الفصل الثامن

في أول يناير، انتهينا من البناء الداخلي في آخر منزل، واستغرقت في النوم على الفور طوال أيام ثلاثة. وعندما استيقظت كنت لا أزال عاجزًا عن القيام بأي شيء، وجعلت أطوف بالمنزل طوال اثنتين وسبعين ساعة، في ردائي الذي لوَّثه العَرق، ومضى أسبوع آخر قبل أن أتمكن من التفكير في بيع المنازل. كيف أعرضها في السوق؟ كنت مرغمًا على الاعتراف بأني لم أفكِّر مطلقًا من قبل في تسويقها رغم أني لم أذكر هذا لماري. فلم يكن بوسعي أن أفكِّر في بيع شيء من صنعي قبل أن ينتهي تمامًا، رغم أن بعض المعماريين الممتازين يستطيعون العمل على أساس التكليف، فيشيدون منازل طلبها بالفعل مستر وفقًا لعقد. لم يكن في إمكاني أن أعرض وقتي للبيع، وما أعرضه فقط هو ثمرة إبداعي. كيف أعرف أني لو بِعت شيئًا قبل أن يكتمل، لزالت كل متعة في إكماله، فلسوف يصبح مِلكًا لشخص آخر بالفعل، ولا يعود بذي شأن لدي. أنا أعرف بالطبع أنه لا يتعين أن يعمل الجميع بهذا الأسلوب الفريد — العظماء حقًّا هم الذين يفعلون — ولسوء الحظ أن العمل من أجل المتعة لا الربح يعتبر في عصرنا من شأن «الهاوي» لا «المحترف». لكني أشعر أن الشرط الوحيد للحرية الفنية الكاملة — هو أن تملك ما تصنع حتى تنتهي منه — أن تكون خالقًا مطلقًا لا مجرد خادم مأجور لدى شخص آخر. هكذا كان أغلب اليونانيين الكبار (إسخيليوس وسقراط وأفلاطون وسافو)، ثم دانتي ومونتيني وشكسبير بالطبع الذي لم يكن يملك مسرحياته وحسب، بل ويملك أيضًا المسرح الذي تُقدَّم على خشبته. وفي ميدان العمارة، كان هناك فرانك لويد رايت، الذي استطاع أن يعيش من أرباح مدرسته أساسًا. إنَّ بيع الفنان لقوة عمله بدلًا من فنِّه بدعةٌ حديثة، لم تُعرف من قبل، وأعتقد أنها بدعة خاطئة. فعندما يتحكم الفنان في عمله، بداءةً وخلقًا، وتمويلًا، بل وفي السوق أيضًا، بعدئذٍ ينفسح الوقت والمجال للعب الحر أمام عقله ويديه. فلا بد وأن يخلق عربته الخاصة إذا كان يريد أن ينطلق بحرية في المستقبل الذي يحلم به. أيبدو هذا مدهشًا؟ هل يدهشكم أن تعلموا أنه خلْف القلب العاطفي العظيم للعبقري يكمُن دائمًا خبثُ رجل أعمال بالسليقة؟ حسنًا، إن الأمر كذلك؟ وفي غالبية الحالات يكون الجانب التجاري من هذه الطبيعة هو الذي يمده بالقدرة على أن يعمل وفقًا لطريقه الخاص، ويخلق شيئًا جديدًا، رغم أنني يجب أن أضيف أن هذه المقدرة تشل الجانب التجاري لديه؛ لأن أغلب الفنانين يستطيعون جمع الملايين بسهولة إذا ما اقتصروا على إنتاج التفاهات وكرَّسوا كلَّ طاقاتهم لبيعها، بدلًا من أن يواجهوا باستمرار غرائزهم التجارية العظيمة بضرورة تمويل وبيع شيء جميل لا بد وأن تغرس الرغبة في شرائه لدى الناس.

قطعت ماري تأملاتي الهادئة ذات يوم وقالت لي: «روبي، اتصل مستر سليد بنا تليفونيًّا ليعرف متى تنوي تسوية الدَّيْن، ويسأل ما إذا كنت تريد أن تدفع مرة واحدة، أو على عدد من الأقساط بفائدة ستة في المائة.» وابتسمت ماري عندما رأت تأثير هذا الكلام عليَّ؛ إذ نقلني مرة واحدة إلى عالم الواقع بقيود الثَّمن التي تكبله.

