مقدمة

بقلم  صنع الله إبراهيم

١

في مقالٍ عن الرواية الأمريكية في الخمسينيات، قال الناقد الأمريكي الكبير مالكولم كولي إن الكُتَّاب قد انصرفوا عن تناول العلاقات الاجتماعية الهامة للإنسان. فقد كرَّسوا أنفسهم «للدراما في القارب»، بعيدًا عن البحر الكبير، وأصبح موضوعهم هو مجاهل العواطف الدقيقة في اللحظة الإنسانية، ومفتاحهم هو الحب والعاطفة.

وقد واكبت هذه الظاهرة انتكاسَ النضال الاجتماعي الذي كان قد بلغ أوجَه في الثلاثينيات. فقد تحول النضال من أجلِ حرية التعبير اجتماعيًّا، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى نضال من أجلِ حرية التعبير جنسيًّا وعاطفيًّا. وكتب تنيسي ويليامز — أحد الثلاثة الكبار في الخمسينيات، في أمريكا، هو وكارسون ماكيلرز وبول باولز — روايتَه الأولى «ربيع مسز ستون»، وفيها يكون الجنس هو الملجأ الوحيد لممثلةٍ تَقدَّم بها السن، وتحاول أن توقِف جريان أيامِها بلا هدف. وفي مسرحيته Camins Real يبدو العالم كابوسًا مُرعبًا، لحظةُ النصر الوحيدة فيه هي لحظةُ الحب.
وتحوَّل الحب إلى رؤيا متكاملة، وتجربة صوفية، عند كاتبٍ شابٍّ موهوب هو جيروم سالينجر في Catcher in the Rye و«تيدي» الفيلسوف الصغير الذي يعلن في عام ١٩٥٣م: «من الصعب في أمريكا التفكيرُ والحياة حياة روحية، وإذا حاولت ذلك نظر إليك الناس نظرتَهم إلى مسخ.» ثم في «ارفعوا السقوفَ عاليًا أيها النجَّارون» (١٩٥٥م)، حيث يقول: «ما هو الجحيم؟ إنه معاناة العجز عن الحب.»
وجرت عمليةُ انسحابٍ كاملة عبَّر عنها بوضوح الكابتن يوسريان بطلُ رواية جوزيف هيلر الأولى Catch 22 بقوله: «لا تُحدثني عن الكفاح من أجل إنقاذ بلادي؛ لقد كافحت طويلًا من أجلِها. والآن سوف أُكافح قليلًا لإنقاذ نفسي. إن بلادي لم تَعُد في خطر، ولكني أنا في خطر … من الآن فصاعدًا، لن أفكِّر إلا في نفسي.» وينتهي به المطاف بالهجرة إلى السويد.

كما عبَّر البطلُ المجهول في روايةِ رالف إليسون الأولى «الرجل الخفي» ١٩٥٢م: «إن حفرتي دافئةٌ وتفيض بالضوء. لقد قطعتُ سلكًا كهربائيًّا يؤدي إلى المبنى ومددتُه إلى حفرتي. وهكذا أعزف الموسيقى الخفية لعزلتي.»

والرجل الخفي هو الزنجي الذي يبحث عن شخصيته بعد أن أصبح شريكًا للرجل الأبيض في اضطهاد إخوته. وهو يواجه الاختيار بين هذا المصير وبين النضال الثوري ضد البِيض، بين الخضوع والتمرُّد، ولكنه يختار طريقًا ثالثًا هو الإبداع الفني.

ولم تكَد الخمسينيات تنتهي حتى اكتملت ملامحُ بطلٍ جديد للرواية الأمريكية هو «المتمرد-الضحية».

إنه غريب، فوضوي ومهرِّج … مزيج من فاوست والمسيح، من العدمية وتأكيد الذات إلى حدِّ الجنون، من الاستشهاد والهزيمة. ونجده واضحًا في أبطال كتَّاب الستينيات: سول بيلو في رواية «هندرسون ملك الأمطار» ١٩٥٩م، وسالينجر، وترومان كابوت وجيمس بردي الذي سَجَّل انهيار الحلم الأمريكي في رواية «ابن الأخ» ١٩٦٠م، التي تدور كلُّها حول جمْع معلومات عن ابن الأخ الذي مات في كوريا … كما في رواية كارسون ماكيلرز الشهيرة «أنشودة المقهى الحزين»، وآخر روايات سول بيلو التي صدرت عام ١٩٦١م بعنوان «هيرزوج».

وسول بيلو الذي وُلد عام ١٩١٠م، هو الذي قال عنه الكاتب الأمريكي نورمان بودهوريتز: «إن مصير مرحلةٍ كاملة من الثقافة الأمريكية سيتوقَّف على ما إذا كان سول بيلو سيصبح روائيًّا عظيمًا أم لا.»

