الفصل الرابع

خلال العامين اللذين عشنا فيهما، ماري وأنا، في أوربانا بولاية إيلينوي، التحقتُ بجامعة الولاية، بينما اشتغلت ماري في أحد المصانع المحلية، حيث كانت تقوم بتعبئة الموتورات الصغيرة في صناديق. كنت أُساهم بدوري في دخلنا، ببعض المال الإضافي الذي أربحه في تفريغ السيارات المحملة بالورق المقوَّى لمصنع كرتون، وأحيانًا من بعض أعمال الرسم والتصميم. لكني كنت أقضي أغلب الوقت في الدراسة، أعمل في مبانٍ لا توجد إلا في رأسي فقط، أستخلص من مبادئ الهندسة أفكارًا إنشائية مُرعبة لا أرى وجهًا لتطبيقها، وأخلق أشياء جميلة لا يمكن أن ترى النور، وأحب ماري بكل قلبي.

لم يكن لنا أصدقاء في ذلك الحين، رغم أننا كثيرًا ما كنا نخدع أنفسنا، فنظن أننا وجدنا زوجين يدركان ما يحيط بهما من قُبح، أو نشعر، لبعض الوقت، بروحٍ قرينة لروحينا في أحد الأشخاص، لكننا كنا نضطر دائمًا لأن ننحِّي خيالاتنا جانبًا، ونواجه تفكير «أصدقائنا» على حقيقته. كان رضاهم عن المناظر التي لا تُحتمل يُصيبنا، ماري وأنا، بصدمة، فننهي علاقتنا بهم، ولما كنا لا نحتمل علاقات الصداقة السطحية، فقد انكمشنا مرة بعد مرة، في عُزلة صارمة، لا نرى أحدًا، ولا نتحدث إلى أحد، ولا يفهمنا أحد، نرفض الجميع، ويرفضوننا، حتى تعلمنا سريعًا كيف نستمتع بحرية الحياة والضحك والحب وحدنا في عالم غير صديق.

وفي العطلات الأسبوعية، كنا نحمل طعامًا خفيفًا وننطلق إلى الريف، أو الغابة، أو نقتفي أثر نهر، ثم نجلس في الشمس، نستمتع بالأشجار والعُشب والسماء الزرقاء المتوهِّجة، وكانت تلك هي متعتنا الوحيدة فضلًا عن أنفسنا وعن عملي. وقالت ماري مرة ضاحكة مني: «إن السُّحب تتحرك، فلِمَ لا تصنع بناء من السحاب، وتطلقه مثل سفن الفضاء فيرتفع عاليًا وسط الدخان؟ إن الجميع على ما أعتقد، يودون لو يخطُون بصورةٍ ما تلك الخطوات الذهبية التي تُحلِّق بهم عاليًا ولا يشم أحدهم بعد ذلك أبدًا رائحة إبط الآخر.»

قلت: «ربما أمكن ذلك … شيءٌ ما مثل مروحة طاحونة الهواء تجلب رياحًا كفيلة بأن ترفع منزلًا مستديرَ القاعدة، يدور في بُطء مثل الطبيعة، وفي الداخل أُسرة تجد نفسها أمام مناظرَ متغيرة من قمم الأشجار والأنهار التي تتلألأ تحتها. وفي الليل نهبط لنبتاع مؤنتنا ونتسلل عائدين بها قبل أن تشعر بنا الحكومة، أو قبل أن يتمكن الغوغاء من مهاجمتنا.»

«لكننا سنكون ذوي رحمة وشفقة، ونرأف بالحلاليف التي تحتنا، ونُعنى بأمرهم كما كانت تأمر الوصايا العشر، وكما كان يفعل المسيح، وربما قمنا ببضع معجزات أخرى، وبالطبع سنكون على حذر حتى لا يكون مصيرنا الصَّلب.»

