إلى القارئ

يضم هذا الكتاب، بإيجاز، الأهم والأساسي في الأدب الروسي في المائة عام الأخيرة، منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى وقتنا الحاضر. سوف نرى على نحو مبهر الطرق الصعبة التي مرَّ بها هذا الأدب عبر هذا القرن، الذي أصبح بالنسبة للأدب الروسي زمنًا للاكتشافات الكبرى والخسائر المأساوية، زمن الإلهامات الروحية العظمى، والغرق في سديم السراب الذي يغشى الأبصار.

يبدو القرن التاسع عشر الآن، منذ زمن بوشكين «الذهبي» وحتى الأيام الأخيرة من حياة تشيخوف المحنَّك، قرنًا واضحًا يتسم بالانسجام، مقارنةً بالمائة عام المنصرمة. لكن طُرق التنبؤ غامضة، وها نحن أمام عصر أدبي عظيم آخر شديد التعقيد يتحوَّل إلى تاريخ يمضي أمام أعيننا.

على أي حال فقد بدأت هذه الحقبة الرائعة، والتي عُرفت آنذاك ﺑ «العصر الفضي» في الثقافة والأدب الروسيَّين، بتلك التنبؤات المرعبة التي أطلقها ألكسندر بلوك وانتهت بالأعمال البطولية التي أبدعها سولجينتسين. على أنه سرعان ما أُصيب هذا القرن بالانهيار تقريبًا بعد أن كان واعدًا بازدهار مشرق؛ فها هي الثورات والحروب المتعاقبة تضربه منذ السنوات الأولى لينتهي بالانفجار الأكبر المتمثِّل في انقلاب ١٩١٧م … ويستمر الحال حتى أيامنا هذه التي شهدت أفوله الأخير.

لعل المأساة الرئيسية لهذا القرن تمثَّلت في أن الثوار الهائجين حاولوا قطع صلته بالماضي الذي عاشوه، وأن يحيدوا به عن المسار الخالد للتاريخ الوطني، وأن يغيِّروا بمساعيهم هذه مصير الشعب وفق أهوائهم. وهكذا بدأنا نحن ملايين، بل عشرات الملايين من المواطنين «السوفييت»، في تدمير حياة روسيا الخالدة حتى الجذور، ومعها كنا ندمِّر حياتنا نحن، ونبني في الوقت نفسه «عالمنا الجديد» وفقًا لخطط طوباوية غير قابلة للتحقيق، فعلنا ذلك على نحو حماسي أعمى وغير مسبوق، متخيِّلين أننا نفعل ذلك ببصيرة نافذة، ثم لم نلبث أن فعلناه مدفوعين بإحساس الرعب في قرارة أنفسنا، ثم أخيرًا كنا نفعله بحكم العادة بعد أن فقدنا إيماننا ولم نعد نؤمن بأي شيء.

وفي النهاية بتأخير شديد وقد أوشك القرن على نهايته، ها نحن نبدأ في وصل ما انقطع من تاريخنا، وإزاحة الستار عن الواقع، بعد أن دفع الناس ثمنًا باهظًا لا يُعد ولا يُقدَّر من أرواح الأبرياء، إضافةً إلى مصائر تحطَّمت. وكذلك مئات الكتب التي طواها النسيان، تلك الكتب لم تُقرأ في حينها، ولم تُنشر على الإطلاق، والكتب التي أُحرقت مخطوطاتها بنيران العصر، واندثرت في نيرانها «كلمة الحق»، واحترقت معها أيضًا سنوات متوالية من الفكر والعمل والتاريخ.

علينا أن نتذكَّر أن الأدب الروسي عبر القرون هو كِيان عضوي طبيعي متماسك، لم ينقطع يومًا عن سعيه الوجداني الحثيث، حتى مع وجود العديد من التيارات والاتجاهات المتصارعة؛ فالأدب الروسي منذ لومونوسوف وراديشيف وحتى بلوك وبونين، ظل قادرًا على التعبير عن نفسه، والتعبير عن العالم بشكل شامل، كما توفَّرت لذلك الأدب الحرية الأساسية الضرورية للأدب؛ حرية الكلمة، وهو أمر طبيعي للعملية الأدبية الحيوية في سياق دراماتيكية الأقدار الشخصية، وحدة الجدل المتصارع. وهذا ما حدث أيضًا في بداية القرن العشرين.