فكَّرت هنيهة، ثم قلت: «حسنًا، أعتقد أننا يجب أن نفكِّر في طريقةٍ نبيع بها «عجلة أوريللي»؛ فليس هناك من سبيل آخر للخلاص من ديوننا.»

قالت ماري: «روبي روي أوريللي … هل تعني أنك كنت تفكِّر في عدم بيعها بعد كل هذا؟! بالطبع سنبيعها، لقد وعدتني.» كان هناك رعبٌ حقيقي في عينيها وهي تفكر لحظة. «هل تعني أنك لم تفكر في بيعها طول ذلك الوقت؟ أوه، روبي، ألا تعرف كيف ستبيعها؟ لقد وعدتني، لقد قلت إنك تعرف أننا سنتمكن من بيعها هذه المرة.»

أسقطت الملابس التي كانت تقوم بكوائها على الأرض وارتمت في أحد المقاعد. ثم وضعت رأسها بين يديها وشرعت تبكي وهي تهتز قليلًا إلى الأمام وإلى الخلف بفعل نسيجها. «أوه، روبي، لقد قلت إن هذه المرة ستكون مختلفة … وإنك ستبيعها … أوه، روبي، لسوف يقتلني الأمر هذه المرة لو لم يقبلها أحد … لقد اشتغلنا جيدًا … وهي غاية في الجمال …»

حاولت أن أُهدئ، من روعها: «ماري، لا تقلقي، فقط لا تقلقي … سيكون كل شيء على ما يرام.»

كان أول ما فعلت أني ذهبت إلى التليفون، وأعلمت صاحب المتجر الذي تعمل فيه ماري أنها لن تعمل ابتداء من هذا الصباح. وقلت لها عندما واجهتني في رعبٍ فورَ سماعها بالنبأ: «لا تقلقي يا ماري. لقد حان الوقت لتكُفِّي عن العمل وتستريحي قليلًا.» وأضفت وأنا أبتسم: «ثم أنه لا بد لكِ من العناية بالطفلين وأنا أبتسم: «ثم إنه لا بد لك من العناية بالطفلين وبي، وسوف أحتاج إلى مساعدتك عندما أبيع المبنى. فستقومين بدور السمسار … ها أنتِ قد فزتِ بعملٍ جديد يا ماري وأنا رئيسك فيه، فلا تُجادلي.»

ضحِكت فجأة بصورة هستيرية: «روبي، أنت تهذي بلا شك، إن عملي هو مصدر الدخل الذي نعيش منه، وإذا عملت معك فمن الذي سيُعطيني أجري؟ لسنا نملك سنتيمًا أحمر، ولا بد أن تعرف هذا. لسنا نملك سوى هذه المنازل، وإذا لم نبِعْها فلست أعرف ما سيحدث. كيف سنُسدِّد فواتير مشترياتنا؟ ماذا سيحدث لنا بحق الشيطان؟ لا أحد سوانا يعنيه أمرنا، أنت تعرف، وليس لنا أن نتوقَّع معونة من أحد. ليس لنا أصدقاء، أبوانا لا يعترفان بأن ما تفعله مشروع، ونحن غارقون في ديون مستر سليد حتى آذاننا. كيف سنخرج من كل هذا؟»

قلت: «سنؤلف شركة.»

كل ما كانت تستطيع هو أن تضحك، وكان عليَّ أن أعترف أنا نفسي أن الأمر يبدو سخيفًا. ومع ذلك كنت أعرف أن تأليف شركة هو الخطوة التالية لأننا كنا في حاجةٍ إلى أداةٍ مشروعة نستطيع بها أن نبيع المنازل، بأسلم السُّبل وأصحها، وما لم تكن هناك شركة مسجَّلة فإن الضرائب ستُلاحقنا في كل شيء، حتى ضوء النهار الذي ستعتبره من أرباح رأس المال.

سألتني ماري في حيرة: «ومن أين سنجد المال الذي سنؤلف به الشركة؟»

قلت: «سنستخدم القيمة الصافية للمواد. بعبارة أخرى سوف نبيع المنازل للشركة بسعر التكلفة.»

