الفصل الثاني

كيف ينشأ السرطان؟

حتى نفهم كيفية نشوء السرطان، من الضروري أن يتضمن حديثنا بعض المعلومات عن البيولوجيا الأساسية للخلية. إن الخلية لبنة البناء الأساسية التي تتكون منها جميع الكائنات الحية. ويتكون جسم الإنسان من خلايا، وهذا أمر مشترك بينه وبين سائر الحيوانات من أصغرها كالخميرة حتى أكبر حوت أزرق. وبعض الحيوانات — كالخميرة على سبيل المثال — تتكون من خلية واحدة؛ في حين تتكون كائنات أخرى — ونحن من بينها — من العديد من الخلايا المتنوعة: دم وعظام ومخ وكلى وما إلى ذلك. لجميع الخلايا داخل أي كائن دورة حياة خاصة بها محكومة بعناية. ويحدث السرطان عندما يقع خطأ ما في عملية التحكم في هذه الدورة، يؤدي إلى نمو غير منتظم لمجموعة من الخلايا يمكنها بعد ذلك الانتشار وإتلاف أعضاء أخرى بالجسم. وسيكون تركيز هذا الفصل منصبًّا على الكيفية التي ينشأ بواسطتها السرطان، وأيضًا على بعض المعلومات عن البيولوجيا الأساسية التي تحتاج لمعرفتها حتى تفهم هذا الأمر. وسوف أوضح أيضًا كيف يمكن لفهم الأسباب أن يُفيد في تحديد استراتيجيات العلاج.
fig9
شكل ٢-١: تركيب الدي إن إيه.
النواة هي المكون المحوري للخلية الذي يمكِّننا من فهم السرطان؛ فتحمل النواة بداخلها الدي إن إيه (الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين) الذي يحوي الشفرة الوراثية. ويعرض الشكل ٢-١ رسمًا توضيحيًّا لجزيء الدي إن إيه. والسبب الأساسي لمرض السرطان هو حدوث تلف في هذا الحمض، يؤدي إلى نمو الخلايا نموًّا شاذًّا غير منتظم. واللافت للنظر أنه مع أن الخلايا على اختلافها ربما تتباين على نحو ملحوظ في مظهرها ووظيفتها (فمثلًا هناك الخلايا العصبية والعضلية وخلايا الدم)، فكل الخلايا داخل الكائن الواحد تشترك معًا في شفرة دي إن إيه واحدة. ويتجمع الدي إن إيه في خيوط طويلة تسمى كروموسومات. ويوجد ٢٣ زوجًا من هذه الكروموسومات في كل خلية بشرية. وداخل كل كروموسوم ينتظم الدي إن إيه فيما يسمى بالجينات، وكل منها يحمل شفرة لبروتين واحد. ويمكننا اعتبار الجينات والكروموسومات أشبه بمكتبة تضم كتبًا، وكلٌّ من الكروموسومات الثلاثة والعشرين يمثل كتابًا، وكلٌّ من الواحد والعشرين ألف جين يمثل صفحة من التعليمات داخل هذا الكتاب. ومن السهل أن نفهم الآن من الناحية النظرية كيف يمكن لتلف إحدى صفحات التعليمات أن يؤدي إلى تغيرات في خصائص خلية ما. وسوف يتناول هذا الفصل سريعًا أسلوب عمل هذه التركيبات المختلفة وتفاعل بعضها مع بعض، وكيف يمكن أن يتسبب الخلل بها في نشوء السرطان.

تبدأ حياة كل منا ببويضة واحدة مخصبة تتحول في بادئ الأمر إلى مضغة من الخلايا المتطابقة، وبعد ذلك تنمو نموًّا مطردًا وتنتظم وتتطور إلى أن تصبح كائنًا مكتملًا معقد التركيب. وتعد العملية التي تتطور بها الخلايا من هذه المجموعة الأولية إلى أنواع فرعية عالية التخصص واحدةً من أكثر العمليات تعقيدًا في الطبيعة، ومع ذلك فإنها تحدث باستمرار في كل مكان حولنا وفي داخلنا. ومن الواضح أن هذا الأمر يحتاج إلى شبكة معقدة من الضوابط والموازين. إنها تحتاج من الخلايا إلى التواصل مع جاراتها حتى تتأكد من اتباع مسار النمو الصحيح في الوقت المناسب. وهي تحتاج إلى حذف الخلايا التي لم تعد مطلوبة وإزالتها مع أقل قدر ممكن من التعطل (وهي عملية يطلق عليها اسم الموت الخلوي المبرمج). وأثناء تكون الأعضاء المختلفة، ينبغي عليها أيضًا أن تنمي مواردها الدموية الخاصة بها وأن تحافظ عليها من التلف. ويحتاج ذلك إلى أن تتواصل أنظمة الأعضاء بعضها مع بعض، فمثلًا تتصل الأعصاب بالعضلات التي تتحكم فيها. ويجري التنسيق بين الغدد الصماء (التي تفرز الهرمونات) لتنتج منتجاتها في دورات (مثال على ذلك المبيضان) أو استجابة للتوتر (الغدتان الكظريتان). ويتحقق ذلك من خلال الجينات التي تنشط تارةً وتخمد تارة على نحو منسق أثناء نمو الأجهزة العضوية وتطورها. وباكتمال عملية النمو والتكون، يجب صيانة الأنسجة، وإصلاح ما تلف منها، واستمرار الإشراف العام على عموم الجسم، من الإمداد بالعناصر الغذائية ومعالجتها، والتخلص من النفايات، وما إلى ذلك. وكلما فكر المرء في التعقيد المذهل الذي يكتنف كل هذه المهام، لفت نظره أن هذه العمليات تجري على نحو موثوق به للغاية على مدى الكثير من السنوات لدى معظم الناس، وأن السرطان — وهو أساسًا انقسام خلوي غير منتظم — لا يظهر بمعدل أكبر من المعدل الذي يحدث بالفعل.

