الفصل الحادي والعشرون

الغريمان

إنديرا هي الهند، والهند هي إنديرا.

دي كيه باروا، رئيس حزب المؤتمر، نحو عام ١٩٧٤

١

في ١٥ أغسطس ١٩٧٢، احتفلتِ الهند بِعِيد استقلالها الخامس والعشرين؛ فعقد البرلمان جلسةً استثنائية في منتصف الليل تحدَّثت فيها رئيسة الوزراء، مستحضرةً الصراع من أجل الحرية بدءًا من تمرُّد عام ١٨٥٧ حتى الوقت الحاضر، وذاكرةً العلامات الفارقة على طول الطريق. وقالت السيدة غاندي إنَّ مسعى الهند كان «مصادقة الجميع، وعدم الخضوع لأحد».1 وفي صباح اليوم التالي وجَّهت خطابًا إلى الأُمَّة من على أسوار القلعة الحمراء، فقالت: «الهند اليومَ أقوى ممَّا كانت عليه منذ خمسة وعشرين عامًا؛ فقد مدَّت ديمقراطيتُنا جذورَها، وتبلور فِكرنا، وتحدَّدت أهدافنا، وخُطِّطَت طرقنا لتحقيق تلك الأهداف، ووحدتُنا اليومَ أكثرُ صلابةً من أي وقت مضى.» وقالت السيدة غاندي: «الأمم تمضي إلى الأمام، لا بالنظر إلى الآخرين، وإنما بالثقة بالنفس والعزيمة والوحدة.»2
من الجدير بالذكر أنَّ خطاب السيدة غاندي لم يتطرَّق إلى أمور الاقتصاد؛ فمنذ الاستقلال، نما الاقتصاد الهندي بمعدلٍ تراوَحَ بين ٣٪ و٤٪ سنويًّا، وزاد ناتج قطاع المصانع بنحو ٢٥٠٪؛ حيث كانت الزيادة أوضح في مجال الصناعات الثقيلة مقارَنةً بالسلع الاستهلاكية. ونشأت طبقة جديدة من روَّاد الأعمال، الذين أقاموا وحدات عملهم بعيدًا عن المراكز الصناعية القديمة. عملت الدولة على زيادة مرافق البنية التحتية؛ حيث وُلِّدَت طاقة قدرها ستة وخمسون كيلوواط-ساعة عام ١٩٧١ (مقابل ٦٫٦ عام ١٩٥٠)، وزادت مساحات الطرق المرصوفة إلى أكثر من الضِّعْف، وزادت حمولات السكك الحديدية إلى ما يقرب من ثلاثة أمثال.3
ساعدت تلك التطوراتُ المنتجين في الريف كما في الحَضَر؛ فأينما توفَّر الري — عن طريق السدود أو الآبار الأنبوبية — زاد المزارعون إنتاجهم من الحبوب والمحاصيل من قبيل القطن والفلفل الحار والخضروات. واندمجت القرى التي كانت معزولةً سابقًا في العالم الخارجي؛ فقد اسْتُخْدِمَت الطرق لإخراج المحاصيل وجلب السلع، وكذلك لنقل أهل القرى إلى المدينة ذهابًا وإيابًا، مُتِيحَةً بذلك انكشافهم على أفكار جديدة. وفي القرى، بدأ تدريجيًّا انتشارُ أدواتٍ مثل الدراجة والهاتف، والأهم من ذلك كله: المدرسة.4

أخفَتْ تلك التحسُّنات الإجمالية وراءها تفاوتات إقليمية لا يُستهان بها؛ فالثورة الزراعية طالت أقل من عُشر مناطق ريف الهند، وظلَّت معظم مناطق الزراعة تعتمد على مياه الأمطار؛ لذا فعلى الرغم من زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، ظل الفقر المدقع واسعَ الانتشار في الريف. في العام السابق على خطاب رئيسة الوزراء بمناسبة عيد الاستقلال الخامس والعشرين، نشر اقتصاديان في بونا — في إم دَنديكار ونيلاكَنتا رات — دراسةً كبيرةً بعنوان بسيط: «الفقر في الهند»؛ فاستنادًا إلى استقصاءات من كافة أنحاء البلاد، خلَصَا إلى أنَّ ٤٠٪ من سكان الريف و٥٠٪ من سكان الحَضَر لم يكن لديهم حتى «الحد الأدنى من المعيشة»؛ المُعرَّف بإنفاق الفرد سنويًّا ٣٢٤ روبية في القرى و٤٨٩ روبية في المدن. وقد تزايدت نسبة الفقر على مدار ذلك العَقْد؛ ففي بداية ستينيات القرن العشرين، كان ٣٣٪ من سكان الريف و٤٩٪ من سكان الحَضَر يعيشون تحت خط الفقر المذكور. وفي عام ١٩٧٠ أو ما حوله، بحسب تقديرات دَنديكار ورات، كان ٢٢٣ مليونَ هنديٍّ يعيشون في فقرٍ من إجمالي تعداد سكان قارَبَ ٥٣٠ مليون نسمة.

وضع اقتصاديون آخَرون تقديرات أخرى؛ إذ اعتقد البعض أنَّ نسبة الأشخاص الفقراء حقًّا أعلى من ذلك، بينما قال آخَرون إنَّها أدنى من ذلك قليلًا. ولكن على الرغم من اختلاف الاقتصاديين على عدد الفقراء في الهند تحديدًا، فكلهم اتفقوا على أنَّهم أكثر من اللازم — حيث كان عددهم طبقًا لأكثر التقديرات تحفُّظًا رقمًا أقرب إلى ٢٠٠ مليون منه إلى ١٠٠ مليون. وتوصَّلت هذه الدراسات إلى أنَّ الفقراء في ريف الهند ينفقون نحو ٨٠٪ من دخلهم على الغذاء، و١٠٪ على الوقود، مما يترك ١٠٪ فقط للملابس وغيرها من الأشياء.5
وتمثَّل أحد أوجه الفشل الأخرى في التعليم. لقد حدث نموٌّ هائل في عدد الكُلِّيات التي تقدِّم تعليمًا في مجالات العلوم والإنسانيات، وحدث توسُّع أكبر في المقرَّرات المهنيَّة، مثل الهندسة والطب. ولكن التعليم الأساسي كان أداؤه ضعيفًا؛ فقد كان عدد الأُمِّيين عام ١٩٧٢ أكبر ممَّا كان عام ١٩٤٧. وعلى الرغم من افتتاح آلاف المدارس الجديدة، فلم تحدث محاولةٌ تُذكَر لتعليم القراءة والكتابة لملايين البالغين غير المُلِمِّين بهما. وحتى فيما بين مَن دخلوا المدارس، لم تتخرَّج سوى نسبة صغيرة؛ حيث كانت معدَّلات التسرُّب من الدراسة مرتفعة إلى حد مزعج، خاصةً فيما بين الفتيات وأبناء الطوائف الاجتماعية الدنيا.6
بعد الخطاب الذي ألقته السيدة غاندي في القلعة الحمراء ببضعة أشهر، تحدَّث الاقتصادي جاجديش بَجواتي أمام جمهور أرقى إلى حدٍّ ما في مدينة حيدر أباد الجنوبية. كانت الهند المستقلة تقدِّم نفسها على أنَّها اقتصاد مختلَط، يحمل سمات كلٍّ من الاشتراكية والرأسمالية. ولكنها، بحسب زعم بجواتي، فشلت على الصعيدين؛ فقد كان معدل نموها أبطأ من أن يؤهِّلها للاندراج تحت الاقتصاد «الرأسمالي»، وقد فقدت أي ادِّعاءات بكونها «اشتراكية» بفشلها في محو الأُمِّية أو تقليل أوجه عدم المساواة.7

٢

زعمت رئيسة الوزراء أنَّ الديمقراطية مدَّت جذورها في الهند، وهو ما حدث في بعض النواحي المهمة؛ فقد أُجْرِيَت خمسة انتخابات عامة بنجاح، إضافةً إلى ما يقرب من ١٠٠ انتخاب في ولاياتٍ بحجم فرنسا أو ألمانيا. وإلى جانب الانتخابات الحرة كانت حرية انتقال الأشخاص والأفكار، وتلك الأخيرة عبَّرت عنها صحافةٌ شديدةُ الحرية.

إلا أنَّ أُسُس الديمقراطية لم تكن مستقرة تمامًا في نواحٍ أخرى؛ فقد كانت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند تنتخب فيما مضى ممثلين من الولايات، وهؤلاء بدورهم كانت تنتقيهم هيئاتُ حزب المؤتمر على مستوى التعلِقات والمناطق. والأهم من ذلك أنَّ رؤساء وزراء الولايات التي حكمها حزب المؤتمر كانوا يُختارون من جانب المُشَرِّعين المحليين وحدهم؛ إلا أنَّه عقب انشقاق حزب المؤتمر في ١٩٦٩، استطاعت السيدة غاندي تعيين مرشَّحين خاصين بها في مناصب مهمة. وتأكَّدت عملية التحوُّل إلى المركزية هذه بعد الانتصار الساحق الذي حقَّقته في انتخابات عام ١٩٧١؛ ففي وقت لاحق من ذلك العام، أقالت رئيسَ وزراء كلٍّ من راجستان وأندرا براديش — في تتابُع سريع — وعيَّنت مكانهما اثنين من محظييها. وكما علَّق أحد الصحفيين، فإنه لا يعنينا كثيرًا معرفة مَن سيكون الرجل الجديد في أندرا؛ لأنَّ «مَن يتقلَّد السلطة سيكون عليه أن يضع السيدة في دلهي نصب عينيه حتى يبقى عوضًا عن المشرِّعين في حيدر أباد أو جمهور الناخبين في أندرا بصفة عامة».8
بعد انتخابات عام ١٩٧١ ازداد ظهور ابن رئيسة الوزراء الثاني — سانجاي — في الحياة العامة. كان قد فُصِل من مدرسته الهندية الأولى، وتخرَّج بصعوبة في الثانية، ثم عمل لفترة وجيزة متدرِّبًا في شركة رولز-رويس بالمملكة المتحدة، ثم عاد إلى الوطن لإنشاء مصنع سيارات خاص به. وأثناء بحثه عن أرضٍ لذلك المشروع، خطا أولى خطواته في عالم السياسة؛ ففي مايو ١٩٧١ أرسلته والدته لتدشين حملة حزب المؤتمر في انتخابات دلهي البلدية، وفي الشهر التالي أجرت مجلةٌ أسبوعية واسعة الانتشار حوارًا معه، فبدا لمحاوره غيرَ «حريص بدرجة كبيرة على النقاش أو الحوار المطوَّل؛ فهو يبدو حريصًا على النتائج». وكذلك أبدى سانجاي رأيًا مفاده أنَّ «الشباب الهندي جبان. إنَّه لا يتحلى بالشجاعة؛ فالشباب متناغمون في تفكيرهم مع الإطار الذهني لوالديهم».9
كان راجيف ابن رئيسة الوزراء الأول طيَّارًا يعمل لدى الخطوط الجوية الهندية؛ فكانت السيدة غاندي شديدة القلق على سانجاي، وكتبت إلى زميل في فبراير ١٩٧١ أنَّ «راجيف لديه وظيفة خلافًا لسانجاي، وقد تورَّط أيضًا في مشروع مكلِّف. إنه يشبهني كثيرًا عندما كنتُ في مثل سِنِّه — في فظاظته وكل شيء — حتى إنَّ قلبي مُثقَل بالقلق على المعاناة التي قد يُضطر إلى تحمُّلها».10 وفي الواقع، حصل مشروع مصنع سانجاي على التصريحات اللازمة بسرعة غير مبررة؛ فقد قُدِّم ثمانية عشر طلبًا لصنع سيارات صغيرة، ولم يُقبَل منها سوى طلب ابن رئيسة الوزراء، على الرغم من عدم امتلاكه خبرةً سابقة في هذا الصدد. ومَنَح بانسي لال رئيسُ وزراء هاريانا، الذي كان عضوًا في حزب المؤتمر، شركةَ ماروتي للسيارات المملوكة لسانجاي أرضًا مساحتها ٣٠٠ فدان بسعر زهيد.11
طَرحت المعارضة أسئلة حادة في البرلمان، فغضَّت السيدة غاندي الطرف عنها، ولكن مستشارها المقرَّب بي إن هاكسَر أعرَبَ عن تحفُّظاته الخاصة. ووفقًا لأحد الأقوال، فقد «نصح رئيسةَ الوزراء بالتخلي عن مشروع سيارات ماروتي التابع لابنها والتنصُّل من أفعال ابنها سانجاي».12 ولكنها تجاهلت نصيحته، وأصبح سانجاي يُشاهَد إلى جوار والدته أكثر، بينما تضاءل نفوذ هاكسَر نفسه في نطاق الأمانة التابعة لرئيسة الوزراء.
بحلول عام ١٩٧٢ كان حزب المؤتمر قد أصبح عُرضَةً للمحسوبية المتصاعدة، والفساد الجامح؛ ففي يونيو ١٩٧١ لَفَت بي إن هاكسَر نظرَ رئيسة الوزراء إلى «الفساد المترسِّخ والمؤسسي» في راجستان التي يحكمها حزب المؤتمر؛13 فقد تواطأ الوزراء مع موظفي الخدمة المدنية، ليقتطعوا مبالِغَ من المشروعات الحكومية. وفي الحكومة المركزية أيضًا، كانت تلك الممارسات في صعود؛ فقد حصل وزيرٌ اتحادي من آسام على عقارات كثيرة بسبل مشبوهة، بينما كان وزيرٌ اتحادي آخَر من ماديا براديش يعمل مع تاجر سلاح فرنسي يدًا بيد، مقدمًا له عقودًا مقابل عمولات.14

