الفصل السابع

آلية القفز إلى النتائج

كان للممثل الكوميدي العظيم داني كاي عبارة ظلت عالقة في ذهني منذ فترة مراهقتي. في حديثه عن امرأة لا يحبها، قال: «مكانها المفضل هو إلى جانب نفسها، ورياضتها المفضلة هي القفز إلى النتائج.» وردت هذه العبارة إلى ذهني، كما أتذكر، في محادثة مبدئية دارت بيني وبين عاموس حول عقلانية الحدس الإحصائي، وهي عبارة أعتقد حاليًّا أنها تقدِّم وصفًا مناسبًا لطريقة عمل النظام ١. يعتبر القفز إلى النتائج أمرًا فعَّالًا إذا كان من المرجح أن تكون النتائج صحيحة، وأن تكون تكاليف ارتكاب خطأ عرضي مقبولة، وإذا كانت عملية القفز هذه توفِّر الوقت والجهد. لكن عملية القفز إلى النتائج محفوفة بالمخاطر عندما يكون الموقف غير مألوف، وتكون المخاطر مرتفعة، ولا يوجد وقت لجمع المزيد من المعلومات. تلك هي الملابسات التي يُحتمل وقوع الأخطاء الحدسية فيها، وهو ما يمكن تلافيه من خلال التدخل العمدي للنظام ٢.

إهمال الغموض ومنع الشك

فِيمَ تشترك الصور الثلاث في الشكل ٧-١؟ الإجابة هي أن جميع هذه الصور غامضة. بينما تقرأ يقينًا تقريبًا الأحرف إلى اليسار هكذا: A B C، والأرقام إلى اليمين هكذا: 12 13 14، تتطابق العناصر الوسطى في كلتا الصورتين. ربما أيضًا تقرأ الصورتين هكذا: A 13 C و12 B 14، لكنك لم تفعل ذلك. السبب في ذلك أن العنصر نفسه يُقرأ باعتباره حرفًا في سياق من الأحرف وباعتباره رقمًا في سياق من الأرقام. يساعد السياق الكامل على تفسير كل عنصر. بينما تظل الصورة غامضة، فأنت تقفز إلى استنتاج حول طبيعتها ولا تدري بالغموض الذي جرى تفسيره.
fig6
شكل ٧-١
بالنسبة إلى آن في الصورة الوسطى، ربما تصورت امرأة تفكِّر في المال، تسير في اتجاه بناية تضم صرافين وخزائن آمنة. لكن ليس هذا التفسير المنطقي هو التفسير الوحيد الممكن؛ فالجملة غامضة (العبارة معناها «آن تتجه إلى البنك»، ولكن كلمة BANK من معانيها أيضًا ضفة). فإذا كانت هناك جملة سابقة تشير إلى سياق فيه نهر، كنت ستتصور مشهدًا آخر مختلفًا تمامًا. عندما كنت تفكر في النهر، فإن كلمة bank لم تكن ترتبط بالمال. في غياب سياق واضح، ولَّد النظام ١ سياقًا محتملًا من تلقاء نفسه. نعلم أن من قام بذلك هو النظام ١؛ نظرًا لأنك لم تكن واعيًا بعملية الاختيار أو باحتمالية وجود تفسير آخر. اللهم إلا إذا كنت تستقل قاربًا مؤخرًا، فالأرجح أنك تقضي وقتًا أكثر في الذهاب إلى البنوك من الانتقال عبر الأنهار، ومن ثم تنهي حالة الغموض. عندما لا يكون متيقنًا، يراهن النظام ١ على إحدى الإجابات، ويسترشد الرهان بالخبرة. قواعد الرهان تتميز بالذكاء. فتحظى الأحداث الأخيرة والسياق الحالي بالوزن الأكبر في تحديد طبيعة التفسير. عندما لا يرد حادث أخير إلى العقل، تتسود الذكريات الأكثر بعدًا. تشمل أقدم وأكثر خبراتك قابلية للتذكر غناء الأغنية الخاصة بتعلم الأبجدية ABC؛ فأنت بالطبع لم تغني لتتعلم أبجدية من نوع A13C.