ضحكت وأنا أعض قطعة من جذع شجرة أخضر: «أخشى ألا يكون هذا ممكنًا؛ فسرعان ما سيضعنا الناس في مصافِّ الآلهة ثم ينادون بأننا مذنبون لأننا أفضل منهم. وسيُضطرون لإسقاطنا، ويتهموننا بالتفوق، ثم يُوبخوننا بشدة؛ لأننا لم نتمكن من الفِرار بوسيلة سحرية. وفي النهاية يخيب أملهم فينا عندما يتبينون أننا بشَر مثلهم، ويضطرون إلى إخفاء الحقيقة، بقتلنا، ثم ينشرون الأساطير عن جُرأتنا وبسالتنا ويقولون إنه لا أملَ لأي كائن بشري آخر في أن يحذو حذونا.»

قبَّلتني، وأوعزت إليَّ أن أحتضنها فوق العشب، وهكذا تبادلنا الحب بسعادة في العراء، وقد أشعرتنا الشمس بضآلة حجمينا كما أشعرتنا بكمالنا، وذكَّرتنا الروائح وزقزقة الطيور بأننا جزء من شيء بالغ القِدم، أكثر جبروتًا وروعة من الجنس البشري. قالت: «لشد ما أحبك يا روبي.» واحتضنت يدي بين يديها اللتين أصابتهما المحركات بالرضوض في مفاصل الأصابع.

قلت: «أعبدك.» وأحطت ردفيها بيدي اللتين أصبحتا على قدرٍ كبير من المهارة لم يُتح لهما أن تصنعا الكثير: «أنت أول شيء جميل لم يُرسم قبل خلقه، أراه في حياتي … لا بد أنك حُلم مهندس إلهي.»

«وما هي يا روبي العزيز الوظيفة التي يخدمها شكلي؟»

«الحب؟»

قالت: «كلَّا.»

«الجمال؟»

«كلَّا، كلَّا.»

«ماذا؟»

«أنا لك يا روبي.»

عندئذٍ ساد صمت الشاطئ المعشوشب، إلا من تنهداتنا وحركاتنا، حتى هدأنا تمامًا، وتحولنا إلى رقتنا الأولى، نتبادل القليل من الكلمات، يحكي كلٌّ منا عن الأشياء الرائعة التي سنحققها؛ منزل وأسرة كبيرة سعيدة، وأكوام عالية من الأحجار أشكِّلها في مدن كاملة رائعة ونافعة.

قالت: «هناك شيء واحد أبغيه.» وعندما سألتها أضافت: «أريدك أن تكون سعيدًا.»

استدرتُ بعيدًا قبل أن ترى حزني. فكَّرت أن أملها سيخيب بالتأكيد؛ لأنني أعرف أنني لن أكون سعيدًا أبدًا إلا إذا أعدت بناء كل شيء، وهو أمرٌ مستحيل. وحتى لو سُمح لي بأن أحقق كلَّ ما أستطيع في حدود طاقتي البشرية، سيتبقى الكثير دون أن يتحقق، ولقد رأيت من المجتمع وأنا صبي، ثم شاب في المدرسة، ما يكفي لأعرف أنه يواجه بالشر كلَّ تغيير، وكلَّ مَن يقترح أفكارًا جديدة.

فمنذ كنت في المدرسة بدأت أشعر بالمعارضة التي تواجه معتقداتي. كنت أنتظر من المدرسة أن تعلمني كيف أفعل ما أريد، وبدلًا من ذلك كان المدرسون جميعًا يصرون على أن يعلموني كيف أفعل ما يريدونه هم، ولا شيء عداه، ما تم تحقيقه من قبل لا ما كنت أحلم به. كم من ليالٍ قضيتها ساهرًا أبحث في أنحاء نفسي عن إجابات لمشاكلي، بينما كنت أثناء النهار كالببغاء، أعطي أجوبة لمشاكلَ فكَّر فيها شخص غيري ولا علاقة بينها وبيني أو بين عملي. حتى في الحساب والهندسة أو الطبيعة، كنت أشعر أن اهتماماتي تتجاوز المنهاج، وفي الرسوم كان هذا الشعور بالطبع طاغيًا. كان مدرس الرسم يقول لي عندما أعرض عليه بعضًا من بنات أفكاري بالقلم الرصاص، إنها «لا تصلح لشيء»، ثم أقضي الساعات في مجادلته، أُبين له كيف تصلح ولماذا وأين، حتى رأيت ذاتَ يوم أني أُبدد وقتي بمحاولة تعليم معلمي، ولم أعد أتفوه بشيء بعد ذلك. وأدركت تدريجيًّا أن كلَّ ما يجب أن تعمله يمكن أن أحصل عليه مجانًا من مكتبة المدرسة.

