الفصل الأول

أدركت منذ طفولتي المبكِّرة قُبح كلِّ ما يحيط بي من صُنع الإنسان، ولكني لم أتبيَّن هذا في المنزل الذي أعيش فيه إلا فيما بعد. فقد كان منزلي ككلِّ ما عداه، قاصرًا، فقير البناء، وحشًا صغيرًا، ولمَّا كنت أقصِر انتقادي من قبلُ على الآلات واللَّعب والطائرات، فإن إدراكي المفاجئ بأن أبويَّ وأنا نفسي قد غُرر بنا، وفُرضت علينا الحياة في بناءٍ قبيح، صدمني، وأذلني، وجعلني أكثرَ غضبًا من أي وقتٍ مضى. تساءلت، «لماذا شُيِّد منزلنا بهذه الصورة الخاطئة؟ لماذا هو شديد القُبح؟ لماذا يقوم وسط أرضنا دون أن يعطينا شعورًا بالحرية البيتية، ولماذا لا يتميز حتى بالرحابة التي يجب أن تكون داخله؟ لماذا نُضطر إلى إضاءة النور وسط النهار، بينما كان في إمكاننا أن نتناول طعام الغذاء في الضوء الطبيعي لو لم نمنع ضوء الشمس بالسقف؟ لماذا؟ لماذا؟

وكانت أمي تُجيب على هذه الأسئلة بأن منزلنا جميل، وأننا محظوظون حقًّا إذ حصلنا عليه؛ لأن بعض الناس لا يملكون شيئًا يقضون حياتهم يدفعون لمالك ولا يفوزون بشيء في النهاية.

سألتها: «ولكن لماذا شُيِّد منزلنا هكذا بصورة خاطئة؟»

وأجابت أمي: «أظنك كنت تستطيع أن تُشيِّده بصورة أفضل؟»

كانت هذه، بالذات، هي اللحظة التي اخترت فيها طريقي في الحياة؛ فقد كان من الممكن أن أقول بتواضعٍ إنني بالطبع لا أستطيع أن أُشيده هكذا، أو أقول إنه بالرغم من أن هذا ليس في إمكاني؛ فهناك بالتأكيد مَن يستطيع ذلك، أو أبتسم لأمي ولا أتفوَّه بشيء، ولكني لم أفعل شيئًا من ذلك. فبثقة كاملة في سخافة السؤال ابتسمت وأجبت: «بالتأكيد كنت أستطيع أن أفعل أفضلَ من هذا بكثير. هل تُحبين أن أريَكِ؟»

وفي هذه اللحظة أيضًا حزمت أمي أمرها، وقد علا وجهها تعبيرٌ غريب؛ فقد قرَّرت الانتقال إلى الجانب الآخر، ورغم أنها كانت تتجاهل دائمًا عصياني ومخالفاتي وتظل على الحياد، فإنها أعلنت الآن انضمامها إلى «المعارضة»؛ فلم يكن بإمكانها أن تتجاهل هذه المرَّة سنوات وسنوات من الادخار قبل أن تتمكَّن من ابتياع هذا المنزل الذي يصِمه ابنها الآن بالقبح. ردت عليَّ في غضب: «كلا، لا أريدك أن تريني شيئًا أيها الشيطان الحاذق الصغير؛ لأني أعرف أنك مخطئ؛ فالمنزل الذي ستُشيِّده سينهار في خلال أسبوع إذا ما هبَّت بعض الرياح القوية، والآن اصعد إلى أعلى دون أن تتناول عشاءك الذي يكدُّ أبوك ويكدح ليوفره لك، وربما يجعلك هذا تتعلم كيف تكون أكثر تقديرًا للأمور.»