بينما يتمثَّل أهم سمات كلا المثالين في اتخاذ خيار محدد، فإنك لا تعرف ذلك. لا يرد سوى تفسير واحد فقط إلى العقل، ولم تدر أبدًا بوجود غموض. لا يتتبع النظام ١ البدائل التي يرفضها، أو حتى حقيقة وجود بدائل. لا يندرج الشك الواعي ضمن عمليات النظام ١. يتطلب الشك الواعي الحفاظ على تفسيرات غير متوافقة في العقل في وقت واحد، وهو ما يتطلب جهدًا عقليًّا. فعدم اليقين والشك هما مجال عمل النظام ٢.

الانحياز للتصديق والتأكد

كتب عالم النفس دانيال جلبرت، المعروف على نطاق واسع باعتباره مؤلف كتاب «العثور على السعادة»، ذات مرة بحثًا، عنوانه «كيف تصدق النُظم العقلية الأفكار»، طوَّر من خلاله نظرية للتصديق أو عدم التصديق عاد بجذورها إلى الفيلسوف باروخ سبينوزا الذي كان يعيش في القرن السابع عشر. اقترح جلبرت أن فهم أي عبارة يجب أن يبدأ بمحاولة تصديقها. يجب أولًا معرفة ماذا ستعني الفكرة إذا كانت صحيحة. فقط حينها يمكن اتخاذ قرار بما إذا كان من الممكن تصديقها أو «عدم تصديقها». تعتبر المحاولة المبدئية للتصديق عملية آلية للنظام ١، وهي عملية تتضمن وضع أفضل التفسيرات الممكنة للموقف. وفق جلبرت، تثير حتى العبارات غير المنطقية تصديقًا أوليًّا. جرِّب مثاله: whitefish eat candy (يأكل السمك الأبيض الحلوى). إنك على الأرجح واعٍ بوجود انطباعات غير محددة حول السمك والحلوى أثناء بحث العملية الآلية للذاكرة الترابطية عن صلات بين الفكرتين التي ستصدق ما لا يمكن تصديقه.
يرى جلبرت عدم التصديق باعتباره أحد عمليات النظام ٢، وأشار إلى تجربة رائعة لتوضيح فكرته. كانت تُعرض على المشاركين في التجربة عبارات غير منطقية مثل a dinca is a flame، يتبعها بعد ثوانٍ قليلة كلمة واحدة، true «صواب» أو false «خطأ». جرى اختبار ذاكرة المشاركين حول أي الجمل كانت «صوابًا». وفق أحد شروط التجربة، كان يُطلب من المشاركين الاحتفاظ بأرقام في الذاكرة خلال إجراء الاختبار. يحظى تدخل النظام ٢ بأثر انتقائي. فقد جعل من الصعوبة بمكان بالنسبة إلى المشاركين «عدم تصديق» الجمل الخاطئة. في اختبار لاحق للذاكرة، انتهى المطاف بكثير من المشاركين المستنفدين إلى الاعتقاد في صحة كثير من العبارات الخاطئة. الدرس المستفاد هنا مهم للغاية. عندما يكون النظام ٢ منشغلًا بأمور أخرى، سنعتقد في صحة أي شيء تقريبًا. فالنظام ١ ساذج، متحيز تجاه التصديق، بينما النظام ٢ مسئول عن الشك وعدم التصديق، في المقابل، يكون النظام ٢ مشغولًا في بعض الأحيان، وكسولًا عادةً. في حقيقة الأمر، هناك دلائل تؤكد أن الأشخاص يتأثرون على الأرجح بالرسائل الإقناعية الفارغة من المعنى، مثل الإعلانات التجارية، عندما يكونون متعبين أو مستنفدين.
تسهم عمليات الذاكرة الترابطية في حدوث «انحياز للتأكيد» عام. عند سؤالك «هل سام ودود؟» سترد أمثلة مختلفة على سلوك سام إلى ذهنك أكثر مما لو سئلت «هل سام غير ودود؟» يمثل البحث العمدي عن دلائل مؤكدة، التي تُعرف باسم «استراتيجية الاختبار الإيجابي»، الطريقة التي يختبر النظام ٢ بها أيضًا فرضية ما. على خلاف قواعد فلاسفة العلم، الذين يشيرون باختبار الفرضيات عن طريق محاولة دحضها، يسعى الناس (والعلماء، في كثير من الأحيان) إلى العثور على البيانات التي تتوافق على الأرجح مع المعتقدات التي يؤمنون بها. يفضِّل التحيز التأكيدي للنظام ١ القبول غير النقدي للاقتراحات والمبالغة في احتمالية وقوع الأحداث المتطرفة وغير المحتملة. إذا سئلت عن احتمالية حدوث تسونامي في كاليفورنيا خلال الثلاثين عامًا المقبلة، فستكون الصور التي ترد إلى ذهنك على الأرجح هي صور أعاصير تسونامي، على غرار الطريقة التي اقترحها جلبرت بالنسبة إلى العبارات غير المنطقية مثل whitefish eat candy. وستميل إلى المبالغة في احتمالية وقوع كارثة.

