الفصل السادس والعشرون

الحقوق وأعمال الشغب

كانت لغة الجماهير الغاضبة هي لغة الرأي العام الوحيدة المتحررة من النفاق والتحفُّظ.

حَنة أرِنت

١

كانت السمة الأبرز على الساحة السياسية الهندية في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، في ظل الفوز بالانتخابات العامة وتلك الخاصة بالولايات وخسارتها، هي صعود «الطوائف الاجتماعية المتخلفة»، وهي الفئات التي احتلَّت المرتبة المتوسطة بين الطوائف الْمُجَدْوَلَة في قاع الهرم الاجتماعي، والبراهمة والراجبوت في قمته؛ فطوائف الياداف في أوتر براديش وبيهار، والجات في البنجاب وهاريانا، والماراثا في مهاراشترا، والفوكَّاليجا في كارناتاكا، والجوندر في تاميل نادو، كانت تلك — حسب تعبير سرينيفاس — هي «الطوائف الاجتماعية المسيطرة» كلٌّ في منطقتها؛ فقد كانت أعدادها كبيرة وحسنة التنظيم، ومارست نفوذها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وفي وقت الانتخابات — بالرجوع إلى مفهوم آخر ضمن مفاهيمه — قامت تلك الطوائف مقام «الكتل التصويتية»؛ إذ وقفت وراء السياسيين المنتمين إليها كالبنيان المرصوص.1
تُعرَف تلك الجماعات في القانون الهندي بمسمى «الطوائف الاجتماعية (أو الطبقات) المتخلفة الأخرى»، لتمييزها عن القبائل الْمُجَدْوَلَة والطوائف الْمُجَدْوَلَة. وَفَّرَت تلك الطوائف القاعدة الاجتماعية ومنبع القيادات للأحزاب التي قُدِّرَ لها النجاح في تحدي هيمنة حزب المؤتمر؛ فحزبُ درافيدا مونيترا كازاجام، الذي جاء إلى السلطة في مدراس عقب انتخابات عام ١٩٦٧، وحكوماتُ حزب المشرِّعين المتَّحدين في الولايات الشمالية، كانا في الأصل أحزاب تلك الطوائف. وبعد مرور عشرة أعوام، أثبتت تلك الطوائف وضعها بقوة على الساحة الوطنية؛ فكان هناك في الحكومة المركزية في ١٩٧٧ عنصران على الأقل تابعان لها في الأساس أيضًا من بين عناصر ائتلاف جاناتا الأربعة، وهما حزب لوك دال والاشتراكيون.2

اكتسبت تلك الطوائف سلطتها الاقتصادية عن طريق الإصلاحات الزراعية والثورة الخضراء، بينما اكتسبت السلطة السياسية من خلال صناديق الاقتراع. ما يعوزها كان السلطة الإدارية؛ ومن ثم عيَّنت حكومة جاناتا في ١٩٧٧ لجنة الطبقات المتخلفة، التي عُرِفَت آنذاك وفيما بعدُ باسم لجنة مَندَل، على اسم رئيسها المبادِر السياسي البيهاري، بينديشواري براساد مَندَل. وخلصت اللجنة إلى أنَّ الطوائف الاجتماعية كانت لا تزال هي المؤشر الرئيسي على «التخلُّف»، وقد عرَّفت — بالاستناد إلى مسوح الولايات — ما يصل إلى ٣٧٤٣ طائفة اجتماعية محددة لا تزال «متخلفة». وقدرَّت اللجنة أنَّ تلك الطوائف شكَّلت مجتمعةً أكثر من ٥٠٪ من تعداد سكان الهند، إلا أنَّ تمثيل تلك الطوائف كان بالغ الانخفاض في الإدارة، لا سيما في المستويات العليا منها؛ فوفقًا لحسابات اللجنة، بدءًا من نحو عام ١٩٨٠، شغل أبناء الطوائف المتخلفة الأخرى ١٢٫٥٥٪ فحسب من المناصب كافة في الحكومة المركزية، و٤٫٨٣٪ فحسب من وظائف الدرجة الأولى.

وبغية معالجة هذا الوضع الشاذ أوصت لجنة مَندَل بحجز ٢٧٪ من مناصب الحكومة المركزية كافة لتلك الطوائف الاجتماعية، إضافةً إلى نسبة ٢٢٫٥٪ التي كانت محجوزةً بالفعل للطوائف الْمُجَدْوَلَة والقبائل الْمُجَدْوَلَة، وقالت اللجنة:
يجب علينا أن نقرَّ بأن جزءًا أصيلًا من المعركة ضد التخلف الاجتماعي ينبغي خوضه في عقول الأشخاص المتخلفين؛ ففي الهند، طالما رُئِيَت وظائف المصالح الحكومية رمزًا للهيبة والسلطة. وبزيادة تمثيل فئة الطوائف المتخلفة الأخرى في المصالح الحكومية، فنحن نمنحهم شعورًا فوريًّا بالمشاركة في حكم هذا البلد. فعندما يصبح مرشح من طائفة اجتماعية متخلفة مأمور تحصيل أو مأمور شرطة، تقتصر المزايا المادية المترتبة على منصبه على أفراد أسرته فحسب، ولكن التبعات النفسية لهذه الظاهرة هائلة؛ فالمجتمع كله الذي ينتمي إليه هذا المرشح من الطبقة المتخلفة سيشعر بالارتقاء. وحتى عندما لا تتدفق مزايا ملموسة إلى كل هذا المجتمع، يقدِّم الشعور لدى أفراده بأنهم أصبح لديهم «رجل منهم» في «أروقة السلطة» دَفعةً معنوية.3
عندما قدمَّت لجنة مَندَل تقريرها، كانت حكومة حزب جاناتا قد سقطت، وسعت حكومة حزب المؤتمر التي تلتها — بقيادة إنديرا غاندي، ثم راجيف غاندي في أعقابها — إلى إسدال الستار عليه بهدوء. ولكن عندما جاءت حكومة الجبهة الوطنية إلى السلطة في الانتخابات العامة لعام ١٩٨٩، رُفِعَ الستار عن التقرير مرة أخرى؛ فقد كان رئيس الوزراء الجديد، في بي سينج، مدرِكًا لتنامي السلطة السياسية لدى فئة الطوائف المتخلفة الأخرى، ولموقفه الضعيف إلى حدٍّ ما بصفته قائد ائتلاف الأقلية؛ ومن ثم، ومن أجل التغلب على منتقديه بتقديم نفسه باعتباره متحدثًا باسم الطبقات المتخلفة، وإن لم يكن بصفته مخلصهم، أعلن سينج في أغسطس ١٩٩٠ في البرلمان أن حكومته ستنفذ توصيات تقرير مَندَل. وبالتالي، حُجز ٢٧٪ من المناصب الحكومية كافة في الهند لمرشحي «الطبقات المتخلفة اجتماعيًّا وتعليميًّا» التي حددتها اللجنة.4
أثار ذلك الأمر جدلًا كبيرًا في دوائر المثقفين؛ فقد ذهب بعض الباحثين إلى أنَّ معايير حجز الوظائف ينبغي أن تتمثل في دخل الأسرة، وليس العضوية في طائفة اجتماعية بعينها. وأدان آخرون ممارسة التمييز الإيجابي من الأساس؛ فتخصيص نصف الوظائف بناءً على اعتباراتٍ أخرى غير الاستحقاق من شأنه أن يُعَرِّض فاعلية المؤسسات العامة وموثوقيتها للخطر. إلا أنَّ بعض الباحثين أيضًا رحَّبوا بتطبيق ما جاء في تقرير مَندَل كإجراء تصحيحي لهيمنة الطوائف الاجتماعية العليا، ولا سيما البراهمة، على المصالح العامة. وأشار أولئك الباحثون إلى ولايات جنوب الهند، حيث كان أكثر من ثلثي الوظائف الحكومية يُوَزَّع على أساس الطائفة الاجتماعية، دون الإخلال (حسبما قالوا) بكفاءة الإدارة.5

في سبتمبر ١٩٩٠، رُفِعَت قضية أمام المحكمة الهندية العليا، تطعن في دستورية توصيات لجنة مَندَل، وقدَّم صاحب الطعن ثلاث حجج رئيسية، مفادها أنَّ ممارسة حجز الوظائف تنتهك الضمانة الدستورية لتكافؤ الفرص، وأنَّ الطائفة الاجتماعية لم تكن مؤشِّرًا موثوقًا على التخلف، وأنَّ كفاءة المؤسسات العامة في خطر. فأثناء نظر هيئة المحكمة في القضية، أمرت بإيقاف تنفيذ الأمر الحكومي الصادر بتاريخ ١٣ أغسطس.

وكما هو الحال في كثير من الأحيان في الهند، دار الجدل بشأن السياسة العامة في الصحف والمحاكم، وتدفَّق إلى الشوارع أيضًا؛ ففي ١٩ سبتمبر، أشعل طالب في جامعة دلهي، يُدْعَى راجيف جُسوامي، النار في نفسه احتجاجًا على قَبول تقرير توصيات لجنة مَندَل؛ فأُصِيبَ بحروق خطيرة، ولكنه نجا، ثم مثَّل قدوة لطلاب آخرين. كان أولئك المضحون بأنفسهم جميعًا من الطوائف الاجتماعية العليا، وقد ضَعُفَت فرصهم هم أنفسهم في الحصول على وظائف حكومية. فجرت نحو ٢٠٠ محاولة انتحار إجمالًا، وتُوُفِّيَ اثنان وستون طالبًا متأثرين بجراحهم.

هَبَّت احتجاجات أخرى في إطار جمعي؛ ففي جميع أنحاء شمال الهند، نظَّمت جماعات من الطلاب تجمُّعات وتظاهرات، وأغلقت المدارس والجامعات والمتاجر، وهاجمت المباني الحكومية، واشتبكت مع رجال الشرطة. وسعى حماة القانون إلى حماية أنفسهم، بآثار قاتلة في بعض الأحيان. فوردت روايات عن حوادث إطلاق نار من جانب الشرطة في ست ولايات، وأسفرت تلك الحوادث عن وقوع أكثر من خمسين ضحية.6

كانت الصراعات التي أشعلتها التوصيات الصادرة عن لجنة مَندَل أشد بكثير في شمال الهند. فأولًا: كانت برامج التمييز الإيجابي قائمةً في الجنوب منذ زمن، وثانيًا: كان الجنوب يتمتع بقطاع صناعي مزدهر؛ ومن ثم لم يعد الشباب المتعلمون معتمدين على الوظائف الحكومية بالقدر ذاته. وإضافةً إلى ذلك، ففي حين مثَّلت الطوائف الاجتماعية العليا أقل من ١٠٪ من تعداد السكان في الجنوب، فقد زادت نسبتها في الشمال عن ٢٠٪. ونظرًا لزيادة الأمور الموضوعة على المحك في كافة النواحي، ازدادت شراسة المعارك في الشمال بطبيعة الحال.

كان من أشد المؤيدين لتوصيات لجنة مَندَل سياسيان صاعدان، هما: مولايام سينج ياداف، الذي أصبح رئيس وزراء أوتر براديش في أواخر عام ١٩٨٩، ولالو براساد ياداف، الذي أصبح رئيس وزراء بيهار في أوائل عام ١٩٩٠. على الرغم من عدم وجود صلة قرابة بينهما، فقد اشتركا في عدة أشياء؛ فكلاهما وُلِدَ في أسرة ريفية فقيرة، وكلاهما بدأ نشاطه السياسي في الجامعة؛ حيث انضما إلى الحركة الاشتراكية، التي كانت لا تزال مؤثرة آنذاك. كلاهما دخل السجن في فترة الطوارئ، وكلاهما أيضًا انضم إلى حزب جاناتا بعد انتهاء فترة الطوارئ.