(١) تركيب الدي إن إيه ووظيفته

كما ذكرت من قبل، تختزن الشفرة الوراثية في الخلايا البشرية داخل ٢٣ زوجًا من الكروموسومات. ويتكون كل كروموسوم من جزيء طويل للغاية من الدي إن إيه يحتوي على الجينات المرصعة بتسلسلات متباعدة. كل جين تحيط به مناطق من الدي إن إيه التي تتحكم في توقيت عمل كل جين وخموله؛ على سبيل المثال: شفرة الجين لبروتين «الميوزين»، وهو أحد المكونات الرئيسية للخلايا العضلية، تتحول إلى وضع النشاط حيث تكون هناك حاجة إليه — في العضلات — لكنها تتوقف عن العمل في الأنسجة الأخرى التي لا تحتاج إليه، مثل الخلايا العصبية. من الواضح إذًا أن شبكة مفاتيح التشغيل والإيقاف ذات أهمية محورية في تنظيم سلوك الخلايا، وتعد دراسة هذه المفاتيح من السمات الرئيسية للأبحاث التي تجرى على السرطان. فإذا لم تعمل هذه المفاتيح، فإن الخلايا قد تنمو على نحو غير منتظم، وهو ما يحدث في السرطانات.

لكي نفهم كيف تؤدي الخلايا كل هذه الوظائف، من الضروري أن نفهم المزيد عن تركيب الدي إن إيه، وكيف تترجم الشفرة التي يحملها إلى ناتج نهائي، ألا وهو الكائن الحي النشط. يشير الاختصار دي إن إيه إلى الحروف الأولى الإنجليزية لعبارة تعني الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين. ومعروف منذ زمن يسبق الاكتشاف الشهير لتركيب الدي إن إيه الحلزوني المزدوج على يد كريك وواطسون عام ١٩٥٣ أن هذا الحمض يحتوي على الشفرة الوراثية. وجزيء الدي إن إيه (الموضح في الشكل ٢-١) هو عمود طويل من لبنتين من لبنات البناء المتبادلة؛ نوع من السكريات (اسمه ديوكسي ريبوز) ومجموعة فوسفات متصلة بأربعة جزيئات هي الأدينين والجوانين والسيتوزين والثيمين (تختصر بالحروف اللاتينية A, G, C, T) ويشار إليها بالقواعد. وترتب هذه القواعد على امتداد عمود جزيء الدي إن إيه، وتصنع زوجين متكاملين، إما أدينين مع ثيمين أو سيتوزين مع جوانين، يمكن أن يرتبطا معًا. وتنشأ الطبيعة الحلزونية المزدوجة للدي إن إيه من أن أحد الخيطين (الخيط الموجب أو الحسي) يتوافق مع خيط مضاد مكمل له؛ فنجد الأدينين متزاوجًا مع الثيمين والسيتوزين مع الجوانين وهكذا. ومن هنا، فإن رابطتي الأدينين مع الثايمين والسيتوزين مع الجوانين تمثلان «الغراء» الذي يحافظ على التركيب الحلزوني المزدوج لخيوط الدي إن إيه. والطبيعة التكاملية لعملية الترابط معناها أنه لو تفكك الخيطان واستُعمل كل منهما قالبًا لخيطين جديدين، فستكون النتيجة ظهور نسختين متطابقتين من جزيء الدي إن إيه الأصلي.

هذه الخاصية المتأصلة في جزيء الدي إن إيه، التي من خلالها يمكنه أن يصنع نسخًا متطابقة من نفسه، هي إحدى الخصائص الرئيسية لكل أشكال الحياة على كوكب الأرض. وتركيب الدي إن إيه مُصان بمنتهى الصرامة في جميع الأحياء من أبسطها تركيبًا إلى أكثرها تعقيدًا. ودقة عملية الازدواج عالية للغاية أيضًا. ومعدل الخطأ منخفض للغاية حتى إن الأمر يحتاج إلى عدة أجيال لتتجمع اختلافات واضحة، وهو ما يسمى ﺑ «الانحراف» الجيني، وهو أحد أساسيات البيولوجيا التطورية. وإذا عدنا لتشبيه الكتب الوراثية في المكتبة: في كل مرة تنقسم فيها الخلية، يجب على الخلية أن «تنسخ» المجموعة الكاملة من اﻟ ٢٣ زوجًا من «الكتب» ومعها اﻟ ٢١ ألف جين («صفحات» المعلومات). ومن حين لآخر، قد يحدث خطأ في نسخ فاصلة، أو حرف، أو نقطة. في أغلب الحالات — مثلما يحدث في الكتب — لا يغير هذا الخطأ من المعنى، غير أنه في بعض الأحيان، تكون التغيرات حاسمة، مع تحول تالٍ في كيفية أداء الخلية الابنة الحاملة للتغير (المسمى بالطفرة) لوظيفتها. وبالمناسبة، يمكن تتبع عدد الاختلافات الطفيفة العشوائية عبر شجرة التطور للسماح بإجراء تقديرات للوقت الذي تباعد فيه زوج معين من الأنواع أحدهما عن الآخر.

(٢) الجينات والتحكم في التعبير الجيني

الجين هو الوحدة الأساسية التي ينتظم حولها جزيء الدي إن إيه. ويحوي كل جين شفرة خاصة ببروتين معين. ويمكن أن يكون للبروتينات العديد من الوظائف تتراوح من التركيبية — ومثال ذلك بروتين اسمه «توبيولين» يصنع «هيكل» الخلية الداخلي — إلى الوظيفية، مثل تكوين أجزاء العضلات المسئولة عن انقباضها. هذا التدفق للمعلومات، الذي تترجم بواسطته المعلومات الموجودة في الدي إن إيه إلى رسالة (في الآر إن إيه؛ أي الحمض النووي الريبي) ثم إلى بروتين ما، يعد أحد المفاهيم المحورية في علم الأحياء.

