الفصل الثاني

مصائر الأدب الروسي في القرن العشرين

(١) التراث الكلاسيكي العظيم: مدخل إلى «العصر الفضي» (ليف تولستوي وأنطون تشيخوف على تخوم القرن)

على أعتاب القرن العشرين يستقبلنا فنانان عظيمان؛ ليف تولستوي وأنطون تشيخوف. هذا القرن الآخذ في الانصرام كان شديد الكرم تجاه ورثته، على أنه علاوةً على ذلك كان لا يزال في الذاكرة كل من ف. م. دستويفسكي (تُوفي في عام ١٨٨١م)، ن. ي. سالتيكوف-شيدرين (تُوفي في عام ١٨٨٩م)، ق. م. ليونتيف (تُوفي في عام ١٨٩١م)، إ. أ. جونتشاروف (تُوفي في عام ١٨٩١م)، أ. أ. فت (تُوفي في عام ١٨٩١م)، ن. س. ليسكوف (تُوفي في عام ١٨٩٥م). وفي هذه الفترة شارك في الحياة الأدبية ف. ج. كورلينكو، ن. ق. ميخايلوفسكي، أ. س. سيرافيموفيتش، ف. ف. فيريسايف، ن. ج. جارين-ميخايلوفسكي، س. ن. سيرجييف-تسينسكي، أ. ب. تشابيجين وغيرهم من الفنانين الموهوبين، الذين كانوا قريبي الصلة من مبدأ واقعية القرن العشرين، كما شارك فيها أيضًا رائد شعر «العصر الفضي» إ. ف. أنينسكي.

نستطيع أن نصل ممَّا سبق إلى استنتاجين: (١) تطور أدبي طبيعي وصحي يجري على نحو متصل، متتابع مهما ظهر من جدل داخلي ومن ردود أفعال، (٢) أن «العصر الفضي»، الذي تؤرَّخ بدايته بشكل عام، بالتسعينيات (القرن التاسع عشر، المترجم) والتي جرى اعتبارها أساسًا عصر الحداثة، لم تستنفد كل التنوع في الحياة الأدبية الحاصل على حدود القرن العشرين. وعلاوةً على ذلك فإن أدب نهاية القرن انطلق، في جوهر الأمر، من مجمل خبرة الأسلاف الذين استوعبوا هذا الأدب وعملوا على إعادة صياغته.

سوف يتحتَّم علينا هنا أن نشير على نحو عاجل إلى مدى ما مثَّله كل من تولستوي وتشيخوف للأدب الروسي، وكيف أدركا في تلك السنوات القضايا المتعلقة بمغزى الحياة القومية ومصير الإنسان الروسي.

من المستحيل ألَّا نرى أن أعمالهما مليئة بالتنبُّؤات حول التحوُّلات الكبرى القادمة.

يومًا بعد الآخر أصبح من الملاحظ هذا الضياع الذي لحق بكل طبقات لغة الثقافة العامة والانهيار المحسوس بشكل مؤلم في الكِيان القومي، سواءً البسيط أو المركب، والانفصال بين «الشعب» و«الطبقة الحاكمة»، وقد أثار كل ذلك قلق تولستوي الحاد، والذي انعكس في روايته «الحرب والسلام» (انتهى من كتابتها عام ١٨٩٩م)، وفي مسرحياته: من «سلطان الظلام» (١٨٨٦م)، وحتى «ثمار التنوير» (١٨٩١م) و«الميت الحي» (١٩٠٠م) وفي كتاباته الاجتماعية في تلك السنوات.

وفي بحثه الفلسفي «إذن ما الذي ينبغي علينا عمله؟» (١٨٨٦م)، الذي تأمَّل فيه الخلل الذي اكتنف مسيرة الحياة، تنبَّأ تولستوي بالانفجار الوشيك الحدوث، ومن ثم راح يهيب بالقلوب قائلًا: «لا يمكن الحياة على هذا النحو، لا يمكن على هذا النحو أن نعيش، لا يمكن!»

في العقد الأخير من حياته يكتب ليف تولستوي عددًا من الأعمال البارزة الواحد تلو الآخر، يتوصل فيها بطريقته، في حقيقة الأمر، إلى كشف الآلام والمشكلات كافةً التي طُرحت على أدب «العصر الفضي» أيضًا.

لقد ترك البحث المضني عن الله عند تولستوي، ودعوته للتطهُّر من التشويه الدوجمائي الذي لحق بالمسيحية، أثره على رحلة البحث الروحي لدى العديد من الناس في تلك السنوات. الأمر الذي أدَّى بالكاتب إلى الصدام بالأرثوذوكسية الرسمية (وقد بلغ هذا الصدام ذروته كما هو معروف في فبراير عام ١٩٠١م بحرمانه من الكنيسة). من الملائم هنا أن نذكر أن الأزمة الدينية العميقة التي حدثت على تخوم القرنين (التاسع عشر والعشرين) أنزلَت بالكنيسة الروسية وبالمؤمنين الروس، من بينهم العديد من أدباء «العصر الفضي»، مصيبةً مشتركة.

أما فيما يتعلَّق ﺑ «ثمار التنوير»، فقد كتب تولستوي قبل ذلك في عام ١٨٩٢م، ولم يكن يعني على الإطلاق موضوع المسرحية، وإنما مسيرة الحياة ذاتها: «على أي نحو ستكون النهاية؟ لا أعرف، إما أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وأنه سيستمر على هذا النحو، فستصبح الحياة مستحيلة، أنا على يقين من ذلك.»

في أعمال تولستوي كافةً التي كُتبت في تلك السنوات، في رواية «البعث» وفي مسرحياته، في قصة «الحاج مراد»، نرى الأهمية الكبرى لصراحة الفنان ونلمس حاجة تولستوي، المفكر الروحي، لأن يرى ويفهم كل شيء وهو يقف أمام الحياة بكل تنوعها. خذ مثلًا رواية «البعث»، حيث يشمل فضاء الرواية روسيا بأسرها؛ من الأوساط العليا الأرستقراطية، الصفوة البيروقراطية، ثم نزولًا عبر كل الدرجات الاجتماعية، حتى «الطبقة الدنيا»؛ التجار، البرجوازية الصغيرة، الفلاحين، المتسوِّلين، الغسالات، عمال اليومية، المساجين، العاهرات … إن العالم الفني عند تولستوي يستوعب بداخله مرةً أخرى عالم الحياة الروسية نهاية القرن ثم يعيد اكتشافه ويقدِّمه من جديد.

يكاد يكن تولستوي تحديدًا هو الذي رأى قبل الجميع، وتحدَّث على نحو أعمق عن «تقلُّبات» النفس البشرية وتناقضات الحياة الداخلية لها، وعن تصادم المبدأين الروحي والحيواني داخل الإنسان (وقد رصد تولستوي بنظرة حادة قضايا الساعة المُلحة على وجه الخصوص في رواية «البعث» المعاصرة). لم يكن من المستغرب أن يستقبل ألكسندر بلوك بكل العرفان هذه الرواية باعتبارها «وصية القرن المنصرم إلى القرن الجديد» («دفتر المذكرات»، موسكو، ١٩٦٥م، ص١١٤). لم يكن ذلك نوعًا من المجاملة الأدبية، وإنما شعور عميق بتطابق قلق عصرين متتابعين وفنانَين روسيين عظيمين.

بالمناسبة، أليس موضوع مأساة التشرد، الذي عاشه فيودور بروتاسوف («الميت الحي»)، وتجوال بطل تولستوي عبر «طوابق» الحياة الروسية المنهارة كافة، وانغماسه في «حضيض» لا براء منه ووقوعه في مهاوي اليأس الذي يعانيه الإنسان في أقصى صوره، هنا الإنسان الذي شعر أن «الحياة على هذا النحو مستحيلة»، هو ذاته موضوع بلوك (بل الموضوع الروسي العام)؟!

باختصار، فإن شخصية تولستوي وتأثير فكره وروحه الباحثة في أدب الزمن الانتقالي، من المفترض أن يتم أخذهما في الاعتبار بصورة تامة.

وإلى جانب ليف تولستوي يقف أنطون تشيخوف.

إن تشيخوف هو، أولًا وقبل كل شيء، روسيا المتعدِّدة الأوجه بتفاصيلها التي لا تنفد. لا توجد فئة اجتماعية واحدة لم ينفُذ إليها تشيخوف باعتباره فنانًا. ليس هناك مهنة إنسانية أو مرحلة عمرية لم يسبر أغوارها؛ نساء ورجال، أطفال وشيوخ، فلاحون ونبلاء، مدنيون وعسكريون، شحاذون ولاعبو سيرك، نقاشون وفنانون، مجانين وحمالون، قتلة وسعداء … مئات الأشخاص والمصائر مثَلوا أمام رؤيته الشاملة والواضحة ليدخلوا في قصصه وحكاياته. التناول المستمر من أجل إدراك روسيا هذا بالضبط هو نثر تشيخوف ومسرحياته على مدى عشرين عامًا.

في الحقيقة، هذه هي روسيا بأسرها تقريبًا وهي تُلقي ببصرها إلى الماضي، وحديثة العهد التي نظرت إلى نفسها وكأنها تنظر إليها للمرة الأولى. ومن ثم ليس هذا ببساطة هو الشعب الروسي، وإنما الشعب المكون من الناس، من كل فرد على حدة، وهذه روسيا الناس.

وكل واحد من هؤلاء الناس راح يتأمل فيما حوله وفي نفسه ذاتها، أحيانًا شاردًا، وغير مرة في دهشة وخوف، وفي بعض الأحيان بإحساس بالخديعة، وإنما على أمل، معيدًا مرةً تلو الأخرى اكتشاف ذاته نفسها واكتشاف الحياة المحيطة به.

زِد على ذلك فقد تحدَّث تشيخوف نفسه عن المصير الجديد لبني وطنه وقد أخذ النظام القديم المعتاد ينهار حولهم، وبعبارة أخرى أكثر صرامة: «فقد أخذت الحياة الروسية تضرب الإنسان الروسي بحيث لم يتبقَّ له شيء، وكأنما تضربه بألف حجر ثقيل. وإذا كان الناس في أوروبا الغربية يموتون من جرَّاء الزحام والاختناق، فالناس يموتون عندنا لكونهم يعيشون في براح … البراح عندنا كثير، حتى إن الإنسان الصغير ليس لديه القوة لأن يتخذ اتجاهًا نحو شيء ما …» هذا ما قيل منذ ما يزيد على مائة عام خلت ولا يزال أثره معاصرًا تمامًا، عندما نكرِّر على نحو ما تجربة الماضي الغابر، خارجين من النظام الاشتراكي الشمولي «الخانق» إلى «البراح» الذي ليس فيه قوة الاتجاه نحو شيء ما.

لم يعرف الأدب الروسي حتى الآن هذا البطل وهذه الموضوعات، التي كان من الممكن أن تعبِّر عن كل شيء وعن الجميع. روسيا تشيخوف على تخوم العصر هي روسيا التي فقدت ذاتها ثم راحت تبحث عنها، وهي كعادتها مُترَعة بالأوهام ولكنها مؤمنة بالخير والحق، لا تزال غير متعجلة، ولكنها تتحرَّك من مكانها بقلق ودون توقف.

لا يُدين تشيخوف بصورة عامة أحدًا وهو يلاحظ هذه الحركة، ولكنه يسعى لأن يفهم الجميع. وفي سياق ذلك، وبانحياز الفنان التام، لا يحلِّل الأمر ببرود. لدى تشيخوف مثاله الأعلى للإنسان؛ لديه «أناس المآثر والإيمان، الذين يدركون أهدافهم بوضوح.» هؤلاء هم القريبون إلى نفسه. كتب تشيخوف قائلًا: «الزاهدون ضروريون مثل الشمس»، «إيمانهم الخيالي في الحضارة المسيحية وبالعلم، يجعل منهم في عيون الشعب الزاهدين، الذين يجسِّدون القوة الأخلاقية العليا» (من كلمة ألقاها بمناسبة وفاة ن. م. بريجفالسكي).

درس آخر من دروس تشيخوف ولعله الأهم. لقد جاء تشيخوف إلى الأدب الروسي قادمًا من «الأوساط الدنيا»، التي ليس بعدها ما هو أدنى؛ حفيدًا لفلاح من الأقنان، ابنًا لتاجر ريفي مفلس. من الممكن تمامًا أن نقول إن تشيخوف بهذا المعنى يمثِّل روسيا الجماهير الشعبية الحقيقية. ولكن في الوقت نفسه، عندما تقترب كل هذه الروسيا، المزعزعة والمنهارة، من «براحها» بفضل قوى الطرد المركزي للتاريخ، من حد الخطر الحرج (وقد وصلت إليه في عام ١٩١٧م!) إذا بها تفقد في هذه اللحظة السيطرة على نفسها لتسلِّمها إلى سلطة المغامرين المؤقتين. أما تشيخوف فكان يُحكم بيديه السيطرة على نفسه، كانت حياته الشخصية الداخلية طريقًا شاقًّا نحو رباطة الجأش، نحو الحصول على الكرامة الإنسانية. هذا الطريق في بناء الذات وتعليمها بدأه تشيخوف منذ الطفولة (لقد أصبح حرفيًّا وهو في الثانية عشرة من عمره، في الواقع، رأس العائلة ومعيلها)، وقد قطع هذا الطريق حتى نهايته. وفي جوهر الأمر، كان تشيخوف ذاته هو كتابه الأكبر. ومثله مثل كل الكتَّاب العظام الحقيقيين، كانت حياته الروحية تعبيرًا وانعكاسًا لكل حدث كبير في حياة وطنه الأم؛ ولذلك فإن الطريق الذي قطعه أيضًا بنفسه، هو بمثابة نموذج لحل المشكلات، التي اعترضت آنذاك (بل والآن أيضًا!) روسيا كلها. وفي هذا إنما يتلخَّص، وإذا ما أمعنَّا النظر، الموضوع الرئيسي لإبداع تشيخوف بأكمله. كتب تشيخوف قائلًا: «إن الجسم الإنساني هو قُدس أقداسي، صحته وعقله وموهبته، إلهامه وعشقه وتحرُّره المطلق؛ تحرُّره من القسر والكذب.»

هذه هي وصية تشيخوف، نموذجه الشخصي أيضًا الذي دخل إلى تراث الأدب الروسي عند تخوم عصرين.

أُعاود التذكير بأن تشيخوف التسعينيات وبداية القرن العشرين هو مكتبة من الروائع: «المبارزة»، «العنبر رقم ٦»، «الملل»، «معلم الأدب»، «جزيرة سخالين» و«الراهب الأسود»، «النورس»، «حياتي»، «المنزل ذو العلية»، «إبوينتش» و«الثلاثية الصغيرة» («رجل في جراب»، «عنب الثعلب»، «عن الحب»، ١٨٩٨م)، «السيدة والكلب»، «أخيرًا»، «الشقيقات الثلاث» ثم «بستان الكرز».

هذه تذكرة موجزة عن التراث الذي سلَّمه لنا القرن التاسع عشر من يد إلى يد إلى الأدب الروسي الجديد منذ مائة عام.

(٢) الضوء والظلال في «العصر الفضي»

عندما نشرع في الحديث عن «أدب العصر الفضي» (١٨٩٠–١٩١٧م)، ينبغي علينا أن نضع نصب أعيننا أن هذا الموضوع جديد في كثير من جوانبه، غير معتاد و«مهمل» بالنسبة لتعليمنا الأدبي. خذ أي كتاب مدرسي في الأدب صدر في العقود الطويلة المنصرمة ستجد أن بلوك وجوركي وماياكوفسكي يأتون في الترتيب بعد تولستوي وتشيخوف مباشرة، ثم يتبعهم على الفور الأدب «السوفييتي»، وأما الباقون فإما أُضيفت أسماؤهم إليهم على عجل، وإما تم نسيانهم ببساطة، أو في أفضل الأحوال، ذُكروا وقد لحقت بهم عبارات الإدانة أو شبه الإدانة، عمومًا سنجد أسماءهم مكتوبةً ﺑ «حروف صغيرة»، وسنجد أن أدب تلك السنوات وقد جرت دراسته، حتى من جانب علماء اللغة والأدب المتخصصين، باقتضاب وبقدر كبير من التحامل والأحكام المسبقة.

في السنوات الأخيرة برز «العصر الفضي»، بعد أن أزاح في واقع الأمر كل أدب ما بعد الثورة (ما عدا أدب المهجر). وهنا تكمن حتمية أن نقيِّم ما أُغفل منه، وأن نفهم الماضي دون أن نسمح في سياق ذلك بوقوع أي تطرفات جديدة أو مغالاة.

لنبحث إذن بروية في الحقائق الأساسية وفي قيم «العصر الفضي»، ولتحقيق ذلك ينبغي أن نحدِّد نسقًا ما مختصرًا نوجز من خلاله ذلك.

لنفترض هذا النسق على النحو التالي:

  • (أ)

    مغزى تعبير «العصر الفضي».

  • (ب)

    حول حدود «العصر الفضي».

  • (جـ)

    المصادر القومية ﻟ «العصر الفضي».

  • (د)

    «العصر الفضي» باعتباره مركبًا ثقافيًّا عالميًّا.

  • (هـ)

    الفهم الجديد للإنسان.

  • (و)

    الصورة الجديدة للكاتب.

  • (ز)

    أدب «العصر الفضي» وفن الكلمة.

  • (ﺣ)

    تيارات العصر واتجاهاته وجماعاته.

(٢-١) مغزى تعبير «العصر الفضي»

إذن من أين جاء هذا التعبير المأثور: «العصر الفضي»؟

تُرجع التقاليد هذه الاستعارة في الأغلب إلى الفيلسوف الروسي نيكولاي بيردياييف، وقد ذاعت بعد المحاضرات التي ألقاها والتي كانت تُعقد في جلسات القراءة عند ميريجكوفسكي وفي «البرج»١ عند فيتشيسلاف إيفانوف في مطلع التسعينيات (في الوقت نفسه في سياق السؤال عن «مؤلف» هذا التعبير يرد أيضًا اسم الشاعر نيكولاي أوتسوب وسيرجي ماكوفسكي رئيس تحرير مجلة «أبوللون»، اللذين استخدما هذا التعبير في مذكراتهما. وقد أطلق س. ماكوفسكي على أحد أجزاء مذكراته عنوان «فوق جبل بارناس العصر الفضي»).

لا يمكن بطبيعة الحال، اعتبار «العصر الفضي» اصطلاحًا علميًّا، وإنما هو استعارة واسعة الانتشار على نحو استثنائي. مجاز سمح بتعريف ما ظهر في الثقافة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وانتشر في هواء العصر ذاته وأشاع إحساسًا جديدًا مركبًا للحياة وروح العصر.

يمكن أن يتجلى أمامنا مغزى هذه الاستعارة في كامل صورتها أولًا وقبل كل شيء من مقارنة «العصر الفضي» بفترة أخرى، هي «العصر الذهبي» للثقافة الروسية والأدب، بزمن بوشكين.

«كان في العالم عيد، هو الأنقى والأكثر بهاءً!
عيد تذكر العصر الذهبي،
الإحساس بالبيت، المأوى.
ذروة الإحساس الذي راح يخبو الآن.»
ألكسندر بلوك، الزمن الصعب

هذه القصيدة تقدِّم لنا التعريف الموجز والكامل ﻟ «العصر الفضي» وريث «العصر الذهبي».

كان «العصر الذهبي» هو تصور للعالم القومي باعتباره البيت والحياة الروسية باعتبارها العش؛ المأوى. الحياة هي البيت والشعب هو الأسرة، كل شخص يشعر بدفء البيت المشترك. هنا توجد الأركان الراسخة للوجود؛ كل شيء ينعم بالعدل والخلود، سواء على الأرض أو في السموات. وحتى لا يئول «كل شيء إلى زوال» (ويجب أن يزول!)، ينتصر الخير ويحل يوم القيامة. أصبح «العصر الذهبي» هو «ابنة الضابط»؛ حيث ينتصر الخير الروسي الراسخ على «التمرد الروسي الباطل الذي لا يعرف الرحمة».

لم يستمرَّ هذا العصر طويلًا؛ فما إن أشرقت شمسه، حتى دنا من الروح هاجس خسران القيم الخالدة. يقول بوشكين على لسان تاتيانا: «لقد اتخذت زوجًا آخر، وسوف أُخلص له إلى الأبد.» أما ليرمونتوف فيتحدث بشجنٍ يشوبه الألم: «أحب؟ من يا ترى؟ لا يستحق الأمر أن نُحب بعض الوقت، أما أن نُحب أبد الدهر فأمر مستحيل.»

وبصدق شديد يتنهَّد بلوك بيأس وتشاؤم في العصر الآخر، «العصر الفضي»، الذي تغيَّرت فيه روسيا كثيرًا:

«ما السعادة؟ كلمح بالبصر،
نسيان، حلم وراحة من الهموم ..
نُفيق وإذا بالجنون من جديد، المجهول
تحليق يخطف القلب …»

من الشعور برسوخ الخير واستقرار البيت إلى الشعور بالضياع والتشرد والقلق، ذلكم هو الطريق من «العصر الذهبي» إلى «الفضي».