٣

على الصعيد الاجتماعي، كان أحد مؤشرات تميُّز الهند هو أنَّ رئيس وزرائها كان امرأة. ولكن ماذا عن المرأة الهندية بصفة عامة؟ فأثناء فوز السيدة غاندي في الانتخابات والحرب، كلَّف المجلس الهندي لبحوث العلوم الاجتماعية باحثيه بإجراء خمس وسبعين دراسةً منفصلة عن وضع المرأة، فيما يتعلَّق بالقانون والاقتصاد والوظائف والتعليم والصحة وما إلى ذلك.15 ولم تكن النتائج مشجِّعةً للغاية؛ فمن نواحٍ متعددة، كانت عملية التحديث التي نالت تشجيعًا منذ الاستقلال قد وسَّعَتِ الفجوة بين الجنسين؛ على سبيل المثال: كان الرجال بالأساس هم المستفيدون من تحسُّن المرافِق الصحية، وهو ما زاد الفارقَ في النسبة بين الجنسين، التي تمثَّلَتْ عام ١٩٧١ في ٩٣١ امرأة مقابل ١٠٠٠ رجل. وانخفضت نسبة النساء في الأيدي العاملة بالمجال الصناعي، من ٣١٫٥٣٪ عام ١٩٦١، إلى ١٧٫٣٥٪ عام ١٩٧١؛ ففي الماضي كانت المصانع تشغِّل أزواجًا، ولكن التطورات الفنية أدَّتْ إلى الاستغناء عن الوظائف غير الماهرة التي كانت النساء تعمل بها في الماضي.
كانت الغالبية العظمى من النساء تعمل في الريف؛ ففيما بين عائلات المزارعين الفلاحين كانت نسبةُ العاملات إلى العاملين ٥٠ إلى ١٠٠، وفي العائلات التي لا تمتلك أرضًا بلغت نسبةُ العاملات إلى العاملين ٧٨ إلى ١٠٠. وكانت أكثرُ العمليات خطورةً حِكْرًا على النساء في أغلب الأحيان؛ مثل زرع شتلات الأرز، التي كانت تعرِّضهم للعدوى المعوية والطفيلية. وأُضِيفت إلى تلك المخاطر أعباءُ تربية الأطفال وجمع الحطب والعلف، وهي المهام التي كانت النساء والفتيات الصغيرات يَقُمْنَ بها بمفردهن.16

كانت نسبة المتعلمين ضعيفةً في المجمل وكارثيةً بالنسبة إلى النساء؛ ففي عام ١٩٧١ كان ٣٩٫٥٪ من الذكور متعلِّمين، مقابل ١٨٫٤٪ فقط من الإناث، و٤٪ فحسب من النساء في ريف بيهار كُنَّ متعلِّمات. وقد أسفر الفقر في ولايات مثل بيهار وأوريسا إلى هجرة جماعية للذكور بحثًا عن العمل، ممَّا زاد العبءَ على النساء.

أفاد المجلس الهندي لبحوث العلوم الاجتماعية بأنَّ «ما هو ممكن للمرأة نظريًّا نادرًا ما يكون في متناول يدها واقعيًّا». وأوضحت دراساته «أنَّ المجتمع فشل في صياغة معايير ومؤسسات جديدة لتمكين المرأة من الاضطلاع بالأدوار المتعددة المتوقَّعة منها في الهند اليوم؛ فمعظمُهن لا يتمتعن بالحقوق والفرص التي يكفلها لهن الدستور؛ فارتفاع مهر الزواج وغيرها من الظواهر، التي تُمعِن في التقليل من شأن المرأة، تشير إلى ارتداد عن المعايير التي طُوِّرَت أثناء حركة التحرير».

إن الإصلاحات الاجتماعية لم يكن لها أثر إلا في المدن، في أوساط أُسَر الطوائف الاجتماعية العليا التي تحدَّث أبناؤها الإنجليزية أو بعضها وعلَّموا بناتهم وأرسلوهن إلى الكليات المهنية؛ فمن بين ذلك القطاع من النخبة، حدثتْ زيادةٌ في عدد الطبيبات والأستاذات وموظفات الخدمة المدنية والعالِمات. وفي المقابل، تحوَّلَ كثير من مجتمعات الطوائف الدنيا والمزارعين من دفع المال إلى أهل العروس إلى طلب مَهْرٍ منهم، في دلالةٍ واضحة على المكانة المتدنية لنسائهم. وقد أدَّى التوسُّعُ العمراني السريع وهجرةُ الذكور إلى زيادة عدد المشتغلات بالجنس.

تمثَّلت علامةٌ مشجِّعة في زيادة نسبة النساء اللائي يحق لهن التصويت في الانتخابات، من ٤٦٫٦٪ عام ١٩٦٢ إلى ٥٥٫٤٪ عام ١٩٦٧، و٥٩٫١٪ عام ١٩٧١. وفي مطلع السبعينيات أيضًا ظهرت بوادر حركة نسائية وليدة؛ حيث تأسَّست أولى المنظمات لحماية حقوق الموظفات والعاملات، وللاحتجاج على زيادة ارتفاع الأسعار.17
وكما كان الحال مع الطوائف الاجتماعية الدنيا، كانت ثمة طريقتان للنظر إلى المسألة؛ فمن أحد المنظورين، كانت المرأة لا تزال تتعرَّض لاستغلالٍ مُفجِع. ومن المنظور الآخَر، كان ثمة تقدُّمٌ قد أُحْرِز، عِلمًا بخط الأساس البالغ الانخفاض وقت الاستقلال والتاريخ التراكمي لقهر المرأة، الذي أضفت عليه التقاليدُ صبغةَ المشروعية؛ ففي حين ظل مستوى الإلمام بالقراءة والكتابة منخفضًا بدرجة صادمة، كان التطور الذي حدث منذ ١٩٤٧ «استثنائيًّا» كما يتبيَّن من جدول ٢١-١.
كانت أوضح المكاسب المتحققة في ولاية كيرالا في أقصى جنوب الهند؛ ففيها كانت نسبة النساء إلى الرجال ١٠١٩ إلى ١٠٠٠، لتصير بذلك الولاية الوحيدة التي زاد عدد النساء فيها عن الرجال، وقد احتلَّتِ المرتبةَ الأولى من حيث معدل أعمار الإناث (٦٠٫٧ عامًا)، ونسبة المتعلِّمات (تخطَّت ٦٠٪، مقارَنةً بمتوسط وطني أدنى من ٢٠٪)، وحصة الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية، ونسبة الولادات التي تجريها قابلات مدرَّبات. كذلك كانت كيرالا تتمتع بأقل معدل وفيات من المواليد الإناث، الذي بلغ ٤٨٫٥ في كل ألف ولادة.18

لم يكن وَضْعُ كيرالا استثنائيًّا فيما يتعلَّق بالمرأة فحسب، فالرجال هناك أيضًا كانوا أفضل تعليمًا وتمتعوا بمرافق صحية أفضل. وعبَّرت إحصاءاتها عن قدر أكبر من المساواة الاجتماعية. كما كان هناك حضور أكبر للطوائف الهندية الدنيا — حيث أُلغِيَت ممارسة النَّبْذ تقريبًا — فقد كانت حركةُ الاتحادات العُمالية متطورةً جدًّا فيها.

جدول ٢١-١: عدد الفتيات الملتحِقات بالمؤسسات التعليمية مقابل كل ١٠٠ فتًى، في عامَي ١٩٤٧ و١٩٧١.
المرحلة الابتدائية المرحلة الإعدادية المرحلة الثانوية الجامعة
١٩٤٧ ٣٦ ٢٢ ١٤ ١٩
١٩٧١ ٦٢ ٤٣ ٣٦ ٣١
لماذا كانت كيرالا مختلفة إلى هذا الحد؟ كما شرحنا في الفصل الرابع عشر، حَظِيَت كيرالا في تاريخها بمهراجات ومبشِّرين تقدُّميين، وحركات اجتماعية كبرى لكلٍّ من الطوائف والطبقات. وقد أخذتْ أولُ وزارة شيوعية في الفترة بين عامَيْ ١٩٥٧ و١٩٥٩ بهذه التقاليد الإصلاحية، ثم تجدَّدت في مطلع السبعينيات، عندما حكم الولايةَ ائتلافُ الحزب الشيوعي الهندي وحزب المؤتمر، تحت قيادة رئيس وزراء شيوعي — سي أشوتا مينون — فقد نقلت تلك الحكومة مساحاتٍ كبيرةً من الأراضي من مُلَّاك غائبين إلى مزارعين مستأجِرين، ومرَّرت قانونًا جديدًا للعمالة الزراعية بهدف رَفْعِ أجور الأشخاص الذين لا يملكون أراضيَ زراعيةً وتحسينِ أحوالهم المعيشية. وعلى الرغم من عجز تلك الإصلاحات عن تلبية مطالب المثقفين الراديكاليين، فقد كانت أكثر تقدُّمًا بكثير عن المتاح في أي مكان آخَر، مما زاد شهرةَ كيرالا بأنَّها، وإن لم تكن الولاية الأكثر مساواتيةً في الهند، فهي بالتأكيد أقلها ظُلمًا.19