البروتينات لبنات البناء الأساسية للخلايا؛ فهي المسئولة عن جميع أنشطتها الرئيسية. أما مكونات الخلايا الأخرى — كالدهون والسكريات — فتُصنَع نتيجة لأنشطة البروتينات. من الواضح إذًا أن البروتينات ينبغي عليها أداء وظائف عديدة. ومن بين هذه الوظائف إرسال الإشارات، سواء داخل الخلية الواحدة أو بين الخلايا المختلفة، والتركيب (نوع من السقالات المجهرية)، والأهم هو البروتينات المسماة بالإنزيمات التي تعمل على جزيئات حيوية أخرى لتنفيذ عملية تكوين جزيئات جديدة. وقد تكون هذه العملية تدميرية، مثل الإنزيمات التي تحتوي عليها الإفرازات الهضمية التي تحلل الطعام (ومساحيق الغسيل أيضًا!) أو بنَّاءة، كالإنزيمات التي تشترك في تصنيع جزيئات جديدة للخلية.

يتضمن إنتاج بروتين ما من أحد الجينات نسخ الجين إلى جزيء الحمض النووي الريبي الرسول داخل نواة الخلية. وهذا الجزيء له تركيب يشبه تركيب الدي إن إيه، لكنه يختلف معه في بعض الجوانب الرئيسية؛ أولها: أن سكر ديوكسي ريبوز (اختصاره حرف دي في كلمة الدي إن إيه) الذي يدخل في التركيب الأساسي للجزيء يحل محله سكر الريبوز (اختصاره حرف آر في كلمة آر إن إيه). وثانيًا: أن الجزيء هنا مكون من شريط واحد فقط. وثالثًا: أن قاعدة ثيمين تحل محلها قاعدة يوراسيل، مع أن نظام الأزواج يظل كما هو.
fig10
شكل ٢-٢: عملية النسخ.
لتصنيع الآر إن إيه، يجري مؤقتًا فك التحام حلزون الدي إن إيه المزدوج لينفصل كل خيط عن الآخر. يتجمع بعد ذلك جزيء آر إن إيه تكميلي وينتقل إلى خارج النواة حيث السيتوبلازم، ثم يلحم الدي إن إيه جزأيه من جديد. وتسمى هذه العملية — وهي جزء أساسي آخر من البيولوجيا — النسخ، ويصورها الشكل ٢-٢.
fig11
شكل ٢-٣: الأحماض الأمينية وتركيب البروتين.
ما إن يصل الآر إن إيه الرسول إلى السيتوبلازم حتى يجب أن يتحول إلى بروتين، وهو الجزء الأساسي الثاني من عملية ترجمة الشفرة التي ينطوي عليها جزيء الدي إن إيه إلى بروتينات ذات وظائف محددة. ويقدم نوعٌ ثانٍ من الآر إن إيه — ويسمى الآر إن إيه الناقل — همزة الوصل بين الآر إن إيه الرسول ولبنات بناء البروتين. ومفتاح عملية الترجمة هذه الشفرة الثلاثية التي ينطوي عليها جزيء الدي إن إيه. والبروتينات — شأنها شأن الدي إن إيه — مصنوعة من سلاسل مكونة من جزيئات أبسط. ولبنات بناء البروتين — المسماة بالأحماض الأمينية — يمكن أن ترتبط معًا كي تكون سلاسل لا نهاية لها. ويحمل جزيء الحمض الأميني الرئيسي ثلاث سمات أساسية؛ تسمى الطرف الكربوكسي والطرف الأميني (ومن هنا جاءت التسمية) علاوة على فرع جانبي متغير (يرمز له بحرف “R” في الشكل ٢-٣) يمنح كل حمض أميني خصائصه المميزة.
مع أنه من الناحية النظرية يمكن أن يوجد عدد لا نهائي من أنواع الأحماض الأمينية، فلا يوجد سوى عشرين حمضًا فقط في الكائنات الحية. وتنتظم شفرة الدي إن إيه في مجموعات ثلاثية تسمى «شفرات». هناك ٦٤ شفرة ثلاثية الحروف محتملة باستخدام قواعد الأدينين (أ)، والثيمين (ث)/اليوراسيل (ي)، والسيتوزين (س)، والجوانين (ج). وكل ثالوث يحمل معنى معينًا، وهو إما أن يشير إلى حمض أميني معين أو يمثل في الواقع «علامة تنصيص»؛ مثال على ذلك أنه في نظام الشفرة هذا، تعني الحروف الثلاثة «أ ي ج» «ابدأ هنا» (وتسمى شفرة البدء)، أما «ي أ ج»، و«ي ج أ»، و«ي أ أ» فتعني «قف هنا». في حين ترتبط الشفرات الباقية بأحماض أمينية محددة؛ على سبيل المثال: السيستين إما «ي ج ي» أو «ي ج س». ولما كانت هناك ٦٤ مجموعة مختلفة محتملة في الشفرة الثلاثية، و٢٠ حمضًا أمينيًّا فحسب، فمعنى هذا أن بعض الأحماض الأمينية لها أكثر من شفرة ثلاثية. لهذا من الممكن بسهولة أن نرى أن الطفرة التي تغير قاعدة واحدة يمكنها أن تغير جذريًّا البروتين الناتج. على سبيل المثال: التغير من «ي ج س» (سيستين) إلى «ي ج أ» (إشارة إيقاف) يقصر طول البروتين الناتج، مع احتمال حدوث تغير كبير في وظيفته.
fig12
شكل ٢-٤: تركيب الجين ووظيفته.
كما ذكرنا من قبل، ثمة آلية تنظيمية معقدة تحيط بالشفرة الرئيسية للجين (انظر الشكل ٢-٤) لتضمن تشغيل الجينات وإيقافها في التوقيتات الصحيحة. وهذا التنظيم لوظيفة الجين هو المعيب غالبًا في الخلية السرطانية.
يتطلب تنظيم التعبير الجيني التفاعل بين سلسلة معقدة من الأحداث. ولكي نفهم هذا، يحتاج الأمر لمعرفة قدر أكثر قليلًا من التفاصيل المتعلقة بتركيب الجين (انظر الشكل ٢-٤).
على كل من جانبي جزء الشفرة بأي جين توجد مناطق التحكم. ومثلما هو الحال مع الطفرة في منطقة الشفرة التي شرحناها من قبل، يمكننا بسهولة فهم الكيفية التي تؤدي بها التغيرات التي تطرأ على تنظيم الجين أو معالجة الآر إن إيه الرسول إلى إنتاج زائد أو ناقص لبروتين ما، أو توليد بروتين شاذ ذي خصائص غير مستحبة. وهذه المناطق الخاصة بالتحكم هي ذاتها تخضع للتنظيم من قِبل جينات أخرى، تسمى عوامل النسخ، التي تتحكم في ظهور التعبير الجيني صعودًا وهبوطًا كما لو كانت مفتاح تحكم في شدة الصوت. وعوامل النسخ هي المنظمات الرئيسية للعملية برمتها، ومن ثم فلا غرابة أن كثيرًا من الجينات التي تتدخل في الإصابة بالسرطان تبين أنها تنتمي لهذه العائلة من البروتينات.
fig13
شكل ٢-٥: السمات المميزة لمرض السرطان.1