وذات ليلة قُلت لماري: «أتعرفين، إذا كان العبيد حقًّا هم مَن لا يفعلون إلا ما يُطلب منهم، إذن فهذا هو شأن كل زملائي من الطلبة هنا.»

قالت: «ألم تدرك هذا إلا الآن؟ كان بوسعي أن أذكره لكَ عندما قابلتك لأول مرة في المدرسة الثانوية … وهذا هو أساسًا ما جعلني أهتم بك.»

«لماذا، ماذا تعنين؟»

«كل الصبية الذين قابلتهم حتى الآن كانوا عبيدًا، بلهاء صغارًا يروحون ويغدون مرددين ما يُصب في آذانهم، بل إن أفضلهم، الأفضل جدًّا، يفعل كلَّ ما يُعيَّن له، حتى يكون بوسعه أن يحقق جانبًا ضئيلًا مما يبغي. وفجأة وجدتك، وكنت تفعل ما تريد وتقول ما تفكِّر فيه. أدركت الأمر على الفور؛ لأن كل شيء جاء مفاجئًا وغريبًا، وكان من السهل أن أرى أنك تختلف عنهم جميعًا. فلم تكن ترفض فقط أن تفكِّر وتفعل هذا لم يخطر على بالِ أحدٍ من قبلُ أبدًا.»

«لكن هؤلاء الشُّبان ليس لديهم ما يبتغون عمله حقيقة، كما يبدو. إنهم ينتظرون فقط مَن يُريهم الطريق فيجرون، ولكنهم عاجزون عن أي شيء حتى يخبرهم أحد … لقد أُسقط في أيديهم، فهم لا يستطيعون التفكير بأنفسهم. لم أعرف أبدًا أن الناس على هذه الحال من السوء.»

فضحكت بصوتٍ عالٍ: «أنت في بعض الأشياء بريء براءةَ الأطفال. إن الرغبة في الانقياد طبيعة إنسانية، أما الشواذ الذين لا يتلاءمون مع مجتمعهم، وهم واحد في المائة، فهم الذين لا يتميزون بها. أنت تؤمن بنفسك. وأغلب الناس ليست لديهم نفوس يؤمنون بها … ألا تعرف هذا؟»

قلت: «أعرف؛ بل أعتقد أنني وأنا صغير كنت دائمًا أشكُّ في أن الناس من قشٍّ ولا يمكن الاعتماد عليهم، لكني لم أفكِّر في الأمر تفكيرًا حقيقيًّا أبدًا. أما الآن فلا بد لي من التفكير فيه؛ فهؤلاء هم الذين أنتظر منهم مساعدتي في بناء أبنيتي. لا بد لي إذن من سبيل آخر.»

فقالت: «هناك سبيل آخر.»

«ما هو؟»

«كل ما نحتاج إليه هو المال، وعندئذٍ تبني ما تشاء.»

ضحكت: «بالتأكيد، لكننا لم نحصل عليه أبدًا.»

كانت تلك هي الحقيقة؛ فطوال عامين كنا نعتمد على أنفسنا ونقدم كلَّ نِكلة نقتصدها للجامعة الكبيرة، التي كانت تثبط من عزمي طول الوقت في كلِّ ما أريد أن أتعلمه. فلم أجنِ مقابل نقودي سوى فرصة الكفاح بكل قوَّتي للتمسك بأفكاري وعبقريتي. وقررنا أنه من الغباء أن نستمر هكذا، فتركت الجامعة، وعُدنا إلى شيكاغو وقد وضعنا في سيارتنا ما نملك من ملابسَ قليلة وحقيبة امتلأت برسوماتي واسكتشاتي ومشاريعي. لم يكن هناك حدٌّ لما بوسعي أن أعمله الآن؛ ذلك أني لم أعُد مرغمًا على الكفاح ضد أحد، كما كان الأمر من قبلُ مع مدرسي وكتبهم في حجرة الدراسة. كل ما عليَّ أن أفعله الآن هو أن أفكر وأعمل، دون أن أتكلم أو أقنع أحدًا. وقالت ماري إنها لم ترني من قبلُ على هذه الحال من السعادة، وطَوال الطريق المؤدي إلى منزلنا، كنت أُدندن وأغني: «سيأتي عالَم أفضل، أوه أجل يا إلهي إلهي إلهي، سيأتي عالم أفضل، أجل حقًّا.» وفي رأسي كنت أرى المباني ترتفع عالية، والناس يرقبون والرهبة ملء عيونهم. كنت أعرف أن الجميع سيدركون على الفور مَن أنا، وكيف أفكِّر، وما أستطيع أن أعمل، بمجرد أن يروا المباني، ولن أضطر لأن أشرح نفسي لأحدٍ مرة أخرى.