ولعل سول بيلو قد برَّر هذا التقدير برواية هيرزوج العظيمة التي توَّجت إنتاجًا بدأ في ١٩٤٧م بروايةٍ قصيرة اسمها The Dan-Man gling؛ ففي الأستاذ الجامعي موسى هيرزوج امسك بيلو باللحظة التي يعيشها المجتمع الأمريكي الآن، لحظة الأزمة، بالعناصر الرئيسية في شعوره، والخيوط الأساسية لوضع المثقَّف بالذات الذي يمثل تعايشًا بين الحرية الفردية والفوضوية أو العزلة وبين نظام اقتصادي واجتماعي وحشي.

وتبدأ الرواية هكذا: «إذا كنتُ قد فقدتُ عقلي، فلن يضيرني هذا في شيء، هكذا فكَّر موسى هيرزوج»، وقد بدأت أزمته الطاحنة التي كادت تودي بعقله، وجعلته يتساءل: «أجاءت اللحظة الدَّنسة التي يموت فيها الشعور الأخلاقي، ويتحلَّل الضمير، ويتردَّى احترام الحرية والقانون والديانة، كلُّ ما تبقَّى، في الجبن والتحلُّل والدماء؟»

وتنتهي أزْمة البروفيسور هيرزوج به إلى أن يُكرِّس نفسَه للعمل والشمس، وأساسًا للمشاركة مع الكائنات الإنسانية الأخرى.

وتُشبه أزْمة هيرزوج أزْمة أستاذٍ جامعي آخرَ هو ستيفن روجاك بطل رواية نورمان مالر الأخيرة «حلم أمريكي» الصادرة في ١٩٦٤م وإن اختلف طريقهما. فبطل مالر، الذي تشبِه حياته العاصفة حياةَ مالر الشخصية في جوانبَ عديدة، يُغرِق أزمتَه في القتل والجنس والمخدِّرات بينما ينهار الحُلم الأمريكي من حوله.

ويكاد يكون تطوُّر مالر صورةً دقيقة لتطوُّر الأدب الأمريكي نفسه منذ الحرب. فقد بدأ هذا الكاتب الموهوب واقعيًّا اشتراكيًّا بروايته الهائلة «العرايا والموتى» ١٩٤٨م، التي ربما كانت أعظمَ ما كُتب عن الحرب العالمية الثانية، وإن كانت تعالِج على نفس المستوى الحربَ الطبقية في داخل أمريكا … ثم تجاذبته بعد ذلك الأمواج التي تجاذبت المجتمعَ الأمريكي كلَّه. وبينما كان هيرن وفالسن في «العرايا والموتى» يريدان تغييرَ النظامِّ كلِّه، نجد سام في روايته التالية «الرجل الذي درس اليوجا» لا يرمي إلا إلى تغيير نفسِه وحسب. ثم إذا به يعجز حتى عن هذا في رواية «حديقة الغزال»؛ فرغم أن بطلها يرفض الشهادةَ أمام لجنة تحقيق في الكونجريس، لا لأسبابٍ سياسية وإنما بدافعٍ من الكرامة، ويعطيه هذا الموقف فرصةً جديدة، يزوده بالقوة ليحقق أملًا قديمًا خُيل إليه ذات مرة أنه قادر على تحقيقه … إلا أنه بعد سنواتٍ من انتهاء موهبته في عالم المساخر (هوليود)، لم يَعُد قادرًا على شيء بالرغم من موقفه الأخير ذاك.

وقبْل نورمان مالر اكتشف بول باولز في الخمسينيات طريقَ العنف؛ ففي نهاية روايته Let it Comedown يقوم البطل الذي لا وجهَ له ولا وجهة، في غضبٍ مفاجئ عاصف ضد حياته كلها، بارتكاب جريمةٍ بلا سبب أو رغبة، وفي هذه اللحظة المرعبة (التي تُشبه لحظة اشتراك بلدٍ ما في حرب) يجد أخيرًا مكانًا له في العالم، وضعًا محدَّدًا، علاقة محدَّدة ببقية الناس. وإذا كانت علاقة عِداء صريح، فإنها علاقته هو، وهو خالقها.»

٢

وهكذا نرى الإنسانَ يحقق علاقته بالآخرين، بعد انتكاسِ مسعاه الاجتماعي، من خلال الحب أو اليأس أو العنف … ولكن ما زال هناك سبيل رابع.

