتى أنواع آراء الخبراء: فعدد الخبراء الذين يمكن الإهابة بهم تأييدًا لموقف معين لا يمكن أن يزيد من دعم هذا الموقف إلا إذا كانوا قد توصلوا إلى هذه الآراء مستقلين.

    بل إننا، حتى في أيامنا هذه — حيث يستطيع رأي الأغلبية أحيانًا، في الدولة الديمقراطية، أن يكون ذا سلطات شاملة — نكون عادةً حذرين في تأكيد أية علاقة ضرورية بين الأعداء وبين الحقيقة. وهذا ما علَّمنا إياه التاريخ، الذي يحفل بأمثلة آراء للأغلبية ثبت بطلانها، بل بحالات لمعتقدات شاملة اتضح خطؤها. وأوضح مثل على ذلك هو «حقيقة» أن الأرض مسطحة، وهي حقيقة كانت في وقت من الأوقات اعتقادًا يقول به الجميع ولا يتشكك فيه أحد. وفضلًا عن ذلك، فإن أشد أنصار مذهب السلطة تعصبًا يكون هو ذاته شاعرًا في العادة بأنه قد يكون متمسكًا بنظرية معينة تمثل وجهة نظر الأقلية، ولا يكون بطبيعته راغبًا في أن تقدر هذه النظرية المعينة على أساس إحصاء الرءوس فحسب. وهكذا فإن معظمنا يدرك اليوم أن استخدام المعيار العددي لإقرار السلطة ما هو إلا وسيلة اصطلحت عليها الحكومة الديمقراطية فحسب.

  • (٣)
    النفوذ: والمعيار الثالث لتحديد السلطة هو معيار النفوذ Prestige هذا المعيار ينطوي على مشكلة ضمنية هي رأي الخبراء، ما دام الخبير في أي ميدان هو ذلك الذي اكتسب، بوسيلة ما، من النفوذ ما يكفي للنظر إليه على أنه سلطة أو حجة. ولعل هذا المعيار الثالث هو أقوى المعايير كلها تأثيرًا؛ لأن كل ذهن يتأثر بالنفوذ أو الهيبة، مهام يكن محصنًا ضد معياري القدم والعدد. والمشكلة العملية التي تواجهنا ليست هي كيفية إزالة تأثير النفوذ من تفكيرنا، ما دام ذلك يكاد يكون مستحيلًا، وإنما هي كيفية استخدامنا له بطريقة ذكية مشروعة.
    إن الخطر الأكبر في هذا الصدد هو الميل الطبيعي إلى تحويل النفوذ من ميدان إلى آخر. وعلى حين أنه لا يوجد ميدان من ميادين الشئون البشرية يظل بمنأى عن هذه الإعارة الفاسدة، فإن أوضح الحالات في أيامنا هذه تظهر عادةً بالنسبة إلى العلوم. فسلطة الخبير العلمي. بين زملائه من العلماء وبين عامة الجمهور، تبلغ من الضخامة حدًّا يجعلنا كلنا نتأثر على الأرجح بأي رأي يبديه في أي موضوع. وحتى لو كان ذلك الرأي في موضوع ليست للعالم معرفة خاصة به، فإن من العسير علينا ألا ننقل الشهرة التي اكتسبها في ميدانه الخاص إلى مجال آخر معين. ولسنا في حاجة إلى القول إن أية سلطة مشروعة يمكن أن يكتسبها هذا الرأي، تتوقف على مدى وثوق الصلة بين الميدانين موضوع البحث. فإذا أصدر حجة في الفيزياء تصريحات في موضوع الكيمياء، فالأرجح أن تكون هذه التصريحات جديرة بأن يُصغى إليها في احترام، وإذا ما أعرب عن رأي في العلوم البيولوجية، كانت الصلة أقل وثوقًا؛ ومن ثَم كانت «السلطة» أقل أهمية على الأرجح. أما إذا كان له رأي في العلوم الاجتماعية، فأغلب الظن أن يكون ذلك مجرد رأي، لا ينطوي في ذاته على أهمية بوصفه صادرًا عن سلطة أو حجة، بل إنه كثيرًا ما يحدث أن يكون تعليم المرء وخبرته في ميدان معين عائقًا فعليًّا في وجه قدرته على إصدار أحكام خبيرة في ميدان معين آخر. فالتعليم العلمي مثلًا قد يحول بين المرء وبين إصدار أحكام في الميدانين الفني والأدبي. وهناك مثل آخر أكثر شيوعًا، هو أن قدرة المرء على كسب المال في النظام الاقتصادي الأمريكي تحول بين المرء دون شك وبين إصدار أحكام تقديرية يُعتمد عليها في الفنون والآداب والعلوم والتربية، بل في النظرية السياسية أيضًا. ومع ذلك فقد كان من أخص مميزات الثقافة الأمريكية حتى عهد قريب جدًّا، أن الأشخاص الأثرياء يُتخذون حجة على نطاق واسع جدًّا، في أي ميدان وفي كل ميدان من ميادين الفكر.٤
    وكان الأكثر من ذلك انتشارًا، هو ذلك الاستغلال للنفوذ، المسمى بالإعلان عن طريق الشهادة Testimonial Advertising حيث يقوم نجوم الشاشة والإذاعة، وأبطال الرياضة، ومعبودو الجماهير في مختلف الميادين، بالإعراب عن إعجابهم بأنواع من السجاير والصابون وعلب البقول، إلخ؛ ففي كل الأحوال تقريبًا لا تكون لهذا الحكم أية قيمة مشروعة؛ لأن العلاقة بين من يصدر الحكم وبين السلعة هي ذاتها العلاقة بين المستهلك العادي وبين هذه السلعة ذاتها. فعندما تعلن ممثلة السينما الآنسة س أنها تدخن سيجارة من نوع ص وحده، فإنها لا تعبر دون شك إلا عن تفضيل شخصي، قد لا يكون أعمق في نقده أو تحليله من رأي المدخن العادي. والنتيجة الضمنية التي يود المعلن أن يحملها إلى أذهان الجمهور هي أن ذوقها في السجاير على مستوى يتناسب مع شهرتها من حيث هي شخصية من شخصيات الشاشة. أما مسألة كون المعلن ينجح في ذلك أم لا، فينبغي أن تترك للمسئولين عن ميزانيات الإعلان. ولكنا إذا حكمنا على الأمر على أساس مقدار الأموال التي تُنفَق على هذا النوع من الإعلان، فلا بد أن يكون أصحاب الإعلانات مقتنعين بأن الإهابة بسلطة النفوذ هي وسيلة مربحة.
التأثير الشامل للنفوذ: ليس هناك شخص محصن تمامًا من تأثير النفوذ، كما قلنا من قبل. فكلنا تقريبًا لنا معبود أو بطل أو مفكر معين يؤثر في تفكيرنا وحياتنا، ونميل إلى الاقتداء به، حتى في الأمور التافهة، أو في القرارات التي لا يكون «للبطل» فيها مؤهلات خاصة قد تقدم إلينا توجيهًا نافعًا. وقد يتركز هذا النفوذ أحيانًا حول كتاب أو نظام أو عبادة. بحيث إن الإنجيل أو الكنيسة أو النادي أو الحزب السياسي يصبح هو السلطة التي تتحكم في تحديد التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية. والمشكلة هنا ليست في كيفية التخلص من تأثير كل سلطة، وهو محال، وإنما في طريقة اختيار السلطة التي يوثق فيها أكثر من غيرها، والتي تعد مصدرًا صالحًا للمعرفة. فإن لم يكن لنا مفر من اتباع سلطة معينة، شئنا ذلك أم أبينا، فكيف نحدد السلطة التي ينبغي اتباعها؟