كما يتبدَّى من لقب العائلة المشترك بينهما، كان كلٌّ من مولايام ولالو ينتمي إلى طائفة اجتماعية من الرعاة المزارعين متفرِّقة في أنحاء شمال الهند وغربها. في وقت الاستعمار كان الياداف يقومون على حراسة ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا، وبعد الاستقلال، وبعدما أصبحوا يمتلكون أراضيهم الخاصة، تزايدت قوتهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية وسلطتهم السياسية باطِّراد. سعى كلٌّ من مولايام ولالو جاهدَين إلى التقرُّب من المسلمين، الذين مثَّلوا جماعة سكانية أخرى كبيرة العدد (وإن كانت أكثر فقرًا بكثير) في أوتر براديش وبيهار. كانت الحِسبة وراء هذه الخطوة انتخابية؛ إذ مثَّل كلٌّ من الياداف والمسلمين نحو ١٠٪ من السكان. وفي المنافسات متعددة الأركان — التي مثلت القاعدة العامة في الهند — كان ٤٠٪ من الأصوات كافيًا عادةً؛ ومن ثم، فالمرء إذا جمع الياداف والمسلمين، وأقنع قطاعات أخرى من الجماعات «المتخلفة» بالانضمام إلى رَكْبه، أصبحت لديه فرصة كبيرة جدًّا في الفوز.7

لما كانت بيهار وأوتر براديش هما الولايتان الأكبر تعدادًا في الهند، فقد كان مجموع نوابهما في البرلمان ١٣٩ نائبًا، وعادةً ما كانت نتيجة الانتخابات العامة تُحْسَم من خلال هاتين الولايتين. في الانتخابات الأربعة الأولى فاز حزب المؤتمر بأغلبية المقاعد في أوتر براديش وبيهار، ثم مُنِّيَ الحزب بهزيمة نكراء عام ١٩٧٧، عقب فترة الطوارئ، ولكنه استرد مكانته في انتخابات ١٩٨٠ و١٩٨٤، إذ فاز بواحد وثمانين مقعدًا في انتخابات ١٩٨٠، ومائة وواحد وثلاثين مقعدًا في ١٩٨٤. كان عدد المقاعد التي فاز بها الحزب عام ١٩٨٤ شاذًّا عن المألوف، وجاء نتيجةً لاستشهاد إنديرا غاندي. ثم كان أداء حزب المؤتمر كارثيًّا عام ١٩٨٩؛ إذ إنَّه لم يفز إلا بتسعة عشر مقعدًا في الولايتين. وعندما عُقِدَت انتخابات في منتصف المدة بعد عامين، كان أداؤه أسوأ؛ إذ لم يربح سوى خمسة مقاعد في أوتر براديش ومقعدٍ واحدٍ فحسب في بيهار، وملأ الفراغ الذي تركه حزب المؤتمر في هاتين الولايتَين الشماليتَين الهامتَين في جزء منه الحزبان «الاشتراكيان» اللذان قادهما لالو ومولايام سينج ياداف، وفي جزئه الآخر حزب بهاراتيا جاناتا، الذي كان الأساس الذي يعتمد عليه في حشده هو الدين وليس الطائفة.

٢

في عام ١٩٨٤، لم يحصل حزب بهاراتيا جاناتا — خَلَف حزب جانا سانج القديم — إلا على مقعدين في الانتخابات العامة الثامنة، وبعد مرور خمسة أعوام ارتفعت حصته إلى ٨٦ مقعدًا، وكان أحد الأسباب الرئيسية في هذا الصعود هو مشاركته في حملة أيوديا. إنَّ تلك الحملةَ كانت تسعى لإنشاءِ معبدٍ في أيوديا يحلُّ محلَّ المسجد الذي يعود إلى العصور الوسطى، الذي يوجد في المكان الذي يَعتقد الكثيرون أنه محلُّ الميلاد الأصلي للإله رام. وقد قاد الحركةَ الساعية لإقامة هذا المعبد، كما رأينا في الفصل السابق، منظمةٌ مُقرَّبة من حزب بهاراتيا جاناتا، وهي المجلس الهندوسي العالمي.

وحرصًا من حزب بهاراتيا جاناتا على إبقاء حزب المؤتمر بعيدًا عن الحكم، فقد قَدَّمَ دعمه لجبهة في بي سينج الوطنية دون المشاركة في الحكومة. إلا أنَّ قرار العمل بتقرير لجنة مندل — الذي أُعْلِنَ في أغسطس ١٩٩٠ — أثار بلبلة داخل الحزب؛ فقد اعتبرته بعض القيادات خطة شيطانية لتفكيك المجتمع الهندوسي، بينما رأى آخرون أنَّ فرض التمييز الإيجابي كان نزولًا ضروريًّا على تطلُّعات الطوائف الاجتماعية المتخلفة؛ فثار نقاش محتدم داخل الحزب — وفي فروع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج — حول السؤال الآتي: هل ينبغي تأييد توصيات لجنة مندل أم لا؟

وعوضًا عن اتخاذ موقف دون آخر، آثر الحزب تحويل بؤرة النقاش بعيدًا عن لجنة مندل والطوائف الاجتماعية، وإعادته من جديد إلى الدين ومسألة الموقع المُتنازَع عليه في أيوديا؛ فأعلن الحزب الخروج في مسيرة من معبد سومناث العتيق في جوجارات إلى أيوديا، وتقرَّر أن يتزعَّم المسيرة إل كيه أدفاني، وهو رجل متزمِّت عبوس يُعتَبَر أكثر تعصُّبًا من زميله أتَل بِهاري فَجبايي. كان أدفاني يتنقَّل في شاحنة تويوتا مُهيَّأة على شكل عربة خيول، ويتوقَّف على الطريق لعقد المؤتمرات الشعبية.

كان من المخطط لمسيرة أدفاني بعربة الخيول، التي بدأت في ٢٥ سبتمبر ١٩٩٠، أن تبلغ أيوديا بعد خمسة أسابيع، بعد قطع ١٠ آلاف كيلومتر عبر ثمان ولايات. أحاط مقاتلو المجلس الهندوسي العالمي بالعربة من الجانبين، مودِّعين إياها بالأعلام في بلدة، ومرحِّبين بها في التالية. وفي المؤتمرات الشعبية، انضم إليهم رهبان السادهو بثيابهم زعفرانية اللون، الذين «مثَّلت مسبحات الصلاة حول أعناقهم، ولحاهم الطويلة، وجِباههم المخطوطة بالرماد تناقضًا بصريًّا قويًّا» مع هؤلاء الشباب المسلَّحين؛ فكانت الصورة المتكونة عن المسيرة هي أنها «دينية، موحِية، مسلَّحة، ذكورية، ومعادية للمسلمين». وتأكَّدت هذه الصورة بفعل الخُطَب التي ألقاها أدفاني؛ إذ اتَّهم الحكومة بأنها «تسترضي» الأقلية المسلمة وتمارس «علمانية زائفة» تحرم الأغلبية الهندوسية مصالحها وطموحاتها المشروعة، فقُدِّمَ بناء معبد الإله رام في أيوديا على أنه رمز لتحقيق تلك المصالح والطموحات.8
تسببت مسيرة أدفاني عبر شمال غرب الهند في متاعب جمة لحكومة في بي سينج، فقد مثَّلت المسيرة «استفزازًا لا يمكن تجاهله. وبدا تنامي الاضْطِرابات والشغب وهدم المسجد في النهاية يلوح في الأفق، إلا أنَّ وقف المسيرة كان سيترتب عليه عواقب وخيمة؛ فبذلك لم يكن سينج سيضطر إلى مخالفة [الإله المُبَجَّل] راما فحسب، وإنما سوف يُسقط ائتلافه الحاكم نفسه أيضًا، ويجازف بإثارة فوضى عارمة».9 بلغت المسيرة دلهي، حيث أقام أدفاني معسكره عدة أيام، متحدِّيًا الحكومة أن تقبض عليه، فاجْتُنِبَ التحدي، وواصلت المسيرة مُضِيَّها مجددًا. ولكن قبل أن تصل العربة إلى وجهتها النهائية بأسبوع، أُوقِفَت ووضع أدفاني رَهْن الحبس الاحتياطي. نُفِّذَت عملية الاعتقال بأمرٍ من رئيس وزراء بيهار، لالو براساد ياداف، الذي كانت المسيرة تمرُّ من ولايته آنذاك.

بينما قبع إل كيه أدفاني ينتظر في إحدى دور الضيافة الحكومية في بيهار، اتَّجه أتباعه إلى أيوديا، وتدفَّق آلاف المتطوعين من جميع أنحاء البلاد. كان رئيس وزراء أوتر براديش، مولايام سينج ياداف — مثل نظيره البيهاري الذي يحمل لقب العائلة نفسه — خصمًا سياسيًّا عتيدًا لحزب بهاراتيا جاناتا؛ ومن ثم فقد أمر بالاعتقال الجماعي للزائرين الآتين من خارج الولاية. على ما يبدو احْتُجِزَ نحو ١٥٠ ألف متطوع، ولكن قرابة ٧٥ ألفًا وجدوا طريقهم إلى أيوديا على الرغم من ذلك. وهناك كان ثمة ٢٠ ألف رجل أمن في البلدة بالفعل، بعضهم من قوات الشرطة النظامية، بينما كان البعض الآخر من قوات أمن الحدود شبه العسكرية.

في صباح يوم ٣٠ أكتوبر، اعترضت الشرطة طريق حشد كبير من المتطوعين لدى جسر فوق نهر سارايو، الذي يفصل بين أيوديا القديمة والجديدة، فاقتحم المتطوعون صفوف رجال الشرطة واندفعوا تجاه مسجد بابري، حيث وجدوا أنفسهم أمام قوات أمن الحدود. تمكَّن بعض المتطوعين من الإفلات من قوات أمن الحدود أيضًا، والوصول إلى المسجد، فرفع أحدهم عَلَمًا بلون الزعفران على المسجد، بينما هجم آخرون على البناء بالفئُوس والمطارق. وبغية الحيلولة دون حدوث غزو جماعي للمسجد، استخدم جنود قوات أمن الحدود الغاز المسيل للدموع، وفي مرحلة تالية، الرصاص الحي. فجرت مطاردة المتطوعين عبر الشوارع الضيقة وفي ساحات المعبد. أبدى بعضهم مقاومة — باستخدام العصيِّ والحجارة — وعضَّدهم في ذلك الأهالي الغاضبون، الذين أمطروا رجال الشرطة بقذائف يدوية الصنع.10
دارت رحى المعركة بين قوات الأمن والمتطوعين ثلاثة أيام كاملة، وقُتِلَ عشرون متطوعًا على الأقل أثناء المعركة. والتقط نشطاء المجلس الهندوسي العالمي جثثهم فيما بعد وأحرقوها، ثم حفظوا الرماد في الجِرار المخصَّصة لحفظ رماد الموتى، ثم طافوا بتلك الجِرار في أنحاء بلدات شمال الهند، مُؤَجِّجِين المشاعر حيثما ذهبوا، وحَثُّوا الهندوس على الثأر لدماء هؤلاء «الشهداء»؛ فهزَّت سلسلة من أعمال الشغب الدينية ولاية أوتَّر براديش. هاجمت جموع الهندوس أحياء المسلمين، وعلى نحو يشبه المذابح البشعة التي وقعت وقت التقسيم، أوقفوا القطارات لكي يجذبوا من أمكنهم تعرُّف أنهم مسلمون فيها ويقتلوهم. في بعض المناطق رد الضحايا بالمثل، ومن ثَمَّ لاحقتهم قوات الشرطة المسلحة الإقليمية، التي طالما اشتهرت بعداوتها للمسلمين.11
وكما قال أحد المعلِّقين: مسيرة العربة لإل كيه أدفاني تحوَّلت في الواقع إلى مسيرة دم.12

٣

في ١٩٧٩، بعد تفكك حزب جاناتا، قاد تشاران سينج حكومة أقلية لبضعة شهور. لكن كان في بي سينج أول رئيس وزراء يقود حكومة أقلية بعد أن أدت الانتخابات العامة إلى نتيجةٍ منقسمة. لقد كان ضعيفًا ولم يكن يقف على أرضٍ صلبة من البداية، كما انعكس في السرعة التي نفذ بها تقرير مَندَل للتغلب على منافسيه داخل حزبه، وكما اتضح أيضًا في التحدي الصريح الذي واجهته حكومته من قبل مسيرة العربة التي قام بها إل كيه أدفاني.