لقد واصل الكلاسيكيون الروس — تولستوي وتشيخوف — أعمالهم العملاقة مع مطلع القرن العشرين، وإلى جوارهم سار معاصروهم وهم من الشباب الذين تبنَّوا تقاليد المدرسة الواقعية للقرن التاسع عشر (نذكر منهم نيكولاي ليسكوف، فلاديمير كورولينكو، فيكينتي فيريسايف، ألكنسدر كوبرين، وغيرهم)، وقد كان هناك العديد من التابعين والمكرِّرين والناسخين أيضًا، رغم أن الحياة لا تكرِّر نفسها، وإنما تهدر في أعماق التغييرات، التي كانت في انتظار من يعبِّر عنها، ومن ثم فإن الحدث الأكبر في حياتنا الأدبية على أعتاب القرن العشرين تمثَّل في ظهور قوًى إبداعية جديدة. لقد دفع «العصر الفضي» بفنانين مدهشين في تنوُّعهم وشجاعتهم، ووضوح رؤيتهم للعالم، وقد قدم هؤلاء الكثير من الجهد الضروري كي تستعيد روسيا إدراكها لذاتها في اللحظة التاريخية الفارقة (سوف نتحدَّث عن أدب «العصر الفضي» في فصل محدَّد).

وفي هذه الفترة تحديدًا، ظهر ما يُعرف باسم مدرسة «جوركي»، وهي تيار ينبثق عن المجرى الأكبر في الأدب الروسي، كان له جذوره أيضًا جذوره في الحياة الأدبية والاجتماعية في تلك السنوات. وقد برز على الساحة شعراء موهوبون من «الريفيين الجدد» مثل: نيكولاي كليويف، سيرجي يسينين، سيرجي كليتشكوف وغيرهم، كما ظهرت تيارات واضحة وأصيلة ارتبط اسمها بالشخصية المستقلة للأدب الجديد (مدارس الرمزية، الذُّرَوِية المستقبلية، وغيرها). كما أعلن ما يسمَّى بالأدب البروليتاري عن نفسه. صدر عدد كبير من المجلات والتقويمات الأدبية المعبِّرة عن شتى الاتجاهات. وتكوَّنت الحلقات والجمعيات والصالونات والهيئات الأدبية، كما ازداد زخم الحياة القريبة من الأوساط الأدبية.

باختصار، تميَّز مطلع القرن العشرين في الأدب الروسي بالتنوُّع والتباين، تمامًا كما كانت الحياة الروسية ذاتها متنوِّعةً غنية متباينة.

ثم جاء عام ١٩١٧م بمثابة ضربة ساحقة، لينقلب كل شيء رأسًا على عقب.

أصبح الأدب الروسي الذي كان أدبًا واحدًا من قبل، شديد التشرذم، نتيجة القسر الشديد. لقد باتت حرية الكلمة التي بدونها تصبح الحياة الأدبية غير ممكنة، مقيَّدةً بشكل كبير، واستحال وجودها مع الوقت، وكان ذلك نتيجةً للهزات التاريخية الهائلة الحجم، والتي دمَّرت البنية السابقة للحياة الروسية، فضلًا عن القهر المنظَّم على المستويات كافة، التي طبَّقته الدولة تجاه مُعارضيها في الفكر، ثم الاحتكار الأيديولوجي «للمنتصرين»، الرافض لأي نوع من الاستقلال.

كان مقدَّرًا على الأدب الروسي المتشرذم، المفتَّت على مدى عقود طويلة أن يكون في أشكال عديدة متنافرة، يناقض بعضها بعضًا. اختفت ولزمن طويل الظروف الطبيعية أمام الحياة الأدبية، أمام كل شكل من أشكالها، بما في ذلك الشكل الذي سمَّاه «المنتصرون» الأدب السوفييتي. تمكَّنت بعض هذه الأشكال الأدبية الجديدة التي ظهرت، من التعايش جنبًا إلى جنب مع الأشكال القائمة، متلائمةً مع مطالب الأشكال الأدبية «الإرشادية»، وبقي البعض الآخر إلى جوار الجميع في حالة يشوبها التوتر والعدوانية أحيانًا، بينما قاطعت أشكال «المؤسسة» الأدبية لتأخذ طريقها تحت الأرض، وإلى اﻟ «ساميزدات»،١ وانقطعت أشكال رابعة من أدب «المهاجرين البيض» انقطعت تاريخيًّا، وبدت كما لو أنها ماتت زمنًا طويلًا بالنسبة للقارئ السوفييتي. ومعها بدا «العصر الفضي» وكأنه خرج من الوجود.