صعدتُ في هدوء، ولكني كنت أعرف أنني لن أقرَّ أبدًا ما هو خطأ. وعجبتُ لأمي، لماذا تريدني أن أكون هكذا. لماذا تريد أن تحملني على قبولِ ما أعرف أنه سيئ؟ فأينما تطلَّعت حولي رأيت أشياءَ قبيحةَ الشكل سمجة غير متقنة، صنعها الناس … سيارات ومنازل وأثاث ومصابيح وصحاف ودمًى وأكواب وملابس وأجهزة راديو وتليفزيون وصور وشوارع ومحلات وطائرات وأبنية مكاتب، ومحطة الخط الحديدي … لماذا لا يصنعونها بصورةٍ أفضلَ ما دام ذلك ليس بالأمر العسير؟ جعلت أدير هذا اللغز في رأسي، متعجِّبًا لسخافته، بينما مَعِدتي تؤلمني بخوائها من العشاء الذي حُرمت منه. وعندما عاد أبي صعد الدَّرج وجلدني بالسوط لأني ضايقت أمي، وبعد أن تركني، بكيت في الظلام، وأنا لا أزال عاجزًا عن فهمِ ما يريدانه مني. أدرتُ جهاز الراديو لكن الموسيقى الصاخبة، والكلمات المتحذلقة، والعواطف النشوانة، سرعان ما ذكَّرتني بالقبح من جديد، فأغلقت الجهاز. لماذا ترى الناس الذين يبنون الأشياء ويصنعونها، يبنونها ويصنعونها خطأ؟ لماذا لا يصنع الناس أشياءَ حسنة، أو على الأقل يعترفون بقبحِ ما يصنعونه؟ ركَّزت تفكيري أكثرَ من مرة ولكني لم أعثر على إجابة داخلي. وأخيرًا غفوت.

وسرعان ما أصبحت الحياة تدريجيًّا بعد هذا باعثةً على اليأس؛ فلم أعد أنتظر شيئًا هامًّا — قولًا وفعلًا — من أحد البالغين حولي، بما في ذلك مدرِّسي في الصف السادس. ولما كنت قد سويت أموري مع أبويَّ باستبعادهما من عالمي؛ فقد أصبح واقع حياتي أكثرَ معقوليةً من ذي قبل، وهو الذي ينقسم إلى مركزين؛ المدرسة والمنزل، وكلاهما لم يَعُد حقيقيًّا بالنسبة لي. أما الإمكانية الثالثة أمامي، كمركز للمعنى الإنساني، وهي الغيبيات فقد سبق لي أن استبعدتها بالمثل؛ فقد كانت الكنيسة أقبحَ في بلدتنا، ولم يكن للقس منهم كما يبدو سوى السعي خلف أموال الناس. وهكذا أُجبرت على أن أُحلِّق في عالمٍ من صُنعي أنا، من أحلام اليقظة في المدرسة، إلى الانزواء في حجرتي أو القبو بعيدًا عن أبويَّ عندما أكون بالمنزل، والذهاب إلى الكنيسة متبرِّمًا عندما أُرغم على هذا. شعرت بالوحدة والضياع، وفيما عدا الوقت الذي أقضيه في ورشتي الصغيرة، لم يكن حماسي يتأجَّج إلا في المكتبة، وخلال الكتب التي كنت أقرؤها بالنهار أحيانًا وعلى ضوء مشعلي تحت الأغطية بالليل أحيانًا أخرى؛ لأن أبويَّ توعَّداني بإلغاء بطاقة المكتبة لو أمسكا بي أقرأ في وقتٍ متأخر.