(٣) السمات المميزة لمرض السرطان

أما وقد غطينا أساسيات آلية السرطان، فيمكننا الآن أن ننتقل إلى الأساليب التي تسير من خلالها الأمور على نحو خاطئ يتسبب في نشوء هذا المرض. في عام ٢٠٠٠، نشر اثنان من كبار علماء بيولوجيا الخلايا — وهما دوجلاس هاناهان وروبرت واينبيرج — بحثًا مهمًّا بعنوان «السمات المميزة للسرطان» أوجزا فيه التغيرات التي تجمع بين كونها ضرورية وكافية في الوقت نفسه كي ينشأ السرطان. الخلية السرطانية تختلف عن الخلايا السليمة في أنها تنقسم بأسلوب غير منتظم. وعلاوة على ذلك، فإن لدى الخلايا السرطانية القدرة على الانتشار إلى أجزاء أخرى من الجسم وغزوها. ولخص هاناهان وواينبيرج العمليات التي من الضروري أن تقع داخل الخلية حتى تتحول من عضو عادي ملتزم بالقانون من أعضاء المجتمع الخلوي إلى خارج عن القانون. وهذه التغيرات التي يصورها لنا الشكل ٢-٥ تتسم بالسمات الآتية:
  • اكتفاء ذاتي في إشارات النمو الإيجابية.

  • عدم الاستجابة للإشارات المثبطة.

  • عدم الخضوع لعملية «الموت الخلوي المبرمج» الذي يهدف إلى التخلص من الخلايا المعيبة.

  • تجنب التدمير الذي يقوم به جهاز المناعة.

  • القدرة على النمو في أنسجة أخرى وغزوها على نحو مدمر.

  • القدرة على المحافظة على النمو بتوليد أوعية دموية جديدة.

أول سمتين من هذه السمات تفسران أنفسهما على نحو معقول، وتؤديان إلى النمو غير المنتظم. أما الثالثة فأقل وضوحًا وهي مرتبطة بعملية التكوين. ولو كانت جميع الخلايا تنمو وتنقسم ببساطة، فما كان من الممكن — على سبيل المثال — أن تتشكل تكوينات أنبوبية جوفاء كالأمعاء أو الأوعية الدموية. ولكي يحدث ذلك، يجب حذف بعض الخلايا من الكائن النامي حسبما تملي احتياجات التركيب النامي. وتسمى هذه العملية — كما ذكرنا من قبل — الموت الخلوي المبرمج، وهي وظيفة أساسية من وظائف الخلية. ويُعَد الموت الخلوي المبرمج أيضًا طريقة يستخدمها الكائن للتخلص من الخلايا المعيبة أو التي أصابها خلل وظيفي مثل تلك الخلايا التي شارفت على نهاية عمرها وتحتاج إلى استبدالها. خلايا السرطان حسبما ينص تعريفها خلايا شاذة، ومن ثم يجب أن تكون ذاتية الحذف. فعجزها عن المرور بعملية الموت الخلوي المبرمج إذًا هو مفتاح تحولها من خلية شاذة إلى خلية ذات قدرة تكاثرية لا حدود لها. وثمة سمة أخرى للموت الخلوي المبرمج، وهي أن الخلايا التي تتلف بفعل العلاج الكيماوي أو الإشعاعي لا تموت في الغالب كليةً، وإنما تتعرض فقط ﻟ «إصابة مميتة». ويأتي موت الخلية لاحقًا عن طريق الموت الخلوي المبرمج؛ مما يوضح أن آلية التجنب لم تتوقف توقفًا تامًّا، حتى في الخلية السرطانية. لكن تزايد المقاومة للموت الخلوي المبرمج هو وسيلة تتفادى بواسطتها الخلية السرطانية التدمير بفعل العلاج الكيماوي أو الإشعاعي (انظر الفصل الثالث). لهذا؛ فإنه ليس من المستغرب أن يكون فهم عملية الموت الخلوي المبرمج أحد المجالات الرئيسية في أبحاث السرطان.

من السمات الأخرى المميزة للسرطانات قدرتها على النمو وغزو أنسجة أخرى في الجسم مع تفاديها التدمير بواسطة جهاز المناعة. ويمكن النظر إلى جهاز المناعة كما لو كان شرطة خلوية تتعرف على هوية الدخلاء من أمثال البكتيريا وتقضي عليهم. ولما كانت الخلايا السرطانية شاذة، فينبغي أن يكون جهاز المناعة قادرًا على التعرف عليها وتدميرها. إذًا تفادي هذه العملية يعد أمرًا ضروريًّا للسرطان. وكما أشرنا من قبل، فإن نمو الخلايا والأنسجة والأعضاء وتكونها عمليتان تخضعان لنظام دقيق للغاية من أجل ضمان نمو النوع الصحيح من الخلايا في الموضع والتوقيت الصحيحين في الكائن. ومن السمات الرئيسية لنمو السرطان اكتسابه القدرة على النمو في الموضع الخطأ، وهذه سمة تميز الورم الخبيث عن الحميد، الذي يمكنه النمو لكنه لا ينتشر ولا يغزو. والجدير بالذكر أن الأورام الحميدة يمكن مع ذلك أن يكون لها عواقب وخيمة، ومثال على ذلك الورم العصبي السمعي، وهو ورم حميد يصيب العصب السمعي الذي ينقل الإشارات من الأذن الداخلية إلى المخ. وهذا الورم يتضخم باطراد، مسببًا الصمم ومشكلات الاتزان، دون أن ينتشر مطلقًا إلى أي مكان آخر.