عند هذه النقطة يأتي الفيلسوف ليقول ما يبدو أنه الكلمة الأخيرة في العلاقة بين السلطة وبين مشكلة المعرفة في عمومها. فهو يشير إلى أنه مهما تكن قيمة السلطة في الدين أو في الحكومة، فمن الواجب، بالنسبة إلى أغراض بحثنا عن المصدر النهائي للمعرفة، أن نرفض كل مذهب للسلطة. ذلك لأن كل سلطة، كما رأينا من قبل، ينبغي لها، عاجلًا أم أجلًا أن تواجه السؤال: «لماذا كانت كلمتنا أكثر حسمًا من كلمة المدعي المنافس لنا؟» فيكون من الضروري أن يأتي الجواب على أساس خارج عن نطاق السلطة. فلا بد للمرء أن يهيب عندئذٍ بشيء يقع خارج نطاق السلطة الأصلية. وحتى لو اقتبس كلمات سلطة أخرى معينة، فلن يكون في ذلك إلا إرجاء للمشكلة. ولما كانت هذه مسألة يستحيل التسلسل فيها إلى ما لا نهاية، فإن سلسلة السلطات تعود بناء بعد وقت معين، إلى مصدر خارجي معين. ففي نهاية السلسلة نكشف على الدوام فردًا استمد معرفته من تجربة عادية، أو من وحي صوفي أو خارق للطبيعة من نوع معين. أما التجربة العادية — من بين النوعين السابقين — فمن الممكن أن تكون: (١) إدراكًا حسيًّا، (٢) أو استدلالًا من هذه التجربة الحسية، (٣) أو استدلالًا من حقائق أولية أو واضحة بذاتها، من نوع ما. هذه هي مصادر المعرفة التي ينبغي أن تعتمد عليها كل سلطة آخر الأمر؛ ومن هنا فإن بحثنا في المعرفة ينبغي أن ينتقل إليها الآن.

(٣) مصادر المعرفة: التصوف

إن المصدر الخارجي للمعرفة، الذي يرجح أن القائل بالسلطة الدينية يرجع إليه، هو تجربة صوفية أو خارقة للطبيعة من نوع ما. مثل هذه التجارب تسمى في العادة وحيًا، وعليها تبنى معظم مذاهب التفكير الديني. وليس من الضرورة أن تكون هذه التجارب هي تجارب المؤمن بالسلطة ذاته، بل إن الأرجح في معظم الحالات أن تكون قد حدثت لنبي أو مؤسس عقيدة، بل من مشاهدة ملهم يقبل المتدين المؤمن سلطته.

والمعنى الذي ينطوي عليه قبول هذا الوحي بوصفه أساسًا سليمًا للمعرفة أن للإنسان مصدرين متميزين للمعرفة: (١) المعرفة العادية أو الطبيعية، وهي عادةً إدراك حسي واستدلال مبني على هذا الإدراك. (٢) والمعرفة غير العادية أو الخارقة للطبيعة. وينقسم النوع العادي إلى عدة أنواع، ولكنها كلها تندرج عادةً تحت اسم عام هو «التجارب الصوفية».

ويمكن تعريف التصوف بأنه الاعتقاد بأن أفضل مصدر للمعرفة أو الحقيقة هو ملكة فوق الحس وفوق العقل. هذه الملكة تحدد أحيانًا بأنها «الحدس Intuition»، ولكن كان هذا اللفظ يستخدم في الحديث العادي بمعنًى فضفاض جدًّا، فإن معظم الصوفية المعاصرين يفضلون النظر إلى مصدر المعرفة الذي يعتدون عليه على أنه شيء مستقل عن الحدث. فهم يرونه أداة متميزة فريدة لفهم الواقع. وفضلًا عن ذلك فإن كل الصوفية متفقون على أن أهم نشاط للإنسان هو تنمية هذه التجربة الباطنة الفريدة. وهم يتفقون أيضًا على أن للوحي الصادر عنها أسبقية على جميع مصادر المعرفة الأخرى. فهذه التجربة، من وجهة نظر المعرفة، مطلقة.
طبيعة التجربة الصوفية: ما هي هذه «التجربة الباطنة» التي هي أساسية في نمط الحياة التي يحياها المتصوف، والتي يكتسب منها أهم معرفة له؟ على الرغم من أن كثيرًا من الصوفية قد حاولوا وصف هذه التجربة، فمن سوء الحظ أنهم يؤكدون أنها في أساسها تجلُّ عن الوصف. ويبدو أن إخفاق الجهود التي يبذلونها في هذا الوصف هو دليل على رأيهم هذا. ومن أسباب ذلك أن التجربة مختلفة عن كل التجارب الأخرى إلى حدٍّ بعيد، كما أن من أسبابه أنها تستحوذ تمامًا على المرء عندما تحدث. وعلى ذلك، فعلى الرغم من كثرة الكتابات الصوفية، فإنا لا نعرف بالفعل إلا القليل جدًّا عن التجربة الرئيسية التي كانت مصدرًا لهذه الكتابات. ومع ذلك فإن معظمنا كانت له لحظات من الحدس، أو من «النور الباطن»، أو من الاقتناع الذي لا يفسر، وهي لحظات يبلغ التشابه بينها وبين تجربة الصوفي حدًّا يتيح تقريب تجربته إلى الأذهان. والأمر الذي يحول بين معظمنا وبين الانتماء إلى فئة «الصوفية» ليس افتقارنا التام إلى هذا النوع من التجارب، وإنما هو كوننا «بحكم مزاجنا أو تعليمنا» لا نأخذ هذه التجارب مأخذ الجد، وبالأخرى فنحن لا نجعل لها مكانة أساسية في حياتنا.