كان مبنى المكتبة مُشيَّدًا من الحجارة الكبيرة، قبيحًا كبقية المباني في بلدتي، لكنه كان يضم ثلاثة طوابق من الكتب وسيدة عجوزًا غريبة كانت تُباشر عملها في المكتبة وهي تحمل على كتفها ببغاء صغيرة لا تكُف عن الثرثرة. كان ريش الطائر اللامع الخضرة يتناقض مع بشرة وجهها الصفراء المحصبة، وهي تُحدق فيَّ من وراء منظارها وتبتسم هازَّة رأسَها الناصع البياض: «حسنًا، عمَّ تبحث اليوم يا روبي الصغير؟ أنت تعرف بالطبع أنه غير مسموحٍ لك بالصعود إلى طابق البالغين، وأنا أتجاهل هذا لسببٍ واحد هو أنك قد قرأت كلَّ ما لدينا هنا في قسم الأطفال. اقترِب مني، لا تخفْ.» وتغمز لي: «أعتقد أنه لم يَعُد هناك في الطابق الأسفل ما يثير اهتمامك، أليس كذلك؟ اليوم سأُريك شيئًا … الإغريق. لا تقلق؛ فلن أوجِّهك إلى ما تقرأ، سأُريك فقط القسم الذي نحتفظ فيه بكتبنا عن الإغريق. تعالَ، أعطني يدك.» وتقودني خلال أكوام الكتب وهي تضحك وتداعب ببغاءها بشفاهٍ مطبقة. ثم تقول وهي تشير بيدها إلى القسم الذي تعنيه بين الرفوف. «ليس من حقك بالطبع أن تفتح أحد هذه الكتب … لكن بصري ضعيف وأنا أعِدك إذا ما أُعجبت بكتابين منها أن أنظر إلى الناحية الأخرى عندما أختمهما. اثنان فقط الآن، أفهمت؟»

عندئذٍ أومئُ لها برأسي، وعندما تبتعد بطائرها، أطير بعينيَّ فوق الكتب الممنوعة، وأختار ثلاثة من أضخمها، أحملها في مشقَّة، شاعرًا بالذنب، إلى مكتب العجوز بجوار الباب حيث تَطَّلِع عليها دون أن تُعلِّق بشيء مباشرةً لي وإنما تُحدِّث صديقها الصغير ذا الريش: «إنه لبارع، هذا الروبي روي، يا هركي، وأخشى أن يعطينا مقلبًا لو لم نكن حذرين، ولكن ماذا نتوقَّع عندما نطعن في السن ولا نستطيع أن نقرأ حتى النقطة.»

كان مبنى المكتبة الحجري الرمادي مُحاطًا بشجيرات وممرات، ونافورة تتوسط حوضًا صغيرًا. وفي بعض الأحيان كنت أختفي على الفور وألقي نظرةً سريعة على كُتبي المرعبة فوق أحد المقاعد الحجرية بجوار البِركة. كانت هناك الإلياذة والأوديسة، وموضوعات تاريخية أخرى والتراجيديات العظيمة، وأشعار مثل أناشيد سافو، وكُتب يعسر عليَّ فهمُها كالجمهورية والمحاورات، رغم أن أفلاطون أوضح لي أن الأذكياء يختلفون في أعمق أفكارهم، وأن لا شيء يقينيٌّ كما كانت بروكدال، بلدتي، تريدني أن أومن، وأنه لا يوجد ثمَّة نهاية للتساؤل إلى أن يتناول الإنسان السُّم كما فعل سقراط.

كانت لديَّ أماكن ثلاثة أقرأ فيها دون أن يقاطعني أحد … المكتبة، إما بالداخل بجوار المدفأة أو في الشمس على مقعد حيث أصغي لكركرة الميزاب، وفي المنزل في حجرتي بالليل، وأحيانًا أسفل جسر الخط الحديدي على الترعة حيث يكون في إمكاني أن أصيد السمك أو أدلي الكبد لسرطان البحر بينما أقرأ طول اليوم كيف شئت. ومع ذلك كنت في أغلب الأحيان، ألقي نظرةً على كُتبي بالقرب من المكتبة، كي أرى ما أحمل، وأتوجَّه إلى منزلي، مارًّا بالمروج الخُضر المنسَّقة، ومنازلَ تُشبه الأكواخ صُنعت من الطوب والحجارة وألواح الخشب، تحيط بها أسيجةٌ من النباتات وأحواض الزهور، وعندما أبلُغ منزلي أخفي الكتب تحت قميصي وأتسلل إلى حجرتي، فأصفُّها على رفي مخفيًا إياها خلف جهاز الراديو. وعندما أبغي القراءة في أحدها، أضعه تحت حزامي، وآخذه معي إلى جسر الخط الحديدي، مع كلبي وسنارتي، دون أن أتوقَّف إلا عند بقالة مستر كوبيتشيك؛ لأبتاع قطعةً من الكبد تساوي نِكلة كي أدليها لسرطان البحر.