وآخر سمة مميزة للسرطان هي قدرته على تكوين مورد دموي جديدة له. فأي تجمع من الخلايا يزيد قطره عن قرابة عُشر الملليمتر يحتاج إلى إمداد بالدم. ومع نمو الورم الجديد، يجب عليه إذًا أن يكتسب القدرة على تنشيط نمو الأوعية الدموية. وغالبًا ما يكون نمو الأوعية الدموية للأورام عشوائيًّا، ويتحول إلى الاستعانة بجينات لا تشترك في صيانة الأوعية الدموية الطبيعية. وتُعرَف هذه العملية بتولد الأوعية الورمية، ونظرًا لاختلافها عن تولد الأوعية الطبيعي، صارت هدفًا مهمًّا لتطوير عقاقير السرطان. لو كان من الممكن إيقاف إمداد الدم للسرطان، لمُنِع بذلك من تحقيق المزيد من النمو. ومن أنجح عقاقير الجيل الجديد من العلاجات الجزيئية الموجهة «بيفاسيزوماب» («أفاستين»)، الذي يستهدف هذه العملية.

(٤) التسرطن: كيف يبدأ السرطان؟

كما أشرنا من قبل، يحدث السرطان عندما تقع التغيرات التي يشترط حدوثها لتحقيق السمات المميزة له. ولكي نفهم الكيفية التي ينشأ بها السرطان، نحتاج الآن إلى التحول إلى الكيفية التي تتسبب بها العوامل الخارجية في حدوث السرطان، وهي عملية يطلق عليها التسرطن. ينشأ السرطان في الأساس نتيجة لحدوث تلف في حمض الدي إن إيه، يؤدي إلى التغيرات التي شرحناها آنفًا ويوضحها الشكل ٢-٥. إذًا جميع العوامل التي تتلف الدي إن إيه مواد من المحتمل أن تكون مسرطنة؛ أي عوامل تتسبب في حدوث السرطان. غير أن العكس ليس صحيحًا؛ فليست كل المواد التي تساعد في التسبب في السرطان هي نفسها تتلف الدي إن إيه مباشرةً، وإن كان هذا هو ما يحدث دائمًا في نهاية العملية. ومن أمثلة المواد المسببة للسرطان التي لا تحدث تلفًا مباشرًا بالدي إن إيه الكحول والهرمونات الجنسية المتسببة في الإصابة بسرطاني الثدي والبروستاتا. وهناك العديد من أنواع المواد المسرطنة والكثير منها ذو شهرة واسعة، مثل دخان السجائر والأشعة المؤينة. وإذا أخذنا تدخين السجائر كمثال، فنحن نعلم أنه يستلزم الأمر عادةً تدخين عدد كبير من السجائر على مدار سنوات عديدة حتى ينشأ السرطان. وهذا يشير إلى أن عملية التسرطن بطيئة، ومن المحتمل أن تتضمن أكثر من خطوة واحدة. ومن المناقشة السابقة، يمكننا التنبؤ بأن الأمر يستلزم طفرات تصيب مجموعات متنوعة من الجينات حتى تتسبب في التغيرات الرئيسية التي وصفها هاناهان وواينبيرج. هذه السلسلة من الأحداث افتُرِضت أيضًا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكثيرًا ما يطلق عليها الآن «سلسلة فوجلستاين»، وتمثل كل خطوة في السلسلة طفرة جديدة (الشكل ٢-٦).
درست مجموعة د. فوجلستاين سرطان الأمعاء الوراثي، وهو حالة تتضمن عددًا من الخطوات التي من المعروف أنها محتملة التسرطن (وتسمى أيضًا محتملة الخباثة) التي يمكن التعرف عليها عند المرضى. جمعت المجموعة أنسجة من المرضى، وعكفت على تحديد الجينات التي كانت شاذة في مختلف الخطوات على مسار المرض بدءًا من بطانة الأمعاء الطبيعية وصولًا إلى السرطان الذي تظهر أعراضه واضحة سريريًّا. وتبين أنه من الممكن تحديد الجينات المرشحة التي يجب أن تتعرض للتلف حتى تحدث كل خطوة من خطوات السلسلة. وأوضحت الأبحاث التي تلت ذلك أن سلاسل مماثلة من الأحداث تنطبق على جميع أنواع الأورام، وإن كانت الجينات التي تدخل في الأمر وترتب أحداث التلف تتباين.
fig14
شكل ٢-٦: سلسلة فوجلستاين.

ومن الطرق المثمرة لتحديد الجينات دراسة العائلات المصابة بما يسمى بالسرطان «الوراثي». وربما كانت هذه التسمية خاطئة قليلًا؛ فالسرطان لا يورث بنفس طريقة وراثة عقد من الماس مثلًا؛ أي شيء عيني سليم ومكتمل البناء. لكن ما يورث هنا هو احتمال مرتفع ارتفاعًا كبيرًا فيما يتعلق بالإصابة بالمرض مبكرًا، وغالبًا ما يكون ذلك في صورة مزدهرة وشرسة للغاية. وأحد هذه الأمراض داء السلائل القولوني الورمي الغدي، والمصابون بهذا المرض تتكون لديهم أورام غدِّية حميدة متعددة في سن مبكرة. وبمرور الوقت، تتحول بعض هذه الأورام إلى سرطان، وإذا لم يتلقَّ المرضى علاجًا، يتوفون عادةً في بدايات الأربعينيات من عمرهم نتيجة لسرطان الأمعاء. وأظهرت الدراسات التي أجريت على المصابين بهذا المرض أن لديهم شذوذًا في جين معين، أطلق عليه اسم «إيه بي سي». وأدى التعرف على هذا الجين لدى هؤلاء المرضى إلى مواصلة دراسة وظيفته، وتبين أنه يؤدي وظيفة «مفتاح الإيقاف». فإذا أصيب هذا الجين بعطل، يختفي بذلك عامل فحص مهم لنمو الخلية وتتكون الأورام الغددية. ومثلما هو الحال غالبًا في السرطانات الوراثية، تبين أن السرطانات غير الوراثية الأكثر شيوعًا تشترك في صفات شاذة مماثلة. وتؤكد الدراسات التي أجريت على سرطان الأمعاء غير الوراثي أن جين «إيه بي سي» يصاب بخلل وظيفي فيما يقرب من ٨٠٪ من هذه الحالات المتفرقة. من الواضح إذًا أن لهذا الجين وظيفة محورية في تنظيم النمو الطبيعي لبطانة الأمعاء.