التماسك الشعوري المبالغ فيه (تأثير الهالة)

إذا أعجبتك سياسات الرئيس، فربما يعجبك صوته ومظهره أيضًا. يُعرف الميل للإعجاب (أو عدم الإعجاب) بكل شيء فيما يتعلق بشخص ما — بما في ذلك الأشياء التي لم تلاحظها — بأثر الهالة. بينما جرى استخدام المصطلح في علم النفس لمدة قرن، لم يجرِ استخدامه على نطاق واسع في اللغة اليومية. هذه مسألة محزنة؛ نظرًا لأن أثر الهالة يعبِّر عن اسم جيد للإشارة إلى انحياز شائع يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل رؤيتنا حول الأشخاص والمواقف. وهو يعتبر أحد الطرق التي يجعل النظام ١ تمثيل العالم من خلالها أكثر بساطة وتماسكًا من العالم الحقيقي.

تلتقي امرأة تُدعى جوان في حفل وتجدها جذابة ودودة. سيرد اسمها إلى الذهن باعتبارها شخصًا يمكن اللجوء إليه للتبرع من أجل جمعية خيرية. ماذا تعرف عن مدى كرم جوان؟ الإجابة الصحيحة هي أنك لا تعرف شيئًا البتة؛ نظرًا لعدم وجود سبب كافٍ في الاعتقاد بأن الأشخاص الذين يتميزون بالأريحية في المواقف الاجتماعية يعتبرون أيضًا أشخاصًا أجاود للجمعيات الخيرية. في المقابل، إنك معجب بجوان وستسترجع شعور إعجابك بها عندما تفكر بها. إنك تحب أيضًا الجود والأشخاص الأجاود. عن طريق التداعي، أنت ميال الآن للاعتقاد في جود جوان. أما وقد اعتقدت الآن في جودها، ستُعجب على الأرجح بجوان أكثر مما كنت تُعجب بها سابقًا؛ نظرًا لأنك أضفت الجود إلى صفاتها الحميدة.

يختفي الدليل الحقيقي على الجود في قصة جوان، ويجري ملء الفراغ من خلال تخمين يلائم استجابة المرء العاطفية إزاءها. في مواقف أخرى، تتراكم الدلائل تدريجيًّا ويشكَّل التفسير من خلال العاطفة المرتبطة بالانطباع الأول. في إحدى التجارب الخالدة في علم النفس، قدَّم سولومون آش توصيفًا لشخصين وطلب من المشاركين التعليق على شخصيتيهما. ما رأيك في آلان وبن؟

آلان: ذكي، مجتهد، مندفع، ناقد، عنيد، حسود.
بن: حسود، عنيد، ناقد، مندفع، مجتهد، ذكي.
إذا كنت مثل معظمنا، فربما رأيت آلان بصورة محببة أكثر من بن. تغيِّر السمات الأولى في القائمة معنى السمات التي تظهر لاحقًا. بينما يجري النظر إلى عناد الشخص الذكي باعتباره على الأرجح أمرًا مبررًا وربما يثير مشاعر الاحترام، يجعل الذكاء لدى شخص حقود وعنيد منه شخصًا أكثر خطرًا. يعتبر أثر الهالة أيضًا مثالًا على الغموض الخفي. فمثل كلمة bank في مثال أسبق، تعتبر الصفة «عنيد» غامضة وسيجري تفسيرها بطريقة تجعلها متوافقة مع السياق.