والذي حدث أني بدأت أهتم، بتأثير صور كتب الإغريق، وكتب الرومان وغيرهم بعد ذلك، بالمباني وعمارة الماضي، وإذ رأيت كيف كانت الأبنية القديمة جميلة التناسق، شعرت بذلةٍ شديدة مبعثها أن مباني عصري واضحة التخلُّف، ولو كنت اعتقدت بأنني بهذا أدنى من الإغريق والرومان، وبناة كاتدرائية عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، فربما راجعت نفسي، لكني قد حسمت رأيي بأني أستطيع أن أُصمِّم مبانيَ أفضل من تلك التي أراها حوالَيَّ، وإذا كان هذا بوسعي فهو أيضًا بوسع آخرين غيري، وإذا كان هذا بوسعهم فربما كان عجز بلدتي عن إنتاج مبانٍ وزخارف جميلة مثل التي أنتجتها غيرها مجرَّد غلطة. ثم أتساءل، لماذا لم يحدث هذا، لماذا كانت إنجازات عصري شديدة القُبح، أبعد من أن تكون جميلة، قوية الملمس ومسرة للعين؟ لماذا لم تكن هناك آثار سامقة أينما أنظر؟ وانتهيت إلى أنها ربما وُجدت دون أن أراها.

كان هناك مبنًى واحد في كل بروكدال، بولاية إيلينوي، يشعرني بالفخر. وكان يُدعى ﺑ «المركز»، ولم يكن يستخدمه سوى الصبية في الشتاء عندما يبحثون عن مكان دافئ لأحذية الانزلاق، وعندما يقيم طلبة المدرسة العليا حفلاتهم الراقصة بالليل مرتين في الأسبوع. كان يمتد بمحاذاة الجدول في مكانٍ فسيح يتجمَّد فيه الماء، ورغم أنه كان منزلًا يومًا ما فإنه آل للقرية قبل أن أبلغ العاشرة بسنواتٍ عندما مات آخرُ أفراد العائلة، وكانت عجوز تحتفظ بأربعة كلاب كبار. أثار هذا المنزل اهتمامي بادئ الأمر بغرابته؛ فقد كانت له جدران من الأسمنت وسقف خشبي عظيم وشُرفات من الحجر المسطَّح تحيط بها أسوار من الأسمنت جُعلت أركانها من أحجار عالية، وشُيدت بها أوعية كبيرة واسعة من الأسمنت للنباتات. وفي الداخل كانت هناك دعامات سوداء سميكة، وقاعة ضخمة في نهايتها مدفأة كبيرة من الصخر المحروق تَسع قطع من الخشب في طول فلنكات الخط الحديدي. كان المكان نموذجيًّا للانزلاق؛ لأن منحدرًا من الأسمنت كان يؤدي مباشرةً من بابٍ قُرب المدفأة إلى أسفل، ثم يدور إلى شرفة كبيرة تطل على الجدول. وقد كان المنزل بالطبع صغيرًا لكن الجدران والشرفات الخارجية، كانت كلها جزءًا منه، تُشعرك بأنها متصلة به، أو هي فعلًا بذلك السقف العظيم الواطئ الذي كان يبدو أكبر من حقيقته. لكن السبب الأساسي الذي جعلني أفخر به هو انضباطه. فلم تكن ثمة أخطاء يمكن رؤيتها (إذا تغضينا عن بعض الشقوق في الخرسانة التي ترجع إلى الإهمال)، فمن أي ناحية أقبلت على المنزل كان يبدو مذهلًا، متكاملًا، دون زوائد قبيحة تبرز منه مثل الأصابع المتقرحة. وكلما تأملته زاد فخري به، وببروكدال لأنها تضمه، وبنفسي لأني أستخدمه … وذات خريف هدمته البلدة فجأة لتُنشئ مكانه محطة كهربائية، ووقفتُ عاجزًا، وقلبي يدق للخسارة، وغضبي يشتعل لهذا الظلم، وسرعان ما اختفى «الشيء الوحيد الجميل في بروكدال».