على أن معظم الصوفية، لو عرض عليهم هذا الموضوع، لأكدوا أن هذه التجارب شبه الصوفية التي يمر بها معظمنا أحيانًا، ليست هي التجارب الأصلية. فهم يرون أنها لو كانت كذلك، لكان لها من القوة والأهمية ما يجعلها تطغى على جميع الحوادث الأخرى، السابقة منها واللاحقة. وهذا بعينه ما يحدث في حالة المتصوف الحقيقي.

ومع ذلك فإن هذه التجربة، في أكثر صورها شيوعًا، تشبه إلى حد واضح لحظات معينة تمر بنا كلنا تقريبًا في مناسبات نادرة. تلك هي اللحظات التي يبدو فيها كل شيء وقد احتل مكانه الصحيح؛ إذ يبدو فجأة أن الفوضى والاضطراب المألوفين في حياتنا قد وصلا إلى حالة من السكينة أو السمو، وأن كل الأجزاء المشتتة في لغز القطع المبعثرة الذي نسميه «بالحياة» قد تداخلت فجأة وكونت نموذجًا له معناه، أو أنه، إذا لم يكن إلا نموذجًا (الذي ترسمه هذه القطعة) واضحًا كل الوضوح، وظلت بعض الأسئلة معلقة، فإن الحوادث تبدو وقد عادت بنا، على الأقل، إلى لحظة فيها نشاطنا. عندئذٍ نتريث، وقد تملكنا الاقتناع بأن هناك بالفعل إجابات عن أسئلتنا وحلولًا لكل المشكلات؛ أعني اقتناعًا بأن لحياتنا معنى معينًا ونظامًا من نوع ما؟

ولعل أغلب الأوقات التي تتملكنا فيها هذه الحالة هي تلك التي نواجه فيها الطبيعة مباشرة، ولا سيما عندما نقف إزاء الجمال الطبيعي الخلاب. وقد كتب كثير من الشعراء قصائد عن هذه اللحظات، ولكن أحدًا منهم لم يتفوق على وليام ووردذورث، الذي كان هو ذاته متصوفًا مؤمنًا بشمول الألوهية فهو ينبئنا كيف أنه وسط الجمال الطبيعي:

… أحسست
بحضرة تجعلني أضطرب بالفرح
بأفكار رفيعة، إنه إحساس علوي
بشيء أعمق تغلغلًا بكثير
مستقرُّه نور الشموس الغاربة،
والمحيط الدائر والهواء الحي،
والسماء الزرقاء، وذهن الإنسان،
إنها حركة وروح، تدفع
كل الأشياء المفكرة،
وكل موضوع لكل فكر،
وتسري خلال الأشياء جميعًا …
ويمر بعض الناس بتجارب مشابهة عندما يكونون إزاء أعمال فنية عظيمة، أو عندما يستمعون إلى موسيقى معينة. وقد تحدث هذه التجارب لغيرهم على أثر تجربة انفعالية معينة تتعلق بأشخاص آخرين، كرؤية طفل أو محبوب نائم. وأهم ما يميز هذه التجربة أنها مركب Synthesis؛ أعني أنها تكامل وانضمام لمجالات واسعة للحياة وللمعنى. ولو أردنا التعبير لفظيًّا عن هذه التجربة عند حدوثها، لكانت كلماتنا في العادة شيئًا من هذا القبيل: «هذا ما تعنيه الحياة» وربما «هذه غاية الحياة».

وهكذا الحال في التصوف. غير أن تجربة المتصوف تختلف، على الأرجح، عن ذلك النوع الذي أوضحناه الآن في العمق والشمول. كما أنها قد تختلف أيضًا في كونها تظهر في أوقات وأماكن لا تتصل بالتجربة ذاتها مباشرة … بدلًا من أن تكون نتيجة لموقف انفعالي أو جمالي معين. وهي تختلف بطبيعة الحال في تأثيرها في حياة الفرد؛ إذ إن المتصوف، على الأرجح، يؤرخ كل أحدث تاريخ حياته، منذ هذه اللحظة، على أساس وقوعها قبل حدوث هذه التجربة أو بعده.

