بدلًا من الخاتمة

عبد الرحمن أبو عوف وعلاقته بنجيب محفوظ

حدثني الناقد الكبير الراحل عبد الرحمن أبو عوف (١٩٣٥–٢٠١١م) أحد أبناء جيل الستينيات أنه بدأ حياته كاتبًا للقصة، ولكنه تحوَّل إلى النقد، وأسهم بالعديد من المؤلفات النقدية المهمة عن جيل الستينيات، وربما أنه كتب أيضًا عن أغلب من جاءوا بعد ذلك، بالإضافة لمؤلفاته عن رواد فن القصة والرواية والمسرحية في أدبنا الحديث والمعاصر، ومنهم؛ «يوسف إدريس وعالمه في القصة القصيرة» و«فصول في النقد والأدب»، و«مقدمة في القصة المصرية القصيرة»، و«مراجعات في الأدب المصري المعاصر»، و«القمع في الخطاب الروائي العربي» وغيرها. وإذا كان محفوظ قد عرفه العامة والخاصة والمثقف والأمي، وكُتبت فيه مؤلفات، فأن أبا عوف غُبن حيًّا وميتًا؛ إذ عاش أعزب مخلصًا للنقد الأدبي، وحين تُوفي طُويت صفحته ولم يذكره أحد، برغم أنه أول من أصدر كتابًا عن إنجازات جيل الستينيات تحت عنوان «البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية» عام ١٩٧١م.

ولن أزعم أني جاورت أمير الرواية عن قرب، وإن كنت عرفته وأحببته من خلال أعماله، والتي ستظل تتحدث عنه. أمَّا أبو عوف فقد عرفته عن قرب وتتلمذت على يديه؛ حيث عملت معه مديرًا للتحرير خلال تأسيسه ورئاسته لتحرير مجلة «الرواية قضايا وآفاق»، التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فقد استمرت المجلة من بعده عدة سنوات إلى أن توقفت (٢٠٠٨–٢٠١٦م)، ومن خلاله عرفت الكثير عن أستاذنا نجيب محفوظ، إذ كان أبو عوف يحمل تقديرًا كبيرًا له، ولطالما حدثني أنه مدين له في حياته العملية، فمنه تعلَّم الكثير والكثير مثل الحفاظ على الوظيفة، مثلما فعل محفوظ وبقي في وظيفته، حتى لا يُضطر للتنازل عن أفكاره من أجل لقمة العيش. فالأدب وحده لا يكفي لأن يعيش منه الإنسان. وقد كشف لي أن الفضل في معرفته بنجيب محفوظ يعود إلى شقيقه الأكبر د. عبد الملك أبو عوف مؤسس كلية الصيدلة بجامعة أسيوط ومؤسس جامعة صنعاء، وكان — إلى جانب تفوقه العلمي — قارئًا للأدب فأرشده — وهو لا يزال في المرحلة الثانوية — إلى قراءة أعمال أمير الرواية نجيب محفوظ. وروى لي حادثةً طريفةً تعرَّض لها، فعندما قرأ رواية «زقاق المدق»، قرر البحث عن الزقاق نفسه، وكان هناك أتوبيس قديم يذهب للحسين، ولأنه لم يكن قبلًا تجاوز منطقة السيدة زينب أو مدرسة علي مبارك، فقد تاه ولم يصل إلى الزقاق، وبحسب تعليمات أبيه ذهب إلى القسم وأبلغ أنه تائه، وأعادوه إلى البيت. وعن لقائه الأول مع أستاذه محفوظ روى أنه بعد قراءة «زقاق المدق» صار مدمنًا لأدب نجيب محفوظ، لذا ذات يوم في عام ١٩٥٧م، سطا على مفكرة أخيه إبراهيم وأخذ يفتش فيها، فوجد فقرةً عن ندوة نجيب محفوظ مع الحرافيش وأدباء الأجيال التالية في العاشرة صباحًا في قهوة صفية حلمي، فحسم أمره على اقتحامها، وفعلًا ذهب مع أخيه وحضراها. ومن بعدها صار تلميذًا للأستاذ، ومريدًا من مريديه، وجمعتهما صداقة لعقود من الزمن، كان لها أبلغ الأثر في مسيرته، وساعدته في وضع كتابه «الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ».

ومن الذكريات التي رواها عبد الرحمن أبو عوف قصة تأسيس «لجنة النشر للجامعيين» عام ١٩٣٥م، والتي صارت — فيما بعد — «دار نشر مكتبة مصر»، إذ أسسها عبد الحميد جودة السحار وهو من أبناء تجار الجملة في حي الحسين (الصنادقية)، وكان محاسبًا في مطار القاهرة، وأقنع محفوظًا وزميليه الحرفوشَين «أحمد زكي مخلوف وعادل كامل» أن يدفعوا من مرتباتهم لعمل اللجنة، وأخذ مصاغ زوجته وباعه وأسسها، وكان لها دور كبير في تنشيط الفكر والثقافة والأدب من خلال ما نشرته من كتب ومؤلفات.

وكشف لي أن سيد قطب كان أول من تنبه إلى نبوغ نجيب محفوظ وقدمه للقارئ، وكان قطب — وقتها — ناقدًا أدبيًّا مرموقًا، قبل أن يتحوَّل إلى منظِّر إسلامي بعد عودته من أمريكا، وكيف غيَّر إحسان عبد القدوس اسم رواية «فضيحة في القاهرة» لتُنشر في سلسلة «الكتاب الذهبي» تحت اسم «القاهرة الجديدة»، وأضاف أن السحار رفض طباعة «ثلاثية نجيب محفوظ» لكبر حجمها، إذ تجاوز عدد صفحاتها الألف صفحة، فغضب محفوظ وحملها إلى الشهيد يوسف السباعي في جمعية الأدباء، وكان السباعي — يرحمه الله — يقوم بدور كبير في مساعدة الأدباء، وأقنعه السباعي بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، وفعل محفوظ ونُشرت على أربع سنوات، ثم أعادت مكتبة مصر نشرها. ولما سألته عن أحلام فترة النقاهة وهل هي أحلام حقيقية أم إبداع خالص؟ فقال: «إن الظن بأن هذه أحلام ظن غير صواب؛ فنجيب محفوظ قد أصبح فاقدًا للسمع والبصر ويعاني من وهن شديد في قواه الجسمانية، واقترب من فقد الصلة بالحياة من حوله إلا بالقدر الذي تسمح به الظروف، أراد أن يوجه كلماته ونقده للواقع المصري والعالمي إنسانيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا فابتكر طريقةً جديدةً بحيث يقول إنه يحلم ويرى في أحلامه كذا وكذا، فيقول حينئذٍ كل ما يريده دون رقابة ودون خوف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