ولم يكن هذان الصراعان هما الوحيدين اللذين كان على في بي سينج التعامل معهما. ففي شتاء ١٩٩٠–١٩٩١، نشأ نزاعٌ مرير بين ولايتَي كارناتاكا وتاميل نادو. كان النزاع، الذي كان بشأن مياه نهر كوفري، قديمًا، وقد اشتعلت شرارته من جديد الآن بسبب فشل موسم الرياح الموسمية والحاجة المتزايدة لمياه الري من قبل المزارعين التجاريين.

من الأمثلة البارزة على ذلك الخلافُ الذي نشأ بين ولايتي كارناتاكا وتاميل نادو بشأن مياه نهر كوفري. ذلك النهر منبعه في كارناتاكا، وهو يجري في تلك الولاية، ثم في ولاية تاميل نادو، حيث يصب في المحيط الهندي. ولقرون من الزمان تمتعت الأطراف الدنيا من الدلتا بشبكة ري متطورة، أتاحت للمزارعين زراعة الأرز مرتفع القيمة. وعلى النقيض منها، أعمال الري في كارناتاكا حديثة النشأة؛ فقد حُفِرَت أولى القنوات في مطلع القرن العشرين، وحدثت نوبة أخرى من الحفر بعد السبعينيات.

في عام ١٩٢٨، كانت مياه نهر كوفري تروي ١١ مليون فدان من الأراضي الزراعية لِمَا أصبح الآن ولاية كارناتاكا، و١٤٥ مليون فدان فيما أصبح الآن تاميل نادو. وبحلول عام ١٩٧١ اتَّسعت الفجوة؛ إذ وصل عدد الفدادين في كارناتاكا إلى ٤٤ مليون فدان مقابل ٢٥٣ مليون فدان في تاميل نادو. إلا أنَّه بحلول تسعينيات القرن العشرين اقتربت تلك الأرقام من التعادل؛ حيث بلغت ٢١٣ مليون فدان في كارناتاكا و٢٥٨ مليون فدان في تاميل نادو. وَلَّدَ هذا التوسُّع الكبير في مرافق الري ثروات كبيرة لمزارعي منطقتي مَنديا ومَيْسور في كارناتاكا، فهاتان المنطقتان اللتان كانتا معتمدتين في الماضي على محصول واحد متدني القيمة (الدُّخْن عادةً)، أصبح بإمكانهما الآن التمتع بحصادين أو حتى ثلاثة لمحاصيل مرتفعة القيمة؛ مثل الأرز وقصب السكر.

خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، أجرت الحكومة المركزية سلسلة من المشاورات بغية الوصول إلى توزيعٍ لمياه نهر كوفري يلقى قَبولًا لدى الطرفين. فعُقِد ستة وعشرون اجتماعًا وزاريًّا بين عامي ١٩٦٨ و١٩٩٠، لكنها فشلت جميعًا في الوصول إلى اتِّفاق. كانت ولاية تاميل نادو تخشى أن تُشَكِّل عمليات الحفر المحمومة لقنوات الري أعلى الدلتا تهديدًا على مزارعيها في الطرف الأدنى من النهر، بينما زعمت كارناتاكا أنَّ بدايتها المتأخرة لا ينبغي أن تحول دون تنميتها للقنوات في أراضيها على أكمل وجه.

في يونيو ١٩٩٠، أُنشئت محكمة لحل نزاعات مياه نهر كوفري، بأمر من المحكمة العليا. كانت المحكمة تتألف من ثلاثة قضاة يُفْتَرَض فيهم الحِياد. وفي ٢٥ يونيو ١٩٩١، أصدرت المحكمة حكمًا مؤقتًا، يأمر كارناتاكا بالإفراج عن ٢٠٥ ملايين قدم مكعب من المياه في السنة لتاميل نادو، لحين صدور القرار النهائي في هذا الصدد. وبعد مرور عشرة أيام، أصدر مجلس ولاية كارناتاكا التشريعي قرارًا بالإجماع يرفض حكم المحكمة، وحينئذٍ أصدرت حكومة كارناتاكا أمرًا من جانبها يكلِّف مسئوليها «بحماية وحفظ» مياه نهر كوفري من أجل مزارعي الولاية.

رُفِعَت المسألة إلى المحكمة العليا، التي حكمت بأنَّ قرار حكومة كارنتاكا تجاوز حدود سلطاتها بموجب الدستور، وحينذاك وضعت الحكومة المركزية حكم المحكمة المؤقت في إطار رسمي بنشره في صحيفتها الرسمية: «ذا جازيتأوف إنديا». ردَّ رئيس وزراء كارناتاكا، إس بنجارابَّا، بإعلان الإضراب العام في الولاية؛ فأُغلِقَت المدارس والكليات كافة، ووقفت الإدارة موقف المتفرِّج بينما عاث المحتجون فسادًا في الأحياء السكنية التاميلية من عاصمة الولاية، بنجالور. استمر العنف أيامًا، واضْطُرَّ ما يُقَدَّر بنحو ٥٠ ألف تاميلي إلى الفرار من الولاية.

ردَّت رئيسة وزراء ولاية تاميل نادو، جيه جايا لاليتا، بغضب على سلوك كارناتاكا المُتَحدِّي، وشَجَّعت إدارتها بدورها استهداف منازل الكاناديين وأعمالهم في تاميل نادو. بلغت الخسائر في الممتلكات ما يفوق ٢٠٠ مليون روبية في المُجمَل.

عندما أمر رئيس قضاة المحكمة العليا بإنشاء محكمة لحل نزاعات مياه نهر كوفري، أشار إلى أنَّ «هذا النوع من النزاعات ينطوي على تنمية مشاعر مرارة يمكن تجنُّبها بين سكان الولايات المعنية. وكلما طالت مدة النزاعات، زادت المرارة؛ وعليه فالحكومة المركزية، بصفتها راعية مصالح الشعب في الولايات كافة، يجب أن تتَّخذ في مثل تلك الحالات كافة خطوات عاجلة لتحريك عجلة الآلية الدستورية».13
إلا أنَّه في حين أنَّ الحكومة المركزية يمكنها تحريك عجلة الآلية الدستورية، فإنها لم يعد في مقدورها إجبار الولايات على القَبول بتوصياتها. ومما زاد الأمر سوءًا وجود حكومة أقلية في ذلك الوقت في دلهي. لو كان نهرو أو إنديرا غاندي رئيسًا للوزراء حينها، لكان سيعقد اجتماعًا مع رئيسَي الوزراء ذوَي الصلة، ويسعى للوصول إلى تسوية. ولال بهادور شاستري وحتى مورارجي ديساي كانا على الأرجح سيفعلان نفس الشيء. في هذه الحالة، ربما لم يكن سيتم الوصول لحل نهائي، ولكن على الأقل ربما لم يكن النزاع سينتقل إلى الشوارع. كان هذا العداء، سواء الرسمي أو الشعبي، بين ولايتي الاتحاد غير مسبوق في شدته، وينذر بعواقبَ وخيمة في المستقبل.14

٤

ننتقل الآن من الصراعات في قلب الهند إلى الصراعات على الأطراف، التي تصدَّرتها البقعة المتقرِّحة القديمة: كشمير. فبعدما ساد الهدوء طوال عقد أو اثنين من الزمان، تفجَّر الصراع في الوادي خلال الشهور الأولى من عام ١٩٨٩؛ ففي نوفمبر من ذلك العام، حلَّ في بي سينج محل راجيف غاندي رئيسًا للوزراء، وعيَّن سينج سياسيًّا كشميريًّا من «التيار السائد» — يُدْعَى مفتي محمد سعيد — في منصب حيوي؛ هو منصب وزير الداخلية. كانت تلك بادرةً القصدُ منها إرضاء مسلمي الهند بصفة عامة ومسلمي وادي كشمير بصفة خاصة؛ فبتولِّي واحد منهم المسئولية عن القانون والنظام، كان من المؤكد أن يخفَّ بطش الشرطة بهم عن ذي قبل.

سرعان ما وُضِعَت التجربة محل الاختبار؛ ففي ٨ ديسمبر ١٩٨٩، اختُطِفَت طبيبة شابة أثناء سيرها إلى عملها في سريناجار، لكنها لم تكن طبيبة عادية؛ فقد كانت تلك هي رُبَيَّة سعيد، ابنة وزير الداخلية. وقد اختطفها متطرفون من جبهة تحرير جامو وكشمير، وطلبوا إطلاق سراح خمسة نشطاء بعينهم من جبهتهم مقابل تحريرها. فلم يرغب رئيس وزراء الولاية، فاروق عبد الله، في الرضوخ لتهديدهم، ولكنَّ رئيس الوزراء في دلهي تخطَّاه، وفي ١٣ ديسمبر أُطْلِقَ سراح المتطرفين المسجونين، ورحَّب بهم جمهور كبير من الناس، وساروا بهم منتصرين في شوارع سريناجار. وكان من الشعارات التي هتفوا بها، شعار مقلِق بصفة خاصة: «إذا أردت إنفاذ مشيئة الرب، فلترفع الكلاشنكوف.» وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، عادت رُبَيَّة سعيد إلى عائلتها.15
اعْتُبِرَ رضوخ الحكومة نصرًا عظيمًا للمتطرفين، وتبع ذلك حوادث اختطاف أخرى؛ لمراسل في إذاعة بي بي سي، ومسئول كبير، وابنة أخرى لسياسي بارز. ونُفِّذَت عمليات اغتيال أيضًا؛ فكان ممن قُتِلوا نائب رئيس جامعة كشمير ورئيس محطة التليفزيون المحلية.16
في هذه المرحلة — نحو عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠ — سجَّلت الاستخبارات الهندية وجود ما يصل إلى اثنتين وثلاثين جماعة انفصالية نشطة في الوادي، كان لاثنتين منها أهمية خاصة: الأولى هي جبهة تحرير جامو وكشمير، التي طالبت بإقامة دولة لجامو وكشمير مستقلة غير طائفية، يتمتع فيها الهندوس والسيخ والمسلمون بنفس الحقوق، وعبَّر الهتاف الشعبي «ما مطلبنا؟ الحرية! الحرية!» عن هدفها. أما الجماعة الثانية فكانت «حزب المجاهدين»، التي كانت أكثر ميلًا (كما يتضح من اسمها) إلى إقامة نظام إسلامي، ولم تكن معادية لفكرة الاندماج مع باكستان. تزعَّم تلك الجماعة سيد صلاح الدين، وهو الاسم المستعار لسياسي كان ديمقراطيًّا ذات يوم وخاض انتخابات ١٩٨٧ ولكنه خَسِرَ بسبب تزوير صارخ للأصوات؛ فآنذاك تحوَّل إلى حمل السلاح، وإلى باكستان، آخذًا معه شبابًا آخرين كُثُرًا.17
عملت كلٌّ من جبهة تحرير جامو وكشمير وحزب المجاهدين على جمع مجموعة واسعة من الأسلحة، قتلوا بها أهدافًا سهلة وصعبة على حد سواء، ونهبوا بنوكًا، وألقَوْا قنابل يدوية أمام أقسام الشرطة. ثم ازدادت تصرُّفاتهم جرأة؛ ففي نوفمبر ١٩٩٠، أطلقوا صاروخًا على محطة إذاعة «أُول إنديا راديو». وآنذاك قررت الحكومة اتِّخاذ موقف أكثر شدة، فأرسلت قوات شبه عسكرية وبعض وحدات الجيش للمساعدة على حفظ النظام. وبحلول عام ١٩٩٠، وصل عدد أفراد الجيش الهندي في الوادي إلى ٨٠ ألفًا؛ ومن ثم «نُحِّيَت محاولة العثور على حل سياسي جانبًا لصالح تبنِّي سياسة قمعية».18
تُمثِّل عناوين الصحف التالية انعكاسًا كاشِفًا للوضع في كشمير، وكلها من عام ١٩٩٠:
الشباب في طليعة المساعي الانفصالية
تفجيرات تهزُّ أرجاء كشمير
متطرِّفون كشميريون يشنقون رجال شرطة في سريناجار
باكستان مسئولة عن التمرد في جامو وكشمير
الجيش ينضم إلى المعركة ضد المتطرفين في كشمير
استدعاء الجيش إلى أنانتنج، وفرض حظر التجوال
قوات الأمن تقتل ٨١ متطرِّفًا
مقتل ٣ أشخاص في إطلاق نار على مسيرةٍ بجامو وكشمير
إضراب عام في كشمير، والعثور على جثث مقطوعة الرءوس
اضْطِرابات جامو وكشمير تحصد ١٠٤٤ نفسًا حتى سبتمبر
«القوة الشعبية» في سريناجار: رفع حظر التجوال وإغلاق المتاجر
حرق العلم الهندي في أحد المكاتب التابعة للأمم المتحدة
٥٠٠ ألف يحضرون تجمُّع «الحرية» في جامو وكشمير
الاستقلال وحده هو القادر على مداواة جروح كشمير19
عَلِق سكان وادي كشمير في مرمى النيران، وإن كانوا أكثر ميلًا — كما تبيَّن من عناوين الأنباء الأخيرة — لجانب المتطرفين عن قوات الأمن، وحتى أولئك الذين كان من الممكن أن يظلوا على الحياد أُقنِعوا بالانحياز إلى صف دون الآخر عقب اغتيال رجل الدين الجليل ميرواعظ محمد فاروق في مايو ١٩٩٠، فقد شيَّع جثمانه حشد هائل من الناس إلى مثواه الأخير. وفي مكان ما، على نحو أو آخر — فالتفاصيل لا تزال مبهمة — اشتبكوا مع فصيلة من قوات الشرطة الاحتياطية المركزية، الذين انتابتهم حالة من الذعر فأطلقوا النار على المشيِّعين، ليقتلوا ثلاثين ويصيبوا ٣٠٠ آخرين على الأقل. كان جليًّا أنَّ مغتالي ميرواعظ مأجورون لباكستان، ولكن مع انتهاء اليوم كانت الهند قد خَسِرَت الحرب الدعائية خسارة محققة.20
تفاقم شعور الكشميريين بالاغتراب إثر سلوك مَن يبدو ظاهريًّا أنهم أُرسِلوا لحمايتهم، فقد كان جنود الهند — لا سيما قوات الشرطة الاحتياطية المركزية — ميَّالين إلى معاملة معظم المدنيين باعتبارهم متعاطفين مع الإرهاب. وقد وثَّقت منظمة العفو الدولية أعمال قوات الشرطة الاحتياطية المركزية،21 وكذلك وثَّقها نشطاء حقوقيون هنود. وفي ربيع عام ١٩٩٠، طاف فريق برئاسة الفقيه القانوني الموقَّر في إم تاركوندي في أنحاء الوادي، حيث تحدث أعضاء الفريق إلى موظفين حكوميين ومتطرفين وقرويين عاديين، وسُجِّلَت حالات كثيرة من «تجاوزات» الشرطة والجيش؛ من ضربٍ (للأطفال في بعض الأحيان)، وتعذيبٍ (لرجالٍ أبرياء من أي تُهم)، وقتلٍ خارج نطاق القانون (في إطار مواجهات مفتعلة)، وهتك أعراض النساء؛ فقال فريق تاركوندي معلِّقًا: «من المستحيل أن نسرد جميع الحالات التي أُبلِغنا بها.» وأضاف:
لكنَّ النمط العام واضح. فالمتطرفون يرتكبون أعمالًا رعناء وقوات الأمن ترد بالمِثل. وفي هذا الإطار يتعرض عدد كبير من الأبرياء للمعاملة الخشنة والضرب والمضايقات والقتل. في بعض الحالات كان الضحايا يقعون في مرمى النيران، وفي حالات أكثر بكثير لم يكونوا متورطين في أي أحداث بالمرة ولم يكن ثمة تبادل إطلاق نار. وعادةً ما يزيد هذا الوضع الناسَ نفورًا؛ فالمسلمون يزعمون أنَّهم يُقتَلون ويُدَمَّرون لأنهم مسلمون.22