ومن الواضح أن قبولنا أو عدم قبولنا للتصوف بوصفه أفضل طريقة للمعرفة، هو أمر يتوقف على اعترافنا أو عدم اعترافنا بأصالة التجربة الصوفية ذاتها. وعلى الرغم من أن هذه التجربة قد تتخذ أشكالًا متعددة، فإن معظم المتصوفين البارزين في التاريخ قد ذكروا عنها أنها في أساسها شعور لا يوصف، ولكنه شعور طاغ، بواحدية الأشياء جميعًا أو وحدتها. وكثيرًا ما تكون التجربة، على هذا الأساس، مرتبة بمذهب شمول الألوهية Pantheism ما دامت تبدو وكأنها تجعل الله والكون شيئًا واحدًا. ولقد كانت التجربة الصوفية في بعض الأحيان اتصالًا مباشرًا بالله، يبلغ من الوثوق حدًّا يجعله يؤلف اتحادًا أو هوية مؤقتة. والواقع أن كتابات الصوفية زاخرة بالإشارات إلى «الواحد»، وقد يكون معنى اللفظ في هذه الحالة هو الله أن الوجود الكلي الذي يندمج فيه الله والكون على نحو ما.
الطابع المباشر لمعرفة المتصوف: إن أوضح ما تتصف به التجربة الصوفية وتتميز به طريقة المعرفة هذه من جميع المصادر العادية للمعرفة هو طابعها المباشر. ذلك لأن أي مصدر آخر — سواء أكان إدراكًا حسيًّا أم استدلالًا عقليًّا أم سلطة — لا يمكنه أن يعطينا إلا معرفة غير مباشرة، أو معرفة توسطية. فهناك في كل حالة شيء يقف بيننا وبين الواقع الحقيقي. هذا الحاجز قد يكون هو الجهاز الحسي، أو الخطوات المتعاقبة في سلسلة الاستدلال، أو الأذهان والمخطوطات التي نقلت بها السلطة إلينا؛ ففي كل حالة نكون بعيدين مرحلة واحدة على الأقل عن الواقع الحقيقي. أما المعرفة المباشرة فلا نكتسبها إلا بالحدث والتجربة الصوفية. فهي وحدها التي تستطيع استبعاد كل توسط من عملية المعرفة، وجلب الذات أمام الموضوع وجهًا لوجه بطريقة لا نظير لها، بل إن الذات والموضوع يصبحان في بعض التجارب الصوفية شيئًا واحدًا، وهنا يبلغ الطابع المباشر أعلى درجاته.
تفسيران متعارضان للتجربة الصوفية: ينبغي أن نلاحظ أن الصوفية، كما وصفناها حتى الآن، تنطوي على القول بأن الحس والعقل غير قادرين على إعطائنا معرفة حقة. كما أنها تتضمن القول بأن لغة الكلام تعجز عن وصف طبيعة تلك المعرفة بعد أن نكون قد تلقيناها. وبالاختصار، فالواقع الحقيقي لا يفهم إلا بطريق فردي مباشر، وهو في أساسه تجربة خاصة، لا توصف ولا تقبل المشاركة.
وهناك مدرستان فكريتان تقدمان تفسيرين متعارضين لمصدر هذه التجربة. فتفسير المذهب الطبيعي يرجع أصل تجاربنا الحدسية إلى ذاك العالم الذهني الخفي الغامض الواسع، الذي تتضافر فيه الغريزة مع الذاكرة مع اللاشعور، والذي لم يتغلغل علم النفس فيه حتى الآن إلا قليلًا. فأصحاب المذهب الطبيعي يبدون إعجابهم، مثلًا بالدراسات النفسية للإدراكات الحسية دون العتبية.٥ فقد أثبتت هذه الدراسات بطريقة قاطعة أن ما يعده كثير من الأشخاص «حدسًا» إنما هو ناتج عن إدراكات حسية أضعف من أن تدخل في نطاق الوعي، ولكنها قادرة مع ذلك على توجيه السلوك. وعلى ذلك فعندما يصبح شخص معين «شاعرًا عن طريق الحدس» بأن الحجرة التي كان يظنها شاغرة تضم الآن شخصًا آخر غيره، على الرغم من أنه لم يسمع أو يرَ الشخص الآخر، وهو يدخل من وراء ظهره، يكون ما حدث بالفعل هو أن الشخص الآخر الذي دخل الغرفة «في صمت» قد أصدر بالفعل أصواتًا أضعف من أن يستمع إليها الشخص الأول عن وعي، ولكنها مع ذلك أدركت الهواء بدرجة تكفي لكي يستجيب جلد الشخص الأول لحركة الهواء دون أن يتأثر وعيه بطريق مباشر أيضًا. والواقع أن أمثال هذه التفسيرات العلمية تؤثر في أنصار المذهب الطبيعي تأثيرًا قويًّا، وتجعلهم يؤمنون بأن كل ما يسمى بالتجارب الصوفية قد تفسر، ذات يوم، تفسيرات طبيعية.

ولا حاجة بنا إلى القول بأن من يؤمنون بالتجربة الصوفية بوصفها المصدر النهائي للمعرفة يرفضون أي تفسير كهذا، وإنما هم يؤمنون بدلًا من ذلك بأن لهذه الحدوس أصلًا خارقًا للطبيعة. فهم ينسبون هذه التجربة إلى مصدر أقل دينونة وذاتية؛ أعني إلى الله أو إلى نوع من «العقل» الكوني؛ ومن هنا كان من المنطقي بالنسبة إلى أي شخص يقبل مثل هذا التفسير الخارق للطبيعة أن يؤمن إيمانًا قويًّا بهذه التجارب بوصفها مصدرًا موثوقًا منه للمعرفة. أما تفسير المذهب الطبيعي فهو يضع المعرفة المكتسبة من هذا الطريق ضمن نفس فئة السلوك المدفوع بالغريزة. وهو يرى أنه قد يكون من الممكن الاعتماد على الاثنين عندما يخضعان لتحكم العقل ولاختبار التجربة، ولكنهما في ذاتهما غير كافيين بوصفهما طريقة للمعرفة أو مرشدًا للسلوك. وفي مقابل ذلك يعتقد معظم المتصوفة أن التجارب الصوفية لا يمكن أن تقارن بأشياء طبيعية كالغرائز البيولوجية. فمثل هذا التفسير لا يؤدي فقط إلى الحط من شأن التجربة الصوفية، بل إنه يقلل من أهميتها؛ ذلك لأن هذه التجربة تأتي من مصدر أعلى، وهذا الأصل فوق الطبيعي هو (في نظر الصوفية) ضمان كافٍ لجعلها تجارب موثوقًا منها.

(٤) مصادر المعرفة: المذهب العقلي

إن أولئك الذين يرفضون الحدس بوصفه حلًّا لمشكلة المعرفة، ينحازون عادةً إلى صف العقل أو التجربة بوصفهما مصدرين للمعرفة أفضل من المصدر السابق. ويعرف مؤيدو كلٍّ من هذين المصدرين باسم العقليين والتجريبيين على التوالي. وعلى حين أن أفراد المدرستين كثيرًا ما يتنازعون فيما بينهم، فإنهم يتفوقون على أنه لا مجال للتصوف في مزاجهم. وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الصوفي، كما رأينا من قبل، يتشكك في العقل والتجربة، ولا يقبل بالطبع إلا التجربة الصوفية.