وهكذا كثيرًا ما تسلط الدراسات التي تجرى على السرطان الوراثي الضوء بشدة على السبب وراء نظيره غير الوراثي. وساعدت دراسة هذه «العائلات السرطانية» في تحديد الجينات الرئيسية المرتبطة بالسرطان، مثل جين «إيه بي سي»، وجين «آر بي» (المرتبط بالورم الأرومي الشبكي، وهو نوع نادر من الأورام يصيب شبكية الأطفال)، و«بي ٥٣» (المرتبط بمتلازمة لي فروميني التي يصاب فيها المرضى بعدة سرطانات متنوعة)، و«في إتش إل» (المرتبط بمتلازمة فون هيبل لينداو، وهو مرض مركب يشمل سرطان الكلى). بالإضافة إلى ذلك، يساعدنا فحص التاريخ الطبيعي المتنوع للمرض الوراثي في فهم ما يمكن أن تكون عليه الوظيفة الطبيعية لهذه الجينات. وجميع الجينات المذكورة فيما سبق يطلق عليها اسم الجينات «الكابحة للأورام»، غير أن هذه تسمية خاطئة؛ لأن هذا ليس دورها الرئيسي في الكائن الحي. ومثلما يمكن أن نخمن من معلوماتنا عن جين «إيه بي سي»، فإن هذه الجينات مُنظِّمات رئيسية لدورة حياة الخلية (النقطتان الأوليان من السمات الرئيسية التي ذكرناها فيما سبق)، ويؤدي الضرر أو الإبطال الذي يلحق بوظائفها إلى نمو غير خاضع للسيطرة. وسلطت عملية فحص الوظائف الطبيعية لهذه الجينات الضوء بشدة على الأسلوب الذي تُنظَّم به دورة حياة الخلية. ولما كان غياب السيطرة على دورة حياة الخلية سمة مميزة لمرض السرطان، فإن الكثير من أساليب علاج المرض تؤدي عملها عن طريق التدخل في عمل جينات دورة حياة الخلية التي تخفق داخل الخلية السرطانية. علاوة على ذلك، يغزو جيل جديد من عقاقير السرطان — وهي العلاجات الجزيئية الموجهة — كلًّا من العيادات والعناوين الرئيسية للأخبار في الوقت الراهن (انظر الفصل الثالث). وتؤدي هذه العقاقير عملها عن طريق استهداف جزيئات محددة معروف أن وظائفها تختل في حالات السرطان.

ومع ذلك، لا تشترك جميع جينات السرطان الوراثي مباشرةً في دورة حياة الخلية. ولعل من الأمثلة الجيدة على ذلك جين «في إتش إل»، الذي تم التعرف عليه في البداية لدى مرضى متلازمة «فون هيبل لينداو». ومن يعانون هذه الحالة يصابون باضطرابات متعددة في سن مبكرة، من بينها تكون الأكياس في الجهاز العصبي، وبالتحديد في المخيخ (أحد أجزاء المخ الضالعة في الاتزان والتنسيق)، والحبل الشوكي، والشبكية، بجانب الأورام الكلوية الحميدة والخبيثة. وعادةً ما تصيب الأورام الكلوية الكليتين معًا، وتكون متعددة، وتبدأ في سن مبكرة. أما فيما يتعلق بجين «إيه بي سي»، فيرث المريض جينًا واحدًا غير فعال، وإذا حدثت إصابة للجين الآخر لا يتبقى أي بروتين «في إتش إل» فعال في الخلية. ومع علمنا بأن الأورام الكلوية نادرة الحدوث نسبيًّا وإن كانت شائعة لدى مرضى «في إتش إل»، فإن هذا يُنبئنا بأن احتمالات معاناة جين معين من إصابة واحدة تكون مرتفعة نسبيًّا، لكن المعاناة من إصابتين تستغرق وقتًا أطول كثيرًا، ومن ثم تكون الأورام المتفرقة منفردة وتبدأ في سن متأخرة كثيرًا.

كشفت دراسة تفصيلية أجريت على جين «في إتش إل» أن له دورًا في استشعار مستويات الأكسجين داخل الخلية. وإذا كان الأكسجين منخفضًا، يؤدي هذا إلى بث إشارات إلى الخلايا المجاورة كي تبدأ في إنتاج أوعية دموية جديدة. بعبارة أخرى، فهو ينظم تولد الأوعية؛ إحدى السمات المميزة لمرض السرطان (انظر الشكل ٢-٥). وقد أوضحت دراسات أخرى أن هذه التغيرات كافية لدفع الخلية السرطانية داخل أنبوب الاختبار، وأن استبدال جين في إتش إل في هذه النماذج سيعكس السمات السرطانية للخلايا. علاوة على ذلك، يتميز نمط الورم الكلوي لدى مرضى «في إتش إل»، والمسمى بسرطان الخلية الكلوية، بثراء شديد في الأوعية الدموية، مثلما يمكن أن نتكهن من عمل الجين. وكشفت دراسة أجريت على سرطانات الخلية الكلوية المتفرقة (غير الوراثية) أن «في إتش إل» يصاب بطفرة في حوالي ٧٠٪ من الحالات، وهذا يجعل مسار «في إتش إل»/عملية تولد الأوعية هدفًا جذابًا للعلاج. والأبحاث التي أجريت على العلاجات الحديثة القائمة على «في إتش إل» لعلاج سرطان الكلى — وهو نوع سيئ السمعة من ناحية صعوبة علاجه ما إن ينتشر — برهنت على أنها مثمرة للغاية؛ فحصلت ستة مركبات على تراخيص منذ عام ٢٠٠٦. هذا فضلًا عن العديد من العقاقير الأخرى التي تنتظر دورها كي يرخص لها بعلاج مرض لم يرخص لعلاجه على مدى الخمسة والعشرين عامًا الماضية سوى مركبين فقط. وكل هذه المركبات تستهدف جوانب من المسار الذي حددته الأبحاث الوراثية التي أوجزناها فيما سبق.