٤

في مارس ١٩٧٣ عيَّنَتِ الحكومة رئيسًا جديدًا لقضاة المحكمة العليا. في الماضي، عندما كان رئيس القضاة يتقاعد، كان العضو الأكثر أقدميةً في هيئة المحكمة يتبوَّأ مقعدَه، ولكن في هذه المرة اختير القاضي إيه إن راي على الرغم من أنَّ ثلاثةً من زملائه كانوا يفوقونه في الأقدمية. كان لتعيينه دوافع سياسية، ومثَّل تعبيرًا عن رغبة الحكومة المتزايدة في السيطرة على القضاء. كان وزير القانون، إتش آر جوخال، قد تحدَّثَ — في البرلمان — بازدراءٍ عن لجوء المحكمة إلى «النظريات البالية التي عفى عليها الزمن لبلاكستون الذي اعتبر الملكية حقًّا طبيعيًّا». وحذَّرَ من أنَّ ذلك الاتجاه يقف في طريق التزام الحكومة بإعادة هيكلة «النسيج الاجتماعي والاقتصادي لبلدنا بأكمله … عن طريق زيادة تدخُّل الدولة باطِّراد».20
في السنوات الأخيرة كانت المحكمة العليا قد انتقدتْ محاولاتِ الإخلال بالهيكل الأساسي لدستور الهند. وفي قضيتَيْ تأميم البنوك وإلغاء مخصصات الأمراء، أصدرتِ المحكمة أحكامًا في غير صالح الحكومة، مُجْبِرةً إياها على استخدام سلطة البرلمان لتعديل الدستور. في ذلك الوقت، أَعْرَبَ القاضي كيه إس هيدج، في محاضرة عامة في بومباي، عن قلقه من أنَّ «مقتضيات السياسة والمصالح الشخصية لزعماء فرديين … أحدثَت انحرافًا في سَيْر الجهاز الإداري». ورأى أنَّ «الحكومة المركزية افتأت على السلطات المخصَّصة للولايات، بلجوئها إلى أساليب غير دستورية». وعلَّق على الفساد المتنامي، و«اللهاث المفرط وراء الثروات والمحسوبية».21

خلال الأسابيع الأولى من عام ١٩٧٣، استمعت المحكمة العليا إلى عريضةٍ تطعن في قانون جديد يمنح البرلمان سلطةً أكبر لتعديل الدستور. استمعت هيئة المحكمة بكاملها إلى المرافَعة، ثم صوَّتَ ستةُ قضاة على تقييد سلطة البرلمان بينما أقرَّها سبعة. كان ممَّنْ صوَّتوا لصالح الحكومة القاضي إيه إن راي، ومن ضمن الجانب الآخَر كان القاضي هيدج؛ فرُبِط تعيين راي بهذه القضية تحديدًا، إلى جانب رؤيةٍ أكثر شموليةً كان أشد معتنقيها بي إن هاكسر، مفادها أنَّ القضاة وموظفي الخدمة المدنية ينبغي أن يكونوا «ملتزمين» بسياسات الحكومة القائمة وفلسفتها.

كان ممَّن انتقدوا تعيينَ إيه إن راي، زعيم حركة سارفودايا، جايا براكاش نارايان؛ فقد كتب إلى رئيسة الوزراء سائلًا عمَّا إذا كانت تلك الترقية المخالِفة للأصول يُقصَد بها جعل المحكمة العليا «تابعة للحكومة الموجودة في السلطة»، فردَّت بأنَّ «الاستنتاج المتشائم» الذي خلص إليه نارايان «غير مبرَّر»، مضيفةً أنَّ التمسُّك الآلي «بمبدأ الأقدمية أدَّى إلى ارتفاع معدل تغيُّر رؤساء القضاة دون داعٍ».22 ناقد آخَر كان الخبير الدستوري إيه جي نوراني، الذي استنكر في مقال متأمِّل تسييسَ القضاة — الذين بدأ كثير منهم يتحدثون عن أمور خارج نطاق اختصاصهم تمامًا — والسلطة القضائية، كما تبيَّن في ترقية إيه إن راي وغيره من القضاة «التقدميين» المزعومين. وأبدى نوراني قلقه من أنَّه لا الصحافة ولا نقابة المحامين كانا متيقِّظين بما فيه الكفاية للأخطار المحدقة باستقلال القضاء. وحذَّر من أنَّه ما لم تُواجَه تلك التحديات، «فربما يجدر بنا تأهيل أنفسنا لفقد الحرية الفردية في الهند».23
والحقيقة أنَّه حتى قبل اختيار رئيس قضاة المحكمة العليا الجديد، كان كثير من المناصب الرئيسية في الحكومة قد عُهِد بها إلى مسئولين بيروقراطيين مشتركين مع السيدة غاندي ومستشاريها في أيديولوجيتهم الاشتراكية.24 وبحلول عام ١٩٧٣ كانت تلك الأيديولوجية قد امتدَّ نطاقها ليطول مجالات جديدة؛ فقد تشكَّلت لجنة للاحتكار والممارسات التجارية التقييدية، التي سعت إلى الحدِّ من نموِّ الشركات التجارية الكبرى وتشجيع الشركات الصغيرة عوضًا عنها. واستمر توسُّع القطاع العام، وتأميم المزيد من الصناعات الخاصة، وأصبح الفحمُ والنفط مملوكَيْن للحكومة. لكن على الرغم من ذلك، ضربتِ الهند أزمةَ النفط عام ١٩٧٣، وعند وقوعها ركبت رئيسةُ الوزراء من منزلها إلى البرلمان عربةً يجرُّها حصانٌ، في مشهد مذهل صحبته ضجة دعائية كبيرة.
في منتصف فترة حكم إنديرا غاندي الثالثة بَدَتِ الأمورُ تحت السيطرة، إلى حد أنَّها بدأت مفاوضات مع الشيخ عبد الله؛ فقد كان الوضع في وادي كشمير، موضع الخلاف المرير، قد تبدَّل بالنصر المحقق الذي أحرزَتْه الهند في حرب ديسمبر ١٩٧١؛ فبعدها قِيلَ إنَّ «قدرًا من خيبة الأمل» خيَّمَ على المعسكر الانفصالي؛ فحتى الراديكاليون في الوادي باتوا يتحدَّثون عن الوصول إلى تسويةٍ في إطار الدستور الهندي.25
وفي تصريحات الشيخ عبد الله نفسه الأخيرة، لم يوضِّح قصْدَه «بحق تقرير المصير»: هل كان الحكم الذاتي أم الاستقلال؟ فطوال عام ١٩٧١ أقام في دلهي، وهناك شهد بنفسه صعودَ السيدة غاندي إلى مرتبة الزعامة الوطنية. وقلَّلت الحربُ حيرتَه؛ إذ بَدَا له أن استقلال شعبه بات أمرًا مستبعَدًا تمامًا. وفي يونيو ١٩٧٢ التقى رئيسة الوزراء، وظلَّ فحوى محادثاتهما طيَّ الكتمان، ولكن بُعَيْد هذا اللقاء سُمِح له بالعودة إلى كشمير. وكما هي الحال دائمًا، استقبلَتْه حشودٌ كبيرة معظمها مهلِّل، إلا أنَّه كان ثمة معارِضون أيضًا رفعوا لافتاتٍ مفادها: «لا مساومة على كشمير»، و«نريد استفتاءً شعبيًّا».26
في عام ١٩٦٤، بدا أنَّ جواهر لال نهرو، بإرساله عبد الله لمقابلة أيوب خان، قد قَبِلَ أنَّ باكستان طرفٌ في نزاع كشمير، أما بعد تفكيك باكستان فقد أوضحت السيدة غاندي أنَّ ذلك الوضع لم يَعُدْ ساريًا؛ فبعد عودة عبد الله إلى الوادي، قال لشعبه إنَّه ينبغي لهم ألَّا يلتمسوا العونَ من إسلام أباد، وإنما أن يعملوا على التوصُّل إلى تسوية مُشَرِّفة مع نيودلهي. وفي سبتمبر، أثناء حديث الشيخ عبد الله في احتفالٍ بمناسبة عيد ميلاده السابع والستين، بلغ به الأمرُ حدَّ أنه قال: «أنا هندي والهند وطني.»27

كان عبد الله يأمل آنذاك أن يرجع بصفته رئيس وزراء جامو وكشمير، ويعمل من ذلك المنصب على زيادة الحكم الذاتي في الولاية؛ فقد أراد من الحكومة عقد انتخابات في منتصف المُدَّة، حيث كان متأكدًا من فوز حزبه — حزب المؤتمر الوطني الكشميري — بها. إلا أنَّ زعماء حزب المؤتمر الوطني الهندي في الولاية قاوَموا فكرته؛ إذ لم يكن في نيتهم التخلِّي عن مناصبهم بتلك السهولة.

خلال عامَيْ ١٩٧٢ و١٩٧٣ خاض ميرزا أفضل بيج ممثِّلًا عن الشيخ عبد الله، وجي بارتاساراتي ممثِّلًا عن رئيسة الوزراء، عدةَ جولات من المحادثات، ناقَشَا فيها كيفيةَ إعادة عبد الله إلى رئاسة حكومة الولاية دون إيذاء مشاعر الكشميريين ولا طموحات حزب المؤتمر.28

على الجانب الآخَر من جبال الهيمالايا، ظهرت علامات على أنَّ عددًا أكبر من أبناء ناجا أيضًا يفكِّرون في العيش داخل الهند؛ فمنذ إقامة ولايتهم عام ١٩٦٣، حكمها فصيلٌ متقبِّل لدستور الهند. ظلَّت الغابة تحوي بعض المتمردين، وشُنَّتْ هجماتٌ من حين لآخَر على قوافل الجيش والسياسيين المنتميين إلى التيار الرئيسي. ولكنْ كانتْ ثمة علاماتُ الحياة الطبيعية أيضًا؛ على سبيل المثال، في نوفمبر ١٩٧٢ جاء المُبشِّر بيلي جراهام ليَعِظَ الناس في كوهيما، وحضر ٢٥ ألفًا من أبناء ناجا لسماعه، مستقلِّين حافلاتٍ من جميع أنحاء الولاية. ألقى جراهام ثلاثَ مواعظ خلال ثلاثة أيام، أشاد فيها بجمال التلال، واستنكَرَ الحالةَ المتردِّية لكنائس المنطقة، وقال لأبناء ناجا: «سلموا للرب طريقكم.» وبعد مرور عام، لعب نادي كرة القدم الأبرز في الهند — موهون باجان — سلسلةً من المباريات الوُدِّية في كوهيما؛ ففي المباراة الأولى، «وسط حماس جارف وهتافات جمهور مُهَلِّل قارَبَ الخمسة عشر ألفًا»، هزم فريقٌ من كوهيما الفريقَ الزائر بهدف واحد، وفي اليوم التالي، رُدَّ شرف الهند عندما ربح فريق موهون باجان مباراةَ العودة بخمسة أهداف مقابل لا شيء.