على أي حال ﻓ «العصر الفضي» لم يكن كله يأسًا. يقول بردياييف: «في تلك السنوات وُهبت روسيا العديد من المواهب. كان ذلك هو عصر النهضة للفكر الفلسفي المستقل في روسيا، ازدهار الشعر ورهافة المشاعر الجمالية والقلق الديني والبحث، الاهتمام بالتصوف والإيمان بالغيب. ظهر أناس جدد، واكتُشفت مصادر جديدة للحياة الإبداعية. إشراقات جديدة ربطت شعورَي الغروب والموت بالأمل في بعث الحياة.» ويضيف بردياييف قائلًا: «لقد حدث ذلك في دائرة معزولة للغاية.»

فلنتذكَّر هذه الكلمات الأخيرة؛ إذ إنها تفسِّر بشكل واضح الدراما الثقافية للعصر. وأُضيف أيضًا أنه في هذه «الدائرة المغلقة» كثيرًا ما كان يظهر الضياع البوهيمي للموهبة، على الرغم من تفاني الفنان باسم «الخير والنور». وقد انعكست هذه الدراما أيضًا في «الانفصال المأساوي» الذي عانى منه المعاصرون المرهفو الإحساس (مثل بلوك) بين «الطبقة العليا»، وبين «جسد الشعب».

تتمثَّل المأثرة الأعظم ﻟ «العصر الفضي» في أنه بث الأمل في حياة جديدة وإنسان جديد، وفي هذه الموجة من «الفردية»، بعبارة أخرى، في «الهُوية الروسية الجديدة» باعتبارها هدفًا للقومية الثقافية والتاريخية، وأنها في جوهر الأمر، شعاع الضوء، في الأمل، الذي سمح لهذه الفترة أن تحمل اسم «العصر الفضي»، كما سمح بالحديث عن «الرينيسانس الروسي»، والنظر في إمكانية قيام انسجام جديد بين الإنسان والعالم.

هذا الهدف كان وصية الأدب الروسي كله في القرن التاسع عشر — من بوشكين وليرمونتوف إلى تورجينيف وجيرتسن، ومن تيوتشيف ودستويفكسي إلى تشيخوف — إلى «العصر الفضي»، الذي استوعب هذه الوصية واعتبرها مهمته الكبرى.

لكن حل هذه المهمة وتحقيق هدفها بدا مستحيلًا نتيجةً لعدد من الأسباب التاريخية (كان من بينها «العزلة» و«الانفصال»، اللذان تحدَّثنا عنهما سابقًا).

(٢-٢) حول حدود «العصر الفضي»

بدأ «العصر الفضي» بكل ما يعنيه هذا التعبير أدبيًّا وتاريخيًّا بالبيان الشهير، الذي أُعلن فيه أنه لم يكن بالإمكان فهم العالم والإنسان والتعبير عنهما بالطرق الفنية القديمة. ولعله من الممكن أن نحدِّد وبدقة هذه المحطة الفارقة؛ ففي عام ١٨٩٢م ألقى ديمتري سيرجييفيتش ميريجوفسكي محاضرة، جرى نشرها بعد عام في صورة مقال كبير تحت عنوان «عن أسباب الانحطاط وعن التيارات الجديدة في الأدب الروسي الحديث». وفي عام ١٨٩٢م ينشر ميريجكوفسكي أيضًا ديوانه الشعري «الرموز» (قال عنه فيما بعد: «أتصوَّر أنني أول من استخدم هذه الكلمة في الأدب الروسي»). وسرعان ما أخذت في الظهور في بطرسبورج مجلة «سيفيرني فيستنيك» («بشير الشمال»)، التي التفَّ حولها «الرمزيون القدامى» (ف. بريوسوف، ق. بالمونت، ز. جيببوس، ن. مينسكي، ف. سولوجوب وغيرهم).

وما هي إلا بضع سنين حتى بدأت في الصدور في التسعينيات، واحدًا تلو الآخر، دواوين «الرمزيين الروس»، وبنهاية القرن (١٨٩٩م) صدرت مجلة «عالم الفن» الشهيرة، التي أنشأها س. ب. ياجيليف ليدخل إلى الساحة جيل «الرمزيين الشباب»: أ. بلوك، أ. بيلي، فيتشيسلاف إيفانوف، س. سولوفيوف وآخرون.

يمكننا أن نعتبر بقدر ما أن مرحلةً قد حلَّت داخل الأدب بلا جدال، ولكنها على أي حال، مرحلة شكلية للغاية؛ إذ من الجلي أن الوضع الجديد للأدب لم يظهر على الإطلاق لمجرد أن ميريجكوفسكي كتب مقالًا أو أنه أصدر مجلة «سيفيرني فيستنيك»، ولا لأن ف. بريوسوف وضع بيته الشعري الشهير: «أوه، ضم قدميك الشاحبتين»، ليضمه إلى واحد من إصدارات «الرمزيين الروس».

لقد كان من الضروري أن تحدث تغيرات ما جادة في العلاقة المتبادلة بين الأدب والكاتب من ناحية، وبين الواقع من ناحية أخرى. فضلًا عن ذلك كان حتمًا أن تتغير علاقة الناس والمجتمع بالحياة ذاتها، وكانت علامات هذه التحولات عديدة.

وقد تبين أن الحالة الفريدة في هذا السياق تمثَّلت آنذاك في القصص القصيرة للكاتب المجهول تمامًا مكسيم جوركي: «ماكار تشودرا»، «تشيلكاش»، «الأطفال» وغيرها. فما الذي جذب الاهتمام إلى هذه القصص؟ جذبه أن أبطالها «قريبون» من العالم. حفاة، مهمشون، كما يسمونهم بمصطلح اليوم. أناس انتُزعوا من نظام العلاقات المعتادة، ليعيشوا ليس كما يعيش ملايين البشر من الروس حياتهم، وإنما بإرادتهم التي هي أثمن عندهم من كل شيء.

ليس من المدهش أن يتم ربط بداية «العصر الفضي» بظهور هذا الصنف من الكُتاب في الأدب وهؤلاء الأبطال الأدبيين.

الأمر يتلخَّص في أنه على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين ظهر في الفن، واشتدَّ عوده عامًا بعد الآخر، الشعور بالتحوُّل العميق في نظام الحياة العالمي في العمليات الاجتماعية وفي حركة الجموع البشرية، وفي مسار التاريخ، وفي الحياة الداخلية للناس أنفسهم. اختفى المعنى القديم للوجود واكتشف الناس في أنفسهم أسئلةً وأسرارًا جديدة، اكتشفوا بداخلهم أمورًا مخيفة وأخرى فاتنة.

هذا الوضع في الفن أطلق عليه البعض «الحداثة»، بينما أطلق عليه آخرون «الانحطاطية».

الحياة مفعمة بالأسرار والتحولات، ولكي تعبِّر عمَّا يعتمل في نفسها راحت تبحث عن لغة جديدة، وبدا الفن أيضًا على أعتاب أشكال جديدة. عندما كتب ماياكوفسكي «الشارع الأبكم يتشنَّج، لا يملك أن يصرخ أو يتحدث»، كان ينقُل هذا الإحساس الذي استولى آنذاك على الجميع، سواء الذين في «الشارع» أو في «الأوساط العليا».

إن كثيرًا ممَّا يحدث يستعصي على التفسير والتعبير عنه بوسائل عقلانية وبواسطة المناهج التي أُطلق عليها مناهج المعرفة العلمية الوضعية وباللغة الفنية المعتادة. لقد ظهرت الحاجة إلى معرفة غير علمية، معرفة صوفية ودينية.

كل ذلك جعل ثقافة الحداثة تقف بشدة على النقيض من عصر المادية والإلحاد الأسبق. لقد عزَّز السعي لإدراك «ما وراء الطبيعي» وزيادة رهافة السياسة نحو «المعرفة الغامضة»، السرية، نحو الإيمان بالقوى الغيبية وإمكان إخضاعها للسيطرة البشرية، عزَّر بشدة في تلك السنوات الاهتمام بالمجال الصوفي والديني للروح.

يتم إدراك الحياة في ثنائية العالم الغامضة؛ فهناك واقع مبهم يُحيط بالإنسان، وهناك عالم غامض داخل الإنسان، في روحه، في وعيه ولا وعيه (هذا التعبير نفسه «اللاوعي» ظهر أيضًا في تلك السنوات).

يرى بعض مؤرِّخي الأدب أن هذه النزعة الصوفية الدينية قد صبغت العصر كله بطابعها. على أن العديد من الكتَّاب الكبار ظلوا خارج «العصر الفضي» وهؤلاء كانوا مفتقرين على نحو واضح إلى الموهبة الصوفية. وهم الواقعيون الاجتماعيون البارزون مثل: جوركي وسيرافيموفيتش، وغير الصوفيين مثل: ألكسي تولستوي وبريشفين وكوبرين. بالطبع لم يكن تشيخوف صوفيًّا على الإطلاق، أمَّا ليف تولستوي فكان بعيدًا تمامًا عن أشكال «الغموض» كافة، وحتى أنَّا أخماتوفا المتدينة، الموجودة في قلب أدب «العصر الفضي»، أقامت عالمها خارج «العالم الآخر» و«ما وراء الطبيعي». أمَّا الذرويون جميعهم تقريبًا فقد اكتشفوا عالمهم الفني دون مفاتيح «سرية». هذا الأمر لم يمنعهم من أن يُصبحوا فنانين حقيقيين في ذلك العصر المتسم بالتحوُّل.

أتصوَّر أن من الضروري أن ننظر إلى القضية بنظرة أكثر اتساعًا؛ فهؤلاء (الصوفيون، «المبشرون»، الفنانون، «العالمون بالأسرار») والآخرون («الواقعيون» من الأطياف كافة) قد استوعبوا بطريقتهم حالة الواقع المشترك بالنسبة للجميع (أسمِّي من جانبي هذه الحالة بالإيمان بالآخرة eschatology)؛ أي إنهم كانوا يشعرون بأن تحوُّلات كبرى وانفجارات كارثيةً أصبحت وشيكة الوقوع في عالمهم المعاصر.

مرةً أخرى، هل ستدوِّي من أعماق الغيب الروح العالمية، أو يظهر من أعماق البراكين الاجتماعية «الصراع الطبقي»، ويأتي التمرُّد الشعبي من البيئة، أم من أعماق النفس البشرية. الحياة العالمية مشحونة بالتحولات التراجيدية. هذا هو الشعور الذي بات، بطريقة أو بأخرى، قريبًا من كل المشاركين في الحياة الفنية والثقافية ﻟ «العصر الفضي»، وهو الشعور الذي خلق جو هذه الحقبة من الزمن.

وقد عبَّر ألكسندر بلوك عن هذا الشعور، الذي جمع بين الجميع:

القرن العشرون … مزيد من المشرَّدين.
سديم الحياة أكثر إثارةً للفزع،
(ظل جناح الشيطان
أكثر سوادًا وضخامة)
… نفور من الحياة،
وحب جنوني لها،
ولع بالوطن وكراهية له،
دم أرضي أسود يتوعَّدنا،
ينفخ عروقنا،
يدمِّر كل الحدود،
تحوُّلات لم يسبق لها مثيل،
وتمرُّد منقطع النظير.

كم من الزمن استمر «العصر الفضي»! واحد من الأمور التي احتدم حولها الجدل. أحيانًا يعدوه بنصف قرن؛ من تسعينيات القرن التاسع عشر إلى أربعينيات القرن العشرين (مع الأخذ في الاعتبار استمرار إبداع كل من أخماتوفا وتسفيتايفا).

في رأيي أن هذا المدخل يجرف دون ضرورة الحدود الزمنية «للعصر الفضي». صحيح أن إيفان بونين قد تُوفي في عام ١٩٥٣م، وأن أنَّا أخماتوفا امتدَّ بها العمر حتى عام ١٩٦٦م، بينما وافت المنية بوريس زايتسيف، آخر أدباء «العصر الفضي» العظام في باريس عام ١٩٧٢م. على أنه لا ينبغي إطلاقًا أن نضع بناءً على ذلك حدود «العصر الفضي» في الأدب الروسي.

إن أي عملية أدبية هي نظام، وليست مجرد حقائق ومصائر متفرقة هنا وهناك، حتى ولو كانت واضحة. و«العصر الفضي» أيضًا نظام محدد في الحياة الأدبية، جملة من الظواهر والظروف منظَّمة من الداخل؛ بناء متغيِّر ولكنه راسخ. وإذا ما تناولنا مسألة الحدود الزمنية ﻟ «العصر الفضي» منهجيًّا، فإن هذه الحدود يمكن أن تكون متتابعةً على نحو واضح تمامًا من مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى عام ١٩١٧م. قبل هذه الحدود وبعدها، فإن بنية الحياة الروسية ونظامها في روسيا كانا (أو أصبحا) قد تغيَّرا بشكل جوهري.

وإذا ما طرحنا الحديث عن «العصر الفضي» على نطاق أدبي واسع، فإن من الواجب علينا، ربما، أن نُذكر أن هناك من ناحية المبدأ، طرازين فقط للعملية الأدبية؛ الأول عَفْوي والثاني موجه (مع حدوث تبادل بينهما). و«العصر الفضي» هو العصر الأدبي من الطراز الأول، بينما يمثِّل «الأدب السوفييتي» الأرثوذوكسي النموذج الممثِّل للطراز الثاني. دائمًا ما يتراجع الأدب «المنظم» أمام الأدب «غير المنظم»، المُلهَم من الله بواسطة قوًى ما (على الرغم من أن مؤرخي الأدب يبحثون فقط عن إجابات الأسئلة: ماذا وكيف ولماذا؟).

الأدب المفعم بالحياة هو وليد مسيرة الحياة كلها، بتناقضاتها الاجتماعية والروحية وآمالها، بمآسيها ونبوءاتها.

(٢-٣) المصادر القومية ﻟ «العصر الفضي»

(التاريخية، الاجتماعية، الثقافية)

كانت الحياة الروسية عشية «العصر الفضي» حياةً مزدوجة. اعتبر أنصار «التقدم بأي ثمن»، المتعجلون، أن روسيا تعاني من «الركود»، وأنها تعاني من وطأة «الحياة الخاملة الفظة» (هذا ما كتبه مؤرخ تاريخ الأدب الشهير سيميون أفاناسيفيتش فينجيروف). لكننا إذا ما أمعنَّا النظر سنجد أن هذا «الركود»، خلافًا على سبيل المثال «للركود»، الذي استمر في روسيا على مدى مائة عام، كان تعبيرًا عن العمل «الروتيني» اليومي العميق، الذي بدأ بالازدهار الاقتصادي الثابت والحركة الصناعية؛ أخذت المدن في التطور وازداد نمو السكان ليتدفَّق الدم والأكسجين، إذا جاز التعبير، في شرايين هذا البلد الكبير.

شمَّرت روسيا ما بعد الإقطاع عن ساعدَيها، وتحقَّقت نجاحات في المجالات كافة.

على أنه وفي قلب هذا الوضع الجديد الاستثنائي، الذي أحاط بالبلاد كلها، كان هناك خطر كبير محدق. اختفى «في أعماق روسيا» على نحو حتمي مخيف «الهدوء الخالد» الذي تغنَّى به يومًا ما نكراسوف؛ تقوَّضت القرية الروسية وانهارت الطبقات في روسيا، انفصلت عشرات الملايين من الأيادي والعقول والأنفس ليس فقط عن التبعية الاقطاعية، تهمشَّت روسيا، بمعنى أن الإنسان الروسي انفصل عن بيئته المعتادة، ابتعد عن تقاليد الآباء، وبدأ في البحث عن ذات جديدة، عن مصير آخر، استوعب نظامًا جديدًا للحياة لم يكن معروفًا. أصبح العمل الزراعي هامشيًّا لتظهر جماهير «عمال المصانع». تضاعفت الجماعة الجديدة، التي أطلقت على نفسها بكل اعتزاز اسم «المفكرين الناقدين»، «الإنتليجنسيا» بوصفها الزعيم الثقافي للبلاد.

دخلت روسيا عصرًا جديدًا من سلسلة عصور مصائرها التاريخية. فقدت تجانسها القومي واختفى «بناؤها» الطبقي الصارم. بات اكتفاؤها الثقافي الذاتي وعزلتها ماضيًا. جرفت روسيا بشدة أكثر من أي وقت في تاريخها «سمة الاستقرار» لتظهر روسيا «الأمة العظمى». وقد تحدَّث فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي عن «عالمية» الإنسان الروسي قبل ذلك بوقت غير بعيد. هذه الخطوة المُلِحة نحو العالم المتعدِّد الإيقاع الذي انفتح أمام روسيا تم استيعابها وصنع الكثير من جوانبها على يد فلسفة وأدب «العصر الفضي» تحديدًا.

على أنه وللأسباب نفسها، استمرَّ تراكم «وقود» الانفجار الاجتماعي المذهل على نحو تدريجي متسارع.

تغيَّر الروس أنفسهم من الباطن.

وبسبب هذه «الحياة الخاملة الفظة» أصبح الإنسان الساخط، المتطلِّع إلى الحرية وإلى الإرادة بالأحرى، هو بطل الساعة. إن الإنسان، الذي اكتشف أنه لم يولد في هذا العالم لكي يعمل، «كما في الماضي»، من الصباح وحتى حلول الليل، أن يعيش في المكان نفسه الذي جاء إليه، وأن يبني أسرةً وأن ينجب أطفالًا ويدعم نظام الحياة القائم، اكتشف أن عليه .. أن يدمِّر هذا النظام! هذا هو حلمه المقدس. بناءً على هذا الفهم للبطولة بُني هذا الاتجاه الأدبي، الذي ربط نفسه بأفكار النضال من أجل «التقدم الاجتماعي». كان ممثلوه: «جوركي، سيرافيموفيتش، فيرسايف، أندرييف (في بعض الأحيان)، وكذلك الشعراء «البروليتاريون» والأدباء بيدني، على سبيل المثال، وف. كيريلوف، م. جراسيموف، وغيرهم).

لم تمجِّد النزعة البطولية عند جوركي الإنسان فحسب، وإنما دفعته للصدام بهذا العالم بزعم أنه عدواني، ووضعته في مواجهة مع «البيئة المحيطة» به.

اقرءوا بعناية مسرحية مكسيم جوركي «الحضيض»، التي استقبلتها الإنتليجنتسيا في حينه بإعجاب شديد. المسرحية تعج بالمتسوِّلين و«المتشرِّدين» و«المهمَّشين» وأبناء الملاجئ، يتصرَّفون جميعهم باعتبارهم بشرًا في المقام الأول يعانون من الضجر. هؤلاء الساخطون على الحياة، التي لا تسمح لهم كما ترَون، بفرحة امتلاك الإرادة جميعهم «أسمى من الشبع» وأسمى من «العمل الروتيني». كانت جميع مونولوجات ساتين الرئيسية ضد «الشبع» وفي الوقت نفسه كانت ضد حياة الكدح «المملة» الرتيبة. وعن هذا الأمر تحديدًا إنما تدور رواية جوركي «الأم» تحديدًا، اقرءوا الصفحة الأولى من الرواية، وسوف تشعرون بشدة بعدم الرغبة في العمل. لقد تبيَّن أن العمل اليومي الشاق والممل هو ما يجب مقاومته، وأن تأكيد الإرادة المطلقة والثقة بالذات والحق في تغيير الحياة هو الهدف الرئيسي لأبطال جوركي، هذا الهدف الذي أصبح بالنسبة لهم هو الدين الاشتراكي الجديد. أما الاتجاه الآخر للأدب في تلك السنوات، فقد تمثَّل في الحداثة و«الانحطاطية»،٢ وقد انطلق هذا الاتجاه أيضًا من «الركود» على طريقته، على أنه لم يكن متفقًا معه؛ لأن «الركود» كان يقيِّد قوى الروح الإنسانية غير المرئية. إن تحرير هذه القوى من قيودها، وتوغُّل الإنسان في أعماق الروح، وسعيه نحو وحدة «الأنا» والبحث عن طرق إدراك العوالم العليا، هو الطريق الذي سار عليه الأدباء الانحطاطيون. لكنهم لم ينادوا بتغيير العالم الظاهري، وكانوا يشعرون بالخوف من مستقبل الثورة الاجتماعية (وفي الوقت نفسه فقد اعتبر العديد منهم، بلوك على سبيل المثال، أنه أمر محتوم). كانوا بحاجة إلى ثورة روحية بإمكانها أن تعيد تشكيل الإنسان.

هؤلاء وأولئك وقفوا في مواجهة الدوجمائية والسأم الفكري الذي ساد الفترة من السبعينيات إلى التسعينيات من القرن الماضي.