(٥) السرطان غير الوراثي

مع أن السرطانات الوراثية تسلط ضوءًا هامًّا على فئات الجينات المرتبطة بالسرطان، فإن أغلب حالات السرطان لا تنشأ عن نزعة وراثية واضحة. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن الأسباب الرئيسية للوفيات الناجمة عن السرطان على مستوى العالم تنشأ من أورام في الرئة والمعدة والكبد والقولون والثدي. ومن بين هذه السرطانات، يرتبط سرطان الرئة ارتباطًا قويًّا بتدخين السجائر. ويرتبط سرطان الكبد بالعدوى بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي ب، إلى جانب الدور البارز لمعاقرة الكحوليات في هذا الصدد. ومن المفترض أن سرطانات القناة الهضمية مرتبطة بالغذاء، لكن السبب لا يزال غير مفهوم تمامًا على وجه الدقة. وبالمثل، يتصل بوضوح سرطان الثدي (وسرطان البروستاتا لدى الرجال) بكل من العوامل الغذائية والهرمونية معًا. فكيف يمكن لهذه المؤثرات المتنوعة أن تعمل على إحداث التغيرات المؤدية للإصابة بالسرطان التي شرحناها فيما سبق؟

لعل سرطان الرئة أفضل مثال مفهوم على كيفية تفاعل إحدى المواد المسرطنة الموجودة في البيئة لتؤدي إلى الإصابة بالسرطان. يرتبط الخطر ارتباطًا واضحًا بكمية التبغ المستهلك — فثمة تأثير للجرعة — وبالفترة الزمنية للاستهلاك. والمدخنون الذين يقلعون عن التبغ قبل الإصابة بالسرطان يقل بالتدريج احتمال إصابتهم بالمرض بعد الإقلاع. ومن ناحية نموذج مثل سلسلة فوجلستاين، فلا بد أن يكون التدخين مسئولًا عن التسبب في الخطوات الأولى بالسلسلة، وأن يكون استمرار التدخين محفزًا على وقوع الخطوات التالية. في النماذج النظرية الأقدم للتسرطن، كان يطلق في الغالب على الخطوة الأولى الاستهلال، والخطوات التالية تنشيط نمو الورم، في حين تسمى الخطوة الأخيرة بالتحول. ولا تزال لهذه المصطلحات قيمتها، وفي المختبر، كثيرًا ما يشار إلى المركبات التي تحول النمو الحميد للخلايا إلى نمو سرطاني بأنها تحويل للخلايا. وكشف تحليل دخان التبغ عن مجموعة من المركبات التي تؤدي إلى التحول في نظم المزارع الخلوية. وكشفت دراسة مستفيضة لمكونات الدخان عن الآليات الجزيئية الدقيقة التي تعمل في هذا الصدد، وصولًا إلى أسلوب التفاعل مع حلزون الدي إن إيه المزدوج. ومن بين المركبات الرئيسية المتهمة في هذا الشأن ذلك المسمى بنزوبيرين، وقد أظهرت البحوث التي أجريت بعناية أنه يتحد مع حلزون الدي إن إيه، فيدمر تركيبه. ويعرض الشكل ٢-٧ جزيء بنزوبيرين متداخلًا مع حلزون الدي إن إيه المزدوج.
fig15
شكل ٢-٧: البنزوبيرين ملتحم مع تركيب الدي إن إيه من الداخل.2

كما ذكرنا من قبل، من الواضح أن هناك حاجة لحدوث تلف لجزيء الدي إن إيه — وهو حدث استهلالي تعقبه بصفة عامة فترة مطولة من تراكم المزيد من التلف، يطلق عليه أحيانًا التنشيط — قبل وقوع حدث تحول نهائي يحول العلة محتملة التسرطن إلى سرطان مكتمل المعالم. وفي حالة التبغ، يبدو أن محفز العملية هو التعرض المستمر لدخان التبغ، الذي له خواص واضحة مدمرة للدي إن إيه. أما فيما يتعلق بالأمراض الأخرى، وبالتحديد سرطانَيِ الثدي والبروستاتا، فإن دور المنشط هنا تلعبه هرمونات الشخص ذاته. وكما أشرنا في الفصل الأول، يتأثر احتمال الإصابة بسرطان الثدي بفترة تعرض الثدي لهرمونات الأنوثة على نحو متكرر، ومن ثم يؤدي البلوغ المبكر وقلة عدد مرات الحمل مع عدم الرضاعة الطبيعية إلى ارتفاع نسبة احتمال الإصابة. وجاء الاستدلال على ذلك من أن الدورات المستمرة من التغيرات التي تطرأ على الثدي والمستحثة بالدورة الطمثية تضخِّم أي تلف مبدئي يحدث للدي إن إيه نتيجة لشكل ما من المسرطنات البيئية. وهناك تأثير مشابه لذلك يحدث في حالة سرطان البروستاتا، يتمثل في أن الرجال الذين يتعرضون للإخصاء في مرحلة مبكرة من العمر (مثل الخصيان) يكون احتمال تعرضهم للإصابة بسرطان البروستاتا منخفضًا للغاية مقارنةً بأقرانهم الذي من المفترض أنهم يتعرضون لنفس المواد المسرطنة البيئية. ويلعب الكحول دورًا مماثلًا في حالة مرض الكبد. فالكحول، كما سبق أن ذكرنا، ليس مادة مسرطنة مباشرة؛ فهو لا يدمر الدي إن إيه، غير أن الإفراط طويل المدى في معاقرة الكحوليات يستحث دورات التلف والترميم داخل الكبد، مع ارتفاع معدل إحلال الخلايا. وكما هو الحال في التغيرات الدورية في الثدي، يعمل هذا النشاط المتزايد باستمرار على تضخيم الضرر الذي تتسبب فيه المركبات المدمرة للدي إن إيه التي يجب أن تكون هي الأخرى موجودة، وهذا يزيد من فرصة تراكم المزيد من تلف الدي إن إيه ونشوء السرطان.