ففي مواجهة مجتمعٍ مجنون يرسف في قيود المال والتنظيم والحرب الباردة والحرب المحلية والفظائع العنصرية، وبعد انتكاس الآمال الثورية … يمكن أن يصبح الهرب شيئًا غير الانسحاب … ويصبح عبارةً عن الحركة والاستمرار في الحركة «على الطريق»، وهو عنوان رواية جاك كيروك التي أعلنته في عام ١٩٥٥م نبيًّا للجيل الغاضب كما صار هيمنجواي من قبلُ نبيًّا للجيل الضائع برواية «ستُشرق الشمس ثانيةً». «على الطريق» هي ملحمةُ هذا الجيل، وتصوِّر مجموعة من الشبان والفتيات يجوبون أنحاء أمريكا في بحثٍ مجنون بائس عن الحقيقة والإثارة. «موتيل … موتيل. موتيل … زخارف النيون المحطَّمة … الوحدة تئنُّ في أنحاء القارة كأنها أبواقُ تحذير السفن من الضباب المنتشر فوق مياهٍ ساكنة يغطيها الزيت في أنهارٍ تتجاذبها حركة المد والجزر.» وتنطلق المجموعة من مدينة إلى أخرى في سرعة … يبتاعون السيارات ويحطمونها، وأحيانًا يسرقونها ثم يتركونها إلى غيرها، وأحيانًا أخرى ينطلقون على أقدامهم «هيتشهيكنج»، يستوقفون السيارات المارةَ لتحملهم معها حيث تذهب. وعندما يَصِلون إلى آخرِ مكانهم يقيمون حفلًا صاخبًا تعزف فيه موسيقى ساخنة، ولكنهم لا يبقون في مكانٍ واحد طويلًا؛ فهم دائمًا On the move في بحثهم الجائع عن تجربة جديدة في الشراب أو المخدرات أو الجنس أو الخطر أو … الشِّعر.

لقد وُلد بطلٌ جديد، هو على حد تعبير آرثر ميلر «واحد من جيوش الفتيان والفتيات الضالين الباحثين عن قليلٍ من الحنان، وعن الأمل في الحياة، وعن رمزٍ ما، يؤمنون به، ويساعدهم على استفادة أرواحهم المحطَّمة.»

وُلد تكنيك جديد في الكتابة عبَّر عنه زعيمٌ آخر من زعماء الجيل الغاضب هو ويليام بروجز في رواية «الغذاء العادي» بقوله: «هناك شيء واحد يمكن للكاتب أن يكتب عنه … ما هو أمام حواسه لحظةَ الكتابة … إلا أداة تسجيل … ولست أعبأ بالحكاية أو الحبكة أو الاستمرارية.» وهي عمليةٌ حوَّلها كيرواك إلى مانفستو للكتابة التلقائية سَجَّله في مقدمة كتابه «المسافر الوحيد»: «لا وقتَ للتفكير في الكلمة المناسبة، وإنما هناك التراكم الطفولي لكلماتٍ بلا منطقٍ حتى يتحقق الإشباع … لا إعادة أو مراجعة … وإذا أمكن فلنكتب بلا وعي …» وهنا فقط يستطيع الكاتب أن يسمع صوتَ نفْسه حقًّا، ويتعرف الرفيق على رفيقه في الطريق الفسيح.

ولكن أحد كُتَّاب هذا الجيل الغاضب — البيتنكس Beatniks — وهو الصحفي لورنس ليبتون، تساءل في عام ١٩٥٩م: «أليس من الأفضل الانضمامُ إلى حزبٍ ما أو توقيع احتجاج ضد تجارب السلاح النووي؟» وكانت الإجابة التي تلقَّاها من البيتنيكيين الآخرين هي: «هناك متقًى واحد من الخراب العام، وهو الإبداع … وحتى عندما تسقط القنبلة الذرية سنُنْظم الأشعار ونرسم اللوحات ونكتب الموسيقى.» وهو نفس ما انتهى إليه من قبلُ بطل رالف إليسون المجهول الذي يمر بمراحلَ معينة ويخرج منها إنسانًا جديدًا يفوز بحريَّته وقد وُلد من جديد مزوَّدًا بالقدرة الإلهية على الخلق … أي الفن.

ولكن السؤال أصبح قائمًا … ولم تمضِ سنتان حتى اعترف جاك كيرواك أبو الغاضبين: «أمَّا نحن فننكمش على أنفسنا بحثًا عن الملاذ والنجاة، بينما تهزُّ الانفجارات الرهيبة عالَم البالغين.»

إن البطل الذي كان يرفض قبولَ الواقع بجوانبه المضيئة والمظلمة على السواء ويهرُب منه ويتحداه بسلوكه، قد بدأ يحس بالمسئولية الشخصية عن كلِّ ما يحدث في أمريكا. وتراجع الاضطراب عمومًا إلى المرتبة الثانية؛ إذ حلَّت مكانه محاولات تذليل موقف التعالي على العالَم، وإيجاد مكان فيه.