كان العالم الذي أعيش فيه عالمًا متداخلًا، وكانت الأشكال كلها تتحدَّد أمامي بوحدتها أو انعدام هذه الوحدة، كنت أتبيَّن على الفور ما هو صواب وما هو خطأ في أي شيء تقع عيني عليه، وكان أكثر ما يزعجني هو أنه خلف كل شكل قبيح كانت هناك فكرة ملتوية، كذبةٌ ما أو فكرة خاطئة، رأيٌّ محدود يستثير فيَّ ضده. كانت عيناه تقدمان لي دائمًا البرهان المخيف على أن هناك عقلًا مجنونًا خلف كل بناء مجنون، وأن هذا العقل قد زُود بالقوة الخارقة اللازمة لبناء المباني. أدركت أيضًا أن كل بناء فظيع ووحشي يرمي إلى تشويه أسلوب الإنسان العادي في النظر إلى الأشياء، وأننا إذا سمحنا للفظاعة والوحشية أن تكونا هما القاعدة — كما هو شأنهما في كل مكان — لشعر الجميع بالحاجة إلى كلِّ ما هو فظيع، ووُصم كلُّ مَن ينجو من بيئته بغرائزه الطبيعية سليمةً بأنه عدو «للجَمال»، ومخطئ في حق «الخير» العام. رأيت أن «المدينة» قد أصبحت آلة لسجن الإنسانية في الإنسان وهي تغذي فيه الآن كلَّ ما هو شرير وحيواني، تُشجِّع قساوته، وتقضي على حبه، وتستعيد كلَّ ما يملك من رغبةٍ غريزية في الحرية.

وإذا كان شعوري بأهمية الوقت يُؤرقني دائمًا فيما سبق، فقد كنت الآن أعتبر كل ثانية أثمن من النقود ذاتها؛ لأني أعرف أن أغلب ما هو قائم يجب هدمه وإحلال غيره محله، وكنت واحدًا من قلة من الرجال يستطيعون ذلك. كنت أجد أحيانًا بعض الأبنية التي أستطيع احتمالها، لكن نادرًا ما كان أحدها قد شُيِّد بواسطة أحد المعاصرين لي. فأغلب ما نجا من غضبي شُيد في الماضي، ولهذا كان يتعرض للخطر لأنه يعترض الطريق، وكان يجري إزالة أغلبه بالفعل ليخلي السبيل لبلاهةٍ جديدة يعتبرونها ضرورية. أمنَ الغريب إذن أن مرور الزمن كان يزعجني؟ كنت أشعر بالأسف عند تناول الطعام، أو النوم، وأحيانًا عند تبادل الحب مع ماري؛ لأن القليل الذي أُعجبت به كان يتعرض للتدمير، وما يُشيَّد كان خاطئًا، وشعرت أني لا بد وأن أشرع في عملي بأسرع وأصح ما يمكن إذا أردت أن تكون الأشياء على الصورة التي أبتغيها: جميلة، عنيفة، صحية، وأيضًا، بالطبع، متحركة.

كنا قد ادخرنا قليلًا من المال، يكفي لشراء قطعة من الأرض في ضواحي المدينة، وعندما تم هذا، أقمت بناءً مؤقتًا ذا سقف خشبي أشبه بالخيمة. وأقمنا في هذا البناء بينما كنت أضع تصميمي، الذي عكفت عليه ليلًا ونهارًا حتى انتهيت منه في أسبوع واحد. كلفتنا الأرض خمسمائة دولار فقط، فتبقى لدينا ألف دولار، كان عليَّ أن أبتاع منها كلَّ ما أحتاجه من مواد. ومع ذلك كان البناء الذي صمَّمته يحيط بكل أطراف أرضي في حركته المستمرة ليلًا ونهارًا.