«وكيف سندفع لأنفسنا؟»

«بسندات من الشركة … يا إلهي يا ماري، لا تنظري إليَّ هكذا مُكذِّبة؛ فهذا الذي أقترحه يحدث كل يوم. وليس احتيالًا على الإطلاق.»

«وماذا بعد الشركة؟»

«نبيع المنازل.»

«وماذا إذا لم نتمكن من بيعها؟»

«إذن نؤجرها ونقوم بأعمال الصيانة، بصفتها مصاريف مشروعة للشركة.»

عادت ماري إلى الجلوس ولكنها كانت تبتسم الآن: «يا إلهي يا روبي، هل تظن حقًّا أن هذه الخطة ستنجح؟»

قلت ضاحكًا: «ولِمَ لا؟»

ضحكت بدورها: «لا أعلم لِمَ لا، فقط تبدو لي رائعة لدرجةٍ يستحيل معها أن تكون حقيقية، ثم لو أن الأمر بهذه البساطة لكان الكثيرون قد قاموا بنفس الشيء من قبل. كيف توصَّلت إلى هذه الفكرة؟» وعاد الشك إلى وجهها.

«كنت أقرأ قليلًا في المسائل التجارية والمالية، لكني كوَّنت الفكرة كلها أساسًا عندما سألتني عما ننوي عمله، وكيف سنبيع عجلة أوريللي. أنا واثق أن الأمر مشروع، ثم يا للجحيم يا ماري، إني أعرف أننا نستطيع تنفيذها. وإذا ما ساءت الأمور، فإن المكان يسهُل تأجيره؛ لأن ما يحيط به من مناظر تستحق المشاهدة، وسيرغب الكثيرون في الحياة به ولو بصورة مؤقتة، خاصةً الشباب الذين تزوجوا لتوهم ويحبون الأشياء الحديثة، ويرغبون في كثير من المتعة.»

«لكننا على مبعدة من العمران، هل تظن أن أحدًا يمكن أن يُقيم على هذا البُعد من المدينة؟»

قلت: «بالطبع. يا للشيطان، إذا أرادوا شيئًا جيدًا فعليهم أن يدفعوا ثمنه. وأنتِ تعرفين أننا لم نَضع هذا الشيء الملعون هنا عن عمد؛ فهو المكان الوحيد الذي استطعنا ابتياعه.»

شرعت ماري تضحك في جنون، دون أن تتوقَّف إلا لتقول: «روبي روي، إذا نجحت خطتك هذه فأنت لا تُقدَّر بثمن.» ثم تعود إلى الضحك من جديد. وقرَّرنا أن نتناول عدة كئوس رغم أننا كنا لا نزال في وسط النهار، ولم يكد يحين موعد العشاء حتى كنا قد توهَّجنا وتورَّدت وجوهنا بالآمال الكبار في شركتنا الجديدة. بل إن ماري طالبت بلقب المدير لها، وعهِدت إليَّ برئاسة مجلس الإدارة. وكنا في حاجة إلى عضو ثالث، وقرَّرنا بعد مناقشةٍ أن نستبعد مستر سليد، وفضَّلنا عليه أحد المحامين في منصب السكرتير، رغم أنه لن يحوز أسهمًا.

بدأ كل شيء في الأيام القليلة التالية كالحلم؛ إذ وجدنا محاميًا وأتمننا إجراءات تأليف شركة مسجلة خاصة بنا أسميناها «شركة Scupper».١ كان الاسم من اختيار ابننا الذي أُعجب برنينه، فقرَّرنا أن نستخدمه تفاؤلًا به. وفي مكتب المحامي بدت ماري كما لو كانت مخدرة، ورغم أنها كانت جميلة بالطبع، كما هي دائمًا، وقد ارتدت رداءها الوحيد حسن التفصيل، وشعَّ وجهها بالدفء والسحر. كنت أعرف أنها لا تفهم شيئًا مما يدور، وتُتابع ما يحدث لأجل خاطري، تأمُل في الأفضل وتتوقَّع الأسوأ، ويغشاها الرُّعب حتى ليكاد الشلل يُصيبها. ويبدو أن النساء منذ تحريرهن لم يهضمن بعدُ حريتهن، ويبدون دائمًا في خشيةٍ من أن يُلقى القبض عليهن لو فعلن شيئًا؛ لأنهن لا يؤمنَّ بعدُ حقيقةً بحقوقهن. فما زال في أعماقهن إحساس غامض بعدم الأمان، ولعل ماري أكثرهن في ذلك. حاولت أن أبتسم لها ونحن نوقِّع الأوراق، آملًا في إقناعها بأن كل شيء يجري على ما يرام. لشد ما هي رائعة ماري، حتى لأود أحيانًا لو أُغطيها بيدي وأحميها من كل خوف، لكني أعرف أنني لا يجب أن أفعل؛ لأنها عندئذٍ ستموت غير حرة، شأنها شأن غيرها، كما تعلمون.