كما أوضحنا في الفصل الأول، في حالة سرطان الكبد، تتوافر أيضًا معرفة تفصيلية عن أكثر المواد المسرطنة شيوعًا، وهي العدوى بالالتهاب الكبدي الوبائي. يُعَد هذا المرض سببًا رئيسيًّا للمعاناة على مستوى العالم، ولكن بالأخص في الصين ومناطق أخرى من آسيا حيث نسبة تصل إلى ١٠٪ من السكان مصابون بعدوى مزمنة بهذا المرض، وتقل النسب في الهند والشرق الأوسط، في حين نجد معدلاته في أوروبا وأمريكا الشمالية أقل من ١٪، ويكون احتمال الإصابة بالعدوى المزمنة في أعلى صوره لدى من يصابون بالعدوى في مرحلة الرضاعة. ومنذ عام ١٩٨٢، توفر لقاح ضد فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي ب. ومع تطبيق برامج التلقيح في بلدان عديدة منذ عدة سنوات، تمكن العلماء من إتمام الاختبار النهائي للعلاقة بين الفيروس والسرطان. لو كانت هذه العلاقة سببية، فمن المفترض أن تحول الوقاية دون الإصابة بالعدوى، وهذا ما حققته فعلًا. أما الآلية الجزيئية الدقيقة التي يتسبب من خلالها الفيروس في الإصابة بالسرطان، فلا تزال محل دراسة، غير أنه في حالة التدخين، فالدليل مقنع الآن على وجود علاقة سببية.

إذا انتقلنا إلى نوع آخر من السرطان يرتبط بالعدوى؛ ألا وهو سرطان عنق الرحم، يمكننا أن نرى قصة مماثلة. فقد لوحظ في عشرينيات القرن العشرين أن سرطان عنق الرحم أكثر انتشارًا لدى النساء متعددات العلاقات الجنسية، وتحديدًا الغواني، ويندر لدى الراهبات (ماعدا من سبق لهن ممارسة نشاط جنسي)، ما يشير إلى سبب متعلق بالعدوى المنتقلة عن طريق الجنس. وقد أوضح هارالد تسور هاوزن في عام ١٩٧٦ أن المرض يرتبط بعدوى فيروس الورم الحليمي البشري. فتوصل دكتور تسور هاوزن إلى وجود الدي إن إيه لفيروس الورم الحليمي البشري في كل من البثور التناسلية وسرطان عنق الرحم. ونال هذا العالم جائزة نوبل في الطب على هذا الاكتشاف وعلى أبحاثه اللاحقة في هذا المجال، التي شرحت الروابط الجزيئية الدقيقة بين الفيروس والسرطان. ينتج الفيروس بروتينات متنوعة تتفاعل مع جينين اسمهما «آر بي» و«بي ٥٣»، وكلاهما من العوامل المتحكمة في دورة حياة الخلية؛ ما يوفر مسارًا واضحًا لإحداث السرطان.

أثبت ابتكار أحد اللقاحات ضد فيروس الورم الحليمي البشري، ومن ثم ضد سرطان عنق الرحم أنه أكثر تحديًا من الناحية التقنية من لقاح الالتهاب الكبدي الوبائي ب. غير أن الرابطة بين العدوى الفيروسية المزمنة والسرطان أتاحت دراسة المراحل محتملة الخباثة لسرطان عنق الرحم. وأدى ذلك إلى اكتشاف أنه يمكن التعرف على هذه المراحل في بقع الخلايا التي تؤخذ من عنق الرحم بواسطة ملعقة خشبية ثم تُفحص تحت المجهر. وسمح التعرف على مرحلة ما قبل السرطان، المسماة بتكون الورم داخل ظهارة عنق الرحم، أو الورم السرطاني الموضعي بالتوصل إلى علاج وقائي. وتطبق معظم الدول الأوروبية والأمريكية الشمالية عمليات فحص شاملة مبنية على اختبار بقعة مأخوذة من عنق الرحم. ووفقًا للتقديرات، أنقذت هذه البرامج حياة آلاف النساء. وحديثًا، توفر لقاح ضد الأنواع المختلفة من فيروس الورم الحليمي البشري التي ترتبط بسرطان عنق الرحم في عام ٢٠٠٦، وبدأ في الظهور ضمن برامج التلقيح التابعة للصحة العامة للفتيات كوسيلة للوقاية من العدوى، وما يحمله من ثم من خفض لخطر الإصابة بالسرطان. أُثير بعض الجدل حول اللقاح؛ فيفسره البعض على أنه وسيلة للحماية من مخاطر تعدد العلاقات الجنسية. لكن الوقاية من أحد الأمراض التي تنتقل عن طريق الجنس لا تقلل من مخاطر الفيروسات الأخرى كفيروس نقص المناعة البشرية. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا اللقاح سيقي النساء من مخاطر تعدد العلاقات الجنسية السابقة لأزواجهن، وهو أمر ليس لديهن أي سيطرة عليه بأي حال. لكن الأمر سيتطلب فترة تتراوح بين ١٠ و٢٠ عامًا حتى نشهد جدواه؛ فهذه هي الفترة الزمنية الفاصلة النموذجية بين الإصابة بعدوى فيروس الورم الحليمي البشري ونشوء السرطان.

هوامش

(1) Reprinted from Hanahan and Weinberg, The Hallmarks of Cancer, Vol. 100 (2000): 57–70, with permission from Elsevier. © 2000 Elsevier.
(2) Nahin, Barnes, Stussman, and Bloom, Costs of Complementary and Alternative Medicine (CAM) and Frequency of Visits to CAM Practitioners: United States, 2007. National health statistics reports, no. 18 (Hyattsville, MD: National Center for Health Statistics. 2009). © National Center for Complementary and Alternative Medicine, NIH, DHHS, and RSCB Protein Data Bank.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