كانت هناك تنويعات كثيرة على هذا الموضوع البحثي. اكتفى المشاركون في إحدى الدراسات بالصفات الثلاث الأولى التي تصف آلان، ثم انتقلوا إلى الصفات الثلاث الأخيرة، التي تنتمي، كما قيل لهم، إلى شخص آخر. عندما تخيل المشاركون الشخصين، سئل المشاركون عما إذا كان من المنطقي بالنسبة إلى جميع الصفات الست أن تصف الشخص نفسه، لكن ظن معظمهم أنه أمر مستحيل!

تحدد الصدفة عادةً التسلسل الذي نلحظ من خلاله صفات أحد الأشخاص. في المقابل، يعتبر التسلسل مسألة مهمة؛ نظرًا لأن تأثير الهالة يزيد من ثقل الانطباعات الأولى، إلى درجة تجاهل المعلومات التالية في بعض الأحيان. في وقت مبكر من مساري المهني كأستاذ جامعي، كنت أمنح الطلاب في الاختبارات الدرجات وفق الطريقة التقليدية. كنت أختار كُراسة إجابة في المرة الواحدة وأقرأ جميع إجابات ذلك الطالب في تتابع متصل، مع منحه درجات أثناء الانتقال من إجابة إلى أخرى. كنت بعد ذلك أحسب مجموع الدرجات ثم أنتقل إلى الطالب التالي. لاحظت في النهاية أن عمليات تقييمي للمقالات في كل كراسة إجابة كانت متجانسة بطريقة مدهشة. بدأت أشك في أن عملية منح الدرجات كانت تعبر عن تأثير الهالة، وأن السؤال الأول الذي كنت أمنح درجات عليه كان يؤثر بطريقة غير متناسبة على الإطلاق على الدرجة الكلية. كانت الآلية بسيطة. فإذا كنت قد منحت درجة مرتفعة في المقال الأول، فكنت أمنح الطالب ميزة الشك متى صادفت عبارة غامضة أو ملتبسة لاحقًا. بدا ذلك منطقيًّا. بالتأكيد، إن الطالب الذي أبلى بلاءً حسنًا في المقال الأول لن يرتكب خطأ كبيرًا في المقال الثاني! لكن كانت هناك مشكلة كبيرة في طريقة أدائي لعملي. إذا كان الطالب قد كتب مقالين، أحدهما جيد والآخر غير ذلك، فكان ينتهي بي المطاف بمنح درجات مختلفة بناءً على أي المقالين قرأت أولًا. لقد أخبرت الطلاب أن كلا المقالين لهما نفس الثقل، لكن لم يكن ذلك صحيحًا. كان المقال الأول يحظى بأثر أكبر في وضع الدرجة النهائية من المقال الثاني. وهذا أمر غير مقبول.

تبنيت إجراءً جديدًا. بدلًا من قراءة كراسات الإجابة بشكل متسلسل، قرأت ومنحت الدرجات لجميع إجابات جميع الطلاب على السؤال الأول، ثم انتقلت إلى السؤال التالي. حرصت على كتابة جميع الدرجات في الجانب الداخلي للصفحة الأخيرة للكراسة بحيث لا أكون متحيزًا (ولو لاشعوريًّا) عندما أقرأ الإجابة التالية. فور الانتقال إلى الأسلوب الجديد، وجدت ملاحظة مزعجة. كانت ثقتي الآن في طريقة وضعي الدرجات أقل بكثير من السابق. يرجع السبب في ذلك إلى أنني كنت أشعر بصورة متكررة بعدم الراحة، وكان ذلك شعورًا جديدًا بالنسبة إليَّ. عندما كان الإحباط يصيبني جراء الإجابة الثانية لأحد الطلاب وعندما كنت أعود إلى الصفحة الأخيرة من الكراسة لأضع درجة منخفضة، كنت أكتشف في بعض الأحيان أنني منحت الطالب نفسه درجة مرتفعة في الإجابة الأولى. لاحظت أيضًا أنني كنت مدفوعًا إلى تقليل الفارق عن طريق تغيير الدرجة التي لم أكن قد وضعتها بعد، ووجدت أنه من الصعوبة بمكان السير على القاعدة البسيطة بعدم الاستسلام لهذا الشعور. كانت الدرجات التي أمنحها لإجابات طالب واحد تتفاوت على نطاق واسع. جعلني غياب التماسك غير متيقن ومحبطًا.