في ١ ديسمبر ١٩٧٣، زارت إنديرا غاندي كوهيما بمناسبة الذكرى العاشرة لتحوُّل ناجالاند إلى ولايةٍ مكتملةِ الأركان ضمن الاتحاد الهندي. وفي خطابها — الذي استمع إليه نحو ١٥ ألفَ شخصٍ — حثَّتِ المقاومةُ السرية على «الخروج إلى العلن والاضطلاع بمسئوليات بناء ناجالاند». كان عدة مئات من المتمردين قد استسلموا بالفعل، وخرج المزيد منهم إلى السطح قبل انتخابات الولاية في فبراير ١٩٧٤؛ فقد ذاقت قبائلُ الناجا طعمَ الديمقراطية الهندية بحلوها ومُرِّها؛ ومن ثَمَّ، ففي وقتِ عقْدِ الانتخابات، اجتاح الشوارعَ رجالٌ يهتفون: ««انتخبوا …» بأعلى صوتهم»، لأنَّ «طبقًا من الأرز واللحم ورشفةَ خمرٍ وبضعَ أوراق نقدية هي كل ما يحتاجه الطائفون لالتماس الأصوات حتى ينطلقوا هاتفين لأي مرشَّح محتمل». وفي ذلك الوقت، كانت: «تتدفَّق الوعود بسخاء، خاصةً من جانب الوزراء؛ فالوعود تُقطَع ببناء نادٍ، ومستوصَف، وبنايات جديدة لمدارس مُهملة منذ زمن، وطريق حيث لا يوجد طريق … على الرغم من أنَّه طوال الأعوام العشرة الماضية لم يُفعَل شيءٌ من أجلهم».29
جلبت تلك الانتخاباتُ حكومةً ائتلافية إلى سُدَّة الحكم، تضمَّنت عدةَ متمردين سابقين قالوا إنَّهم يريدون العمل من أجل «تسوية نهائية تفاوضية»، يتم التوصُّل إليها «بالفكر لا السلاح». فأعربَتْ مجلةٌ في دلهي عن تفاؤلها وقالت: «بصفة عامة تمَّتِ استمالةُ قبائل الناجا، وإذا حوَّلت الحكومة الهندية مزيدًا من الأموال للتعليم وتوفير فرص عمل وللنمو الاقتصادي، فسوف يلين جانبُ «المتشدِّدين» بمرور الوقت، وسيحلُّ السلام حيث الحاجةُ إليه مُلِحَّةٌ وحيويةٌ في هذه الولاية الحدودية.»30

٥

واجهت الهند خلال مسيرتها بصفة الدولة المستقلة صراعاتٍ متعددةً؛ على الأرض واللغة والمنطقة والدين. ومن بين تلك الصراعات، ربما كانت متاعبُ كشمير وناجالاند هي الأكثر خطورةً؛ فمنذ عام ١٩٤٧، تمتَّع هذان المكانان بقيادات كاريزمية، تسعى إلى الحصول على دولة حرة خاصة بها. وقد لقيت رسالتُها صدًى واسعًا في أوساط الشعبَيْن. ولو كان الخيار متاحًا، لَكان من المحتمل جدًّا أن تختار أغلبيةُ سكان تلال ناجا ووادي كشمير الاستقلالَ عوضًا عن إقامة ولاية لهم داخل حدود الهند.

إلا أنه في فترة ١٩٧٣-١٩٧٤، كان الشيخ عبد الله يستعدُّ للانضمام إلى منظومة الحكم في كشمير، وكثير من متمردي ناجا كانوا قد خرجوا إلى العلن وشاركوا في الانتخابات؛ فقد خيَّم الهدوء على الطرفين اللذين غمرتهما الاضْطِرابات يومًا ما. وكأنما على سبيل التعويض، ثارت متاعب في قلب الهند، في مناطق لطالما اعتبرتْ نفسها جزءًا لا يتجزأ من جمهورية الهند؛ لأسباب تتعلَّق بالتاريخ والسياسة والتقاليد واللغة.

بدأت المتاعب في جوجارات، مسقط رأس غاندي، أبي الأمة. كانت تلك الولاية محكومة بنظام تابع لحزب المؤتمر اشْتُهِرَ بفساده؛ إذ شاعت تسمية رئيس الوزراء — تشيمان بهاي باتيل — بتشيمان «تشور» (أي، اللِّص)؛ ففي يناير ١٩٧٤، قاد الطلابُ حركةً مطالِبةً بإقالة حكومة الولاية، أطلقت على نفسها ناف نيرمان؛ أيْ «حركة التجديد». تحوَّلت الاحتجاجات إلى العنف، حيث أُحرِقت حافلات ومكاتب حكومية، وأُجْبِرَ تشيمان «تشور» على تقديم استقالته، ووُضِعَت جوجارات تحت «الحكم الرئاسي».31

ألهمت أحداثُ جوجارات الطلابَ في بيهار محارَبةَ سوء الإدارة في ولايتهم أيضًا؛ فبيهار كانت قد شَهِدَت قدرًا كبيرًا من عدم الاستقرار السياسي، صاحَبَه انشقاقاتٌ كثيرة وتشكيلُ حكومات عديدة ثم حلُّها. ثم جاء نظام من حزب المؤتمر إلى السلطة في عام ١٩٧٢، ولكنَّ الفساد كان مستشريًا فيه. كانت مشاعر السخط متغلغلةً في الريف، حيث اتسمت حيازةُ الأراضي بقدرٍ كبير من التفاوت، وفي المدن حيث حدث ارتفاعٌ حادٌّ في أسعار السلع الضرورية. كانت الجماعات اليسارية — بقيادة الحزب الشيوعي الهندي — قد شكَّلت جبهةً أهدافُها بسيطةٌ واسمها معقَّدٌ: «بيهار راجيا مَهانجاي أبهاب بيشا كار فيرودهي مزدور سوا كرمتشاري سانجهارشا ساميتي» (لجنة ولاية بيهار للعمال والموظفين المعنية بمحاربة ارتفاع الأسعار والضريبة المهنية). خلال الأسبوع الأخير من عام ١٩٧٣، نظَّمَتِ الجبهةُ سلسلةً من المظاهرات الشعبية، سُمِع فيها النداء: «أعطونا العملَ والطعامَ، وإلا أوقَفْنا الحياة.» وهو ما فعلوه بالضبط.

استثارت تلك الاحتجاجاتُ التي قادها اليسار منافَسةً مع اتحاد طلاب عموم الهند، ذي الصلة بحزب جانا سانج؛ فذلك الاتحاد وغيره من الجماعات الطلابية غير الشيوعية تجمَّعوا في جبهةٍ متحدةٍ خاصةٍ بهم، هي تشاترا سانجهارش ساميتي، التي نمَتْ بسرعةٍ وسرعان ما أصبح لها فروع في معظم بلدات الولاية. وسادت الإضراباتُ الحياةَ الدراسية، وتوقَّفَ التدريس في القاعات بغتةً.

وفي ١٨ مارس ١٩٧٤، خرجت جبهة تشاترا سانجهارش ساميتي في مسيرة إلى مجلس الولاية في باتنا. وعندما صدَّتها الشرطة، أضرمت الجماهير المتقهقرة النارَ في مبانٍ حكومية، ومخزنٍ لمؤسسة الغذاء الهندية، ومكتبَيْ صحيفتين. اشتبكت الشرطة مع المتظاهرين في مناطق عدة من المدينة، فأُصِيبَ عدة طلاب بجروح خطيرة، بينما قُتِلَ ثلاثة على الأقل. وذاع نبأ الاضْطِرابات، مما أثار اشتباكات بين الطلاب والشرطة في جميع أنحاء الولاية.32

عقب أحداث ١٨ مارس طلب الطلابُ من جايا براكاش نارايان أن يتقدَّم ليتولى قيادة حركتهم. كان جايا براكاش نارايان آنذاك في الحادية والسبعين من عمره، وصاحِبَ باعٍ طويل في الحركات المسلحة والسِّلْمية، وقد تبنَّى أو أثارَ مائةَ قضية معظمُها جديرٌ بالنضال. كان قد عمل في السنوات الأخيرة على إقامة صُلْح في ناجالاند وكشمير، وسعى إلى تفهُّم الناكسَل، وأقنع عصاباتِ وادي تشامبَل السيئةَ السمعة بإلقاء سلاحها. وقد وجد أنَّه يستحيل عليه رفْضُ دعوة الطلاب؛ فمنذ زمن بعيد كان هو نفسه قد بدأ حياته طالبًا راديكاليًّا. كان ذلك في ولاية ويسكونسن الأمريكية، وكان النداء صادرًا الآن من مسقط رأسه؛ بيهار.

في حياة جواهر لال نهرو، جمعته بنارايان مواقفُ عديدة؛ فقد حاوَلَ الرجل العجوز إقناعَ نارايان بالانضمام إلى مجلس وزرائه، ولكن نارايان آثَرَ البقاءَ خارجه، ومن موقعه هذا أخذ ينتقد نهرو ويوبِّخه، ولكنه على الرغم من ذلك كان مخلصًا لنهرو، وفُجِعَ بوفاته. ومن خلال صداقتهما، عَرَفَ نارايان ابنةَ نهرو أيضًا؛ فكان أحدَ أول مُهنِّئي السيدة غاندي عندما أصبحت رئيسة الوزراء، وفي الأعوام التالية كان كثيرًا ما يُسْدِي إليها النصح (دون طلبٍ منها). وقد أثنى على قيادتها إبَّان الحرب من أجل بنجلاديش، ولكنه كان أقل تقبُّلًا لسلوكها أثناء الانتخابات الرئاسية، وفيما يتعلَّق بإحلال قضاة المحكمة العليا وتبديلهم (كما رأينا).33
عندما طلبت تشاترا سانجهارش ساميتي إلى نارايان قيادةَ حركتها، وافَقَ بشرطين: أن تلتزم السِّلْميةَ بكل صرامةٍ، وألَّا تقتصر على بيهار. وفي يوم ١٩ مارس، بعد اشتباكات باتنا مباشَرةً، قال نارايان إنَّه لم يَعُدْ بإمكانه «الوقوف موقف المتفرِّج أمام سوء الحكم والفساد وما إلى ذلك، سواء أكان في باتنا أم دلهي أم أي مكان آخَر». وأردَفَ: «ليس هذا ما أردتُه بقتالي من أجل الحرية.» وآنذاك قرَّرَ «محاربةَ الفسادِ وسوءِ الحكم وممارساتِ السوق السوداء والتربُّحِ والاكتنازِ، والكفاحَ من أجل إحداث إصلاحٍ شامل للتعليم، ومن أجل ديمقراطية شعبية حقيقية».34
كان نارايان شخصيةً ذات نفوذ أخلاقي عظيم؛ إذ كان أحد أبطال معركة الحرية، الذين لم تلوِّثهم المكاسب المادية للمناصب العامة، بخلاف آخَرين كُثُر. وقد أعطى معركةَ بيهار دَفعةً هائلة، وغيَّرَ اسمها أيضًا؛ فما كان حتى تلك اللحظة «حركةَ بيهار» أصبح «حركةَ جايا براكاش». وقد طلب من الطلاب مقاطعةَ دروسهم، وترْكَ دراستهم لمدة سنة من أجل العمل على نشر الوعي بين الناس؛ فحدثَتِ اشتباكاتٌ في جميع أنحاء بيهار بين الطلاب الساعين إلى إغلاق المدارس والكليات، وبين الشرطة التي استدعتها السلطات من أجل إبقائها مفتوحةً. في المدن على الأقل، حَظِيَت الحركةُ بتأييد واسع الانتشار؛ ففي مدينة جايا — على سبيل المثال — أُغلِقَت المحاكمُ وأماكنُ العمل نتيجةَ «خروج ربَّات بيوتٍ من عائلاتٍ محترمةٍ في المدينة، نادرًا ما كُنَّ يُشاهَدن إلا من وراء حجاب، في إضرابات مع أولادهم الصغار». حاولت السلطات إخلاءَ الشوارع، ولكن ذلك أثارَ أعمالَ عنف؛ حيث راح الطلاب يُمطِرون الشرطةَ بوابل من الزجاجات والعِصِيِّ فردَّتِ الشرطة عليهم بالرصاص. وعندما هدأت حدة القتال، كُشِفَ عن ثلاثة قتلى، وعشرين مصابًا في حالة خَطِرة.35

حدثت واقعة جايا في منتصف أبريل ١٩٧٤، وحينذاك تجدَّدت الدعوة إلى حل مجلس الولاية التشريعي، وفرض الحكم الرئاسي اقتداءً بجوجارات. ويوم ٥ يونيو، قاد نارايان مسيرةً هائلة في شوارع باتنا، تُوِّجَت في مؤتمرٍ عند ميدان غاندي؛ حيث دعا نارايان إلى «ثورة شاملة» تعويضًا عن الوعود التي لم تَفِ بها حركةُ التحرير. وقال نارايان إنَّ الهند تحرَّرت منذ سبعة وعشرين عامًا، إلا أنَّ «الجوع، وارتفاع الأسعار، والفساد، هذه الأمور مُسْتَشِرية في كل مكان؛ فالشعب مطحون بين رَحى الظلم بكافة أنواعه».