اكتسب هذا الخليط الأدبي الشاذ الذي لم يسبق له مثيل من ناحية الكم اسم «الأدب السوفييتي»، أمَّا من ناحية الاتجاه الرئيسي الغالب عليه، فقد اصطُلح على تسميته ﺑ «أدب الواقعية الاشتراكية». وفي الوقت نفسه فقد رحل إلى المنفى أدب روسي آخر، سرعان ما انفصل بعد الثورة سياسيًّا وجغرافيًّا ليعيش حياةً خاصة مفعمة بالتوتر؛ ليواصل الجزء الأكبر من الأدباء الأكثر كفاءةً إبداعيًّا مصيرهم في الغربة؛ حيث أنتجوا هناك أدبًا روسيًّا واسع الانتشار.

وبينما عاش أدب المهجر ما يزيد على سبعين عامًا في انفصال مأساوي عن الوطن الأم، فإنه حافظ على ذاكرته الوجدانية عن هذا الوطن. كان أدبًا له صورته المركَّبة وتاريخه الخاص، نذكر من الكتَّاب الكبار الذين ينتمون إلى الموجة الأولى من أدب المهجر كلًّا من إيفان بونين، مارينا تسيفيتايفا، فلاديسلاف خوداسيفيتش، جيورجي إيفانوف، إيفان شميلييف، فلاديمير نابوكوف …

على أنه من غير الممكن تصوُّر الحياة الأدبية في المهجر في صورة مثالية. لقد كانت أقدار المنفيين بالغة القسوة؛ فطريق إدراك العالم إدراكًا فنيًّا حيويًّا، وهو الإدراك الذي بدأه «العصر الفضي» على يد بلوك وبيلي وريميزوف والإخوة روزانوف والإخوة سولوجوب وميريجكوفسكي وكوزمين، وهو الطريق الذي اكتشفه فلاسفة العصر، كان مغلقًا في وجه أدباء المهجر في موجته الأولى ومنقطع الصلة بروسيا الكبرى، التي كانت تعيش مصيرًا جديدًا. في المهجر كانت لوعة الحنين إلى روسيا الماضي، وإلى الصورة الخالدة للحياة الروسية تسيطر على المشاعر؛ كان كل ما هو روسي آنذاك يتحوَّل إلى أيقونة، وإلى طقوس تشبه العبادة في أحيان أخرى. أما الأدب «السوفييتي» فكان يشيح بوجهه دائمًا في غطرسة عمياء عن تجربة «العصر الفضي»، منكبًّا على بناء صرحه العابر للقوميات المسمى باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، منهمكًا في صنع أسطورته الشيوعية.

وهكذا ظل الأدب «غير الرسمي» يتعرض للاضطهاد على مدى عدة عقود، عاشها على نحو سري ممثَّلًا في «جماعة الفن الحقيقي» «الأوبيريو»،٢ والتي ظهرت في نهاية العشرينيات وحتى بداية الثمانينيات، عندما تكوَّنت حركة «الأندرجراوند» (فن ما تحت الأرض أو الفن السري)، وقد ظل هذا الأدب هو الأدب الوحيد الذي احتفظ بداخله ببعض الخصائص الوراثية للأدب الروسي، ولو على نحو يصعب التعرف عليه من خلالها. وظل الناس يتناقلون أسماء هذه الجماعات والحركات على مدى سبعين عامًا بأكملها، بينما كانت تلك الجماعات والحركات تشق طريقها مثل حشائش تظهر من خلال طبقة من الأسفلت كوَّنها التعصب الأيديولوجي.