قالت ماري عندما أريتها مشروعي: «هل تعدني ألا تغضب إذا قلت لك رأيي؟»

«بالطبع.»

«حسنًا، إنه يعجبني … يعجبني حقًّا … إنه جميل، مثل كلِّ ما تفعل يا روبي.»

«ولكن …»

«ولكن، لست أعرف شيئًا عن الأرضيات الخرسانية، ولكن هل فكَّرت فيما يحدث لأسنان الأطفال عندما يقعون فوقها؟ وأليست فكرة الدوران هذه غريبة قليلًا، ألن تُصاب رءوسنا بالدُّوار؟ وماذا عن الدواليب، إننا نحتاج إلى الكثير منها، وإلى مكانٍ نضع فيه الدرجات التي سيُطالب بها الأطفال، وحاصدة العشب، وكل هذه اللوازم … لست أعرف، لكن هل من الضروري أن يكون غريبًا هكذا؟ ألا يمكننا أن نبدأ على مهل، فيكون لنا منزل يتحرك قليلًا فقط، أو شيء من هذا القبيل؟ هل أنت على ثقة يا روبي أننا لن نفقد توازننا ولن نستطيع الوقوف على أقدامنا؟»

رفضتُ أن أجيب على أيٍّ من هذه الأسئلة، والتقطت رسوماتي، والتجأت إلى طرف الخيمة القصي. فقالت وهي تقترب من: «أوه روبي … لا تغضب. إذا كنت راضيًا عن هذا المشروع فأنا الأخرى راضية، يجب أن تعرف هذا. فقط أريد منك أن تتأكد. ثم إنك لن تعرف هذا. فقط أريد منك أن تتأكد. ثم أنك لن تستطيع العمل إذا كنت لا ترى أمامك جيدًا. كيف يكون بوسعك أن ترسم إذا كان المنزل كله يتحرك؟»

«لسوف يتحرك في بطء شديد بحيث لا نشعر به.»

«ها أنت ترى، كلُّ ما عليك أن تفعله هو أن تخبرني، لم أكن أعرف … لماذا أخفيت عني هذا؟»

«لقد ظننت أننا سندور بسرعة هائلة كما كنا نفعل ونحن صغار.» وقبَّلتني ثم ضحكت منفعلة: «حسنًا، ماذا إذن إذا كان هذا هو ما تريد، فكلُّ شيء على ما يرام بالنسبة لي. ربما سنشتهر بعائلة روبي أوريللي الدائخة ولكننا سنفوز بالشهرة. فهذا أقصى ما سيذهب إليه أغلب الناس في حديثهم عنا. لسوف يطئون سياجنا بأقدامهم ويتلصصون على نوافذنا، ليروا ما إذا كنا مقيدين إلى مقاعدنا وأرائكنا، أو أننا نتعلَّق بمقابضَ ما، أو ماذا. لندعهم وشأنهم، فلن يعني هذا سوى مزيد من النجاح لك.»

ضحكتُ بدوري وأنا أحتويها بين ذراعي: «لا تقلقي يا ماري، لسوف يكون كل شيء على ما يرام؛ فأنا أعرف ما أنا فاعل.»

وفجأة ابتلت ضحكاتها وتحولت إلى دموع، وانفجرت في البكاء: «كلُّ ما في الأمر أني لا أعرف أبدًا ما تنوي أن تفعل، أنت دائمًا تفاجئني، وأحيانًا لا أكون مهيأة، أنت تعرف، فأنا أحتاج لبعض الوقت كي آلف كلَّ هذه الأشياء الجديدة التي تفكر فيها. ليس لك يا روبي أن تلقي أمامي شيئًا رسمته، ثم تكتفي بذلك، عندما يتعلق الأمر بمنزلنا نحن. فيجب أن تشرح لي كل شيء، وتقول لي كيف تعتقد أنه حسن ولماذا.»