وإذ تَوَجَّه بحديثه إلى الطلاب الحاضرين بين الجموع، حذَّر من أنَّ الطريق سيكون وَعِرًا، قائلًا: «ستضطرون إلى تقديم تضحيات، والتعرُّض لضروب من المعاناة، ومواجهة العِصِيِّ والرصاص، ودخول السجن. وستُصَادَر الممتلكات.» إلا أنه كان على قناعة بأنَّ الكفاح سيؤتي ثماره في النهاية، وهو ما عبَّر عنه بقوله: «غاندي جي تحدَّث عن نيل الحرية خلال عام واحد، واليومَ أنا أتحدَّث عن نيل حكم شعبي حقيقي خلال عام واحد؛ ففي غضون عام سيظهر الشكل الصحيح من التعليم. أعطونا عامًا واحدًا لبناء بلد جديد، بيهار جديدة.»36
جاء نارايان على ذِكْر لفظ «الثورة الشاملة» لأول مرة في ذلك المؤتمر؛ فكان اللفظُ، والكفاحُ، والأطرافُ المختارون لقيادته كلهم يذكِّرون بأنشطة رئيس الحزب الشيوعي الصيني قبل عقد من الزمان؛ ففي خريف عُمْر ماو تسي تونج، كان قد دعا الشباب — «الحرس الأحمر» في حالته — إلى تخليص المجتمع من صور الفساد المتراكمة فيه، والإطاحة بالرجعيين وأصحاب الميول الرأسمالية الذين يعترضون طريقَ إقامة المجتمع المثالي. أشار روبرت جاي ليفتون إلى أنَّ الثورة الثقافية استوجبها سخط ماو إزاء الفجوة بين التوقعات والواقع، وتطلُّعه بفارغ الصبر إلى إحداث تحوُّل في الصين قبل أن يبارح هو نفسه هذه الأرض. وأنا أجد هذه الحُجَّة مقنعةً، لا سيما أنَّها تساعد أيضًا على تفسير الأحداث التي وقعت في بيهار والهند عام ١٩٧٤؛ التحول المفاجئ إلى السياسة الراديكالية من جانب رجلٍ كان قد تنكَّرَ للسياسة برُمَّتها منذ أعوام طويلة؛ فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين انشغل نارايان بالعمل الاجتماعي والتوفيق بين الأطراف المتنازعة ومد جسور التفاهم بينها. ثم إنَّه في تلك اللحظة تَحَوَّلَ — على غرار ماو تسي تونج — إلى الطلبة، وإلى ما سمَّاه «يوفا شاكتي» (أيْ، قوة الشباب)، حتى يحقِّقوا الثورة الشاملة التي كان يحلم بها في أيام شبابه.37
فيما بين واقعة جايا وخطاب نارايان في باتنا، أُصِيبَت البلد بالشلل إثر إضراب في السكك الحديدية، قاده الاشتراكي جورج فرنانديس. دام الإضراب ثلاثة أسابيع، توقَّفت خلالها حركة الأشخاص والبضائع. شارَكَ في الإضراب مليون من عمَّال السكك الحديدية. وكانت السكك الحديدية الغربية، التي تخدم مركز الصناعة في البلد، هي الأكثر تضرُّرًا. وقامت تظاهرات عنيفة في بلدات ومدن متعددة، وفي عدة مناطق اسْتُدْعِيَ الجيش لإعادة السلام.38
وبينما استمرَّ الإضراب، قامت الهند بتجربة نووية؛ فلسنوات، كان العلماء يضغطون على الحكومة حتى تجري تلك التجربة من هذا النوع، وعندما وافقت رئيسة الوزراء أخيرًا، في مايو ١٩٧٤، كان ذلك يرجع إلى أنَّ التجربة ساعدت على تحويل الانتباه عن التحديات التي فرضها عمال السكك الحديدية والطلاب في بيهار. وقد بثَّ الانفجار في نفوس بعض الناس دفقةً من مشاعر الكبرياء الوطني؛ فحسبما كتب أحد الصحفيين، ساد «دلهي جوٌّ من الإثارة لا لبسَ فيه» عندما وصلت أنباءُ التجربة النووية، فقد اجتمع أعضاء البرلمان في القاعة المركزية بمبنى البرلمان لتبادل التهنئة؛ فبالنسبة إليهم «كان إضرابُ السكك الحديدية والمشكلاتُ الاقتصادية المتعددة التي يعاني منها البلد، قد توارَيَا فجأةً عن نظرهم».39
كان ثمة آخرون أقل انبهارًا بالحدث؛ إذ أشاروا إلى أنَّ عضوية الهند في النادي النووي لا يمكن أن تغيِّر حقيقةَ أنها تحتل المرتبة رقم ١٠٢ بين دول العالم من حيث دخل الفرد. وكذلك نُدِّدَ بالتجربة في باكستان، باعتبارها انتكاسةً في تطبيع العلاقات بين البلدين.40

عقب التجربة النووية، تبادلت السيدة غاندي سلسلة من الرسائل مع جايا براكاش نارايان، بدأت بنبرة مهذَّبة ولكنها انتهت بحدة؛ ففي يوم ٢٢ مايو، كتبت رئيسة الوزراء إلى نارايان مُعرِبةً عن قلقها حيال سوء حالته الصحية، وأملها في أنَّه نظرًا للصداقة الطويلة التي جمعت العائلتين، سيمكن التعبير عن خلافاتهما السياسية «دون مرارة شخصية أو تشكيك أيٍّ منهما في دوافع الآخر». ردَّ نارايان بأنَّ السيدة غاندي مخادعة؛ إذ إنَّها أشارت في خطابٍ ألقَتْه مؤخرًا في بوبانيشوار إلى مخالطة نارايان للأغنياء، و«إقامته في بيوت الضيافة الفاخرة لكبار رجال الأعمال». وقال إنَّ تلك التعليقات «آذتني وأغضبتني». ثم أضاف أنَّ تعليقاتها الأخيرة لم تبدُ «فيها إساءةُ فهمٍ بالغةٌ لي فحسب، وإنما فاتها أيضًا — في مجازَفةٍ بمواجهةِ عواقبَ مأساويةٍ — معنى الانتفاضة التي تختمر من أسفل».

ردت السيدة غاندي فورًا، موضِّحة أنَّه في تلك التعليقات عن قيادات حركة سارفودايا، «لم أذكر اسمك أو أوجِّه إليك أي تلميحات مستهزئة. لا يسعني أن أمنع بعض الصحف من إضافة تأويلها الخاص». (كان ذلك خداعًا بالفعل؛ فالتأويل الذي توصَّلت إليه الصحف كان هو التأويل الوحيد الممكن في تلك الظروف.) وأشارت إلى أنَّه حتى لو كان هو نفسه منيعًا أمام الفساد، فربما لم يكن شركاؤه مثله. ولهذا السبب كانت بعض أفكاره «التي تبدو لي مثاليةً إلى حدٍّ بعيد، ربما تنجح إذا كان الشعب كله يتألَّف من أمثال جايا براكاش». وكذلك شكَّكت السيدة غاندي في زعمه بأنَّه الضمير الأخلاقي للأمة، قائلةً: «اسمح لي أيضًا أن ألفت نظرك — بكل تواضع — إلى أنَّه من الممكن أنْ يكون ثمة آخَرون، قد لا يكونون من أتباعك، مهتمون بهذا البلد بالقدر ذاته، وبرفاهة الناس، والحاجة إلى تطهير الحياة العامة من الضعف والفساد.»

أنهى نارايان سلسلةَ الرسائل المتبادلة بعد ستة أسابيع من بدئها، فقال إنه كان يأمل أنْ تتحلَّى بالكياسة الكافية لأن توضح «علنًا» أنَّها في إدلائها بتلك التعليقات في بوبانيشوار لم تكن تطعن في نزاهته وشخصه. وقد تأذَّى من عدم تقديمها ذلك التوضيح؛ فعلى حد تعبيره: «أنا مجرد مواطن عادي، ولكني أحترم نفسي.» وما بدا واضحًا كان أنَّ «سوء التفاهم بيننا يزيد ولا يقل بمراسلاتنا».41
ثم حان وقت العودة إلى الحركة؛ ففي شهر أغسطس طاف نارايان أنحاء ريف بيهار، حيث لَقِيَ استقبالًا حافلًا؛ فقد دوَّن الصحفي أجيت باتَّاشارجي في مذكَّراته الوصف التالي: «جايا براكاش آتٍ في موكب … والمتفرِّجون مصطفُّون مهلِّلين في الطرقات. ثمة أقواس كلَّ مائة ياردة أو نحوها. السيارة تمرُّ ببطء من بين الحشود متَّجِهةً إلى المنصة. ثم يرتقي نارايان الدرجات بمساعدة معاونيه، متوقِّفًا عند كل درجة.» دعا نارايان بعد جولته إلى عقد مؤتمر لجميع الأحزاب المعارضة — عدا الحزب الشيوعي الهندي — بغية «توجيه الحماس السائد بين الناس نحو الحركة الشعبية على المستوى الوطني». وكتب نارايان أنَّ النضال في بيهار «اكتسب أهميةً على مستوى الهند قاطبةً، وقد أصبح مصيرُ البلاد مرتبطًا بنجاحه أو فشله». وناشد الاتحادات العمالية، ومنظمات الفلاحين، والهيئات المهنية أنْ ينضمُّوا إلى الركب.42
كان أحد أحزاب المعارضة على الأقل حاضرًا بالفعل في حركة جايا براكاش، أَلَا وهو: جانا سانج؛ فجناحه الطلابي — اتحاد طلاب عموم الهند — كان من المشاركين فيها منذ البداية، وقد بدأ ناشطوه الأكبر سِنًّا يتبوَّءون مناصبَ رئيسية في الحركة؛ فكتب أحد شركاء جايا براكاش الغانديين في انزعاج قائلًا: «إنَّ قيادةَ الحركةِ تنتقل إلى حزب جانا سانج، على المستويات المحلية على الأقل.» وأعرب عن قلقه أيضًا من أنَّ «الرجل العادي ليس مُلِمًّا بأساليب حركتنا وقِيَمها بعدُ، حيث لا تزال جاذبيتها بالنسبة إليه أقربَ إلى السلبية من أن تكون بنَّاءة».43

قدَّم آر كيه باتيل، موظف دائرة الخدمة المدنية الهندية السابق الذي أصبح فيما بعدُ أخصائيًّا اجتماعيًّا محترمًا في ريف مهاراشترا، نقدًا أكثر تفصيلًا لحركة جايا براكاش؛ فبناءً على دعوة جايا براكاش، قضى باتيل أسبوعين في بيهار، تنقَّلَ خلالهما في أنحاء الولاية وتحدَّثَ إلى شريحة عريضة متباينة من الناس. وفي رسالة طويلة (ومميَّزة) كتبها إلى نارايان — بتاريخ ٤ أكتوبر ١٩٧٤ — أقرَّ بأنَّه «لا يوجد شكٌّ في الحماس الشعبي الهائل المتولِّد عن الحركة»؛ فقد شاهَدَ «حشودًا غير مسبوقة تحضر اجتماعاتكم وسط صمت كامل». إلا أنَّ تلك الحشود تكون أقل انضباطًا عندما تتصرَّف من تلقاء نفسها، كما في الهجمات التي شنَّتْها على مجلس الولاية، وفي منع حاكم بيهار من إلقاء خطابه السنوي بالقوة.