أخذنا الطفلين في نزهةٍ احتفاءً بما حدث، وكانت السماء كاملة الزرقة، منبسطة، مترامية، وأشعتِ الشمس الدفءَ في الغابات حيث جلسنا جميعًا فوق ملاءةٍ نشرب ونأكل ساندويتشات اللحم. هل تعرفون كيف تشعرون عندما تنجزون شيئًا لم تكونوا على ثقةٍ منه ثم تتبينون فجأة، بعد إتمامه، أنكم كنتم على صواب؟ هكذا كنت أشعر، كنت سعيدًا مسترخيًا، حتى كدت أسقط في النهر، أتشرب سِحر زوجتي ورضاء ابني الرائع وبراءة ابنتي. شعرت أني أستحقهم وأنهم جديرون بي، وأنني قد أنجزت شيئًا رائعًا سيجعل مستقبلنا كاملًا.

ابتعدنا عن المنازل الخمسة بقدرِ ما نستطيع؛ لأننا لم نكن نود أن نفكر في أمرنا، وذهبنا في تلك الليلة إلى فيلمٍ ملون كبير، وأكلنا سندويتشات السوسيس وملأنا السيارة بالفضلات.

وفي الصباح التالي أعدَّت ماري إفطارًا حافلًا، وكان اليوم سبتًا، وليست هناك مدرسة، فاقترحت علينا أن نقوم بنزهة، وانطلقنا بعنايةٍ في طريقٍ دائري عبر طرقات يغطيها الثلج الذائب متأملين الأرض التي بدت سوداء مبتلة. خُيل إليَّ أنني شاهدت بعض العشب الأخضر، لكن الأرض كانت لا تزال غارقة في سوادها كأنها تنكر ذلك الدفء الذي لم تألفه من قبلُ في الأيام الأخيرة من فبراير. وسرعان ما انتقلنا إلى الطريق الرئيسي، وبعد دقائق كنا نمرُّ بها، مثل بقية الناس مكتشفين شكلها، ودقَّتها المذهلة، وروعتها، وجمال «تشطيبها» الذي ينتظر العملاء، كان البعض قد أوقفوا سيارتهم إلى جانب الطريق، ووقفوا بجوارها يتفحَّصون منظرها. ورأيناهم يتبادلون الابتسامات، ونحن نمرُّ بهم ببطء، ثم ينظرون من جديد إليها.

سألت في حدة: «تُرى ماذا يكون هذا؟»

ابتسمت ماري: «لا بد أنها مائدة بلياردو بكراتها ذات العصي.»

قال ابننا: «لست أحبها.»

سألته: «لماذا؟»

ابتسم وقال: «تبدو غبية.»

قلت: «هل يمكنك أن تتصور أحدًا يعيش فيها؟»

قالت ماري: «كأنه سيعيش في صخرةٍ ذات نوافذ.»

«تُرى مَن بناها؟»

قالت ماري: «لا بد أنه أحد المجانين.»

وأغرق ابني في الضحك: «لا بد وأنه أحد المجانين. لا بد وأنه أحد المجانين.»

قلت مبتسمًا: «حسنًا، يسرني أني لست مضطرًّا لبيعها. هل تتصورين؟ سيتعين على أحد السماسرة أن يحاول إحضار الناس ليعيشوا هنا.»