على حين أن المذهب العقلي، بمعناه الدقيق، يمثل حركة تاريخية بلغت قمتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا يمثل مدرسة معاصرة واضحة المعالم، فإنه يمثل في الوقت ذاته اتجاهًا متكررًا للذهن، وهو اتجاه يمكن أن نجد له أمثلة في تفكير أي عصر. ويرى المذهب العقلي، بوجه عام، أن الصورة المثلى للمعرفة هي تلك التي يمثلها البرهان الرياضي، فمثل هذه البراهين تبدأ ببديهيات، أو حقائق واضحة بذاتها، وتصل، عن طريق سلسلة من الاستنباطات المتدرجة إلى نتائج منطقية، ضرورية، لا رجوع فيها، وتقدم إلينا الهندسة الإقليدية المثل الكلاسيكي لتطبيق هذه المناهج العقلية. فهي تبدأ بمجموعة من البديهيات التي تقبل على أنها واضحة بذاتها (مثل: «الأشياء المتساوية المضافة إلى أشياء متساوية تعطينا أشياء متساوية» و«الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين»، وغيرها)، ثم تثبت سلسلة من النظريات عن طريق قضايا تستمد بالاستنباط من البديهات الأصلية والمصادرات المتصلة بها. والعملية كلها عملية استدلال دقيق جدًّا، كما يتذكر كل طالب درس الهندسة في المدارس الثانوية.

من أين تأتي الحقائق «الأولية»؟ نستطيع أن ندرك على الفور أن صحة هذا المنهج تتوقف على شيئين: صحة استدلالنا، وطبيعة بديهياتنا ومصادرتنا الأصلية. فقد أثبتت التجارب أن الذهن البشري يستطيع، بشيء من التدريب، أن يصل إلى مستوى رفيع من الدقة في استخدام الاستدلال الاستنباطي. ونتيجة لذلك فإن كل الهجمات الموجهة إلى المذهب العقلي قد تركزت كلها تقريبًا حول مشكلة الوصول إلى مقدمات تكون من الصلابة بحيث تستطيع تحمل الثقل الهائل الذي سيرتكز عليها في سلسلة الاستنباطات. هذه البديهيات الأصلية تستمد عادةً في الرياضيات، كما قلنا من قبل، من «الموقف الطبيعي»، أو (في نظر العقليين) من مبادئ أساسية واضحة متميزة ذات يقين حدسي. وهذه المبادئ بدورها ينظر إليها على أنها صادرة عن «النور الطبيعي للعقل» أو تركيب الفكر ذاته، وهي لا تحتاج إلى ضمان أكثر مما يقدمه وضوحها الذاتي. ويعد الاستقلال المزعوم لهذه المبادئ عن أي أصل تجريبي صفة ذات أهمية عظمى بالنسبة إلى المذهب العقلي. فهي تعد أولية، أو سابقة على التجربة، وهي في نظر العقل غير معتمدة على التجربة، بل إن التجربة هي التي تعتمد عليها؛ ذلك لأن ما يصدق على المعرفة الرياضية يسري (في نظر صاحب المذهب العقلي) على كل معارفنا النهائية التي قد تكون كذلك مستمدة بالاستنباط من مبادئ أولى ذات أصل عقلي محض. ومن هنا فإن في استطاعة معرفتنا النهائية، إذا توافرت الشروط اللازمة، أن تبلغ درجة اليقين التي نجدها في نظريات إقليدس.
ويكاد يكون من المؤكد أننا، عندما نفحص قائمة الحقائق الأولية التي شهدت عليها المذاهب العقلية المتعددة في الفلسفة، سوف ندهش للافتقار إلى الاتفاق بينها. وقد يعيننا ذلك على تذكر مسألة أشرنا إليها من قبل في فصل سابق: ألا وهي أن «الوضوح الذاتي» لفظ يسهل استعماله، ولكنه واقعة يصعب إثباتها. فما هو واضح بذاته بالنسبة إليك قد لا يكون كذلك بالنسبة إليَّ. وفضلًا عن ذلك فإن الأولية A Priorism هي بدورها أمر يصعب إثباته: فالمبدأ الذي يراه العقل سابقًا على التجربة، كثيرًا ما يكون في نظر التجريبي مستمدًّا من التجربة، وإن يكن ذلك بطريق غير مباشر، وربما لا شعوري. ومع ذلك فهناك على الأقل عدد قليل من هذه المبادئ العامة متفق عليه بين العقليين، وهذه المبادئ تعد شرطًا أساسيًّا لكل تفكير ولكل وجود. وفضلًا عن ذلك فإن هذه المبادئ العامة لا تعد سابقة على التجربة فحسب، بل تعد أيضًا خارجة عن التجربة. وهي لا تفهم إلا بالحدس (وهنا يكون منهج المذهب العقلي موازيًا لمنهج الصوفية)؛ ومن هنا كانت تعطينا معرفة للواقع الحقيقي لا يعطينا إياها أي قدر من الإدراك الحسي. وهكذا فإن المعرفة العقلية تختلف كيفيًّا عن المعرفة التجريبية.
مبدأ عدم التناقض: لعل أهم هذه المبادئ العقلية الأولية الشاملة هو «قانون عدم التناقض». وينص هذا القانون، باختصار، على أن القضيتين المتناقضتين لا يمكن أن تكونا صادقتين معًا، أو بلغة المنطق، فمن المحال أن يكون الشيء ولا يكون في نفس الآن، أو أن يكون الشكل دائرة ومربعًا معًا. وقد نظر أرسطو، ومعه كل المناطقة الصوريون منذ عهده، إلى مبدأ عدم التناقض هذا على أنه أهم قوانين الفكر جميعًا. غير أن المبتدئ في دراسة الفلسفة قلما يتأثر بهذا المبدأ إلى هذا الحد؛ فردُّ الفعل المعهود لدى الطالب هو: «يا للحمق — إن هذا شيء واضح بذاته!» وهذا ما يرد عليه صاحب المذهب العقلي بقوله: «بالضبط! وهو فضلًا عن ذلك ليس مستمدًّا من التجربة بعملية تعميم، فهو مبدأ أولي، تفهمه كل الأذهان السوية بالحدس. وهو يتيح لنا، على هذا الأساس، معرفة أكثر يقينية مما يمكن أن يتيحه أي تعميم بحت من التجربة.»
أمثلة أخرى للمنهج العقلي: هناك مثال آخر لتطبيق المذهب العقلي، يتميز بأنه أقل تجريدًا من المثال السابق، وهو الدليل الأنطولوجي المشهور على وجود الله. ونظرًا إلى أننا سنذكر المزيد عن هذا الدليل عندما نبحث في مشكلة الله في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب، فلا داعي، في هذا الموضوع، إلا إلى تقديم عرض مختصر لهذه الحجة. فتصور الله هو تصور كائن كامل — بل هو أكمل كائن نستطيع تصوره. مثل هذا الكائن، إذا كان كاملًا إلى هذا الحد، لا ينبغي أن يكون مفتقرًا إلى صفة من صفات الكمال. فهو إذا كان مثلًا يفتقر إلى الوجود، فإن الكائنات الأخرى التي تتصف بالوجود تكون أكمل منه. ومن هنا، فلما كانت قوانين الفكر تقضي بألا يكون هناك سوى كائن واحد هو «الأكمل» فلا بد أن يكون الله موجودًا. وهكذا يثبت وجود الله تصوريًّا؛ أي من تعريف لفظ «الله» ذاته. وقد عرف أحد الكتاب المذهب العقلي بأنه: «النظرية القائلة إن المعرفة تكتسب بمقارنة الأفكار بأفكار أخرى، أو بالاختصار، أننا نعرف ما أمعنا فيه الفكر».٦ والواقع أن الحجة الأنطولوجية التي عرضناها الآن تمثل هذه العملية أصدق تمثيل: ففي رأي العقليين أن المعرفة الحقة تأتي من قدح فكرتين أو أكثر سويًّا — وهما في هذه الحالة فكرتا «الكمال» و«الوجود».