وفي الوقت نفسه راحت موجات الأدب المهاجر تتوالى الموجة تلو الموجة، فانضم إلى أدباء الموجة الأولى من المنفيين، العالقين الذين تصادف وجودهم في الخارج في أثناء الحرب الأهلية، وبعد مرور عقدين، بدءًا من الستينيات وحتى الثمانينيات، انضمت الموجة الثالثة من المنفيين والمهاجرين والعالقين، ومن أولئك الأسماء البارزة: «فيكتور نكراسوف، جيورجي فلاديموف، فاسيلي أكسيونوف، أناتولي كوزنيتسوف وغيرهم)، ومن بينهم اثنان حصلا على جائزة نوبل: ألكسندر سولجينيتسين، وإيوسيف برودسكي.

إن دراسة أدب المهجر الروسي في القرن العشرين قد بدأت لدينا لتوها، على أنه قد أصبح من الواضح الآن أن تقييم مصائر الكلمة الروسية خارج تجرِبتها وإنجازاتها الضخمة وأساتذتها العظام هو أمر مستحيل بداهة؛ لأن تاريخ هذا الأدب على هذا النحو يصبح غير علمي، وغير ثقافي (سنخصِّص فصلًا خاصًّا عن الأدب الروسي في المهجر).

نعود مجددًا إلى الأدب الذي أُنتج في الوطن تحت مسمًّى عام ومعتاد: «الأدب السوفييتي». كان هذا الأدب أيضًا، في واقع الأمر، أدبًا غير متجانس على الإطلاق، على الرغم من الإعلان اللحوح على وحدة هذا الأدب فكريًّا وفنيًّا.

لقد استولى الأدب الرسمي الدعائي، المشبع بروح البيروقراطية، القائم على خدمة الدولة، على قمة الهرم. وظل الأدب دائمًا قائمًا على أكتاف أدباء يفتقرون إلى الموهبة، سرعان ما طواهم النسيان. ومع ذلك فقد انضم إلى هذا الأدب عدد غير قليل من أصحاب المواهب، لم يستطيعوا الاستمرار طويلًا من الناحية النفسية. كان تأثير هذا الأدب قويًّا للغاية في ذلك الزمن؛ كان يستخدم قوالب رائجة، مستهدفًا «القارئ العام» غير المؤهَّل، ليبث له تصوُّرات وهميةً حول الحياة، تخدم بالأساس النظام الرسمي للدولة. وقد انتشر هذا الأدب في طبعات ضخمة، وأُدخل ضمن مناهج التعليم في المراحل الثانوية والعليا، وجرى دعمه بكل وسائل الحماية الحكومية. أسمِّي هنا للتذكرة أبرز ممثلي هذا الأدب وأكثرهم تأثيرًا، والذين كان من بينهم أيضًا من امتلكوا مواهب رفيعة: ألكسندر فادييف، قسطنطين سيمونوف، قسطنطين فيدين، سيرجي ميخالكوف، نيكولاي تيخونوف، فالنتين كاتايف، وغيرهم. بمرور الزمن فقدت غالبية أعمال هذه الفئة من الكتَّاب اهتمام القراء و«إقبالهم» على شرائها (وإن ظلت مع ذلك تستحوذ على اهتمام مؤرخي الوعي الاجتماعي وعلماء اجتماع الثقافة باعتبارها مواد غايةً في الأهمية لدراساتهم).