ولكنهم بطبيعة الحال، لم يشكوا حتى في أسوأ أحلامهم فيما سوف يقع في نهاية الأمر جراء الجمع بين هاتين الثورتين المتوقعتين؛ الاجتماعية والروحية. وفي الوقت نفسه فقد بدأ الانتظار المشتَّت الفكر لأشكال الهزات والتمرُّدات كافةً في التغلب داخل الوعي الجماهيري الروسي، وخاصةً في أوساط الجماهير التي لم تنَل سوى قدر بسيط من التعليم. وبالتوافق معها ازداد ضياع غريزة إنقاذ الذات القومية، اهتزت وحدة الحياة الشعبية التقليدية وتزعزع الهيكل الراسخ للنظام الطبيعي والثقافي، وتوالت الضربات القاصمة الواحدة تلو الأخرى، بما في ذلك من جانب الثقافة والأدب.

وسواء تحت راية الثورة الماركسية أو في صالونات الحداثيين الأنيقة وعلى طريقتهم، جرى الإعلان عن التغيير والبحث والولع بالتحديد عن طريق تدمير «العالم القديم» وقيمه، والاهتمام بالتغيير الفجائي في المناحي كافة، كل ذلك راح يضع الوعي الثقافي للعصر، يومًا بعد الآخر، عرضةً لوقوع كارثة حتمية.

من هنا نعرف لماذا خيَّم هذا الظل الثقيل على «العصر الفضي».

لقد قدَّم الفنانون الروس من كلا التوجُّهين، وخاصةً الأنبياء منهم ورُواد سِفر الرؤيا الثوري، الكثير لكي يهزُّوا العقلية الروسية المستقرة، وأن يُزلزلوا أركانها.

وفي الوقت نفسه فقد استشرف أكثرهم رهافةً في الحس الخطر المحدق ولم يكفُّوا عن التحذير من هذا الخطر. كان الأدب والفلسفة اللذان أنتجهما «العصر الفضي» مفعمَين منذ البداية بالتنبؤ بالكارثة والخوف من التأخر. وقد كتب ميريجكوفسكي في مطلع القرن، يقول:

«جَسورة هي أحاديثنا،
لكن الموت متربص بها.
ريادة
مبكرة للغاية،
وربيع جاء قبل أوانه.»

أمَّا فلاديمير سولوفيوف الزعيم الروحي للرمزية، فقد بشَّر بنهاية للتاريخ لا مثيل لها، نهاية للخلود وقد أوشك على الحلول: «من الذي أدرك في حقيقة الأمر أنه لم يعد هناك مكان للقديم ولم يتذكر أن التاريخ الماضي قد انتهى في الحقيقة، على الرغم من استمراره بسبب ركود لعبة ما للعرائس تُؤدَّى على خشبة مسرح التاريخ … ولكن، إلى أين تمضي البشرية، وأي نهاية ستكون لهذا التطور التاريخي، الذي يُحيط في الوقت الحالي بكل قوى سكان الأرض الموجودين؟»

التحوُّل الساحق لكل ظروف الحياة والبيئة التي اعتاد الإنسان أن يعيش فيها، بل الإنسان نفسه، هذا هو الموضوع الذي لم ينضب معينه في تلك الفترة. لقد تحدَّثت من قبلُ عن الموضوعات التي تناولها ليف تولستوي وأنطون تشيخوف. ولكننا عندما نتوجه إلى المعاصرين الشباب، سنرى أيضًا الروايات والقصص التاريخية نفسها، التي تتناول موضوعات الإنسان والزمن: «تاريخ رجل معاصر لي» ف. كورولينكو، ثلاثية ن. جارين ميخايلوفسكي، قصة «القرية» يفجيني زامياتين، «حياة إنسان» ل. أندرييف، وتدور جميعها حول الموضوع نفسه، القصيدة التاريخية «القصاص» لألكسندر بلوك، ثلاثية السيرة الذاتية لمكسيم جوركي التي أتبعها بقصته «حياة كليم سامجين» …

من المستحيل ألَّا نرى في جميع هذه المؤلفات بشكل أو بآخر الانعكاس الدرامي لانهيار الحياة الروسية التقليدية، على الأقل مزاج الخوف، الانتظار الذي يشوبه التردُّد للتغيير، وهو الملمح السائد في كل هذه المؤلفات.

(أُضيف بين قوسين أنه بعد عدة سنوات ظهرت في أدب المهجر الروسي رواية «حياة أرسينيف» لإيفان بونين،٣ و«الصيف الإلهي» و«الحج» لإيفان شميليف، اللتان تناولا فيهما الحياة الروسية الحقيقية العميقة التي لم يمسَّها الانهيار، والتي سوف يتم إدراكها في المستقبل باعتبارها شيئًا مقدَّسًا وفردَوسًا مفقودًا.)
كتب ألكسندر بلوك يقول: «إن التعاسة في كل مكان، وإن الكارثة وشيكة، وإن الرعب على الأبواب، فهذه أمور أعرفها منذ زمن بعيد، حتى قبل قيام الثورة الأولى.» وبلوك هو الذي تحدث أيضًا عن: «الجَوقة المرحة حول فُوهة البركان.» ومقالات بلوك في تسعينيات القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين مليئة بالتحذيرات والنداءات: «الشعب والإنتليجنسيا»، «قبل الأوان»، «البيئة والثقافة»، «الثورة والإنتليجنسيا»، «كاتيلينا»٤ وغيرها من المقالات.

هذا الشعور الحاد بعدم الاستقرار المأساوي والإنسانية المنفصلة والحياة العالمية بأسرها أضفى تكاملًا على «العصر الفضي»، باعتباره عصرًا خاصًّا مميزًا في تاريخ الأدب الروسي.

فنانو «العصر الفضي» هم أول من وضع صورةً للانعطافة التاريخية في الثقافة القومية ولحدود الوجود، وكانوا هم الذين اشتمُّوا رائحة العواصف المقبلة. كتب أندريه بيلي يقول: «فقط في تلك اللحظة التي سوف نطرح فيها سؤالنا عن الحياة وموت البشرية، سوف نقترب عندئذٍ من ظهور فني جديد … إن الناس من أصحاب الانفعالات المتوسطة تجاه هذه العلاقة بالواقع يشعرون بأنها غير حقيقية، إنهم لا يشعرون أن السؤال بشأن أن تكون البشرية أو لا تكون هو سؤال حقيقي.» وحتى نيكولاي جوميلوف، الذي بدا وكأنه في باطنه غير ميَّال للمزاج الإيماني بالآخرة، اعتبر أن أهم صفة للشاعر هي «الإحساس بالكارثة». وقد كتب في إحدى قصائده في عام ١٩١٢م، يقول:

«حزن، حزن! خوف، أنشوطة وحفرة
تنتظر الذي وُلد على الأرض؛
لأن كثيرًا من العيون
تنظر إليه من السماء السوداء،
وتحدِّق في أسراره مليًّا!»

هذا هو السبب الذي من أجله بدأ فنانو «العصر الفضي» في البحث عن وسائل للتعبير عن هذا الشعور الجديد والغريب الذي اجتاحهم، وليس من المستغرب أنهم وجدوا في الثقافة العالمية نقطة ارتكازهم (وخاصةً الثقافة الدينية الصوفية).

(٢-٤) «العصر الفضي» باعتباره مركَّبًا ثقافيًّا عالميًّا

بعد التمسُّك الثقافي الزاهد، الذي اتخذه «الديمقراطيون الثوريون» و«الشعبيون» في الفترة من الستينيات إلى الثمانينيات، بدا أن «العصر الفضي» غني بشكل غير عادي من ناحية علاقاته الثقافية، بالإضافة إلى أنه بدا أيضًا محبَّبًا وقابلًا للمحاكاة، فُتحت أمامه بشكل مغرٍ آفاق الثقافة القومية كافة، وانفتحت له الخزانة الروحية العالمية؛ أسرار وإلهامات الإيمان، اكتشافات وإنجازات الفكر الفلسفي، خبرات الفنانين والحكماء من العصور والشعوب كافة. لقد وجدوا في ذلك مرةً أخرى وعلى طريقتهم أيضًا تأكيدًا للكلمات التي قالها دستويفسكي قبل زمن غير بعيد (في عام ١٨٨١م) عن الاستجابة العالمية للروح الروسية، وعن معنى الثراء الروحي الإنساني الشامل لها.

في هذه اللحظة بدت روسيا في بؤرة اهتمام القوى الثقافية العالمية كافة، عند نقطة تقاطع فهم «الغرب» و«الشرق» للعالم.

ينبغي أن نؤكِّد هنا على الدينامية المميِّزة لهذا التأثير والانجذاب له. لقد كانت بداية التسعينيات هي فترة الانجذاب الأوروبي «الغربي» بامتياز. في تلك السنوات ازدادت بالدرجة الأولى قراءة الشعراء الانحطاطيين الفرنسيين وترجمتهم «البرناسيين»، الذين عُرفوا باسم الشعراء «الملعونين»، وخاصةً ستيفان مالارميه وبول فيرلين وشارل بودلير.

ومن ناحية أخرى كان لفلسفة أرتور شوبنهاور التشاؤمية نفوذ كبير، وقد ترك مفهوم «الإنسان الأعلى» (السوبرمان) و«الوحش الأشقر»٥ عند نيتشه الذي وضع كتاب «ما وراء الخير والشر»، والذي تحدَّى الدوجمات السائد في العالم الضيق الأفق، ترك انطباعًا قويًّا على جوركي في بداياته الإبداعية. وقد جاء دور عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد، الذي اكتشف العالم السفلي لوعي الإنسان، وحطَّم التصور الخاص عن وحدة الشخصية الإنسانية، وزاد من حدة الاهتمام بالتناقضات الداخلية العميقة للنفس البشرية.

آنذاك أيضًا انتقلت إلى التربة الروسية النظرية الماركسية الاقتصادية الاجتماعية لتجذب إليها ولسنوات طويلة العديد والعديد من الناس، وكان تأثيرها المهيمن على الثقافة والتاريخ الروسيَّين لا يقارَن مع أي تأثير آخر على مدى قرن كامل تقريبًا.

كل ذلك كان هو التيار الألماني المتدفق في الثقافة الأوروبية، والذي اغترف منه في تلك السنوات الإنسان الروسي والمثقف.

على أنه ينبغي أن نضيف إلى ذلك الرؤية الجمالية المفارقة للإنجليزي أوسكار وايلد واكتشافات الرسام أوبري بيرديسليه Beardsley، ثم الأدب الاسكندنافي وخاصةً أ. ستريندبرج، ك. جامسون، ج. إبسن، التي أصبحت سائدةً في روسيا في تلك السنوات.

من جديد تم اكتشاف المستبصرين والصوفيين الغربيين: إ. م. إيكهارت، إ. سفيد ينبورج، ياكوب بيمي وغيرهم. وازداد أثر الكتابات الثيوصوفية عمقًا (يكفي أن نذكر هنا أعمال يلينا بلافتسكايا الشهيرة)، وانتشار المزاج الأنتروبوصوفي (فيما يتعلق بالاتجاهات الأخيرة أذكر، من بين عدد من الحلقات المحدَّدة من الأدباء الروس، أندريه بيلي ومعاصريه المقرَّبين منه، وهؤلاء تركت نظرية رودولف شتاين عليهم أكبر الأثر …).

مرةً أخرى، وعلى هذا النحو، وبعد أن فُتحت النافذة على أوروبا (أُضيف أنه في تلك العقود كانت الرحلات المتكرِّرة والطويلة إلى أوروبا، إلى التعبُّد، إلى «الصخور القديمة» في اليونان وباريس وكولن، بل وببساطة من أجل الدراسة في الجامعات الأوروبية وقاعات العرض والمتاحف الأوروبية أمرًا طبيعيًّا تمامًا)، فتح الفنانون الروس أتباع «العصر الفضي» وقد تشبَّعوا بالثقافة الأوروبية، فتحوا لأنفسهم وعلى نحو حقيقي الشرق الذي لا ينضب.

يصعب الإلمام بنظرة واحدة بكل هذه الطرق المنتشرة على أراضي الشرق الغامض، التي قطعها في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين كتَّاب «النهضة الروسية»: إ. بونين: فلسطين، الهند، سيلان. ق. بالمونت: نيوزيلاندا، ساموا، المكسيك. ن. كليويف: الهند. ف. خليبنيكوف: فارس. جوميلوف: أفريقيا (زار مصر والحبشة أكثر من مرة). أندريه بيلي: مصر … وهؤلاء أنعشوا لدى الكتَّاب الروس الرغبة في التعرف على أساطير وخرافات العالم القديم: الآشورية، البابلية، اليونانية، الرومانية، وكذلك أثاروا لديهم الشغف بدراسة الديانات في كلٍّ من الصين والهند والشرق الأوسط …

ونقول، إحقاقًا للحق، إن هؤلاء الكتَّاب، وبعد أن جابوا بلدان المشرق والمغرب، عادوا من رحلاتهم الروحية وقد ازداد اهتمامهم بثقافة وطنهم وتاريخه وبخبرته التي لم تنَل حظًّا كافيًا من التقدير. وقد دخل هؤلاء الكتَّاب في جدل دفاعًا عن تقاليد ما يُعرف باسم الأدب «الثوري الديمقراطي»، بينما وصل «العصر الفضي» إلى بعث تقليد آخر؛ قراءة الكلاسيكيين الروس من جديد، وعلى نحو عميق: بوشكين، ليرمونتوف، جوجول، دستويفسكي، أبوللون جريجورييف، تيوتشيف. وتعود أهم الأعمال عن هؤلاء إلى د. ميريجكوفسكي، ف. روزانوف، أ. بلوك، ن. بيردياييف، ل. شيستوف (إيفانوف-رازومنيك، ل. كاراسافين، أ. بيلي …).

هؤلاء الكتَّاب قادهم إدراك روسيا إلى عمق «تربتها»، إلى تقاليد ماضيها الغابر، إلى الأسطورة السلافية، إلى طقوس الأقدمين، إلى كنوز الثقافة الشعبية (الفولكلور)، أذكِّر أن معايشة اكتشاف فن رسم الأيقونة الروسية القديمة (وخاصةً لوحات أندريه روبيلوف، الذي أصبحت لوحته «الثالوث» الأثر الأعظم المثير، كانت تمثِّل حدثًا ذا مغزًى فني روحي هائل في تلك السنوات تحديدًا). وقد استلهم الكتَّاب الروس، فضلًا عن الرسامين والنحاتين، نماذجهم من الذاكرة القومية، من تقاليد الماضي: م. نيستيروف، وف. سوريكوف، ون. ريريخ، وب. تروبتسكوي، وإ. بيليبين، وب. كوستوردييف، وأ. ف. فاسنيتسوف، وم. أنتوكولوسكي … ويمكن أن تذكر هنا الموسيقيين أيضًا: إ. سترافينسكي، ون. ريمسكي-كورساكوف …

هؤلاء بحثوا في هذه الطبقات الثقافية عن الحلول كافةً لكشف أسرار الشخصية القومية، وعن مغزى الوجود الروسي الغامض، والإجابة على «الأسئلة الملعونة» للزمن.

أقدِّم هنا أسماء الشعراء الفلاحين «أولاد البلد» الأوائل: ن. كليويف، وس. كليتشيكوف، وس. يسينين. وإلى جوارهم اصطفَّ الأدب الروسي كله في تلك السنوات. لم يكتب الرمزي العظيم ألكسندر بلوك فقط ديوان أشعاره «في حقل كوليكوفو»، وإنما كتب عددًا من المقالات تحت اسم «أشعار المؤامرات والتعاويذ»، «الشعب والبحث عن دين»، بينما أصدر م. بريشيفين كتاب «من أجل رغيف مسحور»، و«عند جدران المدينة الخفية». من المعروف هذا الاهتمام الذي ساد آنذاك بالماضي الروسي والمساعي الطائفية الحديثة عند م. كوزمين وأندريه بيلي («الحمامة الفضية»)، وفي هذا الاتجاه يكتب أ. ديمزوف بسرور بالغ كتبه في الفولكلور («اتجاه عقارب الساعة»، «مشتل الليمون»). أذكِّر أيضًا ﺑ «حكايات روسية» و«حياة ماتفي كوجيمياكين» وغيرها من مؤلَّفات مكسيم جوركي، و«القرية»، «تفاحات أنطون» و«الجفاف» لإيفان بونين …

وعلى هذا النحو، وفي سنوات «العصر الفضي» تم إسقاط الكثير من جوانب «المركزية الأوروبية» في الثقافة وفي القيم الفكرية، التي كانت سائدةً منذ زمن بيلينيسكي وتشيرنيشيفسكي، وانفتح فضاء جديد وتوجهات جديدة ووسائل رؤية أكثر اتساعًا للعالم وللإنسان. وهذه واحدة من المآثر الكبرى والمؤكَّدة التي اجترحها «العصر الفضي».

الحقيقة أنه في بعض الأحيان ظلت الانطباعات الناتجة عمَّا جرت رؤيته ومعايشته لدى الثقافات الأخرى، وفي رحابة الكون الذي انفتح دون حدود، على مستوى «الطرائف» (خاصةً لدى ق. بالمونت، بل في العديد أيضًا من أشعار ن. جوميلوف). في هذه السنوات اتسع وعلى نحو لم يسبق له مثيل مدى الرؤية لدى الأدب الروسي، الذي أحاط بما جرى نسيانه منه وﺑ «الغريب» باعتباره جزءًا منه، مستخدمًا هذا وذاك من أجل إدراك ذاته. راحت هذه العملية تزداد عمقًا حتى وقع انقلاب عام ١٩١٧م. ظلت هذه العملية ممتدةً في الوطن بضع سنوات أخرى (في شعر يسنين وفي روايات س. كليتشكوف وفي مخطوطات أشعار ن. كليويف التي لم تُنشر وفي مقالات م. بريشفين)، ولكن روح هذه الثقافة أخذت في الذبول تدريجيًّا. أما الأدب الروسي في المهجر فقد أخذ هو الآخر في «التجمع» تدريجيًّا ليأخذ في الانغماس في مشاعر الحنين إلى الوطن، في هذا الوقت كشف الأدب المُوجه في روسيا السوفييتية في نهاية العشرينيات عن دلائل الخسارة المتنامية كافةً للذاكرة الثقافية.

عن كل ذلك سوف نتحدث في الموضع الملائم من هذا الكتاب.

(٢-٥) الفهم الجديد للإنسان والزمن

في نهاية القرن التاسع عشر تشكَّلت في روسيا ظروف الحياة كافةً للإنسان الفرد القائم بذاته، بات الإنسان يشعر أنه متورط في لعبة قوى العالم العظمى؛ ماديًّا واجتماعيًّا وروحيًّا، تاريخيًّا وما بعد تاريخي.

من جانب، فقد تمت بحدة الطموحات الإنسانية للتدخل في العملية التاريخية، وظهرت الثقة أن «الإنسان نفسه» يمكنه أن يدير حركة الحياة في هذا العالم. عقود من الإلحاد والإرشادات المادية، وعلاوةً على ذلك، انهيار نمط الحياة القديم بأكمله، أمور قادت كلها هذا الإنسان إلى «إلغاء» الإله وإلى التأكيد على إحلال معبود جديد مكانه هو «الإنسان الكامل».

من جانب آخر، بدا أن الإنسان بات تحت سلطة فوضى الحياة التي لا يمكن التنبؤ بتقلُّباتها، أحسَّ بضآلة شأنه وتفاهته وعدم الحاجة إليه و«قابليته للتبديل» باعتباره جزءًا نمطيًّا في آلية لا روح لها داخل «ماكينة التقدم» التي انتزع منها الإله.

وحتى الزمن أصبح بالنسبة للإنسان زمنًا آخر.

وإذا كان زمن وجود الإنسان التقليدي على مدى آلاف السنين هو مجرد لحظة من لحظات الخلود تعود للإله، وأن الإنسان نفسه يمكن أن يعيش في خضوع، وإذا ما «تحكم في الزمن» و«استغله» واستخلص منه فائدة، فإن هذا يُعد خطيئة، فإن علاقة الإنسان الروسي بالزمن في مرحلة الحياة الجديدة قد تغيَّرت جذريًّا؛ تغيَّر الزمن المسيحي والإلهي، فضلًا عن الوثني، الذي كان يمثِّل في وقت ما دورة الطبيعة، الزمن الدوري، المنغلق، الموجود في تكرار دائم (الأمر الذي كان مميِّزًا للتصور المسيحي).

ظهر عدد من نماذج الزمن (بما في ذلك التصور عن «التقدم الثوري» لتيار الزمن، الذي ما لبث أن انتصر في روسيا على نحو تدريجي). هذا الزمان انفجر على نحو جامح «إلى الغد، إلى الأمام» (ف. مايكوفسكي)، جاذبًا وراءه الإنسان مخضعًا له ومستحثًّا إياه.

وعلى نحو آخر، ودون حماس، راح الكتَّاب الحداثيون، الرافضون للنموذج «التقدمي» ينظرون إلى هذه المشكلة معتبرين أنه نموذج بدائي وسطحي.

كان هؤلاء الكتَّاب يرَون أن الإنسان العادي يبدو لعبةً لا حول لها ولا قوة في يد الأوساط العالمية. دُوامة التاريخ، «الدُّوامة العالمية تبتلع في قاعها الإنسان كله تقريبًا، وهذه الشخصية ذاتها لو بقيت على قيد الحياة فسوف تصبح غير معترف بها، شخصية مشوَّهة، معوَّقة. كان هناك إنسان، ولم يعد كذلك. ما تبقَّى هو جسد رديء ذابل، ونفس منحلَّة» (ألكسندر بلوك، مدخل إلى «القصاص»).