قالت ماري في جدية: «كُف عن هذا الآن يا روبي. لست أظن أن ثمَّة ما يبعث على التفكُّه. فأنت هو السمسار، ولست أنا. فليس بوسعي أن أفعل سوى ما يُطلب مني، ولهذا يحسن بك أن تبدأ في وضع خطة عظيمة، ما لم تكن قد فعلت. أتعرف أن بيعها لن يكون بالأمرِ السهل حقًّا. فبوسعي أن أتخيَّل الأثر الذي ستحدِثه في ربات البيوت. وأراهِن أن الأسلوب الذي تتطلب من سكانها الحياة وفقًا له، سيُشعِر بعضهن بالإهانة؛ فالناس لم يألفوا أن يكتشفوا كيف يعيشون حياة الحضيض لأنهم يحبونها هكذا، كما تعرف، وتثور ثائرتهم إذا ما واجهوا بديلًا جميلًا. لقد شكَّلوا أنفسهم في صورةٍ تُطابق القبح الذي يحيط بهم، وأنت تريهم أنهم يجب ألا يساوموا، وتسألهم أن يعيدوا صُنع أنفسهم من جديد حتى يمكنهم أن يعيشوا بالطريقة التي يجب أن يعيشوا بها في أحد منازلك. كلَّا، لا أظن أن الأمر سيكون سهلًا يا روبي، وأتمنى ألا تنتظر أية معجزات.»

أردت أن أؤكد لماري أنني لا أتوقَّع أية معجزات. والواقع أني لم أكن أتوقَّع شيئًا أبدًا، خاصةً من الناس، وإذا ما بدر منهم شيء مفيد مرةً تجدني أُصاب بالدهشة. إنني أختلف في ذلك كثيرًا عن أغلبكم. فأغلب الناس يُعلِّقون الآمالَ الكبار كأنما وُجد كل شيء لفائدتهم، وربما كانوا محقين في هذا. لكني أعرف أني أقف من الآخرين موقف المعارضة، وأنني يجب أن أتوقع منهم أن يعاملوني كعدوٍّ لهم.

ركنت إلى الصمت لأني لم أرغب في إثارة فزعها بهذه المعلومات، رغم يقيني بأنها تعرفها بدورها. من الصعب أن يواصل المرء في براءةٍ طريقه المرسوم إذا اتخذ موقف المعارضة، وأعتقد أني ككل الرجال الشجعان، أحتفظ بشجاعتي عندما أتجاهل هذا الموقف، وهو أن تتقبل فكرة وجودك في المعارضة ثم تتجاهل الأمر، ولهذا تحتفظ بقدرتك على مواصلة العمل كما لو كان ثمَّة مستقبل أمامك، فتنسى أنك تعيش في خطر دائم، وتتصرف كما لو كنت وحيدًا، لكنك تتذكَّر دائمًا في خطر دائم، وهكذا ترى أنه موقف متناقض، لا تستطيع عقول كثيرة أن تواجهه، وهو بالطبع السبب الأساسي في وجودك في المعارضة. وهذا ما يسمَّى بالتوازن يا صديقي: قوتان متعارضتان في حالة توازن منسي، الكثرة تعارض القلة، بدرجةٍ من الحرية تعتمد على المقدرة على النسيان. والآن ادفعْ هذا التوازن إلى الحركة، تجدْ نفسك أمام أسلوبي في الحياة وطريقتي في البناء، وفي التفكير، تجدني أمام أسلوبي في الحياة وطريقتي في البناء، وفي التفكير، تجدني أمامك كاملًا.

قلت: «ماري، لو كنت أومن بالمعجزات لكنت مُتُّ من القنوط منذ عهدٍ بعيد.»

اغتصبت ماري ابتسامة مخيفة: «آمُل أن يسير كل شيء على ما يرام. وأتمنى ألا نواجه متاعب، هذه المرة فقط. لو يحاول الناس مرة واحدة ألا يدوسونا لأننا فعلنا شيئًا جميلًا. وبوسعهم جميعًا أن يعودوا بعد ذلك إلى اتهامِنا بالجنون، فلن أعبأ، لو تركونا هذه المرة.»

قلت: «أنتِ تنتظرين أمرًا غير إنساني عندما تُطالبين الناس بأن يعترفوا بشيء جميل ويساندوه. إن أغلب الناس مشوَّهون، وعقولهم أيضًا بالمثل. أغلب الناس لم تأخذ أجسادهم الشكل السليم، فضلًا عن أرواحهم. أغلب الناس متوحشون. قُساة وفاسدون.»