٥

بوجه عام، كان المسلمون في الهند أفقر من الهندوس، وأقل حظًّا منهم في التعليم. وكان المجتمع يتضمن بضعة روَّاد أعمال مسلمين، ولكن لم يكن به طبقة وسطى مسلمة حقيقية. وقد ظل تمثيل المسلمين منخفضًا في الوظائف المهنية والمصالح الحكومية. وكان ٤٠٪ من المسلمين في المدن يعيشون تحت خط الفقر، ولم يكن الوضع في الريف أفضل من ذلك بكثير. وكانت نسبة المتعلمين بين المسلمين أقل من المتوسط الوطني بكثير، والفجوة بينهم وبين الجماعات السكانية الأخرى في تنامٍ. كانت قلة من الفتيات المسلمات يذهبن إلى المدرسة، بينما كان الفتية المسلمون يدخلون في أغلب الأحيان مدارس إسلامية لا تؤهِّلهم مناهجُها البالية للحصول على وظائف في الاقتصاد الحديث. في الوقت نفسه، كانت مضايقات سانج باريفار قد غرست لدى المثقفين المسلمين عقلية دفاعية، بل ما يصل إلى عقلية حصار؛ فالتجأ الشباب الذكور بصفة خاصة إلى الدين؛ إذ رأوا في تجديد الالتزام بالإسلام بديلًا عن الفقر والاضطهاد في العالم الخارجي. ولم تكن هذه النقلة الإيمانية هادئة دائمًا؛ فقد نشأت حركة طُلابية إسلامية، رأت قياداتها أنَّ التهديدات الناشئة عن الديانة المنافسة لا يمكن مواجهتها إلا بقوة السلاح.23

أدى صعود الأصولية الهندوسية في التسعينيات إلى تنمية المشاعر الدفاعية لدى أقلية تشعر بالضعف أصلًا، إلا أنَّ الأدوار كانت معكوسة في ولاية جامو وكشمير الحدودية، ففيها تزايد تعبير الأغلبية المسلمة عن طموحاتها في إطار ديني، مما أسفر عن معاناة الأقلية الهندوسية.

تزعَّمت جبهة تحرير جامو وكشمير الانتفاضة الشعبية التي هبَّت في الوادي عام ١٩٨٩ في بداية الأمر، إلا أنَّ الجبهة سلَّمت الراية في غضون عام إلى حزب المجاهدين، الذي كان التزامه بجعل كشمير مكان تتعايش فيه ديانات متعددة أقل يقينًا بكثير. فقد استُعيض عن نداء «الحرية» بنداء الجهاد (أو الحرب المقدسة). فكان أحد الشعارات الشائعة لحزب المجاهدين هو: «هذه ليست حرب عصابات، ولا حرب تحرير قومية. إنها جهاد، جهاد.»24

كانت إحدى تبعات هذا التحوُّل إلى الدين هي أنَّ جماعة البانديت الكشميريين أصبحت موضع شك في أعين المتطرِّفين. فقد كانوا هندوسًا، لكنهم مشابهون في نواحٍ أخرى لأشقائهم المسلمين: كانوا يتحدثون لغة واحدة، ويأكلون ألوان الطعام ذاتها، ويتشاركون الثقافة التوفيقية ذاتها لوادي كشمير. في الماضي، كان ثمة خصومة اقتصادية بين الهندوس والمسلمين؛ فقد كان الشيخ عبد الله — على سبيل المثال — مستاءً من سيطرة البانديت على الأراضي الصالحة للزراعة وعلى إدارة الولاية، وقد وضع حدًّا لتلك السيطرة. إلا أن التناغم الاجتماعي كان تامًّا إلى حدٍّ بعيد، فحتى في أعمال الشغب المصاحبة للتقسيم عام ١٩٤٧ لم تُمَسَّ كشمير، وكانت واحةَ سلامٍ أشاد بها المهاتما غاندي نفسه.

في شتاء ١٩٨٩-١٩٩٠، عندما حلَّ حزب المجاهدين محل الجبهة الوطنية لتحرير جامو وكشمير، أصبح البانديت مُستَهدفين؛ فَلِكَوْنهم هندوسًا — لا لسببٍ آخر — اعتُبِروا عملاء لدولة طالما قهرت الكشميريين. قُتِلَ عدة مئات من البانديت بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠، بأساليب بثَّت في الناجين منهم شعورًا عميقًا بعدم الأمان. وكما كتب صحفي وثَّق تلك الأحداث لاحقًا:
هؤلاء النساء والرجال لم يُقْتَلوا عَرَضًا في تبادل إطلاق نار، وإنما اسْتُهُدِفوا استهدافًا مُمنهجًا ووحشيًّا. كثير من النساء كُنَّ يتعرَّضن لاغتصاب جماعي قبل أن يُقتَلن، وإحدى النساء شُطِرت نصفين باستخدام منشار كهربائي، وحَمَلت جثث الرجال آثار التعذيب، فكان القتل خنقًا أو شنقًا أو بالبتر أو فقء العينين أمرًا شائعًا. وفي أغلب الأحيان كانت جُثثهم تُلقَى مرفَقةً برسالة تتوعَّد من يقربها بالقتل.25

فبدأت عائلات البانديت تفر مذعورة من الوادي إلى منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية، بينما فرَّ آخرون إلى مناطق أبعد من ذلك، إلى دلهي وحتى بومباي.

كان عدد البانديت المقيمين في وادي كشمير يُقَدَّر بنحو ٢٠٠ ألف، وبحلول صيف عام ١٩٩٠، كان نصفهم على الأقل قد رحل، وأصبحوا يعيشون في مخيمات للَّاجئين، بعضها تديره الحكومة، والبعض الآخر تديره منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. في البداية كان أمل الدولة — وأملهم أيضًا — أن يكون نزوحهم مؤقتًا، وأن يرجعوا إلى الوادي ما إن يعود السلام. ولكنَّ واقع الأمر كان أنَّ إقامتهم في تلك المخيمات قد طالت.26
طوال التسعينيات، حدث مزيد من الهجمات على البانديت الذين آثروا البقاء في الوادي؛ ففي بعض الأحيان كانت النار تُضرَم في قرًى صغيرة بأكملها. وبحلول نهاية ذلك العقد، كان تعداد البانديت الباقين في الوادي أقل من ٤ آلاف، في تذكِرة حزينة بالقرون التي عاشوا فيها جنبًا إلى جنب مع شركائهم في الوطن.27

تلقَّت نزعة التطرف المتنامية في كشمير مساعدة نشطة من باكستان، فقد أقامت وكالة الاستخبارات الباكستانية معسكرات لتدريب الإرهابيين على استعمال الأسلحة وتزويدهم بخرائط للمنطقة. وبمساعدة الوكالة، تمكَّن النشطاء الكشميريون من التنقُّل بحُرِّية عبر الحدود؛ دخولًا إلى الهند لإجراء عمليات قتل أو تفجيرات، ثم عودةً إلى باكستان للاستراحة وتجديد طاقتهم. وفي ذلك الوقت، كان المسلحون المحليون قد انضم إليهم مرتزقة أجانب — من العرب والشيشان والأوزبك — كانوا قد تدرَّبوا على القتال في الحرب ضد النظام العميل للاتحاد السوفييتي في أفغانستان. وعندما انتهت الحرب، وعادت القوات الروسية إلى بلادها مهزومةً، وجد هؤلاء المقاتلون لأنفسهم قضية مقدَّسة أخرى ممثَّلة في تحرير كشمير.

٦

كان من ضحايا مسيرة العربة رئيس الوزراء في بي سينج. استقال في نوفمبر ١٩٩٠، نظرًا لعجزه عن الحفاظ على حكومة الأقلية التي رأَسَها دون مساندة حزب بهاراتيا جاناتا. وكما عام ١٩٧٩ — عندما استقال مورارجي ديساي — سمح حزب المؤتمر لرئيس وزراء صوري (كان هو تشاندرا شيكار في هذه الحالة) بتولي المسئولية بينما راح حزب المؤتمر يُعِدُّ للانتخابات. عُقِدَت تلك الانتخابات في صيف عام ١٩٩١، وفي منتصف الحملة الانتخابية، اغْتِيلَ راجيف غاندي، أثناء إلقائه خُطبة في إحدى بلدات تاميل نادو. واتضح فيما بعد أنَّ مرتكبة العملية — التي انفجرت فيها هي أيضًا القنبلة التي كانت تحملها — كانت ممثلة لجبهة نمور تحرير تاميل إيلام، فكان اغتياله عملًا انتقاميًّا؛ إذ لم تكن الجبهة قد سامحت راجيف غاندي على إرساله قوات ضدها عام ١٩٨٧.