ينبغي أن نؤكِّد أنه وللمرة الأولى في تاريخ روسيا بأسرها يعتبر الإنسان الفرد — الإنسان العادي — يعتبر نفسه المسار الفطري للحياة، بعد أن خرج من إسار القنانة والطبقة، كما كان عليه الأمر غير بعيد، ليصبح بإمكانه اتخاذ قراره الفردي. بات مطلوبًا، على سبيل المثال، في المصانع ولبناء السكك الحديدية، لكنه بدا إنسانًا زائدًا عن الحاجة في القرية، ذائبًا في زحام المدينة، أصبح جزءًا لا ملامح له من جمهور «الشارع». ضاع في الزحام، وضل الطريق حتى إلى ذاته.

وبرهافة حس خاصة بدأ هذا الإنسان في الشعور بعدوانية البيئة من حوله، بضغطها المتزايد ليبدأ بدوره في الرد عليها وبعدوانية أيضًا (يقول مكسيم جوركي مشاركًا بخبرة حياته في كتابه «جامعاتي»: إن «الإنسان يخلق مقاومته للبيئة.»). لقد سارع الإنسان المهمش، الذي تخلَّص من تحكُّم البيئة فيه ليؤكِّد سطوته عليها والانتقام من خضوعه القديم لها وإعادة تشكيلها. وقد تمثَّل ذلك في العنف في التعامل مع هذه «البيئة». هذه الموضوعات كان لها شعبية فريدة في الأدب في مطلع القرن («الشيطان الصغير» ف. سولوجوب، «الحضيض»، «حياة فاسيلي فيفييسكي» و«الظلام» ل. أندرييف، «الضباب الأسود» و«المبارزة» أ. كوبرين، وبطبيعة الحال، مكسيم جوركي في كل إبداعاته المبكِّرة). ولكن الحرب مع العالم المحيط دائمًا ما تنتهي بهزيمة الإنسان العادي.

إن المدن، وخاصةً المدن الكبرى بالدرجة الأولى، التي ما فتئت تطحن الحياة والأنفس، هي ظاهرة جديدة في كثير من جوانبها في روسيا، وهي ظاهرة غير عادية وخطيرة؛ لأنها ليست فقط مراكز للحياة الثقافية أو الإدارية، وإنما لأنها عشوائية بدرجة كبيرة، شرهة ومكتظَّة بالسكان، سكان جدد في أغلبهم، مهمَّشون، لا مأوى لهم، غرباء جوالون. لنعد إلى بلوك مرةً أخرى. إن الموضوع الخاص بمعاداة المدينة موضوع دائم عند بلوك: «العالم أخضر ومزدهر، وفي فضائه المدن العناكب المنتفشة، التي تمتص النبات المحيط بها، مصدرةً هديرًا ودخانًا خانقًا ورائحة كريهة … لا مأوى هنا نسكن إليه. عنكبوت لزج لا حدود له اتخذ من المكان المضيء الهادئ بيتًا له، المكان الذي كان رمزًا للعصر الذهبي٦ … إننا نعيش في عصر الأبواب التي انفتحت على الميدان والنوافذ المعتمة … ظهر المتشردون بيننا. التقى الخاملون والمشرَّدون والمتسكِّعون في ساحات المدن … صوت العاصفة الثلجية أخرجهم من بيوت العناكب، كسر هدوء الوطن، دندن في آذانهم، أدركوا أغنية الدوران الخالد، أغنية الطيران الواعد» («قبل الأوان»، ١٩٠٦م).

أدرك بلوك بمرور الوقت أن هذه الأغنية أيضًا خادعة. سوف تعصف «العاصفة الثلجية بعيونهم»؛ لتعوقهم عن رؤية أنفسهم ورؤية العالم على حقيقته، ولكنه اكتشف في مطلع القرن، أن في زحام المدينة يعيش «المهمشون» و«المطرودون»: «هنا يتسكع الروس، دون حب أو صداقة، دون عمر، أحفاد العمالقة». وبعد عشر سنوات بالتمام والكمال، وفي عام ١٩١٦م يكتب سيرجي يسينين:

«سأغادر وطني،
سأصبح متشردًا ولصًّا …
وسيشحذ صديقي العزيز سِكينه ليُشهره في وجهي من أجل فردة حذاء.»

إن مأثرة أدب «العصر الفضي» تكمن في أن هذا الأدب استطاع بحساسية فائقة التعبير عن أزمة الإنسان، عن خطورة تدمير «البيت»، تهديد تجسيد التنوع الشعبي الإنساني، انفتاح المصائر على هاوية الإرادة الهامشية، الفراغ الملبَّد للبيئة، حرفيًّا «الحياة في مهب الريح»؛ كل ذلك جرت معايشته في مصائر أبطال مؤلفات أدباء «العصر الفضي»، وفي كثير من الأحوال، في المصائر الشخصية لهؤلاء الأدباء أنفسهم أيضًا.

مع تقديرنا لاكتشافات الأدب هذه، فلا يجب أن ينسحب هذا التقدير على الزمن، الذي نراه مؤلمًا، مزدوجًا وخطيرًا.

وهكذا راح الأدباء الروس، المهمَّشون يتغنَّون في وقت ما في سعادة بالإرادة والحرية التي لا حدود لها، مستهينين بسنوات «الركود» الهادئة في عصر ألكسندر الثالث، وقد غمرهم الفرح بتخلُّصهم من عبودية الخدمة «المدنية» المباشرة. على أنهم سرعان ما اكتشفوا أن «الحرية بلا صليب» (أ. بلوك، قصيدة «الاثني عشر») تدفع بالإنسان إلى معمعة المصائب الرهيبة، وتضعه تحت رحمة عدوان الجسد والنزوات الشخصية، فضلًا عن الكوارث الاجتماعية والكونية.

على أن هذا الوضع الصعب والخطير كانت له تبعات مهمة؛ ففي اللحظة التي اتضح فيها ضعف الإنسان الروسي التقليدي وقلة حيلته أمام مصائب التاريخ، راحت تنضج روسيا تدريجيًّا حركة لإنقاذ هذا الإنسان «الجماعي»، «الأبوي» (وهي الصفات التي كانت تتفاقم باتجاه الجانب الأسوأ في هذا الإنسان، الذي عُرف باسم «الإنسان السوفييتي البسيط») نحو ظهور إنسان جديد بالفعل في روسيا، وقد وصف بلوك هذا الإنسان ﺑ «الإنسان الفنان». إنسان ذاتي النشأة، شخص جديد، قادر على المبادرة الروحية، يمتلك الصلابة الداخلية الذاتية باعتبارها شرطًا سواء للحياة الفردية أو القومية.

(٢-٦) الصورة الجديدة للكاتب في أدب «العصر الفضي»

من أين جاءت هذه المعرفة الجديدة بالحياة الروسية، هذه الخبرة التي لا نظير لها في الأدب الروسي الشامل: الاجتماعي والحياتي، الثقافي و«ما وراء المدرك»، أدب المدينة والقرية، أدب الريف والعاصمة؟ ما سمات هذا الكاتب الروسي الجديد، صاحب الأفق الواسع، المتعطش لاستيعاب الحياة والتعبير عنها؟

هل كان «العصر الفضي» حقًّا عصرًا غنيًّا بالكتَّاب الموهوبين؟ لا شك في ذلك! فالكاتب العديم الموهبة هو كاتب خارج الأدب عمومًا. ولكن عندما نتناول الجانب الأدبي التاريخي فإن من الممكن هنا ومن المشوِّق أن نتبع مدخلًا آخر يسمح بفهم أكثر رحابةً لخصوصية الحياة الأدبية في تلك السنوات.

كما هو معروف فقد كان «العازف الأول»، إن لم يكن الوحيد في الأدب الروسي السابق كله هو طبقة النبلاء، تلك الطبقة التي خلقت الواقع الروسي داخل حدود كل ما هو قريب منها (حتى ولو استوعبت هذه الحدود أطراف الحياة كلها على اتساعها وببساطة ويسر): العاصمة والمراكز الريفية، ضيعة النبلاء، ريف النبلاء، محافظة النبلاء، الصفوة، القرية، الريف، البلاد الأجنبية، القصر، البهو، الغرف البيروقراطية، البيت الريفي بعيون أحد السادة، الصيد، الرحلات؛ الجيش: الضباط، الجنرالات، الجنود؛ الأقنان: غالبيتهم يعملون لخدمة الإقطاعي، والقلة من الفلاحين يحرثون الأرض.

باقي فئات المجتمع، حتى رجال الدين والتجار، ناهيك عن البرجوازية الصغيرة، تظهر أقل كثيرًا نسبيًّا وربما لا تظهر على نحو ملحوظ.

لنتذكر أن كبار أدباء القرن التاسع عشر، وخاصةً في النصف الأول منه ومنتصفه أيضًا: بوشكين، ليرمونتوف، جريبويدوف، جوجول، تورجينيف، تيوتشيف، دستويفسكي، ليف تولستوي، نكراسوف، فت، شيدرين، كانوا جميعًا من النبلاء (باستثناء جونشاروف وأستروفسكي؛ فقد كانا ينتميان إلى عائلات غنية تعيش في المدن، ولكنها تَمُت في ذات الوقت بصلة قرابة إلى طبقة النبلاء). هؤلاء كان عالمهم الطبقي في غالبه تعبيرًا عن العالم القومي العام.

على أننا نفهم تمامًا هذا الخوف وفي الوقت نفسه الإجلال اللذين كانا يشعر بهما بلوك أمام روسيا «الغامضة»، التي قدمت على نحو مرعب في مطلع القرن العشرين «الوعي المشوش» للإنتلجينسيا الروسية.

وهذا الوعي الثقافي الجديد، سواء الفني أو الفلسفي أو العلمي، كما سنرى، قدَّم الكثير لفهم روسيا الحقيقية ذات الوجوه المتعددة.

تُرى أين تكمن منابع هذا الوعي الثقافي؟ في العديد من الأشياء. في تعدُّد الأصوات الذي لا نظير له، سواءً الاجتماعي أو الفردي. في هذا «الأوركسترا» المتنوع المعبر حقًّا عن عموم روسيا، والذي مثَّلته ثقافة وأدب «العصر الفضي». إن تاريخنا لم يستمع بعدُ إلى هذه الموسيقى.

بطبيعة الحال فقد كان في مقدمة هؤلاء الكتَّاب، الكتَّاب النبلاء: أنينسكي، أخماتوفا، بالمونت، بلوك، بونين، فولوشين، جيبيوس، زامياتين، جيورجي إيفانوف، كوزمين، ماياكوفسكي، ميريجكوفسكي، سيفيريانين، ألكسي تولستوي … هنا يبدو الكتَّاب الريفيون أقل عددًا، وهذا أمر مفهوم، ولكن هناك أيضًا: يسينين، كليويف، كليتشيكوف، ويا لها من أسماء (أُضيف إليهم: أ. أنفيروف، إ. فولنوف، إ. سوريكوف: «لماذا توقفت؟ رقيقة هي شجرة التوت وهي تتمايل.» هذه من قريحة سوريكوف.)! ومع هؤلاء هناك العديد من أبناء المدن من أصحاب المهن المختلفة ينحدرون من شتى فئات الشعب (أندرييف، بيلي، بريوسوف، جوركي، جوميلوف، فيتشيسلاف إيفانوف، زايتسيف، كوبرين، بريشفين، ريميزوف، روزانوف، سولوجوب، خليبنيكوف، تسفيتايفا، تشوكوفسكي، شميلييف …).

ووسط هؤلاء المواطنين سنجد ظاهرةً فريدة في الأدب الروسي «القديم»؛ إنهم «الأغراب» من أمثال: أ. ماندلشتام، ب. باسترناك، ف. خوداسيفيتش، ساشا تشيورني، فضلًا عن إيليا أهرنبورج، د. بورليوك، م. ألدانوف، ب. ليفشيتس … وأُضيف أن هذا «الهجين» اختلطت بدمائهم الروسية دماء ألمانية أو بولندية مثل بلوك وتسفيتايفا وجيبيوس وفاجينوف (بالمناسبة، لم تكن المسألة «القومية» في الأدب الروسي من بين هموم «العصر الفضي». لم يكن الأدب الروسي موصومًا ﺑ «التصنيفات» التي تجد تشجيعًا «من أعلى»، والتي راح البعض يُلح عليها في أدبنا في وقت لاحق ولا يزال يفعل حتى الآن.

وإليكم «قطاعًا» آخر من أدب (وأدباء) «العصر الفضي»، «إقليميًّا» و«قُطريًّا» إن جاز التعبير.

يكاد الأدب الروسي الكلاسيكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن يكون أدبًا موسكوفيًّا أو بطرسبورجيًّا (أو مرتبطًا بالضِّياع المتاخمة لهاتين العاصمتين).

لننظر هنا من أين ينحدر أدباء «العصر الفضي». من بطرسبورج، بطبيعة الحال «بلوك، وأخماتوفا، وج. إيفانوف، وميريجكوفسكي، وسولوجوب (والأخير ابن لخادمة، عاش الجزء الأكبر من حياته مدرسًا ريفيًّا فقيرًا)، وجوميلوف، وجيبيوس، وسيفيريانين، وتيفي»، ومن موسكو «بيلي، وبريوسوف، وفيتشيسلاف إيفانوف، وباسترناك، وريميزوف، وخوداسيفيتش، وتسفياتيفا». وماذا بعد؟ عبر روسيا كلها يأتي: أندرييف من أريول، وأمفيتياتروف من كالوجا، وأنينسكي من أومسك، وأسييف من لجوف بمحافظة كورسكايا، ود. بيوني من محافظة خيرسونسكايا، وبونين من ضواحي فورونيج، وفيرسايف من تولا، وفولوشين من كييف، وأ. فولينسكي من جيتومير، وجوركي من نيجيجورود، وزايتسيف من أريول، ويسينين من ريازان، وكليتشيكوف من محافظة تفيرسكايا، وكليويف من محافظة أولونيتسكايا، قرية فيتيجرا، وكوزمين — وُلد في ياروسلافل — قضى طفولته في ساراتوف، وكوبرين من ناروفيتشاتا في محافظة بنزينسكايا، وماياكوفسكي من قرية بغداد في جورجيا، وماندلشتام — وُلد في وراسو — وزوزانوف — وُلد في فيتلوجا في محافظة كوسترومسكايا — وخليبنيكوف من محافظة أستراخان …

نورد هذه المعلومات لا باعتبارها تحريرًا لاستمارة بطبيعة الحال. هذه «شهادة» تؤكِّد أن «العصر الفضي» كان يعرف كل شيء عن الأدب الروسي! إن العقل والحدس والموهبة على التنبؤ لكتَّاب «العصر الفضي» كانت جميعها موجودةً في كل أبعاد الحياة الروسية، في كل طبقة من طبقاتها، في العواصم كما في الأقاليم، بين الصفوة والبسطاء، بين النخبة المصقولة والمهمشين المفكَّكين.

وفي تلك السنوات تحديدًا دخلت الحياة الروسية للمرة الأولى إلى الأدب الروسي بكل تفاصيلها وامتلائها.

والآن نعود لنولي اهتمامنا بتلك الخاصية التي وسمت أدباء «العصر الفضي»، والتي من الجائز، أن يكون بمقدورنا أن نحكم عليها بصرامة، ونعرف بالضرورة إلى أي حد كانت مميِّزةً لتلك السنوات ولأولئك البشر الذين عاشوها.

إننا إذا ما تأملنا القرن العشرين من خلال شخصياتهم ومصائرهم، فسنلاحظ أنهم حتى في سلوكهم الأدبي اليومي، لم يكونوا يرغبون في الانضواء تحت قوانين وقواعد السلوك التقليدي. كان أناس عصر النهضة المميَّز هذا، والذي ارتبط دائمًا بالتمرد على القوانين كافة، غير عاديين في كل أشكال تجلياتهم الجامحة، والتي لم يكن من الممكن، في بعض الأحيان، التنبؤ بها. وبالنسبة للعديد منهم لم تكن «القواعد» الأدبية القديمة الجاهزة تمثِّل أي أهمية، وكذلك طقوس «الخدمة المدنية الأدبية»، كما كان الأمر بالنسبة لأسلافهم. لكن الذي كان يهمهم هو تحقُّقهم الذاتي الكامل؛ لأن: «كل شيء مباح»! بأي ثمن، سواء في الحياة، أو في الكلمة.

يذكر أحد المعاصرين مازحًا (فيتشيسلاف إيفانوف): «إن أهم شيء عند جوميلوف هو الرياضة، أما عند أخماتوفا فهو الغزل.» كثيرًا ما نجد قدرًا كبيرًا من المبالغة في أسلوب السلوك لدى هؤلاء الأدباء، ومن خلال طريقة الحياة غير العادية لديهم إنما تتكوَّن صورتهم الفريدة، التي يتم التعبير عنها من جديد بالنسبة لروسيا حتى عبر «الدور» التقليدي: الشاعر-المواطن، الشاعر-النبي. ولكن في كثير من الأحيان تتخذ وسائل التأكيد الذاتي الأدبي لديهم أشكالًا مثيرة، بل حتى صادمة.

آنذاك تخفَّى الشعر الحقيقي تحت قناع الشاعر-الغندور، الشاعر-البوهيمي، الشاعر-الشريد أو الدرويش الغريب الأطوار، أضف إلى هؤلاء أيضًا الشاعر-العربيد. يمكننا تتبُّع هذه الأقنعة جميعها ولو في مصائر المستقبليين: ف. ماياكوفسكي، ف. خليبنيكوف … هؤلاء لم يكونوا وحدهم، بطبيعة الحال، في هذا المجال. هنا يمكن أن نتذكر أيضًا ألكسندر دوبروليوبوف، حياته المتقلِّبة ومصيره المدهش، وكذلك ق. بالمونت وس. يسينين وإ. سفيريانين وأ. تينياكوف، بل أخماتوفا ذاتها وبلوك وفولوشين، وقد تحدثت أنَّا أخماتوفا عن ذلك بقدر ما في «قصيدة بلا بطل».

باختصار، يمكن القول بأن كتَّاب «العصر الفضي» هم تنوُّع لأصوات فردية لم يسبق له مثيل في روسيا، هم شعراء يمثِّلون حرية التعبير وسلوك الفنان، الذي لم يكن مسموحًا به في أدب العقود السابقة. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك، ربما، أدباء على مستوى بوشكين، فإن وصية بوشكين: «أنت نفسك المحكمة العليا» و«أنت وحدك الذي يخدم نفسه ويرضيها.» جعلت العديد منهم (أحيانًا يجب الاعتراف أنهم كانوا من أصحاب المواهب المتواضعة) يظل متمسكًا بهذه الوصية دون تسويف. وفي رأي كثير من أدباء هذه الفترة، فإن الدعوة لم تقتصر على التصالح مع النفس والابتعاد عن «الأغنية الذاتية»، وإنما لأن يصبح لكل شاعر صوته المستقل. ما إن أشرقت شمس «العصر الفضي» حتى أعلن ن. مينسكي عن بيانه، الذي أكَّد فيه أن مغزى المصير الشعري هو «تأليه الذات في العمل وفي الإبداع». وقد مرَّ هذا المبدأ، مع تغييرات طفيفة، عبر أدب «العصر الفضي» كله، بعد أن أعلن عن نفسه تحت رايات الانحطاطية والحداثة. لكنه وهذا أمر مفهوم، دخل في جدل حاد مع أدباء «مدرسة جوركي» (التي كان سلوكها الأدبي، بالمناسبة، نشيطًا للغاية أيضًا ومرتبطًا بأكثر القوى «يسارية»).

بدا هذا الجدل ضروريًّا، بل كان من الضروري أيضًا أن يستمر دون منتصرين أو مهزومين. على أنه وبعد عام ١٩١٧م، كانت أول وجهة نظر تم الاتفاق عليها مرفوضةً تمامًا؛ إذ إنها كانت تشكِّل خطورةً على «السلطة المستبدة»، التي ما لبثت أن أوقفت هذا الجدل لزمن طويل.

على العموم فقد كان العصر كله محتدمًا بالجدل.

تقليديون محافظون ومجدِّدون أكثر جرأة، لا دينيون وشديدو الإيمان، أنصار للانفجار الثوري الفوري، أنصار القديم الحكماء، صوفيون وعقلانيون وهلم جرًّا، هم أصوات وشخصيات، وجوه وأقنعة، يمثِّلون «جَوقة» شديدة التنوع والتباين، يمارسون الكتابة، ولكنهم جميعًا معًا أصبحوا تجسيدًا للنشاط الروحي الجماعي لروسيا في لحظة تحول مصيري فاصلة.