لقد تمثَّل جوهر «الأدب السوفييتي» المهم والقيم بحقٍّ في إبداع هؤلاء الأدباء. ذلك الجوهر الذي أعطى لهذا الأدب قيمته ووزنه روحيًّا وفنيًّا، ودفع به بعيدًا عن قبضة الآلة الدعائية التي تملكها السلطة، فاستطاعوا، حتى في أسوأ الظروف، أن يظلوا في أفضل أعمالهم مخلصين، وأن يبتعدوا عن العقيدة الأيديولوجية الجامدة، وأن يقولوا كلمتهم. أذكر هنا عددًا من أكثر الأسماء شهرة: ميخائيل شولوخوف، ليونيد ليونوف، ألكسندر تفاردوفسكي، نيكولاي زابولوتسكي، يوري تريفونوف، فيكتور أسطافييف، فيودور أبراموف، فاسيلي بيلوف، فيكتور كونيتسكي، فلاديمير ماكانين، فاسيلي شوكشين، فالنتين راسبوتين، فاسيلي بيكوف، فلاديمير بوجومولوف … ومن أعماق الأدب ينتفض أدباء تعرضوا للقسوة البالغة من النظام، أدباء حُكم عليهم بكل الوسائل أن يلتزموا الصمت طوال حياتهم، وأن يطوي الفناء صفحات إبداعهم. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقيت كتبهم حية على مدار الزمن، متحدية ظروف القهر البشع التي خلقتها الدولة الشمولية. الآن تحظى أسماؤهم بالشهرة لدى الجميع: ميخائيل بولجاكوف، أندريي بلاتونوف، أنَّا أخماتوفا، أوسيب ماندلشتام، بوريس باسترناك، ميخائيل زوشينكو، ألكسندر سولجينيتسين.

لقد انعكست المسيرة الاستثنائية للأدب في عدم توفر إبداع هؤلاء الكتَّاب تحديدًا للقراء لعقود طويلة، بل جرى تشويه مضمونه الإبداعي والافتراء عليه (حينما وجدوا أن السكوت عنه بصفة عامة أصبح مستحيلًا)، وذلك من خلال التقييم الذي كان يقوم به جزء من النقد الأدبي شبه الرسمي، والصحافة الشعبية، التي كانت تمتلك وحدها في واقع الأمر، حق احتكار فرص التعبير، أو إن شئنا الدقة حق إصدار الأحكام.

أعود للتذكير بأنه على الرغم من صرامة الرقابة الأيديولوجية، فإن المقاومة الوجدانية في الأدب لم تنقطع إطلاقًا.

وبدءًا من العشرينيات كانت هناك حلقة من الكتَّاب، قليلة العدد، ممن لم يُفتح أمامهم المجال تقريبًا للوصول إلى القارئ تتبنَّى معارضةً فنية وأخلاقية حادة ضد منظومة الفكر الإيديولوجي السائد. كان كتَّاب تلك الحلقة بالدرجة الأولى من «شظايا» الأدب القديم ما قبل أكتوبر، وأُطلق عليهم «مهاجرو الداخل»: يفجيني زامياتين، نيكولاي كليويف، سيرجي كليتشكوف، أندريي بيلي، فيودور سولوجوب، ميخائيل كوزمين، قسطنطين فاجينوف، والقريبون منهم: ليونيد دوبيتشين، نيكولاي بارشيف، فاسيلي أندرييف، وهم الكتَّاب اليساريون من جماعة «أوبيريو» (جماعة الفن الحقيقي) ومن ارتبط بهم من فنانين: ألكسندر ففيدينسكي، دانييل خارمس، نيكولاي أولينيكوف. أضف إلى هؤلاء أيضًا كوريني تشوكوفسكي القادم من الأدب «القديم» ليصبح كاتبًا بارزًا للأطفال.

وبعد عدة عقود، وفي زمن ذوبان الجليد٣ «الخروشوفي» وما تلاه من سنوات، وعندما أصبح من الجَلِي، أن الأيديولوجية الحزبية في الأدب لم يعد باستطاعتها أن تتحكَّم في مسار الأفكار (بتعبير بوريس باسترناك)، تخرج إلى الساحة الزمرة الصاعدة من «مخالفي الفكر» و«المنشقين»، ويظهر وينتشر على نطاق واسع اﻟ «ساميزدات»، ويبعث من تحت الأرض الأدب «السري» أو فن «الأندرجراوند» ليصب في مجرى الساميزدات الآخذ في الانتشار يومًا بعد يوم. وبدأت أعمال الأدباء السوفييت تخترق «الستار الحديدي» على نحو غير شرعي لتأخذ طريقها إلى دُور النشر في الخارج، متجاوزةً أي شكل من أشكال الرقابة، لتُعرف باسم «التاميزدات».٤

وهكذا، وقبل وقت طويل من ظهورها في صحافة الوطن، نشرت «الساميزدات» و«التاميزدات» ديوان «القداس الجنائزي» لأنَّا أخماتوفا، وقصيدة «تيوركين في العالم الآخر» لألكسندر تفاردوفسكي، وأعمال بلاتونوف وبولجاكوف، وباسترناك وماندلشتام وخارمس، وصولًا لهؤلاء الكتَّاب الذين لم تعرف مؤلفاتُهم على وجه العموم الطريقَ إلى دُور النشر السوفييتية «المراقَبة» (لودميلا بيتروشيفسكايا، إيوسيف برودسكي، فلاديمير فيسوتسكي، ألكسندر جاليتش …).