قلت: «حسنًا يا ماري. لسوف أفعل من الآن فصاعدًا. كلُّ ما في الأمر … حسنًا، كلُّ ما في الأمر أني لم أكن أظن هناك ضرورة لذلك.»

قضيت تلك الليلة ساهرًا، دون أن أعمل؛ فقد ظللت جالسًا أتساءل عما إذا كان ما فعلته جدير بأن أفرضه على ماري. كنت أعتقد فيما سبق أنها تحب حقًّا كلَّ ما أفعله. تحكم عليه وتحسم رأيها بشأنه بوحي من تفكيرها هي. أما الآن فقد أدركت أنها ببساطة تحبني وتؤمن بأن كلَّ ما أفعله حسن؛ كانت المسئولية كلها على عاتقي. ولأول مرة وجدتني أفكِّر، مرغَمًا، في أني قد أكون مخطئًا، وأنه قد يحسن بي أن أقلع عن مشروعي.

درست المشروع بعناية. كان يبدو لي جميلًا للغاية. فلماذا لم يكن كذلك في عينيها؟ لم يكن بوسعي أن أتجاهلها كما فعلت مع الآخرين؛ لأنها كانت رفيقة وطيبة وحلوة وكاملة، ولم يكن بوسعي أن أتجاهل رأيها. فكَّرت أنها ربما تعجز عن تصوُّر المنزل من الرسم، وأن خطوطًا على ورقة لا تريها، كما تريني أنا، كيف سيبدو كل شيء بالدقة. وبهذا فلم يَعُد هناك ما يقلقني؛ لأني كنت أعرف بالضبط كيف سيبدو المنزل عندما ينتهي بناؤه، وكنت واثقًا من أنها ستحبه كما أحبه. وعندما توصَّلت إلى هذه، أصبحت نافد الصبر بشكلٍ لا يحتمل، وأنتظر تواقًا لأن أرفع البناء حتى تراه، فإلى أن يُشيَّد، سأظل أنتظر، وأنتظر أن يتلاشى خوفي من أنها قد لا تحبه. كنت أعرف أن إعجابها به شبه مؤكد، وأنها ستقف أمامه مبهورةَ الأنفاس وتقول: «أوه يا روبي، كل شيء كما قلت أنه سيكون لشد ما أحبه.» لكن كان من المحتمل أيضًا أن يقشعر بدنها أو تحتقر ما بنيته لنا وعندئذٍ لن أفعل شيئًا سوى أن أصرخ وأثور وأريها في جنون كم هو رائع، وأقنعها، وأُناقشها، دون أن أومن مطلقًا بأنها تفهم فعلًا ما أقول، أو ما فعلت؛ لأني لن أستطيع أبدًا أن أمسح تلك القشعريرة الأولى أمامه، كما لو كانت أمام القبح. سيكون أمامي أن أنقلب عليها أو على مبناي، أكره واحدًا، وأواصل محبتي للآخر — وآه يا إلهي — كيف يكون هذا بوسعي وهما الاثنان مُهمان لي؟ لسوف تحبه بالطبع، إن ماري ليست غبية، وبوسعها أن تتبيَّن الصواب من الخطأ. (إذن لماذا لم تُعجب به؟) ربما لا يمكنها أن ترى الفارق، شأنها شأن الآخرين. (لكن إذا كانت ماري لا تعرف الفارق فمن يعرف إذن؟) فكَّرت في بعض الناس، واستحضرت صورهم في شريط سريع أمام عقلي، ثم استبعدتهم. لم أقابل أو أعرف أحدًا على الإطلاق يملك ما تملكه ماري من نفاذ البصيرة. (أيمكن هذا؟ أيمكن أن أكون أنا الوحيد الذي يعرف سلامةَ ما يفعل؟ أيمكن أن يقر الناس تلك المباني البشعة التي يقيمونها؟) كان عليَّ أن أتقبل هذه الاحتمالات، وعندما فعلت لم يبقَ أمامي مِن حَكم ألجأ إليه سوى حكمي أنا. وفكَّرت: سواء كان الأمر صوابًا أم خطأ، فإني أعرف ما هو الحسن وما هو الشيء، ما هو أكذوبة وما هو صدق سواء كان الأمر صوابًا أو خطأ، يجب أن أومن بنفسي؛ لأني أعرف أنني على صواب.