(٥) مصادر المعرفة: المذهب التجريبي

الخصم المألوف للمذهب العقلي في المعركة الدائرة بين النظريات المختلفة للمعرفة هو المذهب التجريبي، الذي عرفناه بأنه المذهب القائل إن المصدر النهائي لكل معرفة هو التجربة أو الإحساس. ولنقتبس مرة أخرى عبارة أخرى عرَّف بها الكاتب نفسُه المذهب التجريبي بأنه يرى «أننا نعرف ما اهتدينا إليه».٧ وينبغي أن نؤكد أن هذه المدرسة لا تنكر صحة أو أهمية عملياتنا الفعلية بوصفها وسيلة لتوسيع نطاق معرفتنا المستمدة من الحواس، ولكنها تؤكد مرارًا وتكرارًا أن الدليل النهائي على هذه الامتدادات التجريبية ينبغي أن يكون هو العودة إلى التجربة. وفي مناهج البحث العلمي نجد أبرز مثال لدورة الابتعاد والعودة هذه. فالعلم يبدأ من المعطيات الحسية، ويصوغ (بالعقل) فرضًا تفسيريًّا. وبعد ذلك يستنبط، بالعقل أيضًا، تلك النتائج التي يمكن توقعها عندما يجري تجربة فاصلة (يستخدم في وضعها العقل والإدراك الحسي معًا)، وهذه التجربة هي التي تؤدي إلى تأييد فرضه أو تنفيذه على نحوٍ قاطع. وبعد ذلك يقوم بإجراء التجربة، وهذا معناه القيام بتحديد تجريبي لنتائج العمليات العقلية التي توسطت بين الملاحظة الأصلية وبين التجربة. وهكذا يكون لدينا في العلم مزيج رائع من المنهجين العقلي والتجريبي. فكلٌّ منهما يقوم بما هو أهل للقيام به، ويترك المنهج الآخر ما يكون هذا الأخير أقدر عليه. ومع ذلك فإن التجريبي بوجه خاص هو الذي تكون له الغلبة، آخر الأمر، في كل نشاط علمي. ذلك لأنه مهما يكن مدى الطابع العقلي الذي تتصف به بعض خطوات المنهج العلمي (وهو طابع يكون عقليًّا خالصًا في حالة استخدام الرياضيات مثلًا) فإن هذا المنهج عملية ينبغي أن تبدأ وتنتهي بالإحساس. أما إذا كنا نفتقر إلى المعطيات الحسية عند بداية هذه العملية أو نهايتها. فلن يكون لدينا عندئذٍ علم.
نقد التجريبيين للمذهب العقلي: ذكرنا من قبل أن التجريبي يؤمن بأن المبادئ الأولية الواضحة بذاتها المزعومة (التي يرى صاحب المذهب العقلي أنها تفهم بالحدس) مستمدة من التجربة الحسية. فلنتأمل الآن مثلًا أثيرًا لدى صاحب المذهب العقلي، وهو مبدأ العِلِّية. ففيلسوف المذهب العقلي يرى أننا لا نستطيع أبدًا أن نستمد هذا المبدأ الشامل بطريقة تجريبية، فلا يمكن أن تشتمل تجربتنا على كل الحوادث الحاضرة — ناهيك بالماضية والمستقبلة — ومن هنا فلا بد أن يكون مصدر آخر لاعتقادنا الأكيد بأن لكل حادث علة. ويعترف التجريبي بوجود هذا القصور لدى الذهن، ولكنه يهاجم موقف المذهب العقلي بأن يتحدى القضية الأصلية القائلة إن العِلِّية تمثل معرفة مطلقة. والحجة التي يأتي بها التجريبي في هذا الصدد تسير، بالاختصار، على النحو الآتي: فإيماننا بالعِلِّية الشاملة لا يمثل إلا امتدادًا لتجربتنا؛ ذلك لأن تحليلنا لكل حادث لاحظناه يثبت أنه يتوقف على علة سابقة. ومن هنا فإنا نتوسع في هذه الوقائع التجريبية فنجعلها شاملة، غير أن هذا الطابع الشامل لا يمثل يقينًا، وإنما يمثل احتمالًا فحسب. فنحن لا نعرف أن كل الحوادث، الماضية منها والحاضرة والمستقبلة، لها علل، وإنما نفترض أنها كذلك، على أساس التجربة التي مرت بنا حتى الآن بالنسبة إلى شتى أنواع الحوادث. ومع ذلك فليس هذا إلا اعتقادًا، لا واقعة من وقائع المعرفة المطلقة. وينتهي التجريبي من ذلك إلى القول إن الأساس الوحيد الممكن للمناقشة بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي هو، بالاختصار، ما إذا كان مبدأ العِلِّية يمثل معرفة مطلقة أم لا. فإذا أصر المذهب العقلي على أن يعده معرفة مطلقة، فعندئذٍ يكون من المسلَّم به أننا لا نستطيع استخلاص مثل هذه المعارف المطلقة الشاملة من تجربتنا المحدودة. ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى النظر إلى مبدأ العِلِّية على أنه أكثر من مجرد فرض ناجح عمليًّا، ينطوي على درجة عالية جدًّا من الاحتمال. ففي استطاعة العلم أن يسير في طريقه على خير وجه باستخدام العِلِّية على هذا النحو، وليس هناك ما يدعو المذهب العقلي إلى ارتكاب مغامرة إبستمولوجية غير مأمونة العواقب بأن ينظر إليها على أنها معرفة مطلقة.
المذهب العقلي مقابل المذهب التجريبي في الأخلاق: يعد الخلاف بين المذهبين العقلي والتجريبي في ميدان الأخلاق من أشد الخلافات احتدامًا بين المذهبين. ذلك لأن صاحب المذهب العقلي يعتقد أنه يستطيع أن يكشف في ميدان الأخلاق حقائق واضحة بذاتها، من نفس النوع الذي يكتشفه في المنطق والرياضيات والميتافيزيقا. وهنا أيضًا تكشف قائمة المبادئ الأخلاقية التي وضعها مختلف المفكرين العقليين عن تباين كبير؛ فهذه المبادئ تتفاوت ما بين «كل كذب هو خطأ مطلق — حتى أكذوبة الطبيب من أجل إنقاذ حياة مريضه»، وبين مبادئ رفيعة كالقاعدة الذهبية.٨ أما التجريبي فهو، كما يمكننا أن نتوقع، يتحدى كل ادعاء للأولية في الأخلاق. وهو يعتقد بدلًا من ذلك أن أسس القواعد الأخلاقية وأشملها هي ذاتها مستمدة من تجربتنا الفعلية المتعلقة بالأمور التي تؤدي إلى تحقيق مصالح المجتمع أو الأضرار بها. ولما كان الفصل الذي سنخصصه للأخلاق سيشتمل على مناقشة مفصلة لهذين الموقفين المتعارضين، فلا حاجة بنا إلى مناقشتها أكثر من ذلك في هذا المجال.