فكرت جديًّا بعد ذلك في أن أصير مجرمًا، أغير على البنوك، وأسرق من المنازل القبيحة، وأقتل، وأوذي بصورةٍ ما الناسَ الذين ألحقوا بي الأذى، ولا يخالجكم الشك في أن هذا كان سيحدث لو لم أذكر لِمِس ريسك، عجوز المكتبة، كم أجببت «المركز». فقد أفضيت لها ذات يوم: «لقد كان الشيء الوحيد الجميل في بروكدال وقد هدمته الجرذان، فماذا ترين في هذا؟» وقفت أمام مكتبها، منفرج الساقين، ويداي متشبثتان بعجزي، وفكَّرت كيف أني أستطيع بحركة واحدة أن أوقع بالببغاء الذي يعتلي كتفها، بل وربما حطَّمت عنقه الجميل.

قالت برقة: «حسنًا، لقد هدموه بالتأكيد … لا يمكن إنكار ذلك.»

فأجبت: «بالطبع لا يمكن» … وكانت عيناي الحاقدتان ما تزالان على عُنق الطائر.

«لكن لا أعتقد أنهم سيهدمونها كلها. أتعرف أن الرجل الذي شَيَّد هذا البناء شَيَّد مباني كثيرة غيره، ويمكن رؤية بعضها في هذه الأنحاء؛ فهي تبعد عنا مسافةً يمكن للدراجة أن تقطعها بسهولة؛ فهناك كلوني هاوس في ريفرسيد وبناءان أو ثلاثة أخرى هناك، ثم إن رحلة بالدراجة تستغرق يومًا إلى الجين تحملك إلى مبنى كامبانا … وهو حقًّا شيء رائع. إن واحدًا من هذه المباني لم يُهدم. هل تعرف ما قاله ذلك الرجل، بانيها، عندما سمع أن بروكدال ستهدم «المركز»؟ قال: هذا أفضل لهم، إني أُفضِّل أن يهدموه على أن يحولوه إلى محطة كهربائية. بالطبع لن أذكر لك كلَّ ما قاله، ولكنه روى نكته سخر فيها بهذه البلاد. هل تعرف معنى السخرية؟»

هززت رأسي نفيًا.

«حسنًا، إنها شكل حادٌّ من الفكاهة، أحد أنواع النكت. وقد قال هذا الباني: إنَّ هدم الروائع الفنية واستبدالها بمحطة كهربائية هو من طبيعة هذه البلاد. ثم ضحك. هل تعرف هذا؟ لقد ضحك، رغم أن الأمر كان يؤلمه للغاية.»

شعرت بفيضٍ عظيم من الإدراك، رغم أني أجد تفسير ذلك الآن أمرًا عسيرًا. فعندما كان أحد الأشخاص يذكر لي شيئًا، كنت أراجعه بشكلٍ ما على كلِّ ما رأيت أو سمعت أو عرفت منذ وعيت، وكانت أجراس الزيف تدوِّي في رأسي عادةً عندما لا يتطابق الشيء الجديد مع معلوماتي السابقة فأُدرك أنه ليس صحيحًا وأنه أكذوبة. أما هذه المرة فلم يكن هناك جرس إنذار، كانت كلمات العجوز وما قاله الباني تتفقان تمامًا دون تنافر مع كلِّ ما مرَّ بي من قبل، كان الأمر صدقًا إذن، وغاص في عقلي دون أن يطالبني بأن أنكر شيئًا أتذكَّره، كان ببساطة مضبوطًا، يُضيف نفسه إلى كلِّ ما كنت أعرفه بالفعل. كان ذلك رائعًا؛ فقد شعرت أن هناك على الأقل شخصًا واحدًا آخرَ أُضير بشدة أيضًا، وهذا الشخص الآخر قد ضحِك، ألقى برأسه إلى الوراء وضحك، ثم قال الصدق، وإذا كان هذا بوسعه فهو بوسعي أنا الآخر.