لماذا نقدِّم هنا للمرة الأولى بطبيعة الحال، هذا القطاع التخطيطي تمامًا للطبقات الأساسية للأدب الروسي في القرن العشرين؟ نقدِّمه لكي نضع على الفور تصورًا لسمات هذا الواقع الأدبي المعقد والجديد بالنسبة لنا، الواقع الذي يمثِّل في مُجمله الأدب الروسي في القرن العشرين. أدب حقيقي بطولي، تعرَّض لأنواع شتى من المعاناة، أدب عظيم جرى اضطهاده وإذلاله، أُغرق في الأوهام الشيوعية، لكنه ظل ينظر إلى الحقيقة ببصيرة نافذة. إن علينا منذ الآن أن نعيش في هذا الفضاء الأدبي وأن نستوعبه.

إن الهدف من وراء هذا الدليل أن يقدِّم المعلومات الأساسية والضرورية عن هذا الأدب، وأن يحدِّد العلامات الإرشادية الأولى والرئيسية، التي تسمح بالإحاطة بتنوعه المركب ومحاولة رؤية الروابط الداخلية، واكتشاف عوامل التنافر والجذب، الموجودة في بناء هذا الأدب الذي لم يسبق له مثيل، وأن نُدرك طابع المسيرة الفريدة «الشاذة» التي قطعها على امتداد القرن العشرين.

لا يمكن أن يخلو هذا الكتاب في الكثير من جوانبه، بطبيعة الحال، ممَّا هو شخصي وذاتي. يحمل هذا الكتاب خاتم آمال وأوهام زماننا، كما تبدو فيه آثار القيود، وعدم الكمال في معرفة الصورة الحقيقية لمصائر الأدب الروسي التي انكشفت لتوها أمامنا. إنه كتاب شخصي بمعنًى آخر أيضًا، هو أن أحدًا لم يفرض على مؤلَّفه أي توجيهات أو أوامر كي يقدِّم تفسيرًا مسبقًا، أو أن يُسمح له، أو يُمنع من اختيار وقراءة ومناقشة ما أراد من كتب. ومن ثم فإن آخر ما يسعى إليه المؤلف أن يكون معياريًّا دوجمائيًّا. يود المؤلف لو نجح في تجنُّب الارتباط بأي شكل من أشكال التقديرات والآراء؛ آملًا مع ذلك في القراءة الواعية للمعلومات الموجودة في هذا الكتاب، والتأمل الجاد المشترك لتلك القضايا المطروحة فيه على نحو جديد ومفاجئ، وللمفاهيم النظرية وللضوء الملقى على تلك المرحلة، والتقديرات والتقييم الشخصي للأدب الروسي في هذا القرن. ولمَّا كنا قد وجدنا أنفسنا في الفترة الأخيرة وجهًا لوجه أمام هذه القضايا، فقد رأينا أننا لم نصل بعدُ للاستعداد الكامل لحلها، واكتشفنا أن خِبراتنا القديمة المعتادة تعوقنا عن التفكير، مثلما يعوقنا أيضًا ما لدينا من رصيد (لعل من الأفضل أن نقول، ما لدينا من نقصان) في معرفة التاريخ الحقيقي لأدبنا.

لو نجح هذا الكتاب على أي حال في دفع القارئ نحو فهم جديد لظاهرة الأدب الروسي في القرن العشرين ليكون طرفًا في حوار مفيد في هذا الطريق الصعب، غير التقليدي، ولو أصبح بمثابة مدخل إلى مصائر أدبنا الفعلية؛ لتحقَّقت عندئذٍ مهمة المؤلف.

وإليكم استطرادًا شاعريًّا آخر.