على الرغم من اغتيال راجيف غاندي، أُجْرِيَت الانتخابات في الموعد المقرَّر لها. كان خبراء استطلاعات الرأي قد تنبئُوا ببرلمان معلَّق، لا يقترب فيه أي حزب من الأغلبية بأي حال من الأحوال. إلا أنَّ التعاطف المتولِّد عن اغتيال راجيف غاندي أتاح لحزب المؤتمر رِبْح ٢٤٤ مقعدًا. وبمساندة المستقلين، صار الحزب في وضع يسمح له بتشكيل حكومة أغلبية. واختير لرئاسة الوزراء عضو في حزب المؤتمر من أندرا براديش، كان قد شغل مناصب مهمة في حكومة راجيف غاندي، وهو: بي في ناراسيمها راو.

على الرغم من أنه كان يشغل منصب رئيس وزراء أندرا براديش، فإن ناراسيمها راو لم يكن قائدًا شعبيًّا على الإطلاق. كان راو، الباحث وعالم اللغة، عضوًا وفيًّا لحزب المؤتمر، وعمل بإخلاص في ظل إنديرا وراجيف غاندي. ولم يدخل انتخابات مجلس الشعب في ١٩٩١، وربما حتى كان يفكر في الانسحاب من العمل السياسي. لكن اغتيال راجيف غاندي غيَّر كل شيء. فقد رُشح حينها من قِبل حزب المؤتمر لمنصب رئيس الوزراء باعتباره اختيارًا توافقيًّا، متغلبًا على منافسيه الطموحين، أرجون سينج وشاراد باوار.

ولدى توليه المنصب، واجه على الفور أزمةً كبيرة كانت ذات صلة بتنامي حجم الدَّين الحكومي الخارجي. تلقَّت الهند معونات لفتراتٍ طويلة من مؤسساتٍ متعددة الأطراف مثل البنك الدولي. وازداد الاقتراض من السوق بمعدلٍ سريع أيضًا في عهد راجيف غاندي. ففي صيف عام ١٩٩١ كان الدين قد وصل إلى ٧٠ مليار دولار أمريكي، ٣٠٪ منه لدائنين من القطاع الخاص. وفي أحد الأوقات انخفض احتياطي النقد الأجنبي إلى مقدار واردات أسبوعَين.

وبعيدًا عن الإسراف في الاقتراض الذي مارسته حكوماتٌ سابقة، فقد ساهم عاملان آخران في حدوث هذه الأزمة. لقد رفعت حرب الخليج على نحوٍ هائل أسعار النفط، الذي يعد عنصرًا أساسيًّا في فاتورة واردات الهند. وقد جعل عدم الاستقرار السياسي في الهند الكثير من الهنود غير المقيمين على أرضها يسحبون ودائعهم الدولارية من البنوك الهندية.28

قبل أن يصبح راو رئيس الوزراء كان من المعروف عنه أنه رجل هادئ غير لافت للنظر، عاش وعمل في ظل إنديرا غاندي وابنها الأكبر. وعند الزجِّ به في المنصب، كشف عن جرأة متنافية تمامًا مع ما كان معروفًا عن شخصيته مسبقًا. فقد عيَّن في منصب وزير المالية الدكتور مانموهان سينج، الاقتصادي عديم التوجُّه السياسي الذي شغل قبلًا مناصب منها سكرتير وزارة المالية ومحافظ بنك الاحتياطي الهندي. وإضافةً إلى ذلك، أعطى له حرية إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي يراها ملائمة.

قبل أن يصير مانموهان سينج موظفًا عموميًّا، أعدَّ رسالة دكتوراه في جامعة أكسفورد، اقترح فيها أن تتحرك الهند نحو نظام تجاري أكثر انفتاحًا. كان قد كتب الرسالة في الستينيات، ثم اقتنص الفرصة بعد مرور ثلاثة عقود من الزمان، لوضع توصياته موضع التنفيذ: خفض قيمة الروبية، وألغى تحديد حصص الواردات، وخفض التعريفة الجمركية، وشجَّع الصادرات، ورحَّب بالاستثمارات الأجنبية المباشرة. وحرَّر السوق الداخلية أيضًا؛ إذ أُنْهِيَ «حكم الترخيص والإذن والحصة» إلى حدٍّ بعيد، وحُجِّمَ نمو القطاع العام. وأخيرًا سعت الإصلاحات إلى الحد من الإسراف الحكومي؛ فطُرِحَت تدابير رامية إلى خفض العجز المالي، الذي كان قد وصل إلى نسبة مزعجة، هي ٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي.29
تَمثَّل أحد أول الأعمال التي قامت بها الحكومة الجديدة في تخفيض قيمة الروبية. وباعتباره أحد الأشخاص الذين كانوا في حزب المؤتمر أثناء المحاولة المجهضة لتخفيض قيمته في عام ١٩٦٦ وشاهدوا رئيس وزراء جديدًا (في هذه الحالة، إنديرا غاندي) وهو يُهاجَم بشدة بسبب قيامه بهذا، كان ناراسيمها راو قلقًا بشأن القيام بتحركٍ جديد في هذا الاتجاه. لكنه عُد ضروريًّا، وقد خُفضت الروبية بنسبة تصل إلى نحو ١٨٪ من قيمتها من أجل تشجيع الصادرات. وهذا التحرك الجريء، وربما حتى المثير للجدل، دافع عنه بقوة وزير المالية الذي تحدث إلى الإعلام قائلًا إن الدول الاشتراكية مثل الاتحاد السوفييتي والصين قد خفضت من قيمة عملاتها مؤخرًا، في حين أن باكستان وكوريا الجنوبية (من ضمن دولٍ آسيويةٍ أخرى) قد اتبعتا أيضًا سياسات سعر صرف عدوانية لتعزيز قدراتهما التنافسية. وأضاف مانموهان سينج: «يعتقد رجالنا — الاقتصاديون والصحفيون والسياسيون — على نحوٍ ما أن تخفيض قيمة الروبية أمر خاطئ ومُخزٍ. إنه ليس كذلك على الإطلاق». إن كانت الروبية قد تُركت قيمتها على ما هي عليه، لكان وضع ميزان المدفوعات، الذي كان هشًّا بالفعل، سيسوء أكثر.30
في تلك الأثناء، أوضحت سياسة صناعية جديدة، صيغَت في يوليو من عام ١٩٩١، أنَّ «تراخيص الصناعة سَتُلْغَى من الآن فصاعدًا في جميع الصناعات — باستثناء الصناعات المحددة — بصرف النظر عن مستويات الاستثمار». كانت الاستثناءات هي الصناعات ذات الأهمية الحيوية لدفاع الدولة، والصناعات الضارة بالبيئة وبصحة الإنسان؛ مثل صناعات السجائر والكحوليات. كان ذلك ارتدادًا جذريًّا عن السياسة القائمة، التي جعلت صناعات كثيرة حِكرًا على الدولة، وصناعات كثيرة أخرى حِكرًا على قطاع الصناعات الصغيرة.31
حدث تحرير لقطاع الخدمات أيضًا، بتشجيع الشركات الخاصة على الاستثمار في قطاعات التأمين والبنوك والاتصالات والطيران، وهي قطاعات كانت خاضعة لسيطرة الدولة الكاملة سابقًا بنحو أو بآخر. بعض الاقتصاديين رأَوْا أنَّ الإصلاحات لم تكن كافية، مشيرين — على سبيل المثال — إلى أنَّ قوانين العمل ظلت جامدة (جاعلةً استغناء المديرين عن العُمَّال أمرًا شبه مستحيل)، وأنَّه حينما أُزيلت عقبات الدخول، ظلت عقبات الخروج باقية (ومن ثم ظل رواد العمل مُلْزَمين بالحصول على إذن من الحكومة من أجل إغلاق الوحدات غير المربحة). وقد قُوِّضَت المنظومة البيروقراطية ولكنها لم تُفَكَّك بالكامل؛ فلا يزال فتح شركة في الهند يستغرق أسابيع إلى شهور، في حين أنَّه لا يستغرق أكثر من بضعة أيام في الصين أو ماليزيا.32
ساعد مانموهان سينج في الإشراف على تلك الإصلاحات (التي تأخرت طويلًا) بعض موظفي الخدمة المدنية المحنَّكين، وبوجهٍ خاص رئيس وزرائه. كان حزب المؤتمر تاريخيًّا متبنيًا لفكرة شغل الدولة «قمم القيادة في الاقتصاد». وكان نهرو وإنديرا غاندي يَعدان نفسيهما اشتراكيَّين. فكيف يمكن لأعضاء الحزب، وبالطبع قادته، أن يقدموا على هذا التخلي الجذري عن هذا الإرث؟ فمع إطلاق يد وزير ماليته في الأمر، أكد ناراسيمها راو له أنه سيقنع الحزب بتغيير موقفه. وكما تذكر مانموهان سينج لاحقًا: «كان هناك الكثير من المعارضة داخل البلاد وداخل الحزب [حزب المؤتمر]. لكن إدارة رئيس الوزراء راو السياسية جعلت التغلب على كل هذا ممكنًا».33
خلال عقد الثمانينيات تحلَّلت الهند بالفعل من بعض عدائيتها إزاء الشركات. فقد منحت قدرًا أكبر من التشجيع للشركات الخاصة، حيث لم تَعُدِ القطاعات الرئيسية بحاجة إلى استصدار تراخيص. كانت تلك سياسات مشَجِّعة للشركات مكَّنت قطاع الصناعة الهندي من زيادة إنتاجيته وربحيته، إلا أنَّها لم تصل إلى حد أن تكون سياسات مُشجِّعة للسوق تزيل عقبات الدخول إلى السوق والخروج منها بالنسبة إلى الشركات الهندية أو الأجنبية، ومن ثمَّ تُشجِّع المنافسة وتوسع الخيارات المتاحة أمام المستهلكين.34
لقد مثَّلت التغييرات المُدخَلة من قبل ناراسيمها راو ومانموهان سينج تحوُّلًا كبيرًا عن السياسات الماضية. فقبل عام أو عامين حتى من إجراء تلك الإصلاحات، كانت تُعتَبَر مُستَبعَدة أو حتى مستحيلة؛ ففي كتاب نُشِر عام ١٩٨٩، عرَّف أستاذ في كلية هارفرد للأعمال أصحاب المصالح الذين أبقوا على استمرار الاقتصاد الموجَّه، ومنهم الساسة والبيروقراطيون ورواد الأعمال المحليون. وكتب أنَّ سيطرة تحالف المصالح ذاك التي تبدو دائمة «أضعفت احتمالات القيام بإصلاحات جوهرية في السياسات الاقتصادية للدولة». ففي البلدان من قبيل كوريا الجنوبية، أحدث انضباط السوق والانفتاح على رأس المال الأجنبي طفرةً في الثروة والإنتاجية، ولكن في الهند، كانت الدولة «مشلولة» ورواد الأعمال المحليون «عَمُوا» عن الحاجة إلى الإصلاح. كانت الآفاق قاتمة: «النمو «المُعجِز» الذي حققته تلك البلدان الأخرى المتَّجهة إلى التصنيع سيظل بعيد المنال بالنسبة إلى الهند.»35
لأعوامٍ كان الاقتصاد الهندي ينمو بما سُمِّيَ على سبيل السخرية «معدل النمو الهندوسي». فقد زادت الإصلاحات المشجِّعة للشركات في الثمانينيات من معدل النمو، وزادته أكثر الإصلاحات المشجعة للسوق في التسعينيات. ويعبِّر جدول ٢٦-١ عن التحسُّن المطَّرِد في أداء الاقتصاد الهندي.
جدول ٢٦-١: النمو الاقتصادي في الهند، ١٩٧٢–٢٠٠٢ (المصدر: فيجاي إل كِلكار، «الهند: على طريق النمو السريع»، خطاب كيه آر نارايان (كانبيرا: الجامعة الوطنية الأسترالية، ٢٠٠٤)).
الفترة معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي معدل النمو في نصيب الفرد من الدخل القومي
١٩٧٢–١٩٨٢ ٣٫٥٪ ١٫٢٪
١٩٨٢–١٩٩٢ ٥٫٢٪ ٣٪
١٩٩٢–٢٠٠٢ ٦٪ ٣٫٩٪

٧

عندما أعلن في بي سينج العمل بتوصيات تقرير مندل، لم يُلْقِ حزب المؤتمر — الذي كان هو حزب المعارضة آنذاك — بالًا للأمر، ثم عاد حزب المؤتمر إلى السلطة في انتخابات ١٩٩١، رغم أدائه الضعيف في أوتَّر براديش وبيهار، الذي عوَّضه أداؤه القوي في الجنوب. لكن إن قُدِّرَ لحزب المؤتمر استعادة مكانته في الشمال يومًا، وجب عليه استمالة الطوائف الاجتماعية المتخلفة من جديد. وبناءً عليه، أصدر رئيس الوزراء الجديد المنتمي إلى حزب المؤتمر، بي في ناراسيمها راو، أمرًا حكوميًّا جديدًا في ٢٦ سبتمبر ١٩٩١، أَيَّدَ تقرير مَندَل، ولكن زاد عليه أنَّه في تخصيص ٢٧٪ من الوظائف لفئة الطوائف المتخلفة الأخرى «سوف تُمْنَح الأفضلية للمرشحين المنتمين إلى القطاعات الأكثر فقرًا» بينها.