(٦) دور «كانت» في نظرية المعرفة

يمثل مذهب إمانويل كانت، الذي هو دون شك أقوى المفكرين تأثيرًا في الفلسفة الحديثة، محاولةً للتوفيق بين المذهبين المتعارضين، العقلي والتجريبي، على أن أنصار الموقفين المتطرفين لم يرضوا أبدًا عن حل كانت للمشكلة، كما يحدث للحلول الوسطى في معظم الأحيان. ولكن كثيرًا من الفلاسفة المعاصرين يرون أن مذهبه يقوم بعمل رائع في التوفيق بين الآراء المتعارضة لكلتا المدرستين؛ لذلك فإن الواجب يقضي علينا بحث نظرية المعرفة عند كانت بإيجاز.

ولو نظرنا إلى الأمر من الناحية التاريخية، لوجدنا أن «كانت» كان يهدف إلى التوفيق بين ذاتية باركلي، بنظريتها القائلة إنه لا يوجد شيء ما عدا الأذهان وإدراكاتها، وبين تجريبية مفكرين مثل لوك. فقد كان لوك يرى أن هناك عالمًا كاملًا من المادة يوجد مستقلًّا عن أذهاننا المدركة، على الرغم من المادي الكامن من وراء الكيفيات الحسية. أما كانت فيبدأ بالاعتراف بضرورة أنه قد اضطر إلى الاعتراف بأنه لا سبيل لنا إلى كشف طبيعة هذا الأساس وجود علة لكل الانطباعات الحسية، وبأن هذه العلة ينبغي أن توجد خارج الذهن ذاته. ومع ذلك فإن الاعتراف بوجودها الطبيعي لا يثبت أننا نعلم أي شيء عن طبيعتها. ففي وسعنا أن نعلم أن هناك شيئًا خارجيًّا معينًا، ولكننا لا نستطيع أن نعلم ماذا يكون هذا الشيء. فهو يظل، وسيظل دائمًا، «الشيء في ذاته» الذي لا يمكن أن يعرف. ذلك لأن أذهاننا مهيأة بحيث لا تعرف إلا مظاهر الأشياء، أو الظواهر Phenomena أما الأشياء في ذاتها Noumena المقابلة لها، أو الحقيقة الحقة، فلا يمكننا إلا التخمين بها، بل إن العلم ذاته، بكلِّ مناهجه وإنجازاته، لا يستطيع أن ينفذ من وراء الظواهر ليكشف الواقع الحقيقي.
الحل الوسط الذي أتى به كانت: وعلى ذلك فإن كانت يرى أن أذهاننا تصنع «الطبيعة» أو «الواقع الفيزيائي»، ولكنها لا تصنعه من لا شيء. فحواسنا تمدنا بالمادة الخام عن طريق ردود أفعالها إزاء «الشيء في ذاته». ومع ذلك فإن هذا النصيب الذي تسهم به الحواس هو مادة خام بحق، فهو خليط ليس له أي قوام أو تنظيم. وكل ما يكتسبه من تشكيل أو تنظيم إنما يفرض عليه من أذهاننا، التي تأتي بالإطار أو القالب الذي ينبغي أن تصب فيه الكثرة من الإدراكات غير المهضومة قبيل أن تتصف بالمنطقية أو المعقولية. فليس الذهن مجرد أداة سلبية لتلقي الانطباعات، كما كان يرى المفكرون السابقون، وإنما هو أداة إيجابية لا تكف أبدًا عن أداء العمل الذي تقوم به، وهو تحويل الكثرة المتدفقة من الإحساسات إلى عناصر منظمة لها معناها. وأخيرًا فإن التركيب أو التكوين الخاص للذهن ذاته هو الذي يتكشف في الحصيلة النهائية لعملية المعرفة. «فالواقع» كما نعرفه هو مصنوع أكثر منه معطى، وهو تركيب أكثر مما هو تلقٍّ. وكل ما يجعل العالم مترابطًا ذا معنى يأتي مما يسميه كانت «بالفهم»، بل إن الزمان والمكان، وهما الوسيلتان الرئيسيتان اللتان نعرف من خلالهما عالمنا، هما صورتان ذهنيتان أوليان للفهم، كما هي الحال أيضًا في كل المقولات أو الشروط الأساسية للمعرفة، وهي الكم والكيف والعِلِّية … إلخ. وبينما قد تكون المادة الخام آتية من الخارج فحسب، عن طريق الإحساس، فإننا نحن الذين نصنع «عالمنا»؛ أعني ذلك الكون المنظم المعقول الذي نستطيع فيه أن نعيش ونفكر.