إننا نعيش زمنًا صعبًا مبهمًا، يمكن فيه أن تسمع في كل خطوة من يقول: «غاية المراد أن نظل أحياءً.»

لكن الإنسان لا يستطيع أن يحيا إلا بجانب ما يبدعه من ثقافة؛ فبعيدًا عن الثقافة، وعلى أطلالها، لا يمكن العيش بشكل إنساني، عندئذٍ سوف يسود قانون الغاب: «القوي يأكل الضعيف»، ولذلك فإذا ما قال أحدهم: «ليس وقت التُّرَّهات، فلنبقَ أحياءً وكفى»، فإن ذلك يعني خيانة الإنسان، وتركه نهبًا لسلطة الفوضى الوحشية للغابة. من أجل حياتنا المشتركة ينبغي أن نعي (وأن نبعث إذا لزم الأمر) كل الثقافة العريقة التي يمكن في حمايتها فقط الإنقاذ الحقيقي للبشرية. لقد حان وقت خلق نظام راسخ للقيم، يؤمِّن الإنسان ضد العنف والفوضى.

بعد أن انتهى المسيح من صيام أربعين يومًا، وسوس له الشيطان في الصحراء، وكان أول ما قال له: «حوِّل هذه الأحجار إلى خبز»، عندها أجاب المسيح: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وإنما بكل كلمة تخرج من فم الله.»

لطالما كان الشيطان يسخر من رغبة الإنسان في الحفاظ على القيم. إن محاولة الشيطان إغواءنا بالحصول على المصالح المباشرة، أمر يجب مواجهته بفكرة الخبز الروحي باعتبارها الفكرة الرئيسية؛ فهي على الأقل الفكرة الأكثر ضرورةً لضمان بقائنا.

لقد ظل الأدب الكبير في كل العصور هو الخبز — الكلمة المنقذة — على أنه من الضروري، مع ذلك، أن تكون هناك أذن مصغية، حتى تستمع بجلاء إلى هذه الكلمة وسط ضجيج الزمن.

١  الساميزدات: نوع من الكتابة والنشر مارسه المنشقون في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية؛ تحديًا للرقابة على الكتابات المعارضة المحظورة. وتُكتب باليد وتمرَّر من قارئ إلى آخر. وكانت هذه الطريقة محفوفةً بالمخاطر، وكان مَن يُدان بنشر أو تداول هذه المنشورات يواجه عقوباتٍ قاسية. لخَّص فلاديمير بوكوفسكي الساميزدات بقوله: «أكتبها بنفسي، وأحرِّرها، وأُراقبها، وأطبعها، وأوزِّعها، وأُسجَن من أجلها.» (المترجم)
٢  الأوبيريو: اختصار لاسم «جمعية الفن الحقيقي»، وهي جماعة أدبية كانت موجودةً في ليننجراد في عام ١٩٢٧م وإلى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وكانت تضم الشعراء فاجينوف، فيدينسكي، زابولوتسكي، خارمس، وهؤلاء اعتبروا أنفسهم «مبدعين ليس فقط لغةً شعرية جديدة، وإنما مبدعون لإحساس جديد بالحياة». تميَّزت أعمالهم بفقدان المنطق والنزعة العبثية والمبالغة. (المترجم)
٣  ذوبان الجليد: التعريف الرسمي لفترة من تاريخ الاتحاد السوفييتي تلت وفاة يوسف ستالين (منتصف الخمسينيات – منتصف الستينيات). تميَّزت الحياة السياسية الداخلية للاتحاد السوفييتي إبَّانها بإضفاء سمات ليبرالية على النظام، التخفيف من قيود السلطة الشمولية، ظهور بعض مظاهر حرية التعبير وديمقراطية الحياة الاجتماعية والسياسية والانفتاح على العالم الغربي، وإعطاء حرية أوسع للنشاط الإبداعي. ويرتبط ذوبان الجليد بوصول نيكيتا خروشوف إلى السلطة (١٩٥٣–١٩٦٤م) ليصبح السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي، وللكاتب الروسي إيليا إهرنبورج رواية بهذا الاسم. (المترجم)
٤  التاميزدات: النشر خارج روسيا لأعمال المنشقين والمهاجرين الروس. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