وتساءل باتيل عمَّا إذا كانت وسائل الاحتجاج المتَّبَعة في بيهار متماشيةً تمامًا مع المعايير الغاندية، ولكنه مضى إلى أبعد من ذلك سائلًا: «ما النطاق المتاح للمقاوَمة السلمية والعمل المباشِر في ديمقراطيةٍ إجرائية كديمقراطيتنا؟» وقال باتيل إنَّ المطالبة بحلِّ مجلس منتخب بحسب الأصول، «تجعل انتفاضة بيهار منافيةً للدستور والديمقراطية على حدٍّ سواء». صحيح أنَّه يجب إصلاح العملية الانتخابية، بجعْلِها أكثرَ شفافيةً وتطهيرِها من تأثير السلطة والمال، إلا أنَّه ما إن تُعقَد انتخابات، فلا بد من احترام نتيجتها؛ لأنَّه «ما من سبيل آخَر للتحقُّق من الرأي العام للشعب في أي دولة قومية إلا عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة».

واختتم باتيل رسالته بقوله إنه «مدرك تمامًا للعيوب الظاهرة التي تشوب الحكومة التي ترأسها إنديرا غاندي». ولكنه على الرغم من ذلك لم يكن متأكِّدًا من «حكمة الاستعاضة عن قانون «الحكم بالمناقشة» بقانون «الحكم برأي الشارع العام»». وكتب باتيل إلى جايا براكاش قائلًا: «اليومَ أنتم قوةٌ تسعى إلى الخير، ولكنَّ التاريخَ سَجَّلَ أنَّ الجماهير يمكن أن تُفْرِز سفَّاحين أمثال روبسبير أيضًا. وربما كان هذا مبعثَ نفورِي الغريزي من الانتفاضات على شاكلة انتفاضة بيهار.»44
في يوم ١ نوفمبر ١٩٧٤، عقدت السيدة غاندي ونارايان اجتماعًا مطوَّلًا في نيودلهي، وافقت رئيسة الوزراء خلاله على إقالة وزارة بيهار، بشرط تخلِّي الحركةِ عن مُطالَبتِها بحلِّ المجالس التشريعية الأخرى في الولاية. ورُفِضَ ذلك الحل الوسط. كان الاجتماع حادًّا، وإنِ انتهى ببادرة مؤثِّرة تمثَّلت في إعادة نارايان الرسائلَ التي كتبَتْها والدة السيدة غاندي — كمالا نهرو — إلى برابهافاتي، زوجة نارايان التي كانت قد تُوُفِّيَت حديثًا.45
بعد مرور ثلاثة أيام، تعاملت الشرطة مع نارايان بخشونة وهو في طريقه إلى مؤتمر شعبي في باتنا. وبينما كان يتفادى إحدى عِصِيِّهم، تعثَّرَ وسقط على الأرض؛ فنُشِرت الصورة في جميع الصحف في اليوم التالي. كان رجلًا عجوزًا وكذلك مريضًا (مصابًا بمرض السكر)، وعلى الرغم من أنَّ إصابته كانت طفيفةً، فقد أثارت تلك الإهانة موجةَ غضبٍ عارمةً؛ فشُبِّهت إدارة بيهار بسالفتها الاستعمارية، وكما كتبت إحدى الصحف، في شيء من المبالغة: «كان نارايان ضحيةَ قمعِ الشرطة لأول مرة في تاريخ الهند الحرة.»46

٦

في سبتمبر ١٩٧٤، حصلت جمهورية الهند على رقعة أرض مثَّلت فيما مضى دولة سيكِّيم شبه المستقلة؛ ففي حين كان لسيكِّيم عَلَمها وعُملتها الخاصان بها، وحكَمَتْها سلالةٌ ملكية — عُرِفت بالتشوجيال — فقد كانت معتمِدةً على نيودلهي اقتصاديًّا وعسكريًّا. عام ١٩٧٣ بدأ بعض مواطني المملكة يطالبون بإنشاء مجلس نيابي؛ فطلب التشوجيال من حكومة الهند مساعدته على ترويض التمرُّد، ولكن عوضًا عن ذلك عملت نيودلهي على تأجيجه؛ فعندما اقتُرِح تشكيل مجلس تشريعي وأُجْرِيَت انتخابات، فاز الحزب الموالي للهند بجميع المقاعد عدا واحد؛ فأُجبِر التشوجيال على التنحِّي، وعُدِّل دستور الهند لجعل سيكِّيم «دولة منتسبة» للاتحاد الهندي، لها تمثيل في البرلمان.47
كانت سيكِّيم ولاية جميلة جدًّا، ولها حدود مشتركة مع الصين أيضًا؛ ففي أي وقت آخر، كانت رئيسة الوزراء ستجد راحة في هذه الإضافة لأراضي الدولة، ولكنَّ ضَمَّ سيكِّيم لم يقدِّم إلى السيدة غاندي سوى تشتيتٍ مؤقتٍ عن معركتها مع جايا براكاش نارايان؛ فبحلول نهاية عام ١٩٧٤، كانت حركة بيهار على وشك أن تصير حركة وطنية بحق؛ فقد تدفَّقت رسائل تأييد لنارايان من جميع أنحاء البلاد، وأرسل أحد أنصار نارايان في أندرا براديش رسالةً حيَّاه فيها على «فتح آفاق جديدة في عُمْرٍ يتقاعد الناس فيه»، وأعرَبَ عن كل «الإعجاب والاحترام للحركة التي تعمل تحت توجيهه».48 وكان سياسيون بارزون يزورون بيهار ويَعِدون بنقل أفكار النضال معهم إلى ولاياتهم. وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر، عقد نارايان اجتماعًا لأحزاب المعارضة في نيودلهي، أَعْرَبَ فيه عن رأيه المتمثل في أنَّ الدرس المستفاد من بيهار هو الحاجة إلى «إحداث تغييرات راديكالية في جميع الأنحاء، على الصعيد المؤسسي وكذلك الأخلاقي، تتضمن إحداث تغييرات جذرية في السياسات الحكومية في الحكومة المركزية وكذلك الولايات».49

قد يتراءى لنا اعتبار حركة جايا براكاش انبعاثًا جديدًا على مستوًى وطني للكفاح الشعبي ضد الحكومة الشيوعية في كيرالا في ١٩٥٨-١٩٥٩؛ فأوجه الشبه بين الحالتين غريبة، فمن ناحية كانت ثمة حكومة منتخَبة وفقًا للقانون اشتُبِه في رغبتها تقويضَ الدستور، ومن ناحية أخرى كانت ثمة حركة شعبية تعمل على استمالة أحزاب المعارضة وكثير من الهيئات غير السياسية. ومثل مانَّات بادمانابهان، كان جايا براكاش نارايان زعيمًا لا غبارَ على نزاهته، قديسًا اسْتُدْعِيَ لإنقاذ السياسة من براثن السياسيين. وكان سلوكه متناقِضًا تمامًا مع خصمه الرئيسي — أو هكذا بدا — فمثل إي إم إس نامبوديريباد في ١٩٥٨-١٩٥٩، لم تكن السيدة غاندي راغبةً في النزول على طلب خصومها والتنازل عن السلطة طوعًا.

كانت تلك خصومةً سياسيةً، ولكنها شخصيةٌ أيضًا؛ فبصفة جايا براكاش نارايان محارِبًا مُتَمَرِّسًا في المعركة من أجل الحرية، ورفيقًا لوالد السيدة غاندي، كان من المحتم أن ينظر إليها على أنَّها مبتدِئةٌ نوعًا ما. أما رئيسة الوزراء، فنظرًا لكونها رَبِحَت انتخاباتٍ وحربًا مؤخَّرًا، فقد رأت جايا براكاش ساذجًا سياسيًّا، والأجدر به أن يكتفي بالعمل الاجتماعي.

بحلول نهاية عام ١٩٧٤، كان الاستقطاب شبه كامل؛ فكثير من الهنود لم يكونوا منتمين إلى حزب جانا سانج اليميني، ولكنهم على الرغم من ذلك رأوا حزب المؤتمر مفرطَ الفساد، والسيدة غاندي مفرطة التبلُّد في مواجهة الانتقادات. وبلغ الأمر بالبعض حدَّ الإشادة بحركة جايا براكاش باعتبارها «النضال الثاني من أجل الحرية»، الذي يعمل على إتمام المهمة التي لم يُكمِلها النضال الأول. وكان ثمة هنودٌ كثيرون آخَرون، لا ينتمون بالضرورة إلى حزب المؤتمر، ولكنهم تضرَّروا من اتحاد جايا براكاش مع حزب جانا سانج في قضيته، ورأوا حركته على أنَّها تُقَوِّض مؤسسات الديمقراطية النيابية؛ فكان النوع الأول من الهنود ينتقد إنديرا غاندي بشدة، بينما انْتَقَدَ النوع الثاني جايا براكاش، وإن كان أقل حماسةً في انتقاداته.50
في الأسبوع الأول من يناير ١٩٧٥، اغْتِيلَ أحد كبار مساعدي رئيسة الوزراء في ولاية نارايان، بيهار. كان ذلك هو إل إن ميشرا، الذي حمل عدة مناصب في وزارة الاتحاد تحت رئاسة السيدة غاندي، والأهم من ذلك أنَّه كان من أكبر جامعي الأموال لحزب المؤتمر. كان ميشرا سياسيًّا عديمَ الأيديولوجية كليًّا، جمَعَ مبالغَ كبيرةً من المال من الاتحاد السوفييتي وطبقة رجال الأعمال الهنود. لم يكن واضحًا مَن اغتاله؛ خصم شخصي أم أحد أعضاء الاتحادات العمَّالية الذين شعروا بالمرارة إزاء دور ميشرا في قمع إضراب السكك الحديدية عام ١٩٧٤. وقد ألقت رئيسة الوزراء مسئوليةَ الاغتيال على عاتق «مذهب العنف» الذي زعمت أنَّ جايا براكاش نارايان وحركته يُرَوِّجان له.51
لم يُعَطِّل مقتل ميشرا خططَ نارايان للخروج في مسيرة إلى البرلمان في الربيع، عندما يصير الطقس أكثر ترحابًا بمجيء المحتجين من جميع أنحاء البلاد. وطوال شهرَيْ يناير وفبراير تنقَّل نارايان عبر أنحاء الهند قاطبة لحشد الدعم،52 وحَثَّ الناس في خُطَبه على التزام السِّلم، وقال إنَّ أي أحداث غير مُوَاتِيَة ستدفع رئيسةَ الوزراء إلى فرض سلطات دكتاتورية. وزعم في عدة مناطق أنَّ السيدة غاندي تبحث عن عُذْرٍ للقبض عليه، وتنبَّأ بأنَّ ذلك لن يفلح إلا في زيادة انتشار الحركة، كما عام ١٩٤٢، عندما اشتدَّت حدة حركة «ارحلوا عن الهند» لاعتقال المهاتما غاندي.

قارَنَ جايا براكاش نفسه بغاندي ضمنيًّا، وقارَنَ بوضوح أكبر بين نظام حزب المؤتمر والدولة الاستعمارية. كانت تلك مقارناتٍ رفضَتْها رئيسةُ الوزراء بطبيعة الحال؛ ففي حوار أجرته معها صحيفةٌ يابانية، قالت إنه في حين إنها لم تكن متأكدة مما تسعى إليه حركة جايا براكاش، «فما تعمل ضده واضحٌ؛ إنها ضد حزبي، وضدي شخصيًّا، وضد كل ما دافعتُ عنه من قبلُ وما لا أزال أدافِعُ عنه اليومَ».