بينما صرت أقل سعادة وثقة في الدرجات التي كنت أمنحها مما كنت سابقًا، أدركت أن ذلك كان إشارة طيبة، إشارة على أن الإجراء الجديد كان أفضل كثيرًا. كان الاتساق الذي حققته سابقًا مصطنعًا، وهو اتساق أدى إلى شعور باليسر الإدراكي، وكان النظام ٢ الخاص بي سعيدًا بالقبول في كسل الدرجة النهائية. من خلال السماح لنفسي بالتأثر بشدة بالسؤال الأول في تقييم الأسئلة التالية، جنَّبت نفسي الشعور بعدم الاتساق في اكتشاف أن الطالب نفسه يبلي بلاء حسنًا في بعض الأسئلة بينما يكون أداؤه سيئًا في أسئلة أخرى. كان شعور عدم الاتساق غير المريح الذي ظهر عندما انتقلت إلى استخدام الأسلوب الجديد حقيقيًّا. عكس هذا الشعور عدم ملاءمة استخدام أي سؤال باعتباره مقياسًا على ما يعرفه الطالب، وكذلك عدم دقة الدرجات التي كنت أمنحها.

يتوافق الإجراء الذي اعتمدته لترويض أثر الهالة مع مبدأ عام؛ ألا وهو عدم الترابط بين الأخطاء! حتى يتسنى فهم هذا المبدأ، تخيَّل عرض دوارق زجاجية على عدد كبير من المشاركين تحتوي على بنسات، فيما يُطلب من المشاركين تخمين عدد البنسات في كل دورق. مثلما أشار جيمس سورويكي في كتابه الأكثر مبيعًا «حكمة الحشود»، بينما يعتبر هذا التمرين مثالًا على المهام التي يُبلي فيها الأشخاص بلاءً سيئًا، تبلي مجموعات الأحكام الفردية فيها بلاءً جيدًا. بينما يبالغ بعض الأفراد كثيرًا في الرقم الصحيح، ويقلل آخرون من أعداد البنسات كثيرًا، عند أخذ متوسط الأحكام الكثيرة، يميل متوسط الأرقام إلى أن يكون رقمًا دقيقًا. تتسم الآلية هنا بالمباشرة. جميع الأفراد ينظرون إلى الدورق نفسه، وجميع الأحكام تشترك في أساس واحد. على الجانب الآخر، لا تعتمد الأخطاء التي يرتكبها الأفراد على الأخطاء التي يرتكبها الآخرون، و(في ظل غياب انحياز منهجي) يميل متوسط الأخطاء إلى بلوغ قيمة الصفر. لكن سحر تقليص الأخطاء يؤدي دوره جيدًا فقط عندما تكون الملاحظات مستقلة ولا تكون الأخطاء مترابطة. إذا كان المشاركون في التجربة يشتركون في انحياز ما، فلن يقلل تجمع الأحكام منه. يؤدي السماح للمشاركين بالتأثير على بعضهم بصورة فعَّالة إلى تقليص حجم العينة؛ وبالتالي، دقة تقديرات المجموعة.

حتى يتسنى الحصول على أكثر المعلومات فائدة من خلال مصادر متعددة للأدلة، يجب دائمًا محاولة جعل هذه المصادر مستقلة عن بعضها. هذه القاعدة تمثِّل إجراءً شُرَطيًّا مهمًّا. فعندما يكون هناك شهود متعددون في إحدى الوقائع، لا يُسمح لهم بالتحدث بعضهم إلى بعض قبل الإدلاء بشهادتهم. لا تقتصر الغاية هنا على منع الاصطدام بشهود معادين، بل يمنع ذلك أيضًا الشهود غير المتحيزين من التأثير على بعضهم. سيميل الشهود الذين يتبادلون خبراتهم إلى ارتكاب أخطاء متشابهة في شهاداتهم، وهو ما يقلل من القيمة الإجمالية للمعلومات التي يقدمونها؛ لذلك يعتبر التخلص من التكرار في مصادر المعلومات فكرة جيدة دائمًا.