في تلك السنوات توقَّف الكاتب عن أن يكون «راهبًا» منقطعًا عن العالم أو مجرد مبدع للنصوص، الأمر الذي وصفه سالتيكوف-شيدرين بإحساس عميق بالأسى، بقوله: «الكاتب يكتب من حين لآخر، والقارئ يقرأ من حين لآخر.» في هذه الفترة أصبحت الصلات بين القارئ (الجمهور) متعددةً وحميمة على نحو خاص، وبدا الأمر كما لو أن الحداثيين لم يتخلَّوا عن «مهمتهم المدنية»، وازداد الجمهور بحيث بات كل شخص تقريبًا يستمع إلى كل كلمة تصدر عن الكتَّاب في الشأن العام. وهكذا بات الكتَّاب الاجتماعيون، حتى من النخبة المعزولة، شاءوا أم أبَوا، هم المهيمِنون على الأفكار والأذواق، معبودو الجماهير، سواءً من العامة أو من الصفوة.

هنا يمكن أن نتذكر أن «السياحة» الشعرية المؤثرة للغاية التي قام بها ليس فقط المستقبليون ف. مايا كوفسكي، وف. كامينيسكي، ود. بورليوك، وأ. كروتشيونيخ، وإنما أيضًا في رأيي، كتَّاب آخرون ذوو طبيعة فكرية أخرى، فيودور سولوجوب على سبيل المثال. وقد قرأ، ملك الشعراء «إيجور سيفيريانين» أشعاره، هو وآخرون، أمام جمهور عريض كان يدرك معنى كل كلمة (وحتى طقس تتويج معشوق الجماهير بتاج الشعر كان يتميَّز بحضور جماهيري طاغٍ وصاخب)، كما أن أ. بلوك، ون. كوزمين لم يتجنبا إطلاقًا قراءة الشعر أمام الجمهور. كان الجمهور مرتبطًا بشعرائه البارزين وليس بالصالونات «المغلقة» المنعزلة لشعراء مثل ميريجكوفسكي وزوجه (ز. جيبيوس (المترجم))، وفيتشيسلاف إيفانوف وف. سولوجوب. أما النجاح المدوِّي فقد كان من نصيب الشاعر العصامي «سيرجي يسينين»، القادم بأشعاره وأغنياته التي ترنَّم بها في الحلقات والصالونات كافة، حتى وصل بها إلى صالون الإمبراطورة ذاتها. وقد لاقت المحاضرات العامة التي كان يلقيها كورنيه إيفانوفيتش تشوكوفسكي، أحد أكثر نقاد ذلك الزمن نفوذًا، نجاحًا مدويًا. وأخيرًا، فقد كانت شعبية مكسيم جوركي شيئًا منقطع النظير.

كان الجمهور الجديد، الذي راح عدده يتزايد، جمهورًا متحمسًا متعلمًا، ولكنه في أحيان كثيرة غير مثقف تمامًا، يتم توجيهه بصعوبة في حالة التقلبات الثقافية والاجتماعية الحادة، بحاجة إلى زعماء، إلى حكماء، إلى من يعبِّرون عن آرائهم، ويصنعون الموضة التي تتماشى مع أذواقهم وقِيمهم. وقد أصبح الكتَّاب في كثير من الأحيان هم هؤلاء الزعماء بالدرجة الأولى. وهناك حالات كثيرة معروفة كان الكاتب فيها هو الذي يقف على رأس هذا التيار الاجتماعي أو ذاك، سواء بوصفه سياسيًّا وأديبًا في الوقت ذاته (جوركي هنا هو المثال الأبرز).

صحيح أن هذه العلاقات القائمة بين الكتَّاب والجمهور ومع البيئة المحيطة كانت، وأكرِّر، مبنيةً على نحو شديد التعسف؛ فبالنسبة لبعض هؤلاء الكتَّاب كان الشعور بالنشاط والخفة أمام الجماهير أو أمام غيرهم من «الصفوة» أمرًا معتادًا، ولكنه يكون مختلفًا أمام «العامة» حيث يبدون منعزلين بشكل ظاهر.

ومع ذلك فقد ظهرت في هذه السنوات تحديدًا بيئة شبه ثقافية هي خليط متعدِّد الأشكال على نحو كبير، شريحة بوهيمية، يمكن أن نطلق عليها على سبيل السخرية ﺑ «التركيبة الصيدلية». ومع ذلك فلا يمكن أن نتصور الحياة الأدبية بدونها.

(٢-٧) أدب «العصر الفضي» وفن الكلمة

يبحث الأدب في كل عصر (والفن عمومًا) ليجد (وقد لا يجد) اللغة الفنية التي تعبِّر على أكثر نحو من الكمال عن زمنها وعن مصير الشعب والإنسان، عن التفرد في الحياة وعن مغزى هذه الحياة وقيمتها. ومن بين الأهداف الأساسية للأدب تأتي في المقام الأول الحاجة إلى إبداع «صورة العالم في كلمة معجزة» (ب. باسترناك). لعل من المستحيل التعبير عن عالم الإنسان المعاصر، الإنسان الروسي للقرن العشرين بلغة السلفيين القدماء، ما قبل المدونات التاريخية، ما قبل المغول، بأسلوب القصائد الملحمية الروسية القديمة (البيلينا)، أو حتى بلغة الشاعر ديرجافين٧ مهما كانت عظمته وقوته.
كان بوشكين، بطبيعة الحال، متمكنًا من كل شيء، فكان في زمنه «طليعيًّا» و«معاصرًا»، وكان يتحدث بلغة جديدة، لغة ما بعد ديرجافين. إن الأدب العظيم يتغلب طوال الوقت على «ما يصعب التعبير عنه»، حتى إنه يشتكي في بعض الأحيان من أن «القول المأثور هو فكرة كاذبة»، وأن «ليس هناك أكثر عذابًا من عذاب الكلمة» (تيوتشيف)،٨ وهذا الأدب يظل يبحث على أي حال، ويجد كل الكلمات الجديدة والضرورية.

إن أدب «العصر الفضي»، الروسي كما ذُكر قبل ذلك مرارًا، جاء وليد حاجات الإحساس الفني الجديد بالعالم، وقد حرصت كلمته أن تكون صوتًا لعصرها. أما الحداثة الروسية فقد جاءت، وبدرجة لا يُستهان بها، نتيجة الجدل مع السلف، مع التسطيح والنقصان والفقر، ومن ثم للرؤية الكاذبة للعالم التي عبَّر عنها الأدب «الشعبي» في مرحلته المتأخرة، بموضوعاته «التحريرية» و«المدنية» المفروضة عوضًا عن ثراء وتعدُّد أوجه الحياة؛ أي إن أولئك الحداثيين الباحثين عن لغة فنية جديدة قد أحيَوا في الواقع الكلمة الضائعة من أسلافهم؛ إذ إن مهمة الأدب هي أن يكون مخلصًا للحقيقة كلها في عصره؛ أي أن يكون مطابقًا للواقع. لقد تغير العالم، وفسَّرت واقعية «الأمس» المُوجَهة هذا العالم، وهنا يكمن المسوِّغ لظهور الحداثة وحتميتها. أما الجدل بشأن «غرابة» الحداثة واعتبارها من «البدع» فأمر مفهوم؛ لقد رأى خصوم الحداثة في «رفضها» للمُثل المدنية، وفي نظرتها الجديدة للإنسان والانغماس في أسرار روحه، ثم في تجاربها الجامحة مع «الشكل» «فردية» و«انحطاطية» غير مقبولة، وهلم جرًّا. ولهذا أصبحت كلمتا «انحطاطية» و«انحطاطي» في اللغة الروسية في تلك السنوات، وخاصةً في الدراسات الأدبية السوفييتية، علامةً على الاستنكار وضربًا من السباب.

إذن، ما الشيء الذي كان لافتًا للانتباه، والذي ميَّز الشكل الفني لأدب «العصر الفضي»، وخاصةً في شعره؟

أولًا: كان هذا الشيء هو اكتشاف أبعاد جديدة وقيم تتعلق بالعالم الباطني للإنسان، والتي جرى التعبير عنها مرارًا ﺑ «صيغة المتكلم»؛ أي بطريقة غنائية. إن الشاعر هنا يقوم باكتشاف عالمه الباطني، باعتبار هذا العالم لغزًا وقمة عظمى.

«أنا إله العالم الغامض،
العالم بأسره ملك لأحلامي.»
ف. سولوجوب

يرفض الشاعر كل القديم لينغمس في عالم خلق روح جديدة عند ف. بريوسوف على سبيل المثال، نجد أن هذه المهمة قد تم التعبير عنها على النحو الذي تميَّز به هذا الشاعر من استقامة ووضوح:

«… إنها الأخوة.
فلنمحوا روحنا المهترئة! التي وُهبت فراءً جديدًا فحسب،
ولنضع بدلًا منها نبيذًا طازجًا.»

يمكننا أن نتذكر أيضًا أبياتًا مشابهة لشعراء آخرين.

إن التقييد المسبق ببرنامج ضيق، أمر يجعل الشاعر بعيدًا عن تعددية الحياة، هذا الشعر يتراجع لصالح النظرة الرحبة التي لا حدود لها. لقد باتت روح الشاعر مهيأةً لاستيعاب التقلبات كافةً التي تحدث في فضاء العالم. كان بريوسوف من أوائل الذين عبَّروا عن هذا الميل الجارف نحو الإحاطة الشاملة بهذا العالم. إن كل لحظة وكل حالة من الأحوال ينبغي أن تجد لها مكانًا في درجات الشعور المتباينة لدى الشاعر.

«أحب كل الأحلام. كل الأحاديث عزيزة على نفسي.
أُهدي أشعاري إلى كل الآلهة …»

وهاكم أبياتًا أكثر تعمدًا وتحديًا:

«لم أعد أومن منذ زمن بعيد
بالحقيقة الثابتة. أحب كل البحار، كل المرافئ
أحبها، أحبها بالقدر نفسه.
أود لو أن الزورق الطليق
راح يسبح في كل اتجاه. أود أن أبارك،
كل السادة، وكل الشياطين …»

ومع ذلك فلم يكن بإمكان الشعر في تلك السنوات أن يتناول بأي حال من الأحوال الموضوعات كافة، بل راح يسترشد بمدراس واتجاهات شعرية محددة، ويقوم بوضع الأشكال والأنواع والأوزان الجديدة والسياقات الاستعارية، التي تفرضها الحاجة إلى تقديم الحياة في جريانها العَفْوي، الذي لا يمكن التنبؤ به وذلك على صورة أكثر اكتمالًا. وبهذا ارتفع الشعر إلى ذرًى جديدة للثقافة الشعرية، مبدعًا لغةً شعرية، مضمِّنًا الكلمة داخل تلك العلاقات، كاشفًا من خلالها هذا الجرس الذي لم يكن موجودًا لدى السابقين.

ينبغي أن نذكِّر هنا بمصدرين للتجديد؛ أولهما: إثراء الشعر بموضوعات وصور فنية منتقاة من الفولكلور والأساطير الشعرية الشعبية، وخاصةً تلك التي تمثِّل أهميةً بالنسبة لكليويف وكلينشيكوف ويسينين، والتي تم تأويلها من قبل كلٍّ من بلوك وبيلي وأخماتوفا وكامينسيكي، كل بطريقته، وبتعبيرات حادة، من قِبل فليبنكيوف وكروتشينيخ، ثم في النشر، الذي أعطى نماذج باهرةً على يد ريميزوفا، وزامياتين، وريشفين، وتشابيجين ونفيروف …

ثانيًا: أن شعر الحداثة الروسي، كما سبق وذكرنا من قبل، قد فتح من جديد لنفسه طريقًا إلى الشعر الأوروبي، ليدخل في علاقة إبداعية متوترة تمثَّلت في التنافس مع التجديد الشعري الأوروبي. من هنا ظهرت النماذج المثيرة للإبداع في الأشكال الشعرية (رامبو، وفيرلين، ومالارميه وغيرهم). إن الجدل والتعاون هنا قد جرى التعبير عنهما أيضًا في الكم الكبير من الترجمات (وخاصةً ترجمة الشعر الفرنسي). وقد تمت ترجمة الشعر عن «اللغات الأخرى» كافةً تقريبًا، وكان أكثر من قام بها كل من بالمونت، وسولوجوب، وبريوسوف …

أصبح اكتشاف الحدود الجديدة للأشكال الغنية بالمضمون أحد إنجازات الثقافة في تلك السنوات، وعلى نحو خاص اتسع صدى جرس الكلمة، وظهرت وسائل التوزيع الأوركسترالي الصوتي للأبيات الشعرية. أصبح جرس الكلمة بمثابة قوة إضافية للشعر وتعبيرًا عن روحه، طاقة انفلتت من قيود المعاني «الدلالية» للكلمة. في شبابه كتب أوسيب مانلشتام في عام ١٩١٠م، قائلًا:

«ابقَي زبدًا كما كنت يا أفروديت،
وأعيدي الكلمة إلى موسيقى.»

لماذا تتم مطابقة الكلمة بالشيء، بالموضوع الذي تعنيه؟ هل الشيء هو سيد الكلمة؟ الكلمة روح. الكلمة الحية لا تعني الشيء، وإنما لديها حرية اختيار الشيء، الجسم اللين. وحول الشيء تطوف الكلمة حرة، كما تطوف حول جسد ملقًى ولكنه غير مهمل (أوسيب ماندلشتام، «الكلمة والثقافة»).

تجاوبت مع هذه البيانات التي أصدرها ماندلشتام أكثر التجارب الشعرية المتطرفة التي قام بها خليبنيكوف، وإنما على طريقته، وحتى البيانات التي أثارت البدع اللفظية عند «التكعيبيين المستقبليين»، الذين أعلنوا في بياناتهم التي أصدروها في العقد الأول من القرن — من أجل كسب الشهرة — عن التحرير الراديكالي للكلمة من المعاني الفكرية التقليدية (فلنتذكَّر هنا تلك البدعة اللفظية الشهيرة لكروتشينيخ: «دبر بول شير أوبيشور.»٩ بالإضافة إلى التجارب الأخرى ﻟ «الكلمة المفتولة» و«المجنونة»).

لعله من الضروري هنا أن نؤكِّد أن هذه اللغة الشعرية الجديدة لم تكن مفهومةً للجميع. الأمر ببساطة أن هذا الشعر كان موجَّهًا للنخبة من القراء، ومن ثم كانت الطبعات التي تصدر قليلة النسخ في معظم الحالات (لنقل إن ألف نسخة كانت تعد طبعةً كبيرة)، وكان الإخراج فاخرًا — بل يمكن اعتباره في أحيان كثيرة من روائع فن الطباعة — وكانت الكتب تباع بسعر مرتفع. كان حصول «القارئ العادي» على النصوص متوقفًا في كثير من الأحيان على التجربة الإبداعية للمؤلف؛ إذ إن أهم شيء بالنسبة للشاعر هو أن يعبِّر عن ذاته ولا يهمه أن يكون مسموعًا ومفهومًا من جانب الآخرين.

بضع كلمات عن «كتَّاب النثر» في أدب «العصر الفضي».

كانت لوحة ألوان النثر في تلك السنوات كبيرةً ومتنوعة أيضًا.

إليكم بعض الأسماء وليس كلها.

إيفان ألكسيفيتش بونين: هو أول كتَّاب النثر في «العصر الفضي» («الوادي الجاف»، «تفاحات أنطون»، «نفس خفيف»، «السيد من سان فرانسيسكو»). كان بونين يتمتَّع بحساسية فائقة وسرعة بديهة، وكانت لديه القدرة على الإمساك بحالة الحياة «الخارجية» بقوة وبالطبيعة والإنسان (الداخل يضيء عبر القشرة).

تتلخَّص أستاذية بونين في تناول التفاصيل التي لا نظير لها، والتي يمكنه تصويرها من خلال اللون والرائحة والإيماء. بونين «البارد» بمقدوره أن يخلق لونًا دقيقًا عاطفيًّا ومتوترًا على نحو مدهش. أما من ناحية الشكل الخارجي، فإننا لا نجد أي «إضافة» عاطفية على الإطلاق من جانب المؤلف؛ ليس هناك شيء يمكن أن يُنسب إليه، كل شيء ينبع من «الموضوع». بونين الأديب لا يدفع القارئ، لا يقوده وراءه، خطوطه صارمة ودفينة، يتركنا وحدنا في مواجهة العالم الذي اكتشفه.

أما بونين الشاعر فهو أكثر عاطفية؛ إنه يكشف لنا عن ذاته، ولكنه في الوقت نفسه لا يسمح أن يشاركه فيها أحد.

فيودور كوزيميتش سولوجوب (شعر، روايات «الشيطان الصغير»، «سحرة نافي»): أبدع في النثر (كما في الشعر) عالمه الخاص. وهناك أمر يتكرر كثيرًا في نثره، وهو الرؤية الشاملة؛ حيث نرى الحياة تتدفق فيه على نحو مشوه وبدقة غريبة، متكسرةً من خلال عدسات متعددة الزوايا لشخصيات خارجة عن المألوف. ومن مجموعة العجائب البشرية يظهر لديه هذا العالم الملوَّن، المبرقش والحيوي على نحو يصعب وصفه، عالم لم يوجد قبله، يقنعنا بتشوُّهاته وواقعيته.

ومن بين أدباء العصر يُعد ليونيد نيكولايفيتش أندرييف واحدًا من أكثر الأصوات علوًّا، ملهَمًا وملهِمًا، مبالغ، يضع ألوانه الصارخة بشكل كثيف ثم يضيف إليها كثافةً إلى كثافة — من أجل أن يثير الفزع والصدمة والذهول والخوف والارتباك. يشوِّه الكاتب النسب العادية بصورة حادة، ويخلق مواقف متناقضة، وهو مغرِق في المبالَغة والقسوة — سواء تجاه أبطاله أو تجاه قارئه، لا يخفي رغبته في السيطرة عليه، وفرض استنتاجاته والسيطرة على انطباعاته.

فاسيلي فاسيلييفيتش روزانوف («سقوط الأوراق»، «الوحيد»، «العابر») أديب صارع الأدب المتعارف عليه، الأدب التافه والمبتذل. كان يرى أن من غير المقبول، ومن غير اللائق رؤية الحياة وإدراكها على حقيقتها في لحظة مفاجئة عن طريق التلصُّص والسطو عليها في أثناء اندفاعها.

إنه «يتثبَّت» قبل هذه الحقيقة، بإزالة الطلاء واللمعان عن كل ما هو معتاد و«محترم». هو واحد من أوائل الذين قدَّموا تفاصيل الوعي والنفس والتردد و«تلقائية» الحياة الباطنية وانقطاعها. كان روزانوف يدرس الأدب بطريقته الخاصة، ويعلِّم القارئ كيف يكون مخلصًا، وأن يتجنَّب خداع الذات المعتاد. عند روزانوف، السخرية اللاذعة، الغياب التام لكافة «الأتقياء» و«ذوي النفوذ» (من أجل الاتفاق مع الذين يتم تزييف الحقيقة في أغلب الأحوال على أيديهم)، هو عمل من أعمال مقاومة العبودية، صراع من أجل الحق في الحقيقة. هذا «الشقي»، «المستهتر»، «الشرير»، «المراقِب»، الذي لا يعترف بوجود كاتب «مقدس»، كان هو الكاتب الأكثر إثارةً للجدل بين كلاسيكيي «العصر الفضي».

لم يكن الأمر المهم بالنسبة لألكسندر إيفانوفيتش كوبرين هو «المظهر الخارجي» للإنسان وسلوكه المعيشي. لقد سعى الكاتب للنفاذ إلى باطن هذا الإنسان (إلى الإنسان الباطني) في رواياته («الوحيد»، «سوار العقيق»، «الطاغية»). كما لم يكن أيضًا بحاجة إلى حياة معتادة، تسير سيرًا عاديًّا، بقدر ما كان بحاجة إلى حياة دائمة التجدد، إلى حالة روحية قابلة للانفجار، إلى معرفة معانيها الغامضة، إلى كشف لغز الإنسان في تلك اللحظة التي يتحرر فيها تحررًا حقيقيًّا من قبضة الروتين. إن كوبرين يُحب التنوع البشري ويسعى وراء تقارب الناس على اختلاف مشاربهم، ويتطلَّع إلى ظهور المجال الروحي المشترك. إنه يهتم بكل شخص، ولكن لديه دائمًا شخصيةً مركزية، شخصيةً رئيسية تتجمَّع عندها كل الأحداث، وجميعهم يشكِّلون الحياة، المعاناة الكاملة والسعادة الكاملة، الآلام والآمال، الحياة في نثر كوبرين تترك دائمًا مخرجًا إلى الحب والرحمة، إلى الفهم والتعاطف.