سألتني: «إذن كيف سيعجبون بمنازلنا كما تقول؟»

قلت: «لو لم أفكر في هذا، ما كانت هناك جدوى من بنائها.»

«أوه يا روبي، فقط قل لي مرة أخرى إن كلَّ مَن سيرى هذه المنازل سيبغي الحصول على أحدها.»

«كل مَن سيرى هذه المنازل سيرغب في امتلاك أحدها سيقفز المال قفزًا من الحافظات من جراء الصدمة التي تُحدِثها رؤية شيء كامل، وسوف يُقدم الناس الملايين إيجارًا لعدة أشهر، ويضحون بثرواتهم مقابل أيام قليلة يقضونها في «عجلة أوريللي الرائعة»، لكننا لن نستغلهم. فمهما قدَّموا من مال، لن نبيع المنزل الواحد بأكثر من خمسة وعشرين ألف دولار.»

انفجرت ماري ضاحكة.

قلت: «إني أتكلم جادًّا.»

وشارك ابني وابنتي في الضحك، وغدونا جميعًا سُعداء.

قلت: «بل إني أتمنى لو نتبرَّع بالمنازل … فيما عدا أن هذا لن يكون عدلًا بالنسبة للمستر سليد.»

كنت أعرف مع ذلك أني أحتاج إلى الدعاية، قبل أن أتمكَّن من بيع أي شيء لأي شخص، وما كان لي أن أتوقَّع مجيء كثيرين لرؤية منازلي — وكلما كان عددهم كبيرًا كان هذا أفضل — ما دُمت عاجزًا عن تعريف الناس بأمرها. كان عليَّ أن أجتذب كلَّ فرد في المنطقة ليلقي نظرة آملًا أن تجد قلة منهم الشجاعة لتعيش حياة جميلة وتشتري مكانًا في عجلة العربة، وتغدو سعيدة بعد ذلك إلى الأبد. وهكذا عكفت على تنظيم هذه الدعاية بأفضل السُّبل التي أعرفها. فوضعت إعلانًا في صفحة كاملة بالصحف المحلية يقول:

شاورما مجانًا

ليمونادة للأطفال

تعالوا، تعالوا إلى المنزل المفتوح

شاهدوا عجلات أوريللي الشهيرة

اقضوا وقتًا ممتعًا

طعام ممتاز

مجانًا

وأرفقت الإعلان بخريطة صغيرة تُبين موقع المنزل بالنسبة لكلٍّ من الطُّرق الثلاثة الرئيسية في المنطقة.

أعددنا، ماري وأنا، لافتات صغيرة لتُعرض في كافة محلات المدن المجاورة. وصنعناها من ورق الكرتون الأسود وسطَّرنا فوقها رسالتنا في حروف حمراء. بل ذهبنا إلى الراديو وقدَّمنا حديثًا عن مشروعنا الإسكاني، ورغم أن المذيع الذي قدَّمنا إلى المستمعين بذل جهوده ليجعل العجلة تبدو كأي مشروع آخر، فإننا عندما قلنا: «إنها تتحرك»، فغر الفنيون الحاضرون أنفسهم أفواههم، ولا بد أنه وضَّح لكل المستمعين أن منازل أوريللي شيء مختلف، وتستحق نظرة في يوم أحد.

ساهمنا جميعًا طوال يومين في إعداد الطعام، وأقمنا الموائد الكبيرة على طول الطريق. واشترينا اللحم من بائع جُملة كبير، وقسَّمته ماري إلى أجزاء قبل أن نُنضج تلالًا منه على نار أشعلناها في العراء. وكنا ننوي أن نُسخنها في الصباح، بعد أن نأخذها من عربة الثلاجة التي أمدَّنا بها مستر سليد. وأعددنا الليمونادة في أوانٍ ضخمة، كما أعددنا السلاطة وكل شيء. وأحضر لنا مستر سليد أيضًا أكياسًا من البن زنة الواحد عشرة أرطال.

وعندما بزغ فجر الصباح، نهضنا أنا وماري والطفلان بعيون متورمة واندفعنا إلى الموقع لنُعدَّ كل شيء للهجوم المنتظر.

١  الكلمة تعني الثُّقب الذي يكون في جانب السفينة ويُستخدم لنزح المياه عندما تُصبح مهدَّدة بالغرق — المترجم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