ضحِكت في وجه مس ريسك العجوز، ثم قلت: «ووو.» وشعرت بأني على حافة الغليان؛ فقد كانت الدماء تتدافع إلى رأسي ووجهي، والتهبت أُذناي، وارتعش جِلدي احمرارًا. فقدتُ عقلي لثانية وفكَّرت في أشياء من قبيل: هل أدفع هذا المقعد إلى الأرض؟ هل أصنع نموذجًا خشبيًّا من «المركز» ليلًا بيدي المجرَّدتين نكايةً فيهم؟ هل أجذب الببغاء واعتصرها حتى تموت؟ هل أضحك بصوتٍ يدوي في هذه المكتبة الهادئة القبيحة؟ طويت أصابع يدي في قبضتين وأنا أُحدِّق في الطائر الذي يعتلي كتِف مس ريسك. لكنني قررت أن أتركه في سلام. وفكَّرت أن هذا سيكون لفتة طيبة في حق مس ريسك، فعدَلت عن قتله.

سألتني مس ريسك: «أتحب أن ترى صورة الرجل الذي بنى «المركز»؟»

حوَّلت عيني بصعوبةٍ عن الطائر إلى عينيها، لكنني لم أستطِع التفوُّه بشيء. كلُّ ما أمكنني أن أفعله هو أن أشدَّ على قبضتي في قوةٍ حالت بيني وبين النُّطق، وبدا لي هذا أمرًا سليمًا بدوره. راقبتها وهي تنهض وتتناول قبضتي في يدها الناعمة الدافئة المعرُوقة، ثم تقودني إلى رفٍّ يحمل هذه الكلمة «العمارة». ومدَّت يدها وجذبت كتابًا مُضحكًا، مُربع الشكل، لكنه كبير وسميك مثل باقي الكتب.

قالت: «كلُّ هذه الكتب عن المباني وبُناتها، وكل كُتب هذا الصف عن الرجل الذي بنى «المركز» … بل إنه كتب بعضها بنفسه.»

ابتلعتُ ريقي بصعوبة وهي تفتح الكتابَ وتُدلِّيه إلى أسفل كي أتمكَّن من رؤيته. كانت هناك صورة الرجل؛ الرجل نفسه الذي فكَّر في «المركز» ووضع خطته وبناه، وفعل كلَّ شيء على وجهه الصحيح. كان له شعر أبيض ورأس مثلَّث بجبهة عريضة وذقن رفيع. أغلقت مس ريسك الكتاب فجأةً وأعادته إلى الرف وتركتني وحدي، أمام كلِّ تلك الكتب. وشعرت بتلك الرِّعشة الشديدة مرةً أخرى، وأنا أُحدق فيها بغضب، ثم قرَّرت أن آخذ كل هذه الكتب التي كتبها هذا الرجل، وسأضربها لو منعتني؛ لأنها كتبي أنا ويجب أن أحوزها. أحضرت الدَّرج بسرعة من الركن، وارتقيته، ثم أخذت الكتب الخمسة التي تحمل اسمه، ومررت من أمام مس ريسك، دون أن أسألها أن تختمها؛ لأني لم أكن أود أن أضطر إلى ضربها لو اعترضت على عددها، لأني أحبُّها. لكنها لم ترَني، وجريت إلى منزلي، فحزمت جَعبتي، وتركت ورقةً لأمي أقول فيها إني سأقضي الليلة مخيمًا في العراء، وجريت إلى الغابات والجدول وجسر الخط الحديدي.

كَوَّمتُ الكتب أمامي، على ضِفة الجدول، وقرأت في تركيز يومين كاملين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