إن يفجيني إيفانوفيتش زامياتين («شئون ريفية»، «عند نهاية العالم»، «ألاتير»):١٠ كاتب عصبي، مكلوم بطبيعته ذاتها؛ ولهذا يضع «قناعًا» على نفسه وعلى أسلوبه في الكتابة. ألَا يعود ذلك إلى أنه يكاد يكون هو الأول في أدب «العصر الفضي»، الذي أدرك القوة والقدرة التعبيرية للقشرة الأدبية الفنية للروح الإنسانية؛ أي الحكي. لم يقم زامياتين بتشريح النفس مباشرة، وإنما من خلال تعقيد الحديث؛ فهو يعرض عن طريق «اصطناع الأقنعة» الأدبية كيفية تضليل الناس، ويرى تشوش الناس تحت وطأة الظروف وطقوس الحياة. وهو يؤكِّد بسرور على التحرر النادر من العبودية باعتبارها اختراقًا من جانب الإنسان لذاته، الحقيقية. لكن هذا الحماس، وا أسفاه، نادرًا ما يتحقق. لقد حكى زامياتين، ربما أكثر من معاصريه الآخرين عن ضلال الإنسان واشتباكه مع ظروف الحياة، عندما يكون من الداخل أقوى من الخارج.
ألكسي ميخايلوفيتش رميزيوف («بوسولون»١١ وغيرها): أديب ساخر، يعمل بالعِرافة، يلعب بالكلمة، يمد ثم يمد سلسلة التحولات الأدبية والتباينات. الكلمة لديه دائمًا تعني شيئًا مختلفًا، شيئًا خاصًّا بها، مختلفًا عما في «القاموس». هنا تخدمه لعبة الكلام في سياقه الشعبي، مقدمةً له دعمًا دائمًا. الكلمة الشعبية تحمل دائمًا معنيين وثلاثة معانٍ، وهي دائمًا محمَّلة بالألوان والأحجيات، بالمراوغة والاستخفاء. ومن هنا ينطلق ريميزوف.

ميخائيل ميخايلوفيتش بريشفين («في بلاد الطيور التي لا تعرف الذعر»، «عند حوائط المدينة الخفية» وغيرها): أديب صاحب كلمة واضحة، يقظ، يفكِّر كثيرًا على مهل وسط الطبيعة وبمفرده، وخاصةً في يومياته. بريشفين يصغي إلى كل شيء حوله، وكذلك يصغي إلى الصوت الذي بداخله. يسعى إلى ألَّا تفوته الأصوات الهامسة؛ مثل سولوجوب … بريشفين هو أستاذية الإنصات إلى الحياة وتأملها.

مكسيم جوركي ابتكر نفسه (بدءًا من اسمه المستعار) واخترع الحياة («ماكار تشودرا»، «تشيلكاش»، «الأم»، «الحضيض»). منذ قصصه الأولى سعى لأن يكون «فنانًا»، يكتب بالكلمات وبالألوان؛ ولهذا نجد أن ألوانه الأدبية مختارة على نحو زاهٍ ومتعمد (ودائمًا إلى حد المبالغة)، حتى إننا نحتاج إلى قراءته، مع غض النظر عن رؤاه. وإذا كان بونين يزيد من حدة رؤيتنا الخاصة، فإن جوركي يعلِّمنا ألَّا نرى بعيوننا نحن، وأحيانًا نتفق مع الكاتب، ولكن، في أغلب الأحيان ننصاع لِما يفرضه علينا مضطرين. إن عالم جوركي دائمًا ما يكون عالمًا غير واقعي، ومع ذلك ففي هذا العالم الذي اخترعه جوركي عاش ملايين من البشر لنصف قرن. لقد تبين أن «الصورة الشعبية الرخيصة» لمهمش جوركي (في «الأم» وغيرها)، أكثر فائدةً للدولة، قابلة للاستخدام في الدعاية، ثم إنها سهلة المنال ومتاحة دائمًا للأسف. أما نثر جوركي الكبير والمعقد (وهو يشكِّل عددًا غير قليل من المجلدات من أعماله الكاملة) ظل أقل شهرةً وإقبالًا على قراءته (مثل «ملاحظات من اليوميات، المذكرات»، الأجزاء الأولى من «حياة كليم سامجين» وثلاثية السيرة الذاتية بطبيعة الحال).

(٢-٨) الاتجاهات والتيارات والجماعات، الجمعيات والصالونات في «العصر الفضي»

تميَّزت الفترة الواقعة على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين بالتوتر وبحرية البحوث الجمالية الروحية والفنية. كان زمنًا للاتجاهات والتيارات الأدبية الإبداعية، التي كثيرًا ما دخلت في جدل حاد فيما بينها، لكنها كانت تؤدي عملًا مشتركًا في تأسيس وتطوير الثقافة الروحية لروسيا. وقد تميَّز هذا الزمن أيضًا بظهور صحافة أدبية تمتعت بالموهبة والحدة في تناول الموضوعات، وكذلك بحيويتها وتميُّز إصداراتها. هو زمن الجمعيات والروابط والحلقات والجماعات والصالونات الأدبية، التي وصلت في بعض الأحيان إلى حد المغالاة، لكنها كانت تتميز في الأغلب بالعمق، وقد ترك العديد منها أثرًا لا يُنسى في الحياة الأدبية الروسية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى مطلع العشرينيات من القرن العشرين.

لقد تحدَّدت صورة أدب «العصر الفضي» في جانبها الأكبر بتميُّز ثلاثة اتجاهات رئيسية وهي: الرمزية والذُّرَوية والمستقبلية. وأحيانًا ما كانت هذه التيارات والاتجاهات ما تسمى ﺑ «المدارس»، وهذا التعريف كان مقبولًا بصعوبة وخاصةً من جانب «الذروية» (لأن أكثر الذرويين نشاطًا، وهو نيكولاي جوميلوف، كان يود بشدة أن يرى في عمله وعمل رفاقه نوعًا خاصًّا من «الورشة»، «المدرسة»؛ ولهذا فقد أطلقوا على جمعيتهم اسم «ورشة الشعراء» بدعوى أنها تقدِّم تدريبًا احترافيًّا).

جوهر الأمر يتلخص كذلك في أن التيارات كافةً في بداية القرن لم تكن جماعات احترافية (على الرغم من أنها كانت تقرِّب ما بين الأدباء داخلها وبين العمل الاحترافي)، بقدر ما كانت وسيلةً للعثور على إجابات للأسئلة المعتادة للثقافة الروسية: ما ماهية العالم؟ وما الإنسان؟ وما معنى الفن؟ ما الذي يحدث في الحياة الروسية وفي الروح الإنسانية؟ إلى أين تمضي روسيا؟ وهلم جرًّا.

قال ألكسندر بلوك، في معرض اشتباكه في الجدل الدائر مع دعاوى الذرويين فيما يخص كونهم «مدرسة»، وهو محق في ذلك: «… لم تكن هناك في روسيا أي مدارس أدبية بمعنى الكلمة على الإطلاق، ولم يكن من الممكن أن توجد، وينبغي أن نتوقع، ولزمن طويل، أنها لن توجد … إن للأدب الروسي تقاليده؛ فهو أدب وثيق الصلة بالرأي العام وبالفلسفة وبالكتابة ذات الطابع الاجتماعي …»

أبدأ هنا ببضع كلمات عن الرمزية والرمزيين.

لقد ظهرت هذه المدرسة الشعرية تحت هذا المسمى أول ما ظهرت في فرنسا عندما نشر ج. مورياس بيانًا أعلن فيه عن «الكلمة الجديدة» في الشعر. لم يكن هناك أي شيء مشترك بين هذه المدرسة وبين الرمزية الروسية، عدا فهم الرمز باعتباره مجازًا، وإدخال معانٍ جديدة للكلمة. في مطلع التسعينيات نشر ديمتري ميريجكوفسكي في روسيا ديوانًا شعريًّا باسم «الرموز»، وفي العام نفسه أسَّس لضرورة فهم جديد للعالم في بحث بعنوان «عن أسباب الانهيار وعن التيارات الجديدة في الأدب الروسي المعاصر». وبعد مرور ثلاث سنوات كتب ف. بريوسوف في مقدمته للطبعة الأولى من كتابه «الرمزيون الروس» يقول: «إن هدف الرمزية يتلخص في أنه إلى جانب الصور المقارنة، يحدث ما يشبه التنويم المغناطيسي للقارئ ليثير فيه حالةً نفسية محددة.»

لكن كل هذه التصريحات لم تكن سوى مدخل إلى جوهر هذا التيار الجديد. لقد بدأت الرمزية الروسية الحقيقية منذ تلك اللحظة التي تأسَّس فيها الإحساس الشعري بالعالم على فلسفة ف. س. سولوفيوف. في عام ١٩٢٠م كتب بلوك قائلًا: «لقد قُدر على فلاديمير سولوفيوف أن يظل، على مدى حياته كلها، المُعبر الروحي والمبشِّر بتلك الأحداث التي كان من الضروري أن تنتشر في أرجاء العالم.» لقد بعث سولوفيوف الروح في البحث الروحاني الخالص في معاصريه الشباب «من أجل إدراك مُثل الحب والخير والجمال الرفيعة». وقد أكد نيكولاي بيردياييف على هذه الخاصية بقوله: «لقد تجاوز شعر الرمزيين حدود الفن، وقد كانت هذه خاصيةً روسية للغاية. إن الفترة التي عُرفت باسم «الانحطاطية» والنزعة الجمالية قد انتهت بسرعة، وجاء زمن الانتقال إلى الرمزية، التي كانت تعني البحث عن نظام روحي والبحث عن الصوفية. لقد كان فلاديمير سولوفيوف بالنسبة لكلٍّ من بلوك وبيلي نافذةً دوَّت من خلالها رياح المستقبل. إن التوجه للمستقبل وتوقُّع الأحداث الاستثنائية في المستقبل القادم، أمران مميزان للغاية بالنسبة للشعراء الرمزيين. لقد حمل الأدب والشعر الروسيَّين في مطلع القرن طابعًا نبويًّا (أي تنبؤيًّا (المؤلف)). لقد أحسَّ الشعراء الرمزيون بما لديهم من رهافة مجبولة أن روسيا تندفع نحو الهاوية، وأن روسيا لم تتكشف ملامحها بعد». «رأي الرمزيين الشباب» و«الرمزيون الأصغر» بلوك، وبيلي، وفيتشيسلاف إيفانوف، وفولوشين، في الرمز «نافذة على الخلود»، نافذة تُطل على العوالم الغامضة وتجسيد للأنوثة الخالدة (التي أطلق عليها بلوك في بداياته اسم السيدة الرائعة).

لقد سار الرمزيون بنكران الذات لمواجهة «يوم القيامة» القادم.

لقد رأوا المغزى الخاص للحياة المعاصرة لهم في أن قوة التحول الروحي ستندفع من أعماقها. تبقى ضرورة أن يكون هناك فنان وشاعر فحسب يسعيان لملاقاتها بما يملكان من انفعال عاطفي والإحساس بروح العالم، وعندئذٍ يصبح من الممكن تجديد الروح الروسية ذاتها، التي تجاوزت في داخلها يوم القيامة (وهو الاسم الذي أطلقه بلوك على أحد دواوينه)، هذا التجديد سيكون مأساويًّا، يتم عبر المعاناة، لكنه السبيل إلى الخلاص. لقد شق الشاعر نفسه هذا الطريق متخطيًا مشاركيه كافةً في الفكر من المعنيين بالرمزية (أطلق الشاعر على ثلاثة أجزاء من شعره الغنائي اسم «ثلاثية التجسد»). لقد كاد الإيمان بالخلاص الروحي للانقلاب الكوني والتقارب المجازي للشاعر مع انقلاب أكتوبر الواقعي، أن يؤدي به في وقت ما للإيمان بالبلاشفة، وأن يعطي مبررًا للقراءة المحدودة الأفق والمسيَّسة لقصيدته «الاثني عشر» (الأمر الذي أفقرها بشكل بالغ).

الأمر منذ البداية في جوهره يتلخص في أنه من خلال فلسفة الرمزية وأخلاقها يخرج الفنان إلى آفاق جديدة من الحرية الروحية، وإلى فهم الثورة الإنسانية الفردية، وإلى اجتراح المأثرة باعتبارها الطريق إلى عوالم أخرى مضيئة، باعتبارها نوعًا من عودة الشاعر إلى وطنه الروحي (إنه برمته نتاج الخير والشر، إنه برمته حرية الانتصار. هكذا وصف بلوك بطله الغنائي).

تنطلق الرمزية من قدرة الشعر على استبصار كنه الوجود. إن التصور العادي يمتلك الرؤية الظاهرية للعالم فقط، بينما الأعماق المجهولة للحياة الحقيقية خلف هذه القشرة الفظة الكاذبة. العالم ثنائي والشاعر وحده هو القادر على الإنصات إلى «نداء روح الآخر» (ف. سولوفيوف). إن النفاذ إلى روح الحياة، حتى ولو أدَّى ذلك إلى الهلاك، وتلك هي مهمة الشاعر (يقول بلوك: «أن تلقي بنفسك أسفل عربة مندفعة بجنون.» أمَّا الواجب الإبداعي له فهو «الاستماع إلى الأوركسترا العالمي»).

إذا ما أمعَنا النظر تحديًا في هذا «الكشف» للعالم الحقيقي من خلال «يوم القيامة» الحقيقي، وسنجد أن هذا اليوم، على سبيل المثال، هو الذي يشكِّل موضوع قصيدة «الاثني عشر» بأكملها. وهو ما يفسِّر لنا السبب في الفرح الذي عايشه بلوك وهو يعمل على إنجازها، ولماذا صاح قائلًا: «استمعوا إلى موسيقى الثورة بكل قلوبكم، بكل وعيكم.» إن هذه الموسيقى عند بلوك، هي التي وجَّهت الإنسان، وجَّهت كل فرد من الاثني عشر، نحو خلاصه الحقيقي: «بعيدًا خلف المسيح، مهما قذفت «العاصفة» بغبارها في «عيونهم» آناء الليل وفي أثناء النهار.»

لقد عايش الرمزيون قدر روسيا الصوفية على نحو لا يقل حدةً عن مصير روسيا المعيشي، «التجريبي». وفي معرض مقارنته بين هذه الرؤية والرؤية الأخرى — المعيشية والصوفية — فزع بلوك من النتيجة التي توصَّل إليها (لنتذكَّر هنا ولو قصيدته الشهيرة «حياة رفيقي» وليل، شارع، مصباح، صيدلية …).

لم يرَ الرمزيون حلًّا سلميًّا لهذا التناقض، وكان من رأيهم أن هذه العقدة لا يحلها سوى انقلاب روحي كوني فقط. وبهذا الحل نفسه وعلى طريقتهم أعدَّ الرمزيون ثورةً حقيقية في عقول ونفوس الإنتليجنسيا. هذه الخدمة السلبية لا يمكن إسقاطها عن الرمزيين، على الرغم من أنه لا توجد، بطبيعة الحال، أسس حقيقية لاستيعاب هذه الرمزية باعتبارها ظهيرًا للانقلاب البلشفي.

أما فيما يتعلق بالخدمات التي أدَّاها الرمزيون في الإدراك الفني للعالم، فقد كان الرمزيون عظماء لا يتطرَّق إليهم الشك. لقد كان للعالم والحياة عند الرمزيين أبعاد عديدة، كلاهما لا يتوسَّع سطحيًّا، وإنما يملكان بنيةً معقَّدة لا تنضب. الحقيقة لم تُكتشف، وإنما هي مخفية، سواء في عمق الحياة الكونية أو في أعماق النفس البشرية.

لعل من المناسب هنا أن نتحدث عن جماعة «الإسقيثيون»١٢ التي ظهرت عشية الثورة، والتي كانت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالرمزيين وخاصةً ببلوك. وقد انضمَّ إلى هذه الجماعة، فضلًا عن بلوك، كل من ر. إ. إيفانوف-رازومنيك، ون. م. بريشفين، وي. أ. زامياتين، ون. أ. كليويف، وس. أ. يسينين. و«الإسقيثيون» مجازًا، هم سكان البراري، وكانوا معتادين على حب الحرية الذي لا حدود له، والالتصاق بالأرض والعدوانية تجاه الدوجمات التي تحجَّرت، ومواجهة «البرجوازي المتحضر العالمي». «عدد» من مجموعة «الأدباء الإسقيثيون» اعتبروا أن الإنسان المعياري أقل بما لا يقاس من الجماهير الشعبية، التي رأوا فيها قوةً فطرية إبداعية هائلة ومصدرًا للتجديد. أمَّا البرجوازيون فهم بالنسبة لهم «عامة الناس». لقد عبَّر «الإسقيثيون» عن إحساسهم بالعالم، بدرجة أو أخرى في ديوانَي «الإسقيثيون» و«الاثني عشر» لبلوك، فضلًا عن رواية «نحن» ليفجيني زامياتين، والتي تُعد نقيضًا لليوتوبيا، وفي قصيدة «إرميا النبي» لسيرجي يسينين، وفي أشعار ن. كليويف في تلك السنوات «أغانٍ ريفية».
بحلول العشرينيات، وبعد وفاة بلوك والإحباط الشديد الذي نال من يسينين (الصلاة الأربعينية)١٣ وبعد الآمال الضائعة التي بدأت بالتجديد، سقطت حركة «الإسقيثيون»، وحل زمن «الأدب السوفييتي»، الذي لم يكن لبلوك أو يسينين أو كليويف أو زامياتين مكان فيه.

ولا «الإسقيثيون» الأحرار.

والآن نتحدث عن الذُّروية والذُّرويين.

أبدأ ببعض المعلومات الحقيقية حول تاريخ الذروية.

لقد انتهى الجدل الذي قادته جماعة جوميلوف مع الرمزيين في مطلع العام ١٩١٢م بالعزلة التامة والإعلان عن اتجاه جديد في الشعر. لقد أعلن نيكولاي جوميلوف عن الذروية، وأكَّد أندريه بيلي على أن كلمة «ذروية» (المشتقة من الكلمة اليونانية «Akmé»، التي تعني «الازدهار»، وكذلك «قمة الشيء») هي من ابتكاره هو، وفي حضور فيتشيسلاف إيفانوف إبَّان مناقشةٍ دارت في مجلة «أبوللون» عام ١٩١٣م، الأمر الذي استحسنه جوميلوف عن طِيب خاطر. وقد أصبحت «أبوللون» هي ومجلة «جيبربوريا» (سكان الشمال) الصغيرة التي أسَّسها جوميلوف هما لسان حال الذروية، والمعبِّرتان عن برنامجها. وقد نشرت «أبوللون» في عددها الأول الصادر عام ١٩١٣م، مقالًا لجوميلوف بعنوان «تراث الرمزية والذروية»، حدَّد فيها السمات الأساسية للذروية.

إذن ما الذروية؟ يرى جوميلوف، خلافًا للرمزيين، أن المضمون الصوفي للوجود أمر يصعب تحقيقه. ومن ثم، يقول جوميلوف: «علينا أن نتذكر دائمًا ما لا يمكن إدراكه، ولكن علينا أيضًا ألَّا نحتقر فكرنا عنه بصورة أو أخرى بتخمينات محتملة.»

الأمر الأساسي بالنسبة للذرويين موجود في العالم الدنيوي، ومن الضروري اكتشاف «العالم الباطني للإنسان»، وفي الوقت نفسه عدم نسيان الجسد وسعادته، والحياة العضوية الرشيدة. وأخيرًا، «ينبغي أن نجد في الفن لباسًا يليق بهذه الحياة، لباسًا لا يشوب مظهره أي شائبة». يقول جوميلوف: «علينا أن نجمع بداخلنا هذه الجوانب الأربعة. إنها تمثِّل الحلم، الذي يوحِّد البشر بعضهم ببعض، على النحو الذي وصف به الذرويون أنفسهم بكل شجاعة» (أُبدي هنا ملاحظةً مفادها أنهم كانوا يُطلقون على اتجاههم في بعض الأحيان اسم «آدامزم Adamism» فضلًا عن اسم «الذروية»؛ أي النظرة الشجاعة الصلبة والواضحة للحياة).

مفهوم الذروية وثيق الصلة باعتبارها «مدرسة»، ذات برنامج إبداعي واضح ودقيق، ضربًا من «النظرية»، تعمل على امتلاك الشعر كحرفة، عندما يصبح الهدف هو تحقيق «إنجازات شكلية»، إذا جاز القول؛ الوصول إلى «المهارة»، إلى ثقافة الشعر المُصفى، الذي تتم صناعته بوعي، وما إلى ذلك. كان الذرويون أنفسهم يقولون: إن «الشاعر الجيد، هو أولًا وقبل شيء قارئ جيد.»

الأمر مؤكد، ولكننا إذا ما تصوَّرنا الذروية في سياق ذلك الزمن فسنجد أنها، مع ذلك، كانت شيئًا ثانويًّا. حقًّا، لقد كانت «النزعة الأرستقراطية الفنية»، «الموهبة الفنية الرفيعة» أمور رائعة وضرورية، لكنها لم تكن تمثِّل جوهر القضية. إن قوة الذروية وأهميتها في تاريخ الأدب والثقافة الروسيَّين مع ذلك لم تكن، في تلك الحقبة، متجليةً في كمالها «المعملي»، بقدر ما كانت في لجوئها، في هذه اللحظة، إلى الثقافة، التي وقعت فيها هي ومَن وضع لها نظامها تحت تهديد انفجار مدمر. من أجل ذلك كان من الضروري إدراك قيمة الثقافة والدفاع عن «شجاعة الوجود» فيها.