وسرعان ما كتب كيرواك رواية جديدة بعنوان «بيج سور»، لم يَعُد يُمجِّد فيها الاعتراض والاحتجاج الفرديين والحرية المطلقة … فلأول مرة يتحدَّث عن واجبات الإنسان أمام غيره من الناس وعن واجبه الاجتماعي. وإذا كان ما يزال يردِّد «الحياة بديعة إلى حدِّ الكمال»، ويجب الاستمتاع بكل لحظة من لحظاتها بالتسكُّع في جبال الكون ووديانه الغارقة في شمس الخريف، فإن هذه الدعوة التي تُذكِّرنا بجان جاك روسو، لم تَعُد الموضوع الأساسي، بل هي مجرد صدًى للمواقف السابقة، سنلمسه فيما بعدُ أيضًا لدى البطل «جيمس دروت» الجديد.

وبدا الانعطاف واضحًا في إنتاج الجيل الجديد من أُدباء الغضب، الذين بدءوا الكتابة في أوائل هذا العَقد. ففي ١٩٥٩م نشر فيليب روث، وهو لم يزل في السادسة والعشرين مجموعةً قصصية بعنوان «وداعًا يا كولومب» تضم رواية قصيرة بهذا الاسم، وفيها يفكِّر بطلها الشاب لأول مرة فيما يحيط به ويتساءل كيف يعيش.

وبعد ذلك بثلاث سنوات نشر تشارلس ويب رواية «الخريجين»، وتُمثِّل تمرُّد الأمريكي، الذي يلِج معترَك الحياة لأول مرة، على الواقع المحيط به، وبطلُه بريدوك يهرُب إلى ألاسكا في الثامنة عشرة «حيث لا زيف بل بوهيمية حقيقية»، وهو يطلب لنفسه الحرية المطلَقة ويرفض الاعتراف بأية التزامات من جانبه نحو العالم. ولكنه لم يَعُد يشبه في شيء أولئك الفتية الضالين، ولم تَعُد تستهويه «السرعة الجنوبية أو هوس الجنس».

ويعود بطل رواية كوتلند براين الأولى «ويلكينسون»، التي نالت جائزة هاربر لعام ١٩٦٥م، من حرب كوريا ليبحث عن عملٍ في وكالة المخابرات الأمريكية، ولكنه ما يلبث أن يضطر إلى تحديد «مسئوليته» بالنسبة لكثير من المشكلات الخاصة والعامة.

وعندما عاد فيليب روت يقدِّم رواية جديدة بعنوان Letting Go بدأها بكلمةٍ لتوماس مان: «إن الواقعية هي دائمًا جِديةٌ لحد الأمانة، والأساس الأخلاقي المتفائل مع الحياة في وحدة واحدة، هو الذي يحتِّم علينا أن نبقى أوفياء لواقعنا؛ واقع الشباب النظيف.» ويرفض أبطال هذه الرواية السيرَ على نهج «الآباء»، ويبحثون عن طريق خاص بهم — في الحب والإبداع والدِّين، وأخيرًا في الاحتجاج — ولكن هذا الطريق يؤدي دائمًا إلى إخفاق جديد، وإلى البحث بلا أملٍ عن خلاص من «الواقع».

٣

ووسط هذه المجموعة من الكُتَّاب الشبان التي ظهرت في الستينيات في الولايات المتحدة، والتي تمثل منحنًى جديدًا لأدب الغضب، يبرُز جيمس دروت، طائرًا متميزًا، وصوتًا فريدًا يتميز بنقاءٍ غير عادي.

ففي أسلوبٍ بالغ الصفاء، ورمزية رقيقة، يُصوِّب دروت جهدَه إلى ما يحدث من حوله … إنه لا ينظر إلى داخله إلا بالقدْر الذي تتطلبه مواجهة الأمواج التي تتلاطم من حوله.

وفي قوة وجمال، وفي الشكل الذي ارتاده من قبلُ سالينجر وكارسون ماكيلز وترومان كابوت، وهو الرواية القصيرة «العصبية» المحكَمة، تتابعت صرخات الغاضب الشاب حتى بلغت — في أربع سنوات — سبعًا أصبح بعدها بلا جدالٍ معبودَ الغاضبين ونبيَّهم الجديد.

ولعل أصدق وصفٍ لتكنيك دروت هو ذلك الذي جاء على لسان روبي روي في رواية «العدُو»، وهو يصف مبانيَ لويس سوليفان المعماري العظيم في أوائل القرن: «وجدت أن سوليفان لم يكن غامضًا أو موحيًا؛ فقد كان يعرف ما يريد، وفَعَله، ولم يكن في حاجةٍ إلى مترجِم ليفسر أعماله؛ لأن كلَّ ما كانه وآمن به، وأكثر من ذلك، كان يبدو في عمله، لم يكن هناك سِرٌّ، ولم يكن الأمر شاقًّا، ولم تكن هناك أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذل — كما كنت أتوقع — بل إن جبروت ما قاله سوليفان في جلاءٍ هو ما جعل رجال السلطة والذوق في عصره ينصرفون عن عمله.»