في الوقت نفسه، استمرت جلسات المحكمة العليا بشأن الدعوى المرفوعة أمامها، وفي النهاية أصدرت حكمها في ١٦ نوفمبر ١٩٩٢، فرفض سبعة قضاة الدعوى، وحكموا بدستورية توصيات لجنة مَندَل والأوامر الساعية إلى تنفيذها، بينما عارَض ثلاثة قضاة الحكم. اتسمت مذكرة الحكم بطابع الإسهاب المعتاد فيها، إذ ملأت قرابة ٥٠٠ صفحة مطبوعة بمسافات ضيقة. احتجَّ القضاة المعارضون بأنَّ «تصنيف الأشخاص حسب الطائفة الاجتماعية غير دستوري»، وأنَّ تحديد الفئات المحرومة ينبغي أن يستند عوضًا عن ذلك إلى معايير غير شخصية مثل الدخل. وعلى الجانب الآخر، تحدَّث القاضي جيفان ريدِّي باسم الأغلبية، مشيرًا إلى الأحكام السابقة التي اسْتُخْدِمَت فيها الطوائف الاجتماعية نيابةً عن التخلف، وحاجَجَ:
من المفروغ منه أنَّه في السياق الهندي، يفضي التخلف الاجتماعي إلى تخلف تعليمي وكلاهما معًا يفضيان إلى الفقر، الذي يغذي بدوره التخلف الاجتماعي والتعليمي وينشرهما، فكلٌّ منهما يغذِّي الآخر مُشَكِّلَيْن حلقة مفرغة. ومن المعروف أنَّه حتى وقت الاستقلال كانت عمالة الجهاز الإداري من الطوائف الاجتماعية «العليا» بصفة شبه تامة؛ فالشودرا (المَنْبوذون) والطوائف الْمُجَدْوَلَة والقبائل الْمُجَدْوَلَة وغير ذلك من الفئات الاجتماعية المتخلفة المشابهة بين المسلمين والمسيحيين لم يكن أمامهم سبيل لدخول الجهاز الإداري في واقع الأمر، وكان هذا الاختلال هو ما ينبغي معالجته بإتاحة حجز المقاعد لصالح تلك الطبقات المتخلفة.36

أضافت المحكمة العليا في إقرارها الأوامر الحكومية شرطين، هما: ألا تزيد نسبة الوظائف المحجوزة عن ٥٠٪ من الوظائف الحكومية، وأن يقتصر تطبيق معيار الطائفة الاجتماعية على التعيينات فحسب، وليس الترقيات أيضًا.

كان حزب جاناتا هو الذي شكَّل لجنة مَندَل عام ١٩٧٨، بينما طبَّق تجسيده الجديد — حزب جاناتا دال — توصياتها عام ١٩٩٠، فلم تشاركه الأحزاب المنافسة حماسه في هذا الشأن في بداية الأمر. فقد كان المعتاد للحزب الشيوعي الهندي والحزب الشيوعي الماركسي أن يعتبرا الطبقة — لا الطائفة الاجتماعية — المحور الرئيسي للتعبئة السياسية. أما حزب بهاراتيا جاناتا فقد احتل الدين (الهندوسي) موقع الصدارة لديه، وحزب المؤتمر زعم التحدث بلسان الأمة قاطبة. إلا أنَّه عند صدور حكم المحكمة العليا في نوفمبر ١٩٩٢، كانت تلك الأحزاب كافة مستعدة لتأييده، فقد استوعبت بسرعةٍ التداعيات السياسية المترتبة على تقرير مَندَل والتكاليف السياسية لمعارضته.

يشبه الجدل المحيط بلجنة مَندَل، في بعض النواحي، النقاش الذي دار في خمسينيات القرن العشرين، بشأن تقرير لجنة إعادة تنظيم الولايات. فالطائفة الاجتماعية — كعلامة على الهوية — لم تكن أقل بدائيةً من اللغة، ومثلها أيضًا كان من المرجَّح استخدامها بنجاح للتعبئة الاجتماعية والسياسية واستغلالها من دعاة التحديث من المثقفين. وآنذاك — كالآن — كانت قوة الحجة تفقد وجاهتها عند مواجهتها بمنطق الأرقام. وآنذاك — كالآن — ما بدأ نقاشًا خلافيًّا متعدد الجوانب انتهى بوفاق لعموم الأحزاب.

معظم التقارير الصادرة عن حكومة الهند لا يقرؤها سوى قليل من الناس ويناقشها قلة منهم، أما تقرير لجنة إعادة تنظيم الولايات وتقرير لجنة مَندَل فكان لهما وضع استثنائي بصفة عامة؛ فقد اطَّلع عليهما عدد كبير من الناس، وناقشهما عدد أكبر، بل إنهما في الواقع طُبِّقَا، وقد يكونان أيضًا — ولو لمجرد عدد الناس الذين تأثروا بهما — أقوى تقريرين أصدرتهما حكومة يومًا في أي مكان من العالم.

كان التأثير الذي خلَّفته لجنة إعادة تنظيم الولايات مباشرًا؛ إذ أدَّت إلى إعادة رسم الخريطة الإدارية للهند على أسس لغوية. أما تأثير لجنة مَندَل فكان غير مباشر في معظمه؛ فبموجبها خُصِّصَت بضعة آلاف من الوظائف فحسب لفئة الطبقات المتخلفة الأخرى، إلا أنَّ النقاش الذي ألهمه التقرير، والقَبول به في نهاية الأمر، قدَّما دفعة هائلة لكبرياء تلك الفئة وتوحدها. وكان من بين المستفيدين منها اليادافين: لالو ومولايام، فكلاهما ترك حزب جاناتا دال وأنشأ حزبه الخاص، وبنجاح كبير أيضًا. وقد ظل حزب راشتريا جاناتا دال الذي أسسه لالو مُتَبَوِّئًا مقعد السلطة في بيهار أكثر من عَقد من الزمان (حتى عام ٢٠٠٥)، وهو مرة ثانية، أثناء كتابتي لهذه السطور، الحزب الذي يقود حكومة ائتلافية في الولاية، بينما تقلَّد على نحوٍ مؤقت حزب سَماجوادي الذي أسسه مولايام السلطةَ في أوتر براديش في تسعينيات القرن العشرين، وقد عاد إلى السلطة مرة أخرى أثناء كتابتي هذه السطور، مع شغل ابن مولايام، أكيليش ياداف، منصبَ رئيس الوزراء.

٨

في الانتخابات البرلمانية لعام ١٩٩١، رَبِحَ حزب بهاراتيا جاناتا ١٢٠ مقعدًا؛ أي أكثر من الانتخابات السابقة بخمسة وثلاثين مقعدًا. وفي الوقت نفسه، فاز بانتخابات مجلس الولاية في أوتَّر براديش؛ فأصبح بذلك مسيطرًا على أربع ولايات في شمال الهند، هي: ماديا براديش، وراجستان، وهيماجَّل براديش، إضافةً إلى أوتر براديش، فكان من الواضح أنَّ حملة معبد رام أتت بثمار سياسية. كانت أعمال الشغب قد تُرْجِمَت فعليًّا إلى أصوات انتخابية. وفي الوقت نفسه، أسفرت تلك النجاحات عن أزمة هوية، فهل كان حزب بهاراتيا جاناتا حزبًا سياسيًّا أو حركة اجتماعية؟ رأى بعض قيادات الحزب آنذاك أنَّ الحزب صار ينبغي عليه تنحية الخلاف بشأن المسجد والمعبد جانبًا، وأن يطرح — عوضًا عن ذلك — أسئلة أشمل بشأن السياسة الاقتصادية والخارجية، ويعمل أيضًا على توسيع دائرة نفوذه في جنوب الهند. على الجانب المقابل، كان المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج مُصِرَّين على إبقاء الضوء مُسَلَّطًا على الأرض المتنازَع عليها في أيوديا. وفي أكتوبر ١٩٩١، اشتريا الأرض المحيطة بالمسجد، وبدآ تمهيدها، استعدادًا لبناء المعبد.

في يوليو ١٩٩٢، أرسلت الحكومة المركزية فريقًا لدراسة الوضع، فوجد الفريق «هدمًا واسع النطاق» في المنطقة المتنازَع عليها، وأنَّ «منصة أسمنتية كبيرة» شُيِّدَت، وقد مثَّل كلٌّ منهما خرقًا واضحًا لأوامر المحكمة التي طالبت بإبقاء الحال على ما هو عليه. وكان مما أثار استياء الفريق أنَّ حكومة أوتَّر براديش — برئاسة رجل منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج المُخَضْرَم كَليان سينج — غضَّت الطرف عن تلك الأنشطة؛ ففي مجمل الأمر، كان ثمة «انتهاك صارخ للقانون» في أيوديا.