توجد تطبيقات مباشرة لمبدأ الأحكام المستقلة (والأخطاء غير المترابطة) في مجال عقد الاجتماعات، وهو نشاط يقضي المسئولون التنفيذيون في المؤسسات وقتًا طويلًا فيه خلال أيام العمل. ربما تكون قاعدة بسيطة ذات فائدة هنا. قبل مناقشة أحد الموضوعات، يجب أن يطلب من جميع الحاضرين كتابة ملخص موجز للغاية عن مواقفهم. يستعين هذا الإجراء بصورة جيدة بقيمة تعددية المعارف والآراء في المجموعة. أما الممارسة المعتادة للنقاش المفتوح فتمنح ثقلًا أكثر من اللازم لآراء أولئك الذين يتحدثون أولًا وفي ثقة، وهو ما يؤدي إلى موافقة الآخرين لهم.

«ما تراه هو كل ما هناك»

كانت إحدى ذكرياتي المفضلة في السنوات الأولى لعملي مع عاموس هو اسكتش كوميدي كان عاموس يؤديه. في تقليد رائع لأحد الأساتذة الذين كان قد درس له الفلسفة في المرحلة الجامعية، كان عاموس يزأر في لغة عبرية بلكنة ألمانية قوية: «يجب ألا تنسوا أبدًا سمو الكينونة.» بينما لم أعرف أبدًا ماذا كان أستاذ عاموس يعني بهذه العبارة (ولا حتى عاموس كان يعرف، حسبما أعتقد)، كانت نكات عاموس ذات مغزى دائمًا. كان يجري تذكيره (وأنا أيضًا في النهاية) دومًا بتلك العبارة متى صادفنا عدم التماثل اللافت بين الطرق التي تعالج بها عقولنا المعلومات المتوفرة حاليًّا والمعلومات التي لا نملكها.

تتمثل إحدى سمات التصميم الأساسية لآلية التداعي في أنها تمثل الأفكار المنشَّطة فقط. ربما لا توجد المعلومات التي لا يجري استرجاعها (ولو لاشعوريًّا) من الذاكرة أيضًا. بينما يبرع النظام ١ في بناء أفضل قصة ممكنة تتضمن أفكارًا منشَّطة حاليًّا، لا يسمح (يستطيع) تداول معلومات لا يملكها.

يتمثل مقياس النجاح بالنسبة إلى النظام ١ في تماسك القصة التي ينجح في ابتكارها. يعتبر حجم ونوعية البيانات التي تعتمد عليها القصة غير ذات صلة إلى حد كبير. عندما تكون المعلومات شحيحة، وهي مسألة شائعة، يعمل النظام ١ كآلة تقفز إلى النتائج. خذ على سبيل المثال: «هل ستكون مايندك قائدة جيدة؟ هي ذكية وقوية …» وردت إجابة إلى عقلك في الحال، وكانت بنعم. بينما اخترت الإجابة الأفضل بناءً على المعلومات الشحيحة المتوفرة، قفزت إلى النتيجة. ماذا لو كانت الصفتين التاليتين في الجملة هما «فاسدة» و«قاسية»؟

لاحظ ما «لم» تقم به عندما فكرت في مايندك باعتبارها قائدة. فأنت لم تبدأ بسؤال نفسك: «ماذا أحتاج إلى معرفته قبل تكوين رأي عن صلاحية أحد الأشخاص للقيادة؟» بدأ النظام ١ في العمل بمفرده بمجرد ذكر الصفة الأولى: الذكاء شيء جيد، والذكاء والقوة شيئان جيدان للغاية. تعتبر هذه هي أفضل قصة يمكن بناؤها بالاستعانة بصفتين، وهي قصة يبعث النظام ١ بها في يسر إدراكي عظيم. بينما سيجري مراجعة القصة إذا وردت معلومات جديدة (مثل: مايندك فاسدة)، لا يوجد أي انتظار أو عدم راحة ذاتية. كما يظل هناك أيضًا تحيز تجاه الانطباع الأول.