والحقيقة أنَّه بحلول ذلك الوقت، كان بعض الأعضاء في حزب السيدة غاندي متعاطفين مع الجانب المقابل. كان منهم اثنان ممَّن كان يُطلَق عليهم قبلًا «الشباب المتمرِّدون»؛ هما: تشاندرا شيكار وموهان داريا؛ فقد دعا شيكار وداريا إلى إقامة حوار وطني بشأن ارتفاع الأسعار والفساد والبطالة، وهي القضايا التي قالا إنها احتلَّتْ مكانةً بارزةً في بيان حزب المؤتمر نفسه لعام ١٩٧١.

علَّقَ رجلٌ آخَر بين هذا الجانب وذاك، وهو الشيخ محمد عبد الله؛ فقد توصَّل إلى اتفاق مع الحكومة أخيرًا، ينتخبه بموجبه حزبُ المؤتمر التشريعي في جامو وكشمير زعيمًا له، ومن ثَمَّ رئيسًا لوزراء الولاية أيضًا. ثم ذهب إلى مؤسسة غاندي للسلام قبل تنصيبه بيومين، لنيل بركة صديقه ومؤيده القديم، جايا براكاش نارايان؛ فحملتِ الصحفُ صورةً لهما في عناق قوي، بَدَتْ فيه قامةُ الكشميري فارعةً إلى جوار تلميذ غاندي.

قال جايا براكاش للصحافة إنَّه يُرحِّب بعودة الشيخ إلى كشمير؛ إذ كانت الولاية — على حد قوله — بحاجة إلى الشيخ عبد الله ليدير دفَّتَها، لكنَّ أصدقاءه في حزب جانا سانج هاجموا الاتفاقَ الذي أعاد «أسد كشمير» إلى السلطة. وزعم رئيس الحزب — إل كيه أدفاني — أنَّ عبد الله لا يزال «يريد استخدام أداة السلطة لتحقيق طموحه في نيل الاستقلال لكشمير». ونظر آخرون إلى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا؛ فبعدما أدَّى الشيخ قَسَمَ رئاسة الوزارة يوم ٢٥ فبراير، وصفت صحيفة «إنديان إكسبريس» الحدثَ بأنَّه «حدث ملحمي في تاريخ الهند الحرة». فقد مثَّلت عودةُ عبد الله إلى منصبه القديم، بعد ثلاث وعشرين سنة من إرغامه على تركه، «شهادةً على صلابة الديمقراطية الهندية ونضجها؛ إذ إنَّه لا يمكن التوفيق بين أخطر الخلافات وعقد المصالحات في إطار الولاء المشترك للبلاد إلا في ظل نظام ديمقراطي بحقَّ».

بدا أنَّ مسألة كشمير قد حُلَّت أخيرًا، وكان جايا براكاش مسرورًا جدًّا بعودة الشيخ عبد الله إلى التيار الرئيسي؛ فكان متفقًا في ذلك الأمر — ربما دون سواه — مع السيدة غاندي؛ ففي نفس اليوم الذي أدَّى فيه عبد الله القَسَم في جامو، دعا نارايان إلى «هَبَّة وطنية» لإبعاد «زعماء حزب المؤتمر الفاسدين عن السلطة»، وانضمَّ إليه حزبُ جانا سانج في دعوته على الرغم من معارضته إياه بشأن كشمير؛ فهكذا كانت تناقُضات السياسة الهندية.

في ٢ مارس، قبل المسيرة المقرَّرة إلى البرلمان بأربعة أيام، أخرجَتِ السيدة غاندي موهان داريا من مجلس وزرائها، وكان خطؤه أنَّه طلب منها استئنافَ المحادثات مع نارايان؛ فاستجاب نارايان بمطالبة الوزراء القدامى من قبيل واي بي تشافان وجاجيفان رام بتقديم استقالتهم على سبيل الاحتجاج، ومن ثَمَّ «إنقاذ حزبهم من الدمار» واستعادة «قِيَمه الأساسية».

في ٣ مارس، عقد مفتش الشرطة العام في دلهي اجتماعًا بخصوص كيفية التعامل مع المحتجين الذين سيَفِدون في الأيام المقبلة؛ فتقرَّر أنَّ يكون ١٥ ألفَ شُرطيٍّ على خط المواجهة. وبغية الحدِّ من عدد المشاركين في المسيرة، حظرت الإدارةُ دخولَ الشاحنات والحافلات من الولايات المجاورة.

على الرغم من الحظر على الحافلات، بدأ الناس يتوافدون إلى العاصمة، وسكنوا في مخيَّمات خارج القلعة الحمراء، أصبحت تُدعَى الآن جايا براكاش ناجار. وصبيحة يوم ٦ مارس، بدءوا المسيرَ صوبَ مكان المؤتمر الشعبي؛ مروج نادي القوارب، الملاصقة لمَقرَّيْ غرفَتَيِ البرلمان. قاد المسيرةَ جايا براكاش نارايان، في سيارة جيب مكشوفة. هتفت الحشود المتجمِّعة على طول الطريق مهلِّلةً لنارايان، الذي قدَّم لهم أطواق الزهور وأمطَرَهم ببتلات الورد. وكانت الشعارات المعروضة موجَّهةً إلى خصمه بالأساس؛ فقال أحدها بالإنجليزية ما مفاده: «أَخْلِ العرشَ؛ فالشعب قادم.» ونصَّ شعار مشابه لكنه مكتوب باللغة الهندية على ما يلي: «قلب الشعب يُغَرِّد: نظام إنديرا يتداعى.» وأتَتْ خلف نارايان سياراتٌ جيب تحمل زعماءَ الأحزاب المعارضة؛ فكانت إجمالًا إحدى أكبر المسيرات التي شُوهِدَت في دلهي يومًا، وقُدِّر أنَّ عدد المشاركين فيها بلغ ٧٥٠ ألفَ شخص. تضمَّنت المسيرة ممثلين عن الهند كافة، لكن أكبر الجماعات المشارِكة بلا منازع جاءت من ولايتَيْ أوتَّر براديش وبيهار.

عند مروج نادي القوارب، تحدَّث جايا براكاش في «صوت مشحون بالمشاعر»، وقارَنَ أحداثَ ذلك اليوم بمسيرة غاندي التاريخية؛ «مسيرة الملح»، وطلب من الجماهير أن تتأهَّب لنضال طويل. وبعد المؤتمر، تزعَّمَ وفدًا إلى البرلمان؛ حيث قدَّمَ لرئيسه قائمةً بمطالب الحركة. تضمَّنَتِ المطالبُ حَلَّ مجلس بيهار التشريعي، وإصلاحاتٍ انتخابيةً، وإقامةَ محاكمات للتحقيق في مزاعم انخراط حزب المؤتمر في فساد مُتَفَشٍّ.

ردَّتِ السيدة غاندي على نارايان بعد يومين، في خطابٍ ألقَتْه في مدينة روركيلا، مَعْقِل صناعة الصُّلب؛ فقالت إنَّ المُحَرِّضين على الاضْطِرابات عازمون على تدمير نسيج الديمقراطية الهندية. ودون ذِكْر اسم عدوها، ادَّعت أنَّ حركته تتلقَّى تبرُّعات من الخارج.

وفي يوم ١٨ مارس، قاد نارايان مسيرةً إلى باتنا بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الحركة، تضمَّنتِ المسيرةُ كثيرًا من الغناء والرقص وقَذْف الألوان؛ إذ تزامَنَ ذلك اليومُ مع مهرجان الألوان («هولي») أيضًا. وحثَّ نارايان في خطابه على إنشاء حزب معارضة واحد، أو على الأقل، جبهة مشتركة لمحاربة حزب المؤتمر في جميع الانتخابات المستقبلية.

كانت لحركة نارايان جذورٌ راسخة في الولايات الشمالية، وكان لنارايان مؤيدون في الغرب، خاصةً في جوجارات، ولكن الجنوب كان منطقةً لا تزال خارج نطاق نفوذه في معظمها؛ ومن ثَمَّ شرع في جولة طويلة في الولايات الواقعة جنوبَ سلسلة جبال فيندهيا؛ حيث اجتذَبَ حشودًا لا بأسَ بها وإن لم تكن هائلةً بأي حال؛ ففي تاميل نادو، تذكَّر الناس بامتنان أنَّه عارَضَ فرْضَ اللغة الهندية.53

٧

بينما أخذت حركة جايا براكاش تكتسب زخمًا، واجهتْ رئيسة الوزراء تحدِّيًا من نوعٍ آخَر، ليس في صورة ترديد شعارات متحمِّسة في الشوارع، وإنما بلُغة القانون الباردة. كان مشهد ذلك الحدث هو المحكمة العليا في الله أباد، التي قُدِّمَ إليها التماس من جانب راج ناراين، الاشتراكي الذي خَسِرَ أمام السيدة غاندي في انتخابات رايباريلِّي البرلمانية لعام ١٩٧١. زعم الالتماس أنَّ رئيسة الوزراء فازت بواسطة ممارسات فاسدة، لا سيما إنفاق المال بقدر أكبر من المسموح به، واستخدام الأجهزة الرسمية وموظفي دوائر الخدمات الحكومية في حملتها الانتخابية. استمرت القضية طوالَ عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٤، اللذين قُدِّمت خلالَهما الحججُ والحججُ المضادة إلى القاضي، جاج موهان لال سينها.54
وفي يوم ١٩ مارس ١٩٧٥، أصبحت إنديرا غاندي أول رئيسة وزراء هندية تُستَدعى للشهادة في المحكمة. قضت خمسَ ساعات على منصة الشهود، ردَّتْ خلالها على أسئلة بخصوص حملتِها الانتخابية. كانت رئيسة الوزراء قد تركت ابنها سانجاي في دلهي، أما مَن حضر معها فكان ابنها الأكبر راجيف، الذي «اصطحب زوجته الإيطالية، سونيا، لمشاهدة منزل عائلة نهرو» بينما مثلت والدته أمام المحكمة.55

في شهر أبريل، بدأ مورارجي ديساي — الذي كان خصم السيدة غاندي حتى قبل نارايان — صومًا عن الطعام في جوجارات احتجاجًا على استمرار الحكم الرئاسي فيها؛ فتراجعت نيودلهي، وأمرت بعقد انتخابات في يونيو. وبدأت أحزابُ المعارضة عمليةَ تشكيلِ جبهةٍ مشتركةٍ لمحاربة حزب المؤتمر.