كانت وزارة الداخلية في نيودلهي قد أعدَّت خطة بديلة — خوفًا من تصاعد المشكلة — تسمح بفرض الحكم الرئاسي على ولاية أوتَّر براديش وتولِّي الحكومة المركزية إدارة المُجَمَّع المكوَّن من المسجد والمعبد. إلا أنَّ رئيس الوزراء، بي في ناراسيمها راو، كان لا يزال لديه أمل في حل المسألة بالحوار؛ فقد عقد عدة اجتماعات مع قيادات المجلس الهندوسي العالمي، وأجرى مشاورات أيضًا مع لجنة عمل مسجد بابري، ونُوقِشَ أيضًا احتمال إحالة المسألة إلى المحكمة العليا.37
في تلك الأثناء، أعلن المجلس الهندوسي العالمي أنَّ يوم ٦ ديسمبر اخْتِيرَ باعتباره اليوم «الميمون» لبدء العمل في بناء المعبد. وبدءًا من منتصف نوفمبر، بدأ المتطوعون يتوافدون إلى أيوديا، وقد تشجَّعوا بحقيقة أنَّ حكومة الولاية أصبحت في قبضة حزب جاناتا بهاراتيا، فاسْتُدْعِيَ رئيس وزراء الولاية — كَليان سينج — إلى نيودلهي، وأهاب به رئيس الوزراء بي في ناراسيمها راو أن يسمح للمحكمة العليا بحسم تلك القضية، فردَّ سينج قائلًا: «الحل الشامل الوحيد لنزاع أيوديا هو تسليم البناء المتنازَع عليه للهندوس.»38
كان كليان سينج قد أصدر تعليمات لحكومته بإيواء آلاف المتطوعين الوافدين من خارج الولاية وإطعامهم، فأثارت التقارير الواردة عن هذا التدفق واسع النطاق من خارج الولاية انزعاج وزارة الداخلية، وأعدَّت خطة بديلة جديدة، أرسلت بموجبها قوات شبه عسكرية إلى أيوديا. وبحلول نهاية الشهر كان ثمة نحو ٢٠ ألف جندي مرابِط في مواقع تبعد عن البلدة مسيرة ساعة، على استعدادٍ للتحرك متى لزم الأمر. وزعم وزير الداخلية آنذاك أنَّ ذلك «كان الحشد الأكبر لقوات من هذا النوع من أجل عملية من هذا القبيل منذ الاستقلال».39
في المقابل، وصل البلدة أكثر من ١٠٠ ألف متطوع «حاملين رماحًا ثلاثية الشُّعَب وأقواسًا وسِهامًا». وفي اليوم الأخير من شهر نوفمبر، أثناء مؤتمر صحفي في دلهي أعلن فيه إل كيه أدفاني تحرُّكه هو نفسه صوب أيوديا، قال: «ليس في مقدوري تقديم أي ضمانات في هذه اللحظة بخصوص ما سوف يحدث في ٦ ديسمبر. كل ما أعلمه هو أننا سوف نتطوَّع.»40

صبيحة يوم ٦ ديسمبر، وجد صحفي في موقع الحدث أنَّه: «على جانبي الجدار الأمني المحيط بالمسجد وقف رجال الشرطة المسلحة الإقليمية ممسكين بالهراوات، ومتطوعو راشتريا سوايامسيفاك سانج لابسين شارات على أذرعهم.» ولم يُطلَب من قوات الحكومة المركزية المرابطة في محيط أيوديا التحرُّك إلى داخل البلدة، فقد تُرِكَت المهمة لشرطة أوتر براديش وقواتها الإقليمية. كان المجلس الهندوسي العالمي ينوي بدء الصلاة في الساعة الحادية عشر ونصف صباحًا، على المنصَّة المرتفعة التي شُيِّدَت من قبل. إلا أنَّه بحلول ذلك الوقت، كان بعض المتطوعين قد بدءُوا يقومون بتحرُّكات متوعِّدة صوب المسجد، فحاول أعضاء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وأفراد الشرطة التصدِّي لهم، ولكن الجماهير أمطرتهم بوابل من الحجارة؛ إذ تزايد غضبها باطِّراد، وهتفوا مشيرين بأصابعهم إلى مسجد بابري: «سوف نبني معبدنا هنا.» ثم أقدم صبي جريء على تسلُّق السور المحيط بالمسجد واعتلى إحدى قبابه، فكانت تلك إشارة اندفاع الحشود نحو ذلك البناء الأثري؛ فرَّ رجال الشرطة، سامحين لمئات المتطوعين بالهجوم على المسجد، ملوِّحين بالفئوس والقضبان الحديدية.

عند حلول فترة الظهيرة، كان المتطوعون يزحفون على جميع أركان المسجد، مُمسكين برايات زعفرانية اللون وهاتفين بشعارات النصر. وثُبِّتت خطاطيف مربوطة في حِبال على القِباب، بينما انهالوا على القاعدة بالمطارق والفئوس. وفي الثانية ظهرًا، انهارت إحدى القباب، مُسقِطةً معها نحو اثني عشر رجلًا، وصاح الواعظ الراديكالي سادهفي ريتامبارا: «ادفعوا أكثر وسينهار مسجد بابري بأكمله.» في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرًا، سقطت قبة ثانية، وبعد ساعة هُدِمَت القبة الثالثة والأخيرة أيضًا؛ فالبناء الذي شهد صعود حكام وأسر حاكمة كثيرة وزوالها، والذي صمد أمام ٤٠٠ موسم أو أكثر من الرياح المطيرة العاتية، أُحِيلَ خلال ما بعد ظهيرة يوم واحد حُطامًا.41
هل تَمَّ هَدْم مسجد بابري بتخطيط مُسبَق؟ أو أنه ببساطة كان نتيجة تعبير تلقائي عن المشاعر والغضب الشعبيَّين؟ من المؤكد أنَّ بعض قيادات حزب بهاراتيا جاناتا هالَهم المنحى الذي اتخذته الأحداث. فعلى الرغم من الحديث المُهَدِّد الذي وجَّهه إل كيه أدفاني قبل أسبوع، فإنه عندما رأى المتطوعين يداهمون البناء الأثري، طلب إليهم الرجوع. وإذ تداعت القِباب، انخرط في جدال مع كبيرَي منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج: إتش في سِشداري وكيه إس سودارشان. كان رأيهما أنَّه لَمَّا كانت الفعلة قد ارْتُكِبَت، فينبغي للمنظمة والحزب أن ينسبا إلى أنفسهما الفضل فيها. وقال سودارشان إلى أدفاني: «مسار التاريخ ليس مُحدَّدًا سلفًا. فلتتقبَّل ما حدث.» ورد أدفاني قائلًا إنه عوضًا عن ذلك سوف «يُعْرِب عن أسفه على ما حدث علنًا».42
وفي المؤتمرات الصحفية التالية للحدث، كان أكثر لفظ استخدمه المتحدث الرسمي باسم حزب بهاراتيا جاناتا في وصف أحداث أيوديا هو: «مؤسفة». فقد كانوا يعلمون أنَّه في ظل نظام ديمقراطي محكوم بسيادة القانون، من المستبعَد تمامًا القَبول بارتكاب حزب المعارضة الرئيسي لعمل تخريبي. وفي لقاء صحفي في مقر الحزب بدلهي مساء يوم ٦ ديسمبر، المنظِّر كيه آر مالكاني «أوضح أنَّنا كنا نرغب فعلًا في إزالة البناء القديم، ولكن بموجب إجراءات قانونية سليمة، فكان مبعث الأسف هو هدمه بأسلوب غير نظامي». وسعيًا إلى أنْ ينأى بحزبه عن الواقعة، زعم أنَّ المتطوعين الذين هاجموا المسجد كانوا على الأرجح من حزب شيف سِنا نظرًا لسماعهم يتحدثون الماراثية.43
أما العناصر الراديكالية في الحركة فكانت أقل لؤمًا. فقد تفاخر أحد قيادات المجلس الهندوسي العالمي بأنَّه منذ شهر سبتمبر طُلِب إلى المهندسين تحديد نقطة الضعف في البناء، ودُرِّب المتطوعون على أفضل وسيلة لإسقاطها. وقال لأحد الصحفيين: «دون هذا التخطيط كيف تظن أننا استطعنا دَكَّ المسجد في غضون ست ساعات؟ هل تظن أن مجموعة من المتطوعين المحمومين كان من الممكن أن يُنَفِّذوا الأمر بهذا القدر من المنهجية؟»44 وفي خطاب ألقاه السياسي المحب للجدل أرون شوري في مدراس بعد هدم المسجد بفترة قصيرة، أشار إلى أنَّه «في حين أن قيادات حزب بهاراتيا جاناتا حاولت أن تتنصَّل مما حدث وتنأى بنفسها عنه، نسب هندوس الهند التدمير إلى أنفسهم، وأقروا بفعله». وقال شوري إنَّ أحداث أيوديا أظهرت «أنَّ الهندوس أدركوا الآن أنَّ أعدادهم كبيرة جدًّا، وأنَّ المتحكمين في جهاز الدولة يشاركونهم الشعور، وأنَّه يمكنهم إخضاع الدولة لإرادتهم». وكان هو نفسه يأمل في أنَّه: «لا بد من النظر إلى حركة أيوديا على أنها نقطة البداية لوعيٍ وفهمٍ ثقافيَّين من شأنهما أن يُفْضِيا في نهاية المطاف إلى إعادة هيكلة كاملة للحياة العامة الهندية بأساليب تتماشى مع التراث الحضاري الهندي»؛ وهي طريقة ملتوية بعض الشيء لقول إنَّ هدم مسجد بابري ينبغي أن يكون تمهيدًا لإعادة تشكيل الهند على هيئة دولة هندوسية، وربما كان ذلك ما سيحدث بالفعل.45
لا يمكن للمرء أن يجزم بإجماع الهندوس على هذه الأحاسيس، كما افترض شوري، إلا أنَّ الهندوس الذين هدموا المسجد يوم ٦ ديسمبر كانوا بلا شك عازمين على إخضاع الدولة الهندية لإرادتهم. كانت القوى القادرة على وقفهم موجودة، ولكن الأمر الذي كان ينبغي أن يدفعها للتحرُّك لم يصدر قط، وحكومة رئيس الوزراء ناراسيمها راو، خوفًا من أن تُتَّهَم بمعاداة الهندوسية، «رأت أنَّ هدم المسجد كان أخف الضررين»، فلم يُتَّخَذ أي إجراء إلا عقب إتمام الفعلة، وتمثَّل في إقالة حكومة أوتَّر براديش وفرض الحكم الرئاسي.46

عندما سقطت قِباب مسجد بابري، أسقطت معها متسلقيها أيضًا، فأُصِيبَ أكثر من خمسين من المتطوعين، بعضهم كان في حالة خطرة جدًّا، وسُجِّلَت ست وفيات على الأقل. وكانت الفترة التالية على الواقعة أخطر من ذلك؛ فالقيادات الرئيسية في حزب بهاراتيا جاناتا — مثل إل كيه أدفاني — وُضِعوا رَهْنَ الحبس الاحتياطي، إلا أنَّ أعمال الشغب تفجَّرت في بلدة تلو الأخرى، في نوبة عنف جماعي دامت شهرين وحصدت أكثر من ألفي روح.

بدأت المتاعب في محيط الحادث نفسه. فقد أعرب أحد رجال الدين المؤثرين في المنطقة عن رغبته في أن تصبح أيوديا «فاتيكان الهندوس». وكان تطهير البلدة من الأقليات مجرد خطوة واحدة ضمن الخطوات المؤدية إلى الهدف الأسمى، فقد أشعل متطوعون الحرائق في منازل المسلمين وأحيائهم السكنية احتفالًا بهدم المسجد. وفي بلدات أخرى، جاءت أعمال الشغب نتيجة مسيرات نظَّمها المجلس الهندوسي العالمي، وفي مناطق أخرى، كان المسلمون هم من يخرجون إلى الشوارع احتجاجًا على الهَدم، مُهاجمين أقسام الشرطة ومحاولين إحراق المباني الحكومية.

غطَّت أعمال الشغب — التي كانت تنشأ أحيانًا عن هندوس منتصرين وأحيانًا أخرى عن مسلمين مقاوِمين — أجزاءً كبيرة من شمال الهند وغربها، وسقط ضحيتها ٢٤٦ في جوجارات و١٢٠ في ماديا براديش و١٠٠ في آسام و٢٠١ في أوتَّر براديش و٦٠ في كارناتاكا. وتدرَّجت الأسلحة التي استخدمتها الجموع من الأحماض الحارقة والمقالع إلى السيوف والأسلحة النارية. وكان الأطفال يُحْرَقون أحياء، والنساء يُقْتَلن برصاص الشرطة؛ ففي وباء العنف الذي خَيَّمَ على البلاد «شُوهِدَت … القسوة الإنسانية الخالصة بكل صورة ممكنة».47

كانت أكثر المدن تضرُّرًا هي عاصمة الهند التجارية: بومباي؛ ففي صباح يوم ٧ ديسمبر، تفجَّرت في أحد المناطق التي يقطنها المسلمون — طريق محمد علي — موجة غضب جماعي هادرة، أغارت الجموع فيها على متاجر الهندوس وأحرقت دُمى قيادات حزب بهاراتيا جاناتا، وكذلك ساوت معبدًا هندوسيًّا بالأرض. وعندما وصلت الشرطة المحلية إلى مسرح الأحداث، لم تُثِر الهيبة في نفوس الناس، وهتف الناس: «الشرطة في أيوديا وقفت مكتوفة اليدين وسمحت بهدم المسجد. سوف ننال منكم الآن.» وطوال ذلك اليوم واليوم التالي له، دارت معارك في المنطقة بين الشرطة والجموع، وقُتِلَ ستون شخصًا على الأقل في أحداث العنف.