وهكذا يولي «كانت» أهمية متساوية «لصور الفهم» العقلية، التي هي كامنة في التفكير وضرورية لتجربة الفهم، وللمعطيات التجريبية. ذلك لأن هذه المعطيات الإدراكية تمد الذهن بمضمونه الكامل، على حين أن «الصور» الذهنية تقوم بما يوحي به اسمها بالضبط؛ أعني أنها تضفي على هذا المضمون شكلًا وصورة. ويلخص «كانت» موقفه التوفيقي الشامل في عبارة مشهورة أشرنا إليها من قبل، وهي «التصورات بدون الإدراكات فارغة، والإدراكات بدون التصورات عمياء».

(٧) النتائج الميتافيزيقية للمذهبين العقلي والتجريبي

لسنا بحاجة إلى أن نشير إلى الصلة الوثيقة التي تقوم بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي من جهة، وبين المذهبين اللذين سبق أن أشرنا إليهما مرارًا من جهة أخرى، وهما المذهب المثالي والمذهب الطبيعي. وإذا لم يكن من الممكن أن نوحد تمامًا بين المثالية والمذهب العقلي، أو بين المذهب الطبيعي والتجريبية فإن العلاقات بين مجموعتَي المذاهب وثيقة إلى أبعد حد. فقد كان العقليون، باستثناء فيلسوف واحد كبير (هو اسبينوزا)، إما مثاليين (مثل ليبنتس وولف)، وإما ثنائيين مع ميول مثالية واضحة (مثل ديكارت). أما التجريبية فتسير جنبًا إلى جنب مع النظرة الطبيعية إلى العالم. وأساس موقف المذهب الطبيعي هو أن نظل قريبين بقدر الإمكان من التجربة في العالم الطبيعي الحالي الذي نعيش فيه. أما المثالية فقد اتجهت، على خلاف هذا الرأي، إلى الإقلال من شأن العالم التجريبي بتأكيد وجود حقيقة أعلى لنظام ترنسندنتالي (أي خارج التجربة) لا يمكن بلوغه إلا عن طريق النشاط العقلي التصوري للذهن.

وهكذا يتضح أن التقابل الأساسي بين مدرستينا الميتافيزيقيتين الكبريين يمتد إلى ميدان نظرية المعرفة. وهذا أمر لا يدعو إلى الاستغراب: فعندما يأخذ مفكر على عاتقه أن يصوغ (أو يدافع عن) نظرية كلية شاملة إلى طبيعة الأشياء، فمن المنطقي أن ينحاز إلى أسلوب التفكير أو طريقة المعرفة التي تؤيد موقفه إلى أقصى حد. ومع ذلك فمن الواجب أن نفهم أن العامل الميتافيزيقي هو أهم الجميع، وأن وسائل المعرفة تُختار من أجل دعم الموقف العام. فالبحث في المعرفة ينمو من الميتافيزيقا، لا العكس. والنظرة إلى العالم أساسية، كما هي على الدوام.

١  الأصل الإنجليزي هو What Do You Know For Sure وهو بالطبع تعبير أمريكي محلي صرف، ولا يؤدي مقابله في العربية معنى التحية على الإطلاق. (المترجم)
٢  يكاد يكون من المستحيل مناقشة مختلف طرق المعرفة دون استعارة بعض المعلومات من الكتاب الكلاسيكي في هذا الميدان، وهو كتاب و. ب. مونتاجيو: «طرق المعرفة» W. P. Montague’s Ways of Knowing ولا شك أن ما أدين به له في الفصل الحالي سيتضح لكلِّ من يعرف مؤلف مونتاجيو.
٣  طرق المعرفة Ways of Knowing.
ملحوظة للمترجم: عبر فرانسيس بيكون عن هذه الفكرة ذاتها تعبيرًا ربما كان أوضح من هذا — وهو قطعًا أقدم منه بكثير — عندما قال: «إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القديم هو رأي باطل تمامًا، ولا ينطبق على لفظ «القديم» مطلقًا. ذلك لأن شيخوخة العالم وتزايد عمره هو الذي يعد، في الواقع «قديمًا». وهذه هي الصفة المميزة لزمننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم في أيام القدماء؛ إذ إن هؤلاء الأخيرين هم بالنسبة إلينا قدماء سابقون، ولكنهم بالنسبة إلى العالم صغار محدثون. ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم في العمر معرفةً أوسع بأمور البشر، وحكمًا أنضج من حكم الشباب ومعرفته … فإن لنا الحق في أن ننتظر من عصرنا … أمورًا أعظم مما ننتظره من العصور القديمة، ما دام العالم قد ازداد اليوم قدمًا، وتضاعفت ذخيرته وتراكمت بفضل عدد لا نهاية له من التجارب والملاحظات» (الأورجانون الجديد، الباب الأول، القسم ٨٤).
٤  يشير المؤلف هنا إلى مؤلفات عدد كبير من رجال الأعمال المشهورين في تاريخ الاقتصاد الأمريكي، مثل فورد وكارنيجي وباروخ، في موضوعات كان كثير منها بعيدًا عن الميدان الاقتصادي ذاته، وكان لآرائهم في هذه الموضوعات تأثير كبير في نظرة الرأي العام الأمريكي إلى هذه الموضوعات. (المترجم)
٥  الأصل الإنجليزي Subliminal Perception، والمقصود بها تلك الإدراكات الحسية التي لا تصل إلى عتبة الإحساس؛ أي التي لا تصل إلى ذلك الحد الذي يفصل بين الإحساس الواعي بموضوع إدراكي معين، وبين إدراك هذا الموضوع دون وعي به، كما في حالة عرض صورة واحدة بسرعة لا تتيح لنا تمييزها بطريقة واعية. (المترجم)
٦  جورج ب. كونجر: دراسة في الفلسفة، George P. Conger: A Course in Philosophy, p. 205.
٧  المرجع نفسه، ص٢٠٧.
٨  القاعدة الذهبية في الأخلاق هي: «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» أو أية صيغة أخرى تؤدي هذا المعنى نفسه. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