عندما ذهبت جوجارات للاقتراع، في الأسبوع الثاني من يونيو، قال إل كيه أدفاني إنَّ الحملة الانتخابية «سرَّعت وتيرةَ استقطابِ الأحزاب السياسية، وسوف يعمل حزب جانا سانج على تعزيز هذه العملية». فقد كان يتطلَّع إلى زيادة قوة حزبه «أضعافًا مُضاعَفةً».56
أثناء إحصاء الأصوات، تحوَّلَ الانتباه إلى المحكمة العليا في الله أباد؛ ففي صبيحة يوم ١٢ يونيو، في قاعة رقم ١٥ — من محكمةٍ مارَسَ فيها كلٌّ من والد السيدة غاندي وجدِّها عملهما — قرأ القاضي سينها حكمه في القضية التي رفَعَها أمامَه راج ناراين منذ ثلاثة أعوام؛ فحكم ببراءة رئيسة الوزراء في اثني عشر اتهامًا من إجمالي أربعة عشر. أما الاتهامان اللذان أدانها فيهما، فكانا؛ أولًا: أنَّ حكومة أوتَّر براديش أقامت منابر خطابية عالية حتى تتيح لها مخاطبة اجتماعاتها الانتخابية «من موقع مسيطر»، وثانيًا: أنَّ مسئول حملتها الانتخابية — ياشبال كابور — كان لا يزال موظَّفًا حكوميًّا وقتَ بدء الحملة الانتخابية؛ فبموجب هذا الحكم، أصبح انتخابها إلى البرلمان باطلًا. إلا أنَّ سينها سمح للسيدة غاندي إيقاف الحكم الصادر عنه عشرين يومًا، لإتاحة الاستئناف أمام المحكمة الهندية العليا.57

كان ذلك اليوم — ١٢ يونيو — يومًا سيئًا جدًّا على السيدة غاندي؛ فقد عرفت في الصباح الباكر أنَّ معاونها القديم، دي بي دهار، تُوُفِّيَ أثناء الليل. وبعدها بقليل جاءت الأنباء من جوجارات، التي كانت كئيبةً أيضًا، ومفادها أنَّ «جبهة جاناتا» بصدد تحقيق أغلبيةٍ في انتخابات الولاية. وأخيرًا جاءت هذه الضربة الأخيرة والأكثر دلالةً، من بلدتها الله أباد.

أثار الحكمُ اهتمامًا مفرطًا بنوايا القاضي؛ فقد تلقَّى القاضي سينها تعليمَه في جامعة عليكرة، ومارَسَ القانون في باريلِّي لمدة أربعة عشر عامًا قبل أن يصبح قاضيَ محكمة المنطقة. عُيِّنَ في المحكمة العليا في الله أباد عام ١٩٧٠، وزعم البعض أنَّ حكمه كان مُتَحَيِّزًا بسبب انتمائه إلى طائفة كَياستا مثل جايا براكاش، وظنَّ آخَرون أنَّه في الأيام السابقة على صدور الحكم عرَضَ عليه رجالُ رئيسة الوزراء مقعدًا في المحكمة الهندية العليا لو حكم لصالح السيدة غاندي.58

كان ما أبطل انتخاب السيدة غاندي اتهامًا ثانويًّا إلى حدٍّ بعيد، إلا أنَّ حكم القاضي سينها رَكَّزَ المخيلة الشعبية أيضًا على أخطر الاتهامات التي وجَّهَتْها إليها حركةُ جايا براكاش؛ ففي اليوم التالي على صدور الحكم، بدأ السياسيون المعارِضون اعتصامًا سلميًّا أمام القصر الرئاسي، مطالِبين الرئيسَ بإقالة رئيسة الوزراء «الفاسدة». وفي باتنا، أصدَرَ جايا براكاش بيانًا قال فيه إنَّه سيكون مدعاةً «للعار والسخرية» إنِ استمعَتِ السيدة غاندي إلى «أعوانها المتملِّقين» وبقيت في منصبها، وأشار كذلك إلى أنَّ نتائج الانتخابات في جوجارات تلمح إلى أنَّ «موجة إنديرا» و«سحر إنديرا» صارَا من الماضي.

على صعيد آخَر، كان الأعوان المتملقون شديدي الانشغال؛ ففي ١٣ يونيو، بدأ بانسي لال، رئيس وزراء هاريانا المنتمي إلى حزب المؤتمر، يجلب المؤيدين إلى دلهي كي يعلنوا ولاءَهم للسيدة غاندي على الملأ؛ فامتلأت الشوارع المواجِهة لمنزل السيدة غاندي عن آخِرها بمعجبيها، وراحوا يهتفون بشعارات موالية لها ويحرقون دُمًى على شكل القاضي سينها. خرجت السيدة غاندي لتتحدَّث إليهم، قائلةً إنَّ القوى الأجنبية تتآمر مع معارضيها في الداخل للتخلُّص منها، وزعمت أنَّ خصومها لديهم «أموال طائلة تحت تصرُّفهم».

كلَّ يوم كانت مجموعة جديدة من المؤيدين تحتشد أمام منزل السيدة غاندي، وكلَّ يوم كانت تخرج للتحدُّث إليهم. استنكر بعض أعضاء حزب المؤتمر في دخيلة أنفسهم تلك المظاهرات الشعبية، بينما شجَّعها البعض الآخَر علنًا. وقد تحدَّث رئيس حزب المؤتمر، ديف كانتا باروا، في اجتماع لحزب المؤتمر بدلهي، قال فيه إنَّ «القوانين يصنعها الشعب، وقائدة الشعب هي السيدة غاندي». القضاة والمحامون — ومنهم إم سي تشاجلا، المحامي البارز الذي أصبح قاضيًا، والذي كان عضوًا في وزارة السيدة غاندي نفسها ذات يوم — رأوا أنَّ رئيسةَ الوزراء مُلزَمةٌ أخلاقيًّا بتقديم استقالتها، على الأقل حتى يُنظَر في الاستئناف ويُحسَم أمره. من ناحية أخرى، وقَّعَ ٥١٦ نائبًا برلمانيًّا من حزب المؤتمر عريضة تحثُّها على البقاء، ووقَّعَ عشرة آلاف عضوٍ في حزب المؤتمر من كارناتاكا عريضةً مشابِهةً، بالدم. وفي منتصف الجدال في هذا الشأن، تعالَى صوتٌ من الجانب الآخر للحدود؛ فقد أعرب ذو الفقار علي بوتو عن قلقه من أن تجد السيدة غاندي سبيلًا للخروج من صعوباتها عن طريق «مسارٍ مغامِر ضد باكستان».

في ٢٠ يونيو، ألقَتِ السيدة غاندي خطابًا أمام تجمُّع هائل على مروج نادي القوارب، قِيلَ إنَّ مليونًا من الناس حضروا التجمُّع، وهو عدد أكبر من عددِ مَن حضروا لسماع جايا براكاش في البقعة ذاتها قبل ثلاثة أشهر. زعمت رئيسة الوزراء في حديثها أنَّ المعارضة مُصِرَّةٌ على تصفيتها جسديًّا. وتحدَّث دي كيه باروا بعدها، فقرأ بيتين من الشعر كان قد ألَّفهما بتلك المناسبة، مفادهما:

يا إنديرا، يحيا صباحك ومساؤك
وعظُمَ عملك واسمك.

بعد يومين، ردَّت المعارضة بتجمُّع خاص بها، حضره مئات الآلاف، على الرغم من الأمطار الغزيرة. كان نارايان هو المتحدث الرئيسي، ولكنَّ رحلته من كلكتا أُلْغِيَت في آخِر لحظة (قالت الخطوط الجوية الهندية إنَّ ذلك بسبب «عطل فني»)؛ فتحدَّث ممثِّلو أحزاب المعارضة الرئيسية، ودعا مورارجي ديساي إلى إنشاء حركة «حياة أو موت» للتخلُّص من نظام إنديرا غاندي.

في يوم ٢٣ يونيو، بدأت المحكمة الهندية العليا النظر في استئناف السيدة غاندي. وفي اليوم التالي، أصدَرَ القاضي في آر كريشنا وقفًا مشروطًا لحكم المحكمة العليا في الله أباد؛ فقال إنَّ السيدة غاندي بإمكانها أن تحضر جلسات البرلمان، ولكن لا يمكنها التصويت حتى يُنظَر في الاستئناف بالكامل ويصدر حكمٌ بصدده؛ فرأت صحيفة «إنديان إكسبريس» أنَّ ذلك معناه أنَّ السيدة غاندي «يجب أن تستقيل فورًا لمصلحة الأُمَّة ومصلحتها الشخصية».

بحلول ذلك الوقت، كان بعض كبار أعضاء حزب المؤتمر على الأقل يرون أنَّ الاستقالة ستكون في مصلحة الحزب أيضًا؛ فإذا لم يكن بإمكان إنديرا غاندي التصويت في البرلمان، فمن الصعب أن تقود حكومتها في أي شأن؛ فنُصِحَت بالتنحِّي من منصبها مؤقتًا ووَضْع أحد زملائها في مجلس الوزراء — شخصية توافقية مثل سواران سينج مثلًا — محلَّها حتى تُقِرَّ المحكمةُ الهندية العليا استئنافَها (كما كان محاموها واثقين من أنَّه سيحدث)، ممَّا يسمح بعودتها رئيسةً للوزراء.

كان ممَّن ثَنَوْا السيدةَ غاندي عن الاستقالة ابنُها سانجاي ورئيسُ وزراء غرب البنغال، سيدارتا شانكار راي، المحامي المحنك الذي جاء من كلكتا للوقوف إلى جوارها. وقد أخذت السيدة غاندي بنصيحتهما دون تردُّد؛ فكما قالت السيدة غاندي فيما بعدُ لأحد مدوِّني سيرتها: «ماذا كان يسعني أن أفعل سوى أن أبقى؟ أنت تعلم حالة البلاد آنذاك؛ فماذا كان سيحدث لو أصبحتْ بلا قائدٍ؟ كنتُ أنا الشخصَ الوحيدَ القادرَ على قيادتها، كما تعلم.»59

ما إن اتُّخِذ القرار، نُفِّذ بسرعة مدهشة؛ ففي ٢٥ يونيو، ساهَمَ إس إس راي في صياغة مرسوم يعلن حالة الطوارئ الداخلية، وقَّعَه الرئيس الطيِّع فخر الدين علي أحمد ما إن وُضِع أمامه. وفي تلك الليلة، قُطِعَ إمداد الطاقة عن صُحُف دلهي كافة، ومن ثَمَّ لم تصدر نُسَخٌ منها يوم ٢٦ يونيو، وهجمت الشرطة على زعماء المعارضة، فأودعت جايا براكاش نارايان ومورارجي ديساي وآخَرين كُثُرًا السجن. وفي اليوم التالي، عرف الشعب في دلهي، وفي الهند قاطبة، من خلال الإذاعة المملوكة للدولة أنَّ حالة الطوارئ قد أُعْلِنَت، وعُلِّقَت الحريات المدنية كافة.

في ذلك الوقت وبعده، ارْتُئِي أنَّ رد الفعل ذاك تجاوز الاستفزاز الأصلي بكثير؛ فالقاضي سينها أدان السيدة غاندي بتهمتين تافهتين، وكان تأويلُ المحكمة العليا الهندية لارتفاع المنصة باعتباره «ممارسة انتخابية سيئة» احتمالًا أبعد. أما عن التهمة الثانية، فقد استقال ياشبال كابور من الخدمة الحكومية قبل الالتحاق بالحملة الانتخابية، وإن كان ثمة بعض الخلاف على تاريخ قَبول استقالته؛ فكان معظم المحامين يعتقدون أن المحكمة الهندية العليا سوف تبطل حكمَ المحكمة العليا في الله أباد، إلا أنَّه على حدِّ تعبير أحد الفقهاء القانونيين المحترمين في دلهي، فقد نبذت رئيسة الوزراء «مزايا الحل القضائي الطبيعي المتمثِّل في الاستئناف، ولجأت عوضًا عنه إلى تدابير الطوارئ الاستثنائية، غير الديمقراطية وغير الدستورية».60

قبل إعلان حالة الطوارئ بأربعة أشهر فحسب، حيَّتْ صحيفة «إنديان إكسبريس» «صلابة الديمقراطية الهندية ونضجها»، ذاكِرةً أنَّها أتاحت «التوفيق بين أخطر الخلافات وعقد المصالحات». والآن اضْطُرَّت الصحيفة إلى سحب كلامها؛ فالديمقراطية الهندية في نحو عام ١٩٧٥ تمكَّنَتْ من التوفيق بين وادي كشمير والاتحاد الهندي، ولكن ليس بين إنديرا غاندي وجايا براكاش نارايان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