في تلك الأثناء، في شمالي المدينة، عانت منطقة دهارافي العشوائية آثار النصر الزائدة لدى الهندوس؛ فقد انتهت «مسيرة نصر» نظَّمها حزب شيف سِنا وحزب بهاراتيا جاناتا بهجمات على بيوت المسلمين ومتاجرهم، ورَدَّ المسلمون بطعن رجل دين هندوسي وإشعال النار في معبده. في مناطق أخرى، لم تَصُبَّ الجموع غضبها على الجماعة السكانية المناوئة وإنما على الدولة، فقد هُشِّمَت عشرات الحافلات الحكومية أو أُحْرِقَت، وكذلك ما لا يقل عن ١٣٠ محطة حافلات.48
وفي يوم ٩ ديسمبر، أعلن حزبا شيف سِنا وبهاراتيا جاناتا إضرابًا في كافة أنحاء بومباي احتجاجًا على اعتقال قياداتهما في أيوديا؛ فقال صحفي في بومباي مسترجعًا ذكرياته إنَّ تلك «كانت الإشارة لأتباعهم كي يهبُّوا في ثورة هائجة. فقد هاجموا المساجد والمؤسسات الإسلامية. وفي إحدى المناطق علَّق حزب شيف سِنا إعلانًا عن جائزة قدرها ٥٠ ألف روبية لمن يدلُّ على منزل يسكنه مسلمون».49
كان أتباع شيف سِنا يستمدون التشجيع من قائدهم ومعلِّمهم: بالا صاحب تاكري؛ ففي مقالة افتتاحية في صحيفة الحزب — «سامنا» — نُشِرت في ١٠ ديسمبر، أصرَّ تاكري على أنَّ ما حدث في الأيام القليلة الماضية كان مجرد:
بداية عهد الحرب الانتقامية. وفي هذا العهد، لن يتغير تاريخ وجغرافيا هذا البلد وحده، وإنما تاريخ وجغرافيا العالم أجمع؛ فحلم الدولة الهندوسية المتحدة سوف يتحقق، وحتى ظِل الآثمين المتعصِّبين [أي، المسلمين] سيختفي من أرضنا. الآن سنحيا ونموت في سعادة … لا يمكن لثورة أن تقوم على ذرف الدموع. الثورة لا تحتاج سوى قربان واحد: دماء المخلصين لها!50

فُرِضَ حظر التجوال واسْتُدْعِيَ الجيش، وعلى الرغم من ذلك استغرقت إعادة الأوضاع إلى طبيعتها في بومباي عشرة أيام، حتى عادت قطارات الضواحي إلى العمل، وعادت الأعمال والمصانع إلى سابق عهدها. استمر السلام ثلاثة أسابيع، إلا أنَّ أعمال الشغب اندلعت مرة أخرى في بداية يناير؛ ففي صباح يوم ٥ يناير، طُعِنَ عاملان هندوسيان في الميناء حتى الموت في حي سكني يقطنه مسلمون. لم يتضح سبب الحادث — ربما كانت خصومة نقابية — إلا أنَّ قصة مقتل هندوسين في منطقة يسكنها مسلمون ترددت في جميع أنحاء المدينة، مُثيرةً المزيد من العنف؛ ففي دهارافي، أعمل الهندوس الغاضبون السلب والنهب في المتاجر والمخازن المملوكة للمسلمين. وفي منطقة عشوائية أخرى — جوجيشواري — أُحْرِقَت أسرة هندوسية حتى الموت. ومن ثم تأججت نيران الفتنة أسبوعًا، حتى أعلن تاكري في مقالة افتتاحية في صحيفة «سامنا» أنَّ الهجمات يمكن أن تتوقَّف «لأنَّ المتعصبين لُقِّنوا درسًا». وكانت الأقليات بالفعل هي التي تحمَّلت وطأة العنف. فمن بين ضحايا أعمال الشغب الذين بلغ عددهم قرابة ٨٠٠ شخص، كان ثلثاهم على الأقل مسلمين، على الرغم من أنَّ المسلمين شكَّلوا ١٥٪ فحسب من تعداد سكان المدينة.

مرة أخرى عادت الأوضاع في بومباي إلى طبيعتها ببطء وصعوبة، هذه المرة دام السلام شهرين؛ ففي ١٢ مارس ١٩٩٣، حدثت سلسلة من التفجيرات المتوالية في جنوب بومباي؛ أحدها أمام مبنى البورصة، والأُخْرى أمام فنادق فاخرة وشركات أو داخلها. كان الهدف من ذلك هو إحداث أكبر قدر من الضرر؛ إذ حدثت التفجيرات في بداية فترة ما بعد الظهيرة، وهو أكثر الأوقات ازدحامًا في أكثر أنحاء المدينة ثراءً؛ فلقي أكثر من ٣٠٠ حتفهم في التفجيرات، وكانت المادة المستخدمة هي مادة آر دي إكس شديدة التفجير. أُجْرِيَت العمليات بتوجيه اثنين من زعماء المافيا المقيمين حينها في دبي، فما يبدو انتقامًا من مقتل إخوانهم في الدين في وقت سابق من ذلك الشتاء.

أدى صعود حزب شيف سِنا إلى تقويض سُمعة بومباي إلى حد ما — مع مرور السنين — باعتبارها مدينة عالمية التوجُّه ومتعددة الثقافات. نالت تلك الصورة ضربة قاصمة من خلال أعمال الشغب والتفجيرات التي حدثت عامي ١٩٩٢ و١٩٩٣. حينها أصبحت «مدينة تغيرت إلى الأبد» و«مدينة تعاني انقسامًا عميقًا» بل حتى «مدينة في حرب مع نفسها».51
كان هدم مسجد بابري محبطًا في حد ذاته، ولكن كما قال الصحفي بِهرام كُنتراكتور: «ربما لم تكن المأساة الكبرى هي أنَّ الهند لم تَعُدْ بلدًا علمانيًّا، وإنما أنَّ بومباي لم تَعُدْ مدينة عالمية التوجُّه؛ فأيًّا كان ما سيحدث من الآن فصاعدًا، سواء حُلَّت مسألة رام جانمابهومي أم لا، وسواء تعلَّم الهندوس والمسلمون العيش معًا من جديد أم لا، فسُمعة بومباي بصفتها مدينة العيش الحر النابضة بالحياة، التي تستوعب بشرًا من جماعات الهند وأنحائها كافة، قد انتهت إلى الأبد.»52
تَبِعَ صعود اليمين الهندوسي بصفة عامة وأحداث أيوديا بصفة خاصة موجةٌ من التوقُّعات التشاؤمية القاتمة بشأن مستقبل الهند. جاء في مجلة تصدر بمدراس، تُدعى «فرانتلاين»: «لقد أصاب النسيج العلماني للبلاد ضرر بالغ»، وأُضيف: «ستتغير الهند إلى الأبد»، وذلك لأنَّ «أحداث ٦ و٧ ديسمبر قدَّمت للهند لمحة مما سيكون عليه الوضع في حالة خروج الدولة الهندوسية التي تسعى إليها الحركة القومية الهندوسية إلى حيز الوجود. اتَّضح … أنَّ الأقليات لن يعود لها الحق في الحياة — ناهيك عن الحق في التفاعل الاجتماعي — وأنَّ حرية التعبير ستختفي من الوجود، وأنَّ الحقيقة ستنحصر فيما يراه الحُكَّام». وورد التعليق الآتي في مجلة «صنداي» الأسبوعية الصادرة بكلكتا: «في الأسبوع التالي [على ٦ ديسمبر ١٩٩٢]، تغيَّرت الهند، ربما للأبد.» ومع انهيار السلطة وسيادة القانون، اقتربت الهند في أعين العالم خطوة نحو اعتبارها «جمهورية أفريقية مخوَّخة». وأشارت مجلة «إنديا توداي» التي تصدر في نيودلهي في حسرة إلى أنَّ: «القوى التي أطلقت أعمال التخريب في أيوديا العنان لها لم تبدأ في زهق عدد كبير من الأرواح البشرية فحسب، وإنما في إحالة آمالنا وتطلُّعاتنا كشعب وأمة حطامًا أيضًا.»53
شاركت الصحافة الغربية نظيرتها الهندية تلك المخاوف أيضًا. كتبت مجلة «تايم»: «مثل القباب الثلاث التي توَّجت مسجد بابري الذي شُيِّدَ منذ ٤٦٤ عامًا، أعمدة الدولة الهندية الثلاثة — الديمقراطية والعلمانية وسيادة القانون — أصبحت الآن في خطر من غضبة القومية الدينية.»54 وفي اليوم التالي لانهيار المسجد، نشرت صحيفة «ذا تايمز» اللندنية خبرًا بعنوان: «متطرِّفون يدفنون آمال التآلف في حُطام مسجد هندي». واقتبس عدد اليوم التالي آراء جاك سترو، السياسي المنتمي إلى حزب العمل، الذي كان في زيارة إلى بومباي آنذاك. كان سترو يرى أنَّ ثمة خطرًا حقيقيًّا متمثِّلًا في أنْ تنزلق الهند «إلى هُوَّة التعصب الطائفي». وتضمَّن العدد نفسه مقالة افتتاحية للمفكر الأيرلندي كونر كروز أوبراين، الذي أعلن في ثقة: «يبدو أنَّ تاريخ الهند كدولة علمانية في سبيله إلى الانتهاء.» وتوقَّع أوبراين فرارًا جماعيًّا للمسلمين إلى باكستان، وهجرة الهندوس المتعلِّمين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.55
كانت تلك هي ردود الأفعال الفورية — التلقائية، إن جاز القول — للصحفيين سريعي الانفعال ومحترفي النقد الساخر. (كان أوبراين قد تنبأ قبلًا بأن سقوط حائط برلين سيؤدي إلى إعادة إحياء عقيدة هتلرية وحزب قائم على المُثُل النازية.) إلا أنَّ الكُتَّاب المدرَّبين على النظر إلى الآثار طويلة الأمد ردَّدوا تلك المخاوف أيضًا. فقد علَّق كاتب بريطاني ألف العديد من الكُتُب المُحِبَّة عن شبه القارة الهندية قائلًا: «كل من يعبأ بذلك البلد جدير به أن يرتعد خوفًا على مستقبل ديمقراطيته العلمانية.»56 وبلغ الأمر بباحث أمريكي — بول براس — قضى عمره يدرس الهند حد مقارنة سانج باريفار بالنازيين قائلًا: «آن الأون أن نشير إلى أنَّ السياسة الهندية والمجتمع الهندي يظهر عليهما كثير من أعراض مرحلة فتَّاكة سابقة على الفاشية أنتجت بالفعل نماذج موضعية متعددة على شاكلة «مذبحة ليلة الكريستال» في عدة مواقع حضرية.» ورأى براس أنَّ «انتشار العنف والفوضى والاضْطِرابات على المستوى المحلي»، قد يدفع الحكومة المركزية (التي كانت تحت سيطرة حزب المؤتمر آنذاك) إلى «الانخراط في ممارسات سلطوية مرة أخرى». ومن ثم «قد تتفكك الدولة الهندية في هذا الصِّدام بين الانتهازيين العلمانيين والقوميين المتعصبين، المتساوين في سعيهم وراء الأوهام والخرافات، و«رموز وخيالات» الوحدة الوطنية والعَظَمة التي تسعى وراءها نظم القرن العشرين الاستبدادية كافة».57

كانت تلك التنبؤات قاتمة ومثيرة للقلق، كما هو حال التوقعات الغربية دائمًا منذ استقلال الهند في ١٩٤٧. في وقتٍ سابق، اعتُقد أن الهند ستتفتت إلى أجزاءٍ عديدة أو تعاني من مجاعةٍ جماعية. والآن، قيل إنها قد تصبح دكتاتوريةً مخوِّخة من النوعية الأفريقية أو دكتاتورية فاشية على شاكلة النماذج الأوروبية. لم تتحقق تلك التنبؤات أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، ترك تدمير مسجد بابري وأعمال الشغب التي تبِعته جروحًا عميقة، شعر بها بعض الأفراد والجماعات وربما الأمة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