قمت منهَكًا إلى الفراش، لأنضم إلى شكل ماري الساحر تحت الأغطية، دافئة وصائبة وحبيبة. لكن شيئًا قد تغير. فقد أصبحت الآن أشعر بوحدتي أكثر من ذي قبل، بانفصالي عنها. لم أعُد أفكِّر في أشياء «سوف نبنيها». عرفت أن ماري لم تشترك بدورٍ فيما كنت أفعل، رغم حبها لي، وإيمانها بي، ورغم أنها أعطتني حياتها. لن يكون بوسعي بعد الآن أن أثق في حكمها، على الأقل فيما يتعلق بعملي. كنت أعرف أني إذا كنت لا أملك الثقة بماري، فليس بوسعي أن أثق بأحد على الإطلاق. ومع ذلك ظللت آمُل أن تحبه ماري عندما تراه يتحرك.

ورغم أنها جاءت إليَّ في الصباح التالي، تُقبِّل وجنتي وتحاول إقناعي بأنها فكَّرت في أمر المنزل وأصبحت تحبه الآن، فإني لم أصدِّقها، ولم يؤثِّر هذا في حبي لها، وأمكنني أن أقنعها بأنها لم تغضبني، أو تهز من ثقتي، أو تقل من عزمي، وسرعان ما عُدنا إلى الفراش في وضح النهار نتبادل الحب بنفس العاطفة والإخلاص اللذين عهدناهما في بداية زواجنا، وظننت أني قد نسيت كلَّ ما كان من شأن الليلة الماضية. والواقع أنني امتصصت تجربة نفورها من مشاريعي، ولم أعُد أشعر بأهمية ذلك؛ فقد كان حبي لها قويًّا لدرجةٍ جعلتني لا أعبأ برأيها في عملي.

وخلال الشهور القليلة التالية، وجَّهت تفكيري كلَّه إلى بناء المنزل. ووجدت عندما انتهيت من تقديراتي أنه يلزمني حوالي خمسة آلاف دولار للمواد، ولو قمت بالعمل كله بنفسي، فضلًا عن حفر الأساس والبئر، وهكذا انطلقت أجمع هذا المبلغ من المال. فالتحقت بمؤسسةٍ ضخمة على مقربة، تقوم بأعمال التصميم وإمداد المقاولين بالمواد والاستشارات ونجحتُ في أن أقوم بأودنا، ماري (التي أصبحت حاملًا) وأنا، وأن أحصُل في نهاية العام على قرضٍ مكَّنني، بالإضافة إلى التخفيض الذي يُمنح للعاملين في المؤسسة، من شراء الأسمنت والرمل والخشب والأنابيب والطوب والبلاط، وكل الآلات الدقيقة التي أحتاجها ليظل منزلي في حالة حركة، وتبقَّى بعد ذلك مبلغ ضئيل للمواد الداخلية.

وسرعان ما برزت هناك، على مبعدة حوالي مائة قدم من خيمتنا، حفرة، ثم تبدَّت معالم الأساس الخرساني … على هيئة زهرة غريبة ذات محور من الأسمنت المتين في وسطها، يبدو كبقايا جذع ضخم بعد اجتزازه. كان الناس قد بدءوا يتجمعون يحدقون، يأتون في جماعات صغيرة في عطلات نهاية الأسبوع، يتسكعون في الطريق، بينما كنت أنتهي من الأرضية الضخمة التي ستستقر فوق الجذع، وتدور كعجلة خشبية ببطء شديد بحيث لا يكاد يشعر بها أحد حتى ماري. وبدأت أصُفُّ الطوب فوق الأساس الخرساني الصلب وحول الأرضية التي ستدور في بطء، حتى بلغت به ارتفاع ستة أقدام، وعندئذٍ ثبَّت كمرات الألمنيوم التي ستحمل الزجاج والأخشاب الخارجية الخفيفة الوزن.