فهذا هو الطابَع المميز لأدب جيمس دروت. ونجد أبطاله في البداية يستكشفون ما يحدث حولهم، وما حدث من قبل؛ ففي «أمريكا في الخمسينيات» (١٩٦٢م) كان «دونر» نموذجًا للشاب الأمريكي القوي؛ فهو بطلٌ من أبطال كرة القدم، يضحك طول الوقت، ولكنها ضحكة مريضة بسبب نَدبة في ركنِ فمه، ويسيطر الجنس على ذهنه. وهناك راوية يتحدث عنه، وكان زميلًا له في المدرسة العليا بريفر سيد، بولاية إيلينوي، ولاحظوا المكان لأنه الذي تجيء به معظم روايات دروت.

يقول الراوية: «في الخمسينيات … كان كلُّ الرجال الأقوياء الممتازين مثل دونر يختبئون في كهفٍ ما، سواء كان عنوانه الله أمِ المرأة، ولم يكن هناك ما يمكن لشخصٍ مثلي أن يفعله بهذا الشأن سوى أن يرقب أبطاله يتهاوون ويكرههم لهذا.»

ثم يعلِّق على انهيار دونر بقوله: «وعلى كلٍّ، فإن البلاد كلها كانت تنطلق في دربٍ أعمى في الخمسينيات، وبدا لي أن مشكلات دونر … تتفق تمامًا والعصر. فقد كان السناتور مكارثي سيد الميدان، يجرُّ الناس أمام لجنة التحقيق التي شكَّلها ويتهمهم بالخيانة.»

ثم يشرح موقف البسطاء من الناس من أمثال الراوية: «أما أمثالي من الناس … فلم تكن لديهم أدنى فكرةٍ عما يجدُر بهم عمله؛ لقد فوجئنا في البداية، وتساءلنا عما حدث لأبطالنا المعبودين، وعندما رأينا كم كانوا مرعوبين كرهناهم لذلك. ولكننا لم نفعل شيئًا على الإطلاق، وكانت البلاد كلها — وليس فقط فريق الكرة في كلية كنوكس — تتمزق وتنهار.»

وكانت الرواية التالية قصيرةً أيضًا واسمها «جسد ميت في برتونفيل»، وتدور أحداثها في بلدة صغيرة، على مقربة من شيكاغو. (لقد أصبح دروت أفضلَ الكُتَّاب منذ شيروود أندرسون في تصوير حياة المدن الأمريكية الصغيرة.) ولا تزال الرواية هنا متفرِّجًا … يحكي لنا كيف يعجز سكان المدينة عن تنظيمها وإتاحة المجال للجمال فيها، وكيف يتآمرون على «الحقيقة» كي لا يهتز إيمانهم بأنفسهم … رغم أن هذه البلدة بالذات خرج منها إبراهام لنكولن ذات يوم.

«وجدت شيئًا واحدًا في اجتماعِ لجنة التخطيط، فلم يَعُد الناس يفكرون في العمل معًا كما كانوا يفعلون من قبل … وبشعور غامض بالهزيمة، لا يفكِّرون الآن إلا في أنفسهم.» ولم يَعُد يعنيهم شأن الجمال أو التناسق. ولا عجب «أن الأطفال في فصل الفنون في المدرسة كانوا يضحكون من مُدرِّسهم عندما يحدِّثهم عن الجَمال والتعبير والتناسب، بينما كانت نفس الفرقة التي يتحدث فيها المدرِّس تصرخ بالقبح من كل ركن.»

المكان الوحيد الجميل في برتونفيل هو قصرٌ صمَّمه المعماري الشهير سوليفان في عام ١٩٠٠م وابتاعه أحد أغنياء البلدة وانتوى هدمَه ليقيم مكانه تمثالًا لنفسه (وموضوع العمارة سيعود إليه دروت باستفاضة في «العدو»).

ويدور الحوار التالي بين الراوية وصاحب الجريدة:

الراوية: يبدو لي … أن برتونفيل قد فقدت مستقبلها … أو ربما هي بلدة بلا هدف … إني أفكِّر فيها كما لو أنها تنهار أو شيء من هذا القبيل.

أد: يا بني، ماذا هناك من هدف لأية بلدة أكثر من أن تمدَّ مواطنيها بالطعام والأمان؟

ثم يقع الحادث … شاب بسيط عادي، لم يكن أحد يشعر به أو يعرف عنه شيئًا، ينتحر فجأة بلا سبب مفهوم، ولكنه يترك خلفه ورقة تقول:

«إلى أهالي برتونفيل، إنني أعرف أنكم لستم أصدقائي، ولم تكونوا كذلك أبدًا رغم كل محاولاتي. ولأنكم قد رفضتموني فقد فشِلت بذلك في المهمة التي أُرسلت من أجلها إلى كوكبكم؛ ولهذا فأنا عائد من حيث جئت؛ فلست أستطيع الإقامة هنا أكثر من ذلك. إنني لجد آسف. وداعًا.»