يشير الجمع بين النظام ١ الذي يسعى إلى التماسك والنظام ٢ الكسول ضمنًا إلى أن النظام ٢ يصدِّق على الكثير من المعتقدات الحدسية، التي تعكس بشدة الانطباعات التي تتولد عن النظام ١. بالطبع، يستطيع النظام ٢ أيضًا تناول الأدلة على نحو أكثر منهجية وحذرًا، واتباع سلسلة من الإجراءات قبل اتخاذ أي قرار؛ فكِّر في عملية شراء منزل، عندما تسعى واعيًا إلى معلومات لا تملكها. في المقابل، يُتوقع أن يؤثر النظام ١ حتى على القرارات الأكثر حذرًا. لا تتوقف مساهمة النظام ١ أبدًا.

يعتبر القفز إلى النتائج بناءً على أدلة قاصرة مسألة غاية في الأهمية لفهم التفكير الحدسي، وسيأتي ذكره كثيرًا في هذا الكتاب، ما يجعلني أشير إليه بالمسمى التالي: ما تراه هو كل ما هناك. لا يهتم النظام ١ على الإطلاق بنوعية أو حجم المعلومات التي تؤدي إلى تولد الانطباعات والأفكار الحدسية.

أجرى عاموس، بالاشتراك مع اثنين من طلاب الدراسات العليا لديه في جامعة ستانفورد، دراسة تتعلق مباشرةً بمبدأ «ما تراه هو كل ما هناك»، من خلال ملاحظة ردود أفعال المشاركين الذين قدِّمت إليهم أدلة جانب واحد من قضية ما. عُرض على المشاركين سيناريوهات قانونية مثل السيناريو التالي:

في الثالث من سبتمبر، كان المُدعي ديفيد ثورنتون، وهو ممثل اتحاد العمال الذي يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، متواجدًا في متجر ثريفتي رقم ١٦٨، في زيارة روتينية. في غضون عشر دقائق من وصوله، اعترض طريقه القائم على إدارة المتجر وأخبره بعدم إمكانية تحدثه مع الموظفين من أعضاء الاتحاد داخل المتجر. في المقابل، يستطيع مقابلة الموظفين في غرفة خلفية أثناء فترة الاستراحة. وبينما كان هذا الطلب مسموحًا به في عقد الاتحاد مع المتجر، لم يجر تطبيقه أبدًا من قبل. عندما اعترض السيد ثورنتون، قيل له إن لديه الاختيار بين الالتزام بما يقوله المدير، أو ترك المتجر، أو القبض عليه. عند ذلك، أشار السيد ثورنتون إلى المدير بأنه كان يُسمح له دائمًا من قبل بالتحدث إلى الموظفين داخل المتجر لفترة تصل إلى عشر دقائق، طالما لم يؤثر ذلك على سير العمل، وأنه يفضل القبض عليه أكثر من تغيير إجراءات زيارته الروتينية. هَاتَفَ المدير الشرطة التي قيدت أيدي السيد ثورنتون داخل المتجر للتعدي. بعد التحفظ عليه وإيداعه في زنزانة لفترة قصيرة، أُسقطت جميع التهم عنه. يقاضي السيد ثورنتون المتجر بسبب القبض عليه بتهم غير صحيحة.

بالإضافة إلى هذه الخلفية، التي قرأها جميع المشاركين، عُرض على مجموعات مختلفة من المشاركين عروض لمحامين عن الطرفين. بداهةً، وصف محامي ممثل الاتحاد بأن عملية الاعتقال جاءت كمحاولة إرهاب، بينما دفع محامي المتجر بأن إجراء النقاش داخل المتجر يؤثر على سير العمل وأن المدير كان يتصرف على نحو ملائم. سمع بعض المشاركين، مثل هيئة المحلفين، كلا الجانبين. لم يضف المحامون أي معلومات مفيدة لم يستطع المشاركون استنباطها من القصة.