وظهر بالتدريج أن المنزل سيبدو أقرب إلى مزولة (جيروسكوب) ضخمة وضعت داخل خيمة من الطوب والخشب والزجاج، وتدور حول جذعها الداخلي. وقبل أن أنتهي كنت قد بدأت أشعر بشيء من عدم الرضا بسبب بساطته، وفكَّرت أن ما فعلته ليس شيئًا جديدًا كما بدا لي في البداية. بل إني فوجئت عندما أبدى بعض مَن قدِموا ليتفرجوا دهشتَهم.

فقد رأوا فيه أعجوبة؛ لا يشبه غيره من المنازل التي شُيِّدت من قبل. وأذهل عقولهم بوجوده، وأثبت أن غيره من المباني ليست سوى أشياء بالية أو محاولات فاشلة. وألقى جانبًا بكل الأشكال السابقة وانتصب في شكله الجديد ينكر في براءةٍ أنه مختلف عنها أو أنه خطر أو متعالٍ، أو أي شيء، سوى أنه هناك ببساطة، متعة للناظرين، وبهجة للساكنين، وصرح متحرك يؤكد أنه كان من الخطأ ألا يتحرك. أُصيب الناس بالرعب؛ إذ تساءلوا لماذا كانوا قانعين بما هو أقل منه … فقد حطَّم اطمئنانهم إلى أن كلَّ ما يحيط بهم هو الأفضل والأحسن، وأحل مكان هذا الشعور إدراكًا مرعبًا بأن عالمهم كان سجنًا ثابتًا، وأنهم كانوا أسرى الأشياء الثابتة الجامدة التي تصنعها أيدٍ أقل إبداعًا.

كان المبنى الذي خلقته يقلِّل من شأن جهودهم، وكان رد الفعل لديهم هو الحقد أو الفكاهة، الشك أو السخرية … حاولوا أن يدمِّروه أو ينكروه. لكنه كان هناك بالفعل، وكانوا عاجزين أمامه. كان يطالبهم بأن يراجعوا نظرتهم إلى المساكن؛ لأنه لم يكن يتفق ومفاهيمهم، وكان يطالبهم بأن ينحُّوا جانبًا كلَّ تلك المعتقدات السابقة التي ثبت زيفُها. لم يكن أمامهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بثقتهم، سوى أن ينكروا وجود هذا المبنى … وهو ما فعله أغلبهم، رغم أن قلة صلبة العود منهم، قرَّرت المطالبة بإزالته؛ لأنه يهدِّد الأطفال الصغار في المنازل المجاورة، وهاجمت عُصبة من الأمهات الثائرات لجنةَ التخطيط في الولاية مطالبة بحظر المنزل. وجرى على الفور تحقيق.

سألني المفتش: «هل لديك تصريح بالبناء في الولاية؟»

أجبت: «كلا؛ فلم أكن أظن أني سأحتاج إليه. لقد اعتقدت أنكم ما دمتم تسمحون ببناء هذه الصناديق التي ستنهار بعد سنوات قليلة، أو تغرق سكانها لو انتهك القانون إذا ما أقمت شيئًا جميلًا وصحيحًا، خاصةً أنه لأجلي؛ ولا أنتوي بيعه.»

وسألني المفتش الذي أصبح يبدو كالثمل: «لكن كيف تحصل على مياه المدينة وتيارها الكهربائي؟»

قلت: «لن أفعل. إننا على مبعدة تغنينا عن هذا. فلدي بئر، ووسائل التخلص من الفضلات، وقد أقمت مُولِّدًا صغيرًا ليمدني بالكهرباء … ذلك أني لو حصلت على الكهرباء من الشركة، لاقتضتني إدارة السقف والأرضية الكثير. لم يكن بوسعي أن أقيم المنزل دون مُولِّد خاص. وهو يكلفني الآن سنتات قليلة في اليوم.»

قال المفتش: «هذا غير معقول.»

قلت: «أبدًا؛ فهذا المنزل كله تكلف حوالي خمسة آلاف دولار، وهو يكلفني أقل من عدة دولارات في الأسبوع.»

رفض المفتش أن يتناول كوبًا من الليمون أعدَّته ماري. وغادرَنا غاضبًا وهو يصيح مُهددًا: «لسوف تسمع مني مرة أخرى.»

تابعته ماري ببصرها ثم سألتني: «لماذا هو غاضب هكذا؟»

قلت: «لأنه مخطئ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