إن رواية دروت الذي ظل حتى الآن يتفرَّج على ما يحدث حوله ويستكشف أسباب الواقع المحيط به وسبب انهيار أبطاله، قد بدأ ينطلق إلى العمل بنفسه؛ ففي «الفراشات الغجرية» (١٩٦٤م) يصبح الراوية أحد ثلاثة أبطال في الرواية يواجهون الموتَ عن عمدٍ بممارسة لعبة القفز بالمظلات من الطائرات، «فكل شخص يجب أن يلتقي بالموت». وبالقرب من نهاية الرواية يصبح الراوية هو الصوت الرئيسي … لقد اكتشف شيئين محدَّدين: «ليس هناك شرف أو مجد في الموت» … «وأدركت الأمر، أجل، هذا هو السبب في أنني أقفز؛ لأنه من الممكن تجنُّب الحياة بمواجهة الموت. إنني أخشى الحياةَ أكثر مما أخشى الموت؛ لهذا أقفز … الموت ليس امتحان الرجل … حياته هي الامتحان الوحيد الذي سيواجهه» … «عندما تقفز فإنك وحيدٌ». ثم يهتف في النهاية: «لا أريد أن أتجنَّب الحياة بعد الآن.» وتتركه الرواية في الطريق إلى محطة القطار مع فتاته.

ولكن الراوية يكشف شيئًا آخر … مسئوليته … «لقد راقبت الأمر كلَّه يحدث. كنت الوحيد الذي لم يقل شيئًا … ليس بوسعي بعدُ أن أقول إن الأمر لم يكن يعذبني.»

وهكذا انفصل بطل دروت تمامًا عن طريق البيتنيكيين الأوائل … الذين شبَّههم في هذه الرواية بفَراشات تدور حول المصباح الكهربائي حتى تحترق بضوئه الصناعي. وسرعان ما امتزج الراوية بالبطل بالكاتب نفسه في آخرِ روايات دروت وأقواها على الإطلاق … «العدو».

فروبي روي أوريللي، يبدأ حكايته المأساوية بهذه العبارة ذات الدلالة: «أدركت منذ طفولتي المبكرة قُبحَ كلِّ ما يحيط بي من صنْع الإنسان.» وسرعان ما يستبعد — في رحلة البحث عن العلة التي يقوم بها — أبويه والمدرسة والدِّين … بل وكل ممثلي العصر البارزين الذين حاولوا الإجابة من قبل — هيمنجواي وفيتزجرالد وإليوت وأونيل وبروست — ويرفض أن يردِّد كل ما يُلقَّن له قبل أن يمحِّصه جيدًا، ويبحث عن الإجابة في الكتب وفي داخل نفسه … ويجدها بعد أن يكون قد استقر في موقف المعارضة … والإجابة هي البناء، الفعل.

ويصبح موضوع العمارة الذي طرقه دروت من قبلُ في رفقٍ هو الموضوع الأساسي لهذه الرواية. والواقع أن «المنزل» عند دروت أصبح رمزًا للمؤسسة البشرية، للوجود الإنساني، وأصبحت العمارة رمزًا للمشاركة الإيجابية. إن المنازل جميعها مشوَّهة؛ شُيِّدت بصورة خاطئة، فلماذا لا تُشيَّد بصورةٍ جميلة تجعل الحياة بهيجة؟ … خلفَ كلِّ شكل قبيح فكرةٌ ملتوية أو أكذوبة … وخلفَ كلِّ بناء مجنون عقلٌ مجنون … والمدينة أصبحت آلةً لِسَجن الإنسانية في الإنسان وهي تغذي فيه كلَّ ما هو شرير وحيواني … «أغلب ما هو قائم يجب هدمُه وإحلال غيره مكانه». هذه هي الرسالة التي اختارها روبي روي أوريللي وقد اتخذ البناء مهنة له.

وقوة «العدو» تكمُن في أنها يمكن أن تُقرأ على عدة مستويات … فهي للوهلة الأولى قصة شاب موهوب في فن العمارة، يبتكر تكنيكًا جديدًا في العمارة يقوم على الحركة، ثم يلاقي الفشل بسبب عدم تقبُّل الجماهير لفكرته الجديدة. وفي خلفية هذه الحكاية نقرأ القصة الممتعة لعملاقي العمارة في أمريكا: راتب وسوليفان.