كان المشاركون على وعي تام بمجمل الأحداث، وكان الذين سمعوا جانبًا واحدًا فقط يستطيعون توجيه الدفاع لصالح الطرف الآخر. في المقابل، كان لعرض الأدلة من جانب واحد أثر كبير على إصدار الأحكام. بالإضافة إلى ذلك، كان المشاركون الذين رأوا جانبًا واحدًا فقط من الأدلة أكثر ثقةً في أحكامهم من أولئك الذين عُرض عليهم كلا الجانبين. هذا هو ما ستتوقعه في حال إذا ما كانت الثقة التي يشعر بها المشاركون يحددها تماسك القصة التي نجحوا في بنائها من المعلومات المتوفرة. يعتبر اتساق المعلومات هو الأمر الأهم لبناء قصة جيدة، لا اكتمالها. في حقيقة الأمر، ستجد في كثير من الأحيان أن المعرفة الأقل تجعل من الأسهل بمكان الزج بكل ما تعرفه داخل نمط متماسك.

ييسر مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» تحقيق التماسك واليسر الإدراكي الذي يجعلنا نقبل عبارة باعتبارها عبارة صحيحة. وهو يفسِّر لماذا نستطيع التفكير سريعًا، وكيفية تفسير المعلومات الجزئية في عالم معقد. في معظم الوقت، تقترب القصة المتماسكة التي نبنيها بما يكفي من الواقع بحيث تدعم القيام بعمل عقلاني. في المقابل، سأستعين بمبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» للمساهمة في تفسير قائمة طويلة ومتنوعة من انحيازات الأحكام والخيارات، بما في ذلك الانحيازات الآتية ضمن انحيازات أخرى عديدة:
  • الثقة المفرطة: مثلما يشير مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» ضمنًا، لا يُعتد بكمية أو نوعية الأدلة كثيرًا فيما يتعلق بالثقة الذاتية. تعتمد الثقة التي يتمتع بها الأفراد في معتقداتهم بصورة كبيرة على نوعية القصة التي يستطيعون سردها عما يرونه، حتى لو كانوا يرون قليلًا. لا نفكر كثيرًا في إمكانية أن تكون الأدلة التي يجب أن تمثِّل عاملًا مهمًّا في إصدار الأحكام غائبة؛ فما نراه هو كل ما هناك. بالإضافة إلى ذلك، يميل نظامنا الترابطي إلى الاستقرار على نمط متماسك للتنشيط ويقمع الشك والغموض.

  • تأثيرات التأطير: تثير الطرق المختلفة لعرض المعلومات نفسها عادةً مشاعر مختلفة. فعبارة «تبلغ نسبة البقاء على قيد الحياة بعد شهر واحد من الجراحة ٩٠ في المائة» أكثر تطمينًا من العبارة المكافئة «تبلغ نسبة احتمال الوفاة خلال شهر واحد من الجراحة ١٠ في المائة». بالمثل، يعتبر وصف شرائح اللحم البارد على أنها «خالية من الدهون بنسبة ٩٠ في المائة» أكثر جاذبية من أنها «تحتوي على دهون بنسبة ١٠ في المائة». بينما يُعد تكافؤ الصياغات البديلة واضحًا، لا يرى المرء سوى صياغة واحدة، وما تراه هو كل ما هناك.

  • تجاهل المعدل الأساسي: تذكَّر ستيف، الشخص الصبور والمرتب الذي يجري النظر إليه باعتباره أمين مكتبة. يعتبر وصف الشخصية بارزًا وحيًّا، وعلى الرغم من معرفتك بوجود مزارعين أكثر من أمناء المكتبات من الذكور، لا ترد هذه الحقيقة الإحصائية إلى عقلك تقريبًا عندما كنت تفكر في المسألة للمرة الأولى. فما رأيت كان كل ما هناك.

في الحديث عن القفز إلى النتائج

«إنها لا تعرف شيئًا عن مهارات ذلك الشخص الإدارية، ولا تعتمد إلا على أثر الهالة جراء عرض طيب قدمه.»

«دعنا نُزِل الترابط بين الأخطاء من خلال الحصول على أحكام منفصلة حول الموضوع قبل أي نقاش. سنحصل على المزيد من المعلومات عبر عمليات تقييم مستقلة.»

«اتخذوا القرار المهم بناءً على تقرير جيد من أحد المستشارين. ما تراه هو كل ما هناك. لم يبدُ أنهم أدركوا قلة المعلومات التي كانت لديهم.»

«لم يريدوا مزيدًا من المعلومات قد تفسد قصتهم. ما تراه هو كل ما هناك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