وهي للوهلة الثانية دراسة دقيقة لعملية الإبداع الفني في أي مجال ولموقف الفنان من إبداعه؛ فأوريللي عندما يتحدَّث عن مَولد أحد تصميماته لن يختلف عن دروت لو تحدَّث عن مولد رواية له وما يواكبها من حيرة وتمزُّق وعدم ثقة. بل إن الصورة التي أخذتها معاناة أوريللي: «إنني أُسرع دائمًا خوفًا من أن تتضح خطاي»، تذكِّرنا بجورج سيمنون الذي يغلق الباب على نفسه أسبوعين كاملين يعمل فيهما بصورةٍ متصلة حتى ينتهي من إحدى رواياته، وهي دائمًا في هذا الشكل القصير العصبي الذي يستخدمه دروت … ويضع أوريللي مواصفات الفنان الحق كما يراه: لا بد وأن يخلق عربتَه الخاصة إذا كان يريد أن ينطلق بحرية في المستقبل الذي يحلُم به. ويقدِّم علاجًا لمشكلات الفنان في مجتمعٍ كالمجتمع الأمريكي: لا بد وأن يتحكَّم في عمله بداءةً وخلقًا وتمويلًا؛ بل وفي السوق أيضًا كي يصبح حرًّا وينجو من التأثيرات المختلفة. وهناك المصير التقليدي الذي يواجهه الفنان «العبقري» في كل عصر … الرفض ثم القبول فيما بعدُ … وذلك أن الشكل الذي يبتدعه هذا الفنان ينحِّي كلَّ الأشكال الأخرى جانبًا، ويتساءل الناس: لماذا كانوا قانعين من قبلُ بما هو أقلُّ من هذا؟ ويدفعهم الخوف والرعب إلى إنكار الفنان الجديد وعمله.

بل يكاد دروت يقدِّم على لسان أوريللي مانفستو كاملًا لتيارٍ قائم بالفعل منذ سنوات في ميدان الفن التشكيلي ويقوم على الحركة. وهو التيار الذي امتزج منذ عامين بالتأثيرات الضوئية في تيارٍ جديدٍ يسمَّى بالكينتك. «أنكِر نفسك، اركَن إلى السكون والهدوء لتشعر بالحركة العظمى» … هذا هو شعار التيار الجديد … فالحركة أكثرُ طوعًا للتشكيل الجمالي بسبب بُعدها الجديد … أي شيء مهما كان قبيحًا لا بد وأن يكتسب جمالًا عندما يتحرك، ويُكرَّر وفقًا لنظام معيَّن. (والحركة هي شعار الغاضبين الأساسي عند كيرواك.)

وعندما نتجاوز هذين البُعدين إلى بُعدٍ ثالث، نجد أنفسنا أمام تحليلٍ لمأساة المجتمع الأمريكي المعاصر الذي يصفه البطل بأنه مجتمعٌ من الدرجة الثالثة ذو حضارة منهارة … مجتمع رأسمالي بالتحديد … «… كانت بلادي تزداد قُبحًا على قُبح وهي تنتقل من أيدي مستغِل إلى آخر»، «هذا التحوُّل العنيف المَرضي نحو الوحشية والقُبح … وتُساق جموع الشباب عاجزة دون أملٍ في الثورة … شعب بأكمله ينهار … بواسطة نظامٍ فاسد لا يعبأ بغير المال ويستغل الجميعَ لصالحِ قلَّة كانت تمنح الجماهير حَفنة من المِنَح مثلما تعطي للنادل بحكم العادة. كان النظام يدافع عن نفسه مستشهِدًا بكفاءته في مبادلة موادَّ لا قيمة لها بموادَّ أخرى عديمةِ القيمة … كأنما هو أخطبوط مجنون، يحث الناس، عن طريق الإعلان المستمر، أن يبيعوا وقتهم … مقابل شيء لا يحتاجون إليه … ثم يجعلهم يوقِّعون على كمبيالةٍ تجبرهم على العمل لمدة من الأعوام يُنتِجون فيها منتجات أخرى غير مُجدية، تُباع بدورها بالنسبة لآخرين مثلهم. وعندما تقتفي أثرَ المال من جيبٍ لآخر تجده يصبُّ في النهاية في أيدي قلةٍ من الممولين. وفي هذه الأثناء تبتاع الحكومة القذائف والقنابل والبنادق التي لا تمرُّ سنوات قلائل حتى تعلن عدم صلاحيتها ثم تُستبدل بالمزيد منها … وعندما واجه النظام المتاعبَ ولم يجِد عملًا لبعض أولئك الذين ارتهنوا جانبًا كبيرًا من حياتهم لديه مقابل منتجاته العديمة القيمة، عندئذٍ تحوَّل الرجال الذين يقفون خلفه إلى الحكومة يولولون؛ فضاعفت مشترياتها من المواد الحربية، وغرقت في المزيدِ من الديون، ثم زادت الضرائب العامة لتجدَ ما تسدِّد به الديون التي قدَّمتها البنوك، التي يملكها نفس الباكين الذين يملكون بالمثل النظام ويديرون، وهكذا يدور المال في نفس الحلْقة، وغرِق الناس في مزيد من الديون، وازدادت قلةٌ منهم ثراءً على ثراء وقوةً على قوة … وخلقت الصحف فزعًا من الحرب حتى لا يعترض الجمهور على تخصيص الدخول المستقبَلة للاتفاق على أسلحةٍ ستُبلى من قبلِ أن يُسدَّد ثمنها بوقت طويل.»

هذا جانب من مأساةِ أمريكا، أما الجانب الآخر فهو موقف أهلها … «العبيد» كما يسميهم أوريللي أو «الخنازير» كما تلقِّبهم فتاته، يقول أوريللي في نهاية حكايته: «في بلادي، خلال القرن العشرين، فإن المأساة هي العمل الذي يعجز الرجال العظماء عن إنجازه» … «… كان جهدي الأول موجهًا إلى الحياة العائلية. فقد حاولت أن أجلب الجمال إلى الأفراد من مواطني. وكما تعلمون فإن عملي قد رُفض. وكان جهدي الثاني … يتيح التعاون والحياة الأفضل … بديلٍ متنور للمدن الحقيرة المتنافسة الحيوانية التي تُقيد حرية المعاصرين لي وهذا أيضًا قوبل بالرفض … وكان جهدي الثالث ممكنًا لو كانت هناك استجابة للجهدين الأولين. وكان يجب أن يرمي إلى إعادة تشكيل بلادي بعد أن تتحد قدراتي مع الآخرين من أمثالي، ويكون هدفنا هو خلق بنيان يمثِّل المواقف القومية الحرة والأمينة والطيبة التي يُعبِّر عنها السكان. ولكن … العيب ليس فيَّ وإنما في حضارتي ومجتمعي … فأنا قادر وراغب، ولكنكم لستم كذلك.»

إن موقف المعارضة من جانب الجماهير الذي بدأ في أول الأمر معارضةً لاختراعاته في العمارة، ثم للعمل الفني الممتاز، يصبح في حقيقته موقف معارضة للتغيير، موقف استسلام لما هو كائن. وغضَبُ أوريللي موجَّه إلى الاثنين؛ النظام، وأهله الذين يسكتون على دولة الطغيان. وهذا ما جعله يتورَّط في النهاية إلى تبني فكرة الرجال الممتازين والدهماء.

وليست هذه هي نقطة الضعف الوحيدة في رؤيا دروت؛ فهناك بقايا تأثيرات مذهب الطبيعة عند كيرواك والبيتنيكيين الأوائل … فالأبنية القديمة جميلة، والطبيعة رائعة، والمستغلون الرأسماليون «ملئوا الأرض الجميلة بالشقوق والفتحات، وامتصوا ما بها من معادن، ثم تركوها كتلًا من الطمي … ولوَّثوا الأنهار وحوَّلوا المياه إلى سموم قتلت ملايين الأسماك، وقضَوا على الحياة البرية، وأسقطوا الأشجار الطويلة …» ويثور أوريللي؛ لأن البلدة هدمت بناءً جميلًا لرايت، وبَنَت مكانه محطة كهربائية. ويذكِّرنا هذا الموقف بصفارة المصنع الكئيبة عند د.ه. لورنس، ورد الفعل الأول للثورة الصناعية بالقرن الثامن عشر، أقول يذكِّرنا فقط ولا ينتمي إليه؛ ذلك أن أغنية أوريللي المفضَّلة تقول: «آه يا إلهي، سيأتي عالَم أفضل.»

ولن يأتي هذا العالم الأفضل إلا بالتغيير … والتغيير لم يَعُد تمردًا عشوائيًّا، وإنما «هو أن يُضيف المرء شيئًا جديدًا للأشياء بصورتها الراهنة» على حدِّ قول أوريللي الذي يضيف: «لا يتأتَّى التغيير بالمطالبة وإنما بالإحلال.»

وهكذا يتخطَّى دروت كلَّ المواقف الفردية للبيتنيكيين. يقول أوريللي: «ما كان بوسع إنسان بمفرده لسوء الحظ، أن يوقف ذلك؛ فعندما تنحدر أمةٌ فوق السفح، لا يستطيع مواطن واحد أن يقف في وجه السيل ويوجِّهها من جديد.»

ورغم الفشل المؤقَّت الذي يلحق به فهو لا يلقي السلاح، وإنما يهتف: «أقول لكل مَن يعنيه أمرُ الجمال أو الحق أو حتى العمل المتقن»، أو مجرد «ذكر الحقيقة في دولة الطغيان»: «لا بد لك أن تخوض حربَ عصابات ضد المجتمع الحديث.»

فلم يَعُد روبي أوريللي معماريًّا أو فنانًا فحسب، إنه صاحب دعوة اجتماعية.

ودعوته الاجتماعية هي الثورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