جوهر الأمر أن الذروية هنا (أو «الآدمية») قد دخلت في تماس مع الفلسفة الوجودية الوليدة. لقد عانى الذرويون بشدة من التقدير الذاتي للعالم، عايشوا تعقيده وهشاشته وكذلك روعته وقابليته، للأسف، للفناء. كان الذرويون يشعرون، على طريقتهم، بالفزع، وهو أمر مفهوم وقريب منهم. كما لو أنهم لم يتغنَّوا بالحياة من قبل. كانت الحياة الروسية حولهم بعيدةً عن روح الاحتفاء بالعيد. وعلى الرغم من أن جوميلوف كان يدفع تلاميذه في «الاستوديو» وفي «ورشة الشعراء» الخاصين به نحو التقاليد «الرومانية» والأوروبية بوجه عام، فقد أصبحت الذروية مع ذلك شعرًا روسيًّا خالصًا، وكلما ازداد الذروي موهبة، كان شاعرًا روسيًّا حقًّا. هؤلاء هم أخماتوفا، وماندلشتام، وج. إيفانوف، بل جوميلوف نفسه في أفضل أشعارهم الأخيرة. وقد ضمَّت جماعة الذرويين أيضًا شعراء أقل بريقًا مثل: م. زينكيفيتش، وف. ناربوت، وف. نيدوبروفو، وف. شيليكو، وغيرهم.

ومع هذا فإن كل «وضوحهم» و«شجاعتهم» و«ازدهارهم» كان «منتقصًا»؛ أي «مبعدًا»، ولكنه كان يعاني من الخوف في أعماقه أمام الانهيار المرتقب في المستقبل للحياة المزدهرة. ومن هنا كانت مقاومة الانهيار. أليس هذا هو السبب في أن نيكولاي جوميلوف كان أكثرهم شجاعة، وأنه كان الأكثر بطولةً وغرابة واختيارًا دائمًا للكلمة والموضوع الرومانسيَّين؟ ومن ثم كان من الضروري الاحتماء ﺑ «الإنجازات الشكلية» في مواجهة الفوضى القادمة واختلاط «الأشكال» كافة.

لم يكن أمام أحد من سبيل للهروب من «بشاعة الحياة» الواقعية (بتعبير ألكسندر بلوك). الذرويون وحدهم وعلى طريقتهم قاوموا ذلك ﺑ «الحرفة» و«الشكل»، أما الرمزيون فقد كشفوا روحهم أمامها.

كان أوسيب ماندلشتام واحدًا من بين الذرويين الذين أدركوا مأساوية الصدام بين الثقافة والظروف المحيطة بها، وكان قراره في هذا الصدام لصالح الثقافة، وأعلن أن الثقافة أصبحت بالنسبة للذرويين، على حد تعبيره، كنيسة. وفي هذا كتب يقول: «إن الذروية هي الحنين إلى الثقافة العالمية.» أما عمل الذرويين في «الورشة» و«الاستوديو» وهم أصحاب الحرفة، الذين يعرفون ويملكون القدرة على صنع الثقافة، فقد كان ذلك دفاعًا واستمرارًا للسير في الطريق الذي قطعته الإنسانية من قبل.

أذكر هنا، على سبيل المقارنة، أن الإبداع، من وجهة نظر الرمزيين، أمر يتطلب الإلهام، والإبداع عندهم هو الحدس، وهم فنانو الخواطر، الذين يُضَحون بأنفسهم ويخضعون للحماس الفطري، وهم يتعاملون مع «الأشكال» الجاهزة ومع «الحضارة» و«المدينة» ومع «البرجوازي» بمشاعر الريبة والحذر.

كان الرمزيون يعوِّلون على الفطرة، أما الذرويون فاتجهوا صوب الثقافة. هؤلاء وأولئك كانوا على حق في هذا الجدل.

انطلقت قوة التجديد الجبارة، التي اعتمد عليها الرمزيون في مطلع القرن العشرين على نحو منقطع النظير من القدرة. وهذه «الريح» الفطرية، «الريح التي اجتاحت العالم بأسره»، كان من الممكن أن تجدِّد الحياة، لو أن ما بها من طاقة لم يذهب، إذ جاز القول، أدراج الرياح. هؤلاء الذرويون رأوا في القيم الثقافية الخالدة مرتكَزًا للشجاعة الفردية في زمن الانقلابات الكارثية.

على أنه كان هناك طرف ثالث مشارك في العملية الأدبية والثقافية، وهو الطرف الذي أعلن عن موافقته التامة غير المشروطة على المسار الكارثي للحياة. هذه «ثورتي» التي أعلنها ماياكوفسكي، كما هو معروف، في عام ١٩١٧م.

هذا الطرف الثالث تمثَّل في المستقبليين (أو التكعيبيين المستقبليين، الذين اتخذوا لأنفسهم هذا الاسم منذ البداية، وهم يعنون بذلك ارتباطهم بالتكعيبية في الرسم وتمييزًا لأنفسهم عن أصحاب حركة «الإيجوفوتوريزم»، الذين كان من أشهرهم إيجور سيفيريانين).

إذن نتحدث عن المستقبلية.

في مطلع العقد الأول من القرن العشرين ظهرت في بطرسبورج جماعة «جيليا» لتكون البداية النشطة للمستقبلية الروسية. وقد انضم إليها الفنانون والأدباء اليساريون (في البداية دافيد ونيكولاي بورليوك، وفاسيلي كامينسكي، ويلينا جورو، وكازيمير ماليفيتش، وفيليمير خليبنيكوف، وبعد ذلك بقليل انضم إليها ألكسي كروتشينيخ، وبينيدكت ليفشيتس وفلاديمير ماياكوفسكي). وقد أصدروا معًا المجموعات الشعرية. «فخ للقضاة» (١٩١٠–١٩١٣م)، «صفعة في وجه الذوق العام» (١٩١٢م)، «القمر الذابل» (١٩١٣م) وغيرها.

وبِناءً على بياناتهم، فإن المستقبليين كانوا الأكثر حسمًا وهم المدمِّرون النشطون ﻟ «العالم القديم»؛ ثقافته وأسلوب معيشته و«الإنسان القديم». إن هذه البيانات التي وردت في المنتخب الشعري المسمَّى «صفعة في وجه الذوق العام»، لم تترك حجرًا على حجر من الماضي. كان الجميع عن بكرة أبيهم يتطلَّعون إلى المستقبل، وترجع التسمية «بوديتلياني» التي نحتها فيليمير خليبنيكوف إلى رغبته في استخدام كلمة روسية مرادفة للكلمة الأوروبية Futurists.

ما الذي طرحه المستقبليون (بوديتلياني) بديلًا عن الماضي؟

طرحوا تقديس التكنولوجيا والتمدن والروح العسكرية بديلًا عن الكلمة الروسية التقليدية، التي أصابها الهَرَم. طرحوا «الغموض» الخاص بهم، المنفصل عن اللغة التقليدية. لقد «ألقوا كلًّا من بوشكين ودستويفسكي وتولستوي من سفينة الحداثة». وبدلًا من الإنسان الروسي التقليدي ابن «العالم القديم»، تم الإعلان عن إنسان جديد، قوي، بدائي يتمتع بالصحة والعافية، باعتباره المثل الأعلى، إنسان مجرد من ذلك العبء، مثل الروح والضمير والذاكرة، وهلم جرًّا.

جاءت المستقبلية من الغرب (أسَّسها الإيطالي تومازو ماينيتي)، لكن السمات المشتركة بين المستقبلية الغربية والمستقبليين الروس كانت قليلة، وتمثلت في تقديس العنف والاهتمام الشديد بالتكنولوجيا … أما في الأمور الأخرى فمن المستبعد أن يكون من الممكن أن نشاهد أي صلة جادة على أي نحو. على أي حال فإن ذلك الذي كان يبدو ظاهريًّا لدى مستقبليينا من المصادر الغربية، اتضح، إذا ما تأملناه، أنه مختلف كثيرًا.

وعلى الرغم من كل البيانات المثيرة، التي حملت نبرة تحد صارخة، وبكل ما حملته من طموحات، لم يكن المستقبليون أناسًا عظامًا من الناحية الروحية. الأرجح أنهم كانوا على العكس من ذلك، وهو ما ينطبق أيضًا على ماياكوفسكي، على الرغم من كل هذه الموهبة الشعرية الكبرى التي كان يتمتع بها.

كان مؤسسو المستقبلية الروسية، الذين أصابهم الذهول من جراء تعاقب الانقلابات في الحياة، التي أنهكت «المدينة الجهنمية» متعطشين للانتقام من العالم، الذي أصاب حياة بطلهم الغنائي، الإنسان الصغير، الذي لا بيت له، الملقى على الطريق بعد أن ضاع في الزحام، وحيدًا وبائسًا وسط هؤلاء الوحيدين والبائسين أيضًا مثله. وحتى يكون هناك إنسان سعيد، يجب — بحسب وجهة نظرهم — تحقيق العدالة للجميع، وهذا ما يمكن أن توفِّره التكنولوجيا فقط، والتقدم الذي يؤدي إلى خلق ظروف قياسية لوجود الوحيدين والسعداء متساوين. ومن أجل أن يتحقق ذلك يجب القضاء على الظلم الذي يسود العالم القديم. هذه هي، من حيث الجوهر، أخلاقيات المستقبلية، وهنا يكمن السبب في «نزعتها الثورية».

المستقبلية مشبعة تمامًا بالريبة تجاه الحياة الباطنية للفرد، وكذلك تجاه الثقافة الروحية، وهي ترفض التكرار الإنساني، وهي مخترقة بالخوف في مواجهة الحرية وأمام الالتزامات التي تفرض الحرية لكل إنسان. كم سيبدو هذا الأمر غريبًا، ولكننا سنشعر هنا بصورة غير واضحة تمامًا بالمثال الأعلى ﻟ «عش النمل» الروسي الاجتماعي؛ حيث لا يُسمح لأي إنسان، كما هو معروف، بالتميز. إن روح المستقبلية تهفو إلى المساواة، وهي تنطلق على طريقتها من أعماق الثقافة القومية الروسية العقلانية وحتى من الثقافة الغابرة، على الرغم من كل تلونها بالصبغة «الأوروبية» و«الغربية»، وعلى الرغم من كل ما تحمله من نزعة ثورية وطموح إلى المستقبل.

يُطلِق بطل ماياكوفسكي الغنائي على نفسه اسم «الهوني الخشن»١٤ هنا سنجد، من الناحية الظاهرية، الكثير من التقارب مع الجوانب النفسية والأخلاقية للتيار «الإثقوثي». كان بلوك يتعامل مع موهبة ماياكوفسكي وبحوثه باهتمام، مميزًا إياه من بين المستقبليين كافة (عدا من ذكرناهم من قبل، وكذلك كان أ. بريك، ون. آسييف جزئيًّا، ثم باسترناك لفترة لم تمتد طويلًا قريبَين إلى بلوك …).

إن إغراء «الهونية» (مثلها مثل الإثقيثية) كان كبيرًا. لقد خلق هذا الإغراء وهم التحرُّر من كوابح «الحضارة» كافة، ووعد باكتشاف آفاق جديدة حتى ولو كان التحرُّك نحوها يتم بطرق غير تقليدية وصادمة. كتب بلوك قائلًا: «كانت المستقبلية الروسية نبيًّا ورائدًا لتلك الصور الكاريكاتورية البشعة والسخافات، التي أظهرت لنا عصر الحروب والثورات، وقد عكست لنا من خلال مرآتها المعتمة الرعب المرح الفريد، الذي يعتمل داخل النفس الروسية، والتي لم يكشف كنهها كثير من «أصحاب البصيرة» وشديدو الذكاء. وفي هذا الصدد فإن المستقبلية الروسية كانت دائمًا أكثر أهميةً وعمقًا وعضوية وأكثر حيوية من «الذروية» …»

إن كلمات بلوك هذه في حاجة إلى تصحيحين على الأقل؛ لم يكن «الرعب» بالأمر «المرح»، وإنما كان واقعًا حقيقيًّا وجهنميًّا إلى أقصى حد. وقد اتضح أن «رعب» هذا العصر قد طوى المستقبليين كافة (كما طوى الرمزيين)، أما المستقبليون (الذين حملوا اسم «الشيوعيون المستقبليون»)، ومن بعدهم مستقبليو جبهة الفن اليساري LEF، فقد تم قَبولهم (ومع ذلك فقد جرى إعادة طحنهم، وإنما تحت ستار «خدمة الاشتراكية»). في أساس المستقبلية يكمن الخوف من الشخصية الإنسانية، كما يكمن أيضًا الامتثال الذليل لتحولها إلى «جزء» لا ملامح له. لنتذكر هنا كلمات ماياكوفسكي: «الجزء – صفر، الجزء عبث …» خلف الغطرسة الغريبة والشعارات الجَهْوَرة التي رفعتها المستقبلية، اختفى الاستسلام لضغط الزمن والاستعداد لتقديم الإنسان ضحيةً لطاغية الثورة. وفي سياق دفاعهم عن الفوضى الهامشية حولهم وبداخل أنفسهم ذاتها مستخدمين إشاراتهم العريضة، رافعين أصواتهم إلى أعلى مدًى (سنُذهل العالم بقوة أصواتنا)، وصل المستقبليون في النهاية إلى الموافقة على أن يصبحوا قِطع غيار نمطيةً تعمل «على نحو آلي» في بنية الماكينة الاجتماعية، أما صوت «الرعد» فقد تم تحويله بسهولة إلى دمدمة الشعارات الدعائية المقررة.

في الحقيقة فإن كلًّا من الرمزية والذروية أنهتا تاريخهما في سنوات الثورة والحرب الأهلية. «لقد أطال المستقبليون أمد وجودهم عشر سنوات أخرى، وهو ما سمح لهم أن يرَوا بوضوح تام العملية المميتة والتي لا مستقبل لها «لتطورهم»».

ينبغي أن نتحدث، هنا ولو على نحو عاجل عمن يُسمون ﺑ «الشعراء الفلاحين الجدد» (أهمهم نيكولاي ألكسيفيتش كليويف، وسيرجي ألكسندروفيتش يسينين، وسيرجي أنطونوفيتش كليتشيكوف، وبيوتر فاسيليفيتش أوريشين). هؤلاء كانوا بطبيعتهم الروحية، فلاحين أصلاء، كانوا شديدي القرب من الرمزيين، وخاصةً هؤلاء الذين هم على شاكلة ألكسندر بلوك، الذي كان يشعر بحدة بالتقلُّبات العميقة في الحياة القومية، والذي عانى على نحو حميمٍ المصير الروسي (آه، يا روسياي! يا زوجتي! حتى الألم./ها هو الطريق الطويل يتجلَّى واضحًا أمامنا). هؤلاء الشعراء جميعهم جاءوا من الريف الروسي: كليويف من أولون، ويسينين من ريازان، وكلييتشيكوف من تفير، وأوريشين من ساراتوف.

هؤلاء كانوا يمتلكون كنوز الكلمة الشعبية، التي وُلدت بكل تنوُّعها في هذا الفضاء الخالد للحياة الريفية، التي بدت أبديةً لا ينضب لها معين. على أن الفطرة الشعبية، التي كانوا يشعرون أنهم المعبِّرون عنها، كشفت عن هشاشتهم في زمن التقلبات التي داهمتهم، كما كشفت عن تبعيتهم واستعدادهم للبقاء على قيد الحياة في هذه الكارثة التاريخية ومقاومتها. لقد أصبح الفلاحون ضحيةً للسياسيين الديماجوجيين.

ظلت موضوعات التطلع الحزين لزوال الأبوية الروسية إلى غير رجعة، وإضفاء الطابع الرومانسي لمعاناة اليأس بسبب العجز عن الدفاع عن الريف الآخذ في الاحتضار؛ تتردَّد أكثر فأكثر في «الشعر الريفي الجديد» في سنوات ما بعد الثورة (يقول يسينين في قصيدة «الصلاة الأربعينية»: «ليس أمامنا مفر من الفناء، ليس أمامنا مهرب من العدو»).

لم يكن أمام هذا الشعر سوى قَبول الدمار وانكسار القرية القديمة (وهو ما فعله ب. أوريشن وبعض الشعراء الآخرين)، وإما الانكفاء في الرفض والتعلق بالذكريات الكئيبة للزمن الجميل الذي لن يتكرر (كليتشيكوف وكليويف)، أو استيعاب خبرة العصر على نحو تراجيدي ورفض هذا وذاك، كما فعل يسينين.

أما ما عُرف باسم الأدب «البروليتاري» فكان أقل ارتباطًا (المقصود هنا مؤلفاته فيما قبل الثورة). أذكر هنا من الشعراء: م. جيراسيموف، وف. كيريلوف، وأ. جاستيف. ومن الأدباء: أ. أ. بوجدانوف (مالينوفسكي). وهؤلاء كانت موضوعاتهم تتناول على نحو طوباوي تام العمل في المصانع والورش وعظمة وقوة الحياة «الآلية» الجديدة وجمالها. وكانت الشخصية المركزية فيها «صاحبة الجلالة البروليتاريا»، التي فقدت السمات الإنسانية المعتادة كافة، «والتي صعدت من الحديد»، وغزت الفضاء وسيطرت على الطبيعة وأنشأت عالمًا جديدًا مسلحًا بالتكنولوجيا. شخصية بلا روح تفتقر إلى التميز الإنساني.

وقد تميز إبداع هؤلاء الشعراء، من الناحية الفنية، بالتقليد والبعد عن الانطباعات الحية للثقافة والإنجازات الشعرية ﻟ «العصر الفضي» على الرغم من أن هذا الإبداع كان يؤدي في بعض الأحيان (عند كيريلوف وجاستيف) إلى خلق صور مؤثرة، مع ما فيه من طوباوية، وذلك بفضل قوة الإلهام المخلص والحماس.

والآن نطرح بضع كلمات عن الأشكال الظاهرية للحياة الأدبية ﻟ «العصر الفضي» ومظاهره الشعبية، إذا جاز التعبير.

على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين لم يكن لدى روسيا اتحاد للكتاب، باعتباره مؤسسةً حكومية رسمية، نوع خاص من «وزارة الثقافة» على النحو الذي كان عليه اتحاد الكتَّاب السوفييت إبَّان سنوات السلطة السوفييتية بدءًا من عام ١٩٣٤م. ومع ذلك فإن اتحاد الكتَّاب الروس كان موجودًا على نحو حقيقي وإبداعي بكل معنى الكلمة، بوصفه الرابطة الحقيقية للفنانين الموهوبين، والشراكة في عمل عظيم واحد هو تأسيس أدب روسي فريد، شريف، متباين ومتعدد الأصوات، أدب باحث، وجد الكثير في تلك السنوات.

إن الحديث عن «اتحاد الكتَّاب» لا يعني إطلاقًا أن يكون هناك توافق إجباري بين الكتَّاب، «غناء موحد». وفضلًا عن ذلك لم يحدث في أي وقت مثل هذا الجدل وهذه التأملات، بقدر ما ظهرت تلك الأفكار المفاجئة، بل الغريبة في بعض الأحيان في مثل تلك السنوات. لكن ذلك كان عُرفًا، أمرًا صحيًّا، ووضعًا طبيعيًّا داخل الحياة الأدبية في تلك الفترة، وفي هذا النمط من الثقافة التي تكوَّنت على حدود زمنين، والتي سُميت عن حق بعصر النهضة الثقافي الروسي.

ومن ثم فإنني أرى أن عليَّ في الختام أن أنوِّه ولو على عجل عن بعض الروابط والاتحادات والجماعات والهيئات والورش والصالونات «غير الرسمية»، التي صبغت الحياة الأدبية في تلك الفترة بصبغة لا تتكرَّر.

نبدأ من بطرسبورج، المركز الروحي بكل تأكيد لثقافة «العصر الفضي». لقد وقعت هنا تغيُّرات حادة، وهنا أيضًا حدثت، أكثر ممَّا في أي مكان آخر التناقضات الأيديولوجية والاجتماعية كافة، وتراكمت خبرة جديدة هائلة، وصفها الفيلسوف ج. ب. فيدوتوف بأنها: «المدينة البشعة، غير الإنسانية! تجمعت فيها الطبيعة والثقافة لكي يعرِّضا الروح الإنسانية والجسد لعذاب لم يسبق له مثيل، وليعصرا جوهر الروح تحت ضغط مكابس التعذيب الشديدة.» ليس من المدهش أن الانفجار الرئيسي للثورة قد وقع هنا تحديدًا. لقد كان «القطبان» بوشكين ودستويفسكي هما قطبا التناقض البطرسبورجي أيضًا.

لقد دخلت بطرسوبرج، أكبر المدن الروسية تمدنًا وأوروبية، في علاقات معقدة مع الجسد «العقلي» للبلاد. وكانت هذه المدينة هي أول من أدرك حتمية وجود واقع جديد، تعيَّن على الثقافة القومية أن تستوعبه. لقد انهار البيت الأبوي القديم، وبات من الضروري بناء بيت له روحه الخاصة. كيف يمكن إقامة هذا البيت؟ ومن أي مادة؟ هذا هو في واقع الأمر موضوع وإشكالية ثقافة «العصر الفضي».

وكان أول من عبر خلال الإشكالية هي بطرسبورج الثقافية والأدبية. كان ج. ب. فيدوتوف يُعلن بأعلى صوته «أن بطرسبورج هي مصنع الأفكار ومشعل القلوب. كل الهواء هنا مُشرَّب إلى أقصى حد بأبخرة الفكر الإنساني والإبداع، وأن هذا هو الجو الذي لن ينقشع لعقود بأكملها». «وعلى الرغم من أن البلاد بأسرها مدعوة لاجتراح هذه المأثرة (ج. ب. فيدوتوف يعني بذلك إقامة ثقافة روسية جديدة (المؤلف)) وهنا، في بطرسبورج، يمكن الاستماع على نحو أكثر وضوحًا للمهمة التاريخية، هنا سيبقى، إن لم يكن العقل، فسيبقى الجهاز العصبي لروسيا».

وهكذا وأنا أستخدم هذا التعبير، أتساءل: على أي نحو تمثَّل «الجهاز العصبي» في بطرسبورج «العصر الفضي» الأدبي؟

العديد من كتَّاب الذكريات أكَّدوا على الدور الخاص لبرج «فيتشيسلاف إيفانوف الشهير» (وقد سُمي كذلك لأن اللقاءات كانت تتم في الطابق الأخير الشاهق في المنزل الواقع في شارع تافريتشسكايا رقم ٢٥، في البناية الدائرية). في سيرته الذاتية الفلسفية كتب نيكولاي بيردياييف عمَّا كان معروفًا آنذاك بلقاءات «الأربعاء» في شقة فيتشيسلاف إيفانوف: كانت «معرفة الذات» ظاهرةً مميزة لعصر النهضة الروسي في مطلع القرن. في «برج» فيتشيسلاف إيفانوف كان كل الموهوبين والمميزين من الناس في هذا العصر من شعراء وفلاسفة وفنانين وممثلين وأحيانًا من السياسيين يجتمعون كل أربعاء. فيتشيسلاف إيفانوف واحد من أروع شخصيات هذا العصر الغني بالمواهب. كان هناك شيء ما مباغت تمثَّل في أن هذا الرجل الذي امتلك «الأناقة» غير العادية، وهذه الثقافة العالمية، قد وُلد في روسيا. لم يعرف القرن التاسع عشر أناسًا من هذا الطراز. كان رجلًا روسيًّا حتى النخاع، خرج من أعماق تربتنا الروحية، التي راحت تبني طوال الوقت الأيديولوجيات الروسية، القريبة في بعض الأحيان من النزعتين السلفية والقومية. كان رجلًا ذا ثقافة غربية. ويُعد فيتشيسلاف إيفانوف أفضل متخصص في الحضارة الإغريقية. كان شخصيةً عالمية؛ شاعرًا وعالمًا ومتخصِّصًا في الدراسات اللغوية والأدبية والديانة اليهودية، مفكِّرًا وعالمًا في اللاهوت، وثيوصوفيًّا وكاتبًا وله بصمته في السياسة. ويرتبط فيتشيسلاف بظهور «جمعية الغيورين على الكلمة الأدبية (أو أكاديمية الشعر).» كانت الاجتماعات تُعقد في «البرج» السابق الذكر مرةً كل أسبوعين.

كان فيتشيسلاف إيفانوف هو المحاضر الرئيسي، وكان من زوار هذه الاجتماعات كل من زامياتين وكوزمين وألكسي تولستوي وديميترييفا (تشيروبينا دي جابرياك) وبياست وفيرخوفسكي وآخرين.

وإلى جانب «ورشة الشعراء» التي أسَّسها جوميلوف (والتي أصبحت تسمَّى بعد الثورة «الورشة الجديدة») شغلت صالونات كل من آل ميريجكوفسكي (في «بيت موروزا») و«جمعية علم الجمال الحر» لسولوجوب، مكانًا بارزًا في الحياة الروحية والأدبية والثقافية في بطرسبورج. وفيها أيضًا راحت تُصدر المجلات الأدبية على اختلاف برامجها ومن بينها: مجلة «الطريق الجديد» لسان حال «الجمعيات الدينية الفلسفية» (برئاسة ديمتري ميريجكوفسكي وج. تشلكوف)؛ ومجلة «قضايا الحياة» وهي مجلة نصف انحطاطية، نصف رمزية؛ ومجلة «دنيا الله» (وكانت تصدرها أ. دافيدوفا، وتميل إلى الكتَّاب الواقعيين المقرَّبين من جوركي). وكذلك صدر التقويم الأدبي «شيبوفنيك» («شجرة العليق»)، وكثيرًا ما تردَّد اسم مجلة «أبوللون» (التي رأس تحريرها س. ك. ماكوفسكي)، ثم المجلات الفنية والأدبية: «عالم الفن» و«الصوف الذهبي» (وكانتا تصدران بتمويل من الراعي المليونير ن. ب. ريبوشينسكي).

وما دمنا قد جئنا على ذكر الوسط الأدبي الأرستقراطي في بطرسبورج، فمن غير الممكن ألَّا نأتي هنا على ذكر حانات البوهيميين الشهيرة: «الكلب الضال» و«رصيف الكوميديانات». وقد ظهرت «حانة الكلب الضال» في يناير عام ١٩١٢م في بدروم إحدى البنايات الواقعة في ميدان ميخايلوفسكايا، بالقرب من المتحف الروسي، وكان «مديره» ب. ث. برونين، هو بمثابة روح المكان، وهو مُخرج متقاعد. وقد بقيت الانطباعات التي تركتها اللقاءات والعروض والأمسيات الصاخبة حيةً في العديد من كتب المذكرات، فضلًا عن العديد من القصائد، عند أنَّا أخماتوفا (نعم، أحببته، هذا الحشد الذي يجتمع هنا في الليل …). ومن بين الذين اعتادوا المشاركة في هذه السهرات: ن. جوميلوف، وم. كوزمين، وأ. ماندلشتام، وج. إيفانوف. كان هناك أيضًا الرمزيون والمستقبليون، وهناك قرأ ماياكوفسكي أشعاره، ومرَّ به على عجل الشعراء الريفيون: يسينين وكليويف وكليويف وكليتشيكوف … كان «الكلب الضال» يفتح أبوابه في المساء ويستمر حتى ساعة متأخرة من الليل. «وكان على كل داخل أن يُوقِّع في سِجل ضخم موضوعٍ على طاولة مراسم أمام شمعة حمراء كبيرة مضاءة. أما الشعراء والموسيقيون والفنانون والعلماء فكان يسمح لهم بالدخول بلا مقابل، عدا هؤلاء، هناك من كان يطلق عليهم اسم «الصيادلة»، وهؤلاء يسدِّدون رسمًا ماليًّا مقابل دخولهم تبعًا لمظهرهم وحالتهم المزاجية. لقد سادت روح الحماس المفعم بالتحدي والصحة والشباب هذه السهرة. كم من الذكريات والرؤى تثيرها في النفس حانة «الكلب الضال» وقد غمرها الضوء الخافت» (من ذكريات س. سوديكين)!

بعد إغلاق «الكلب الضال» ظهرت بعد الثورة حانة فنية صغيرة، قام على تنظيمها هذا الرجل الدءوب نفسه، الذي لا يكل بوريس برونين، واسمها «رصيف الكوميديانات»، وتقع في أحد المباني عند ناصية مارسوف بولي بالقرب من كنيسة الخلاص.

كانت الحياة الأدبية في موسكو في العقدين الأول والثاني مفعمةً بالحيوية.

دائرة واسعة من المشاهير وهواة الأدب والفلسفة من أعضاء الجمعية الدينية الفلسفية لذكرى «فلاديمير سولوفيوف» و«حلقة موسكو الأدبية الفنية» جذبت إليها الاهتمام. وقد جمعت حلقة «الأربعاء» الكتَّاب الواقعيين، القريبين من مكسيم جوركي، والتي كان ن. و. تيليشوف هو الذي بادر بتأسيسها. وقد واظب على حضور حلقة «الأربعاء»، إلى جانب جوركي، كل من: ل. أندرييف، وأ. سيرافيموفيتش، وأ. كوبرين، وف. فيريسايف، وس. سكتياليتس، وارتبط بها بعلاقة صداقة المغني المشهور ف. شاليابين، وقد كتب ن. تيليشوف يقول: «لم نكن نتحاشى التعامل مع الجيل الجديد آنذاك من الانحطاطيين والحداثيين وغيرهم …» وقد أسس الكتَّاب القريبون من حلقة «الأربعاء» دار نشر خاصة بها تسمَّى «زنانيا» (المعرفة)، وأصدروا منتخبات تحت الاسم نفسه، كانت تتمتَّع بتأثير كبير وشهرة.

أما موسكو الأدبية الرمزية، فقد اجتمع حول مجلة «فيسي» (الميزان) (وكان محرِّرها هو ف. بريوسوف)، وكذلك اجتمعت حول دار نشر «سكوربيون» (العقرب)، التي ساهم بأمواله فيها، فضلًا عن حماسه الثقافي، س. أ. بولياكوف صاحب مصنع النسيج. لم يكتفِ هذا الراعي بإصدار دواوين الشعراء بالمونت وبيلي وبريوسوف، وإنما ساهم أيضًا في إصدار التقويم الأدبي «سيفيرني تسفيتي» («زهور الشمال»).

إبَّان سنوات الحرب الأهلية ظهر في موسكو عدد من المقاهي الأدبية البوهيمية الصاخبة؛ مثل مقهى «ستويلو بيجاسا» (إسطبل بيجاس)، ويقع في شارع تفيرسكايا؛ ومقهى «دوم»، وغيرها من المقاهي.

وختامًا، ما الدروس الرئيسية التي نخرج بها من «العصر الفضي»؟ أين مواضع قوته وضعفه، وما اكتشافاته والأخطاء التي وقع فيها؟

هذا العصر كان عصرًا لأناقة الكلمة الروسية وجمالها، عصرًا لم يسبق له مثيل وخاصةً في الشعر. كانت أنَّا أخماتوفا على حق تمامًا عندما أعلنت أنه: «إذا كان الشعر قد قُدِّر له الازدهار في وطني، تحديدًا في القرن العشرين، فإن لديَّ الشجاعة لأن أقول إنني كنت شاهدةً تشعر دائمًا بالسعادة والثقة … وإنني على يقين أنه وحتى الآن فإننا لا نعرف تمامًا أي جَوقة سحرية من الشعراء نمتلك، وأن اللغة الروسية هي لغة شابة ومرنة، حتى إننا جميعًا، الذين يكتبون الشعر منذ زمن غير بعيد، نحب هذه اللغة ونثق بها.»

سيبقى بلوك وبيلي ويسينين وكليويف وتسفيتايفا وماياكوفسكي وأخماتوفا وجوميلوف ومعهم أسماء أخرى كثيرة من الشعراء من الطبقة الأولى، في الذاكرة الروسية لهذا العصر، وهو أمر لا جدال فيه. نضيف إلى هؤلاء الكلمة الروسية الحرة في النثر، كلمة أنيقة، حكيمة ومرنة على نحو نادر، مسَّت وعبَّرت عن أمور عديدة في الإنسان وفي العالم وأعلنت عنه. وقد تمثَّلت هذه الكلمة في أدب بونين وزامياتين وريميزوف وكوبرين وأندرييف وسولوجوب ورورانوف … وهذا هو أيضًا تراث «العصر الفضي».

وقد ارتبطت بهؤلاء الشعراء والفنانين أيضًا العقود الأخيرة التي لا تنفد في إبداع تولستوي وتشيخوف، الذين ضموا معهم العصر «الذهبي» لبوشكين بالقرن العشرين التراجيدي الانتقالي.

هذا «العصر»، الذي مد في السنوات التالية شعر ب. باسترناك وأ. ماندلشتام وف. ماياكوفسكي وت. زابولوتسكي ون. تيخونوف ونثر بولجاكوف وأوليشا وتولستوي وبلاتونوف وفيدين، وقد استمر هذا النثر في منفى بونين الخالد، وفي الأستاذية الناضجة لإيفان شميلييف وب. زايتسيف، وفي أفضل دواوين شعر ف. خوداسييفيتش وج. إيفانوف وم. تسفيتايفا.

وأخيرًا فقد كان هذا هو عصر التحذيرات التي لم يسمعها للأسف إلا البعض فقط.

هو عصر الإمكانات الضائعة، الذي يذكِّرنا، بأنه رغم إغراءات الشيطان، فإن الكلمة مسئولية، وأن الفنان يُبدع ويذود عن روحه وسط كل عواصف الزمن ورياحه.

ينبغي أن نذكر في هذا السياق في الختام، أن ثقافة «العصر الفضي» كانت مع ذلك، ذات نزعة «أرستقراطية»، منكفئةً على مصالح الفرد المبدع «المكتفي بنفسه»، ولم يكن نيكولاي بيرداياييف هو الوحيد الذي كتب عن هذا الذنب الذي ارتكبه العصر الفضي.

لقد بدا كما لو أن الأدب، بل الثقافة كلها أيضًا في هذه الحقبة وقد راحا يتعاليان على الشعب وعلى «الشارع» وعلى «الجمهور». وبعد أن اكتشفت أفضل العقول «الحضيض» في روح الإنسان الفرد، راحت تنغمس في دراسة هذا الفرد وفي غرائبه وألغازه. وبعد أن ركَّز «العصر الفضي» اهتمامه على التقدير الذاتي للفرد، لم يضع هذا العصر، للأسف، مصير الشعب بالقوة نفسها في بؤرة الوعي الذاتي الثقافي. ولهذا السبب نفسه تم تسليم الشعب الروسي التاريخي الحقيقي إلى سلطة الفطرة وإلى القوانين الاجتماعية والاقتصادية. عندئذٍ فقط انتصر «الصراع الطبقي» وانتصرت الثورة، التي أسقطت «العالم القديم».

في مذكراتها «الدفتر الأسود»، أكَّدت زيناييدا جيبيوس، على طريقتها، هذه الفكرة التي طرحها بردياييف حول انفصال «الشعب» عن «الإنتليجنسيا»، وفي هذا الدفتر كتبت «كلمة مديح»، «خلقتها»، للإنتليجنسيا — التي — وأنا هنا أستشهد بكلماتها، سواء عن حق أو عن غير حق، أسمَوها «ضمير وعقل» روسيا. كما كتبت تقول، وهذا حق بطبيعة الحال، إن الإنتليجينسيا كانت «الكلمة» الوحيدة و«الصوت» الوحيدة لروسيا الخرساء. زد على ذلك أنها كانت في الخفاء، ومستبدة … إن الإنتليجنسيا الروسية، سواء أكانت طبقةً أم حلقة أو فئة (كلها ألفاظ غير دقيقة)، التي لم تعرفها أوروبا الديمقراطية البرجوازية، كما لم تعرف الاستبداد. إن الفئة، مقارنةً بروسيا الهائلة بكل سمكها، شيء رقيق هش، ولكن فيها وحدها يتم العمل الثقافي على نحو ما، وهذه الفئة أدَّت دورها التاريخي الجاد للغاية.

أما روزانوف فقد كتب هو أيضًا عن هذا الموضوع ذاته على نحو أكثر مرارةً وغضبًا «في مملكة كبرى»، صاحبة قوة هائلة وشعب محب للعمل، ذكي ومطيع، ماذا فعل (الأدب (المؤلف)). لقد ترعرع الشعب على نحو بدائي تمامًا منذ بطرس الأكبر، أما الأدب فكان مشغولًا فقط بسؤالين: «على نحو أي كانوا يحبون» و«عن أي شيء كانوا يتحدثون».

هل يمكن أن نؤكد بصورة أكثر صراحةً على الحقيقة حول «انفصال» الإنتليجنسيا عن «الشعب»؟ ما زالت هذه الفئة «الهشة» حتى الآن هي التي «تصنع الثقافة»، أما البلاشفة فكانوا يجرُّون الشعب خلفهم. لم يخجل البلاشفة من الابتعاد مرةً أخرى عن «العمل الثقافي»، الذي تم تكريره وتقديمه ﻟ «الجماهير».

كان من الممكن التجاوز عن هذا الفصل بين «الإنتليجنسيا» وبين «الشعب»، إذ لم يكن الأمر بهذا القدر من الخطورة في روسيا «القديمة»، عندما كانت الفئات الروسية لا تزال صامدة، بفضل تماسك القوى الداخلية، وكذلك بفضل التجاذب التاريخي المتبادل فيما بينها. كان على الإنتليجنسيا الذكية تحديدًا، والتي تتفهَّم العملية التاريخية أن تصبح هي قوة التماسك في الظروف التي كانت فيها روسيا هامشية، تركض في شتى الاتجاهات. لقد كانت تفخر في بعض الأحيان، كما سنرى، بأنها كانت تركض «في شتى الاتجاهات» خلف الجميع!

لم يغفر التاريخ ذلك لروسيا. لقد كانت دراما المنفى الآتي هي الحكم الذي صدر بحقها.

لكن «العصر الفضي» أعطى أيضًا إجابة أخرى على تحديات التاريخ، تمثَّلت هذه الإجابة في فكرة الخلق الذاتي للإنسان («خلق الشخصية» بتعبير ل. ب. كارسافين)، في صموده الشخصي، الذي اتضح أنه (ولا يزال!) الشرط الأساسي لبقاء كل ما هو شخصي وقومي واجتماعي على قيد الحياة في التاريخ الكبير. في مقاله عن «الوعي الذاتي» كتب نيكولاي بيردياييف يقول: إن «الحقيقة الاجتماعية يجب أن تقوم على كرامة كل فرد وليس على العدالة.»

لقد ترك «العصر الفضي» لنا، نحن الذين عشنا على امتداد القرن معرفة جيدة وصعبة عن الإنسان وعن الطريق الشاق للتحول الروحي (ﻟ «الأنسنة» بتعبير ألكسندر بلوك)، وعن الطريق «إلى ما هو بعيد». إن خبرة البعث القومي ظلت باقيةً من أجل استكمال الأدب والثقافة الروسيَّين في المستقبل، هذه الخبرة التي لم تبلغ نهايتها والتي انقطعت بفعل التاريخ.

إن تراث «العصر الفضي» يمكن أن يصبح واحدًا من علامات الإرشاد المنقذة في هذا البعث الجديد المنظور.

(٣) أدب المهجر: «الموجات» الثلاث

بادئ ذي بدء نقدِّم بعض الحقائق الرئيسية المرتبطة بمصير هذا الفرع من الأدب الروسي في القرن العشرين؛ لأن القارئ المعاصر يدخل هنا إلى مجال ظل حتى وقت قريب «مغلقًا»١٥ تمامًا.

ما يقرب من ثلاثة ملايين نسمة غادروا روسيا في سنوات الثورة والحرب الأهلية متجهين إلى المنفى لينتشروا في أنحاء العالم كافة، كان من بينهم عدد كبير من المثقَّفين، وهؤلاء كانوا يمثِّلون في كثير من الأحوال النخبة الثقافية الروسية كتَّابًا كبارًا وفنانين وموسيقيين، ممثلين وعلماء مشهورين، فلاسفةً ومهندسين بارزين، اقتصاديين ومؤسسي تعاونيات. كان هذا النفي الذي حدث في عام ١٩٢٢م علامةً مشهورة بشكل خاص على الكارثة الثقافية. من بين الذين تم نفيهم من الفلاسفة: ن. أ. بيردياييف، وس. ن. بولجاكوف، وإ. أ. إيلين، ول. ب. كارسافين، وإ. إ. لابشين، ون. أ. لوسكي، وف. أ. ستيبون، وس. ل. فرانك؛ ومن المؤرخين: أ. س. إيزجويف، وأ. أ. كيزيفيتتير، وس. ب. ميجلينوف، وف. أ. مياكوتين؛ ومن علماء الاجتماع: ب. أ. سوروكين؛ ومن علماء الأدب: ي. إ. أيخنفالد، وم. أ. أوسورجين، والعديد غيرهم. وعلى قائمة الانتظار إلى المنفى كان هناك ف. خوراسيفيتش وي. زامياتين … كانت هذه، في جوهر الأمر، أضخم عملية «تسرُّب للعقول» في تاريخنا، كما أنها لم تكن، للأسف، الأولى ولا الأخيرة، وقد أصابت الثقافة القومية بضربة قاصمة.

وكان من بين الذين رحلوا، بعد أن فشلوا في التعايش مع السلطة الجديدة، مكسيم جوركي (على الرغم من أن هجرته كانت مقنَّعة بالحديث عن السفر للعلاج).

لقد تبيَّن أن جغرافيا انتشار المهاجرين الروس الأدباء واسعة إلى حد غير عادي. كانت «الأعشاش» الرئيسية للمهجر، قبل الحرب العالمية الثانية، موجودة في وسط أوروبا (برلين، براج، بلجراد، صوفيا، وأكثرها في باريس)، وفي دول بحر البلطيق (ريجا وتالين)، في الشرق (هاربين وشنغهاي). نثار روسي أدبي ملحوظ كان من الممكن أن نعثر عليه في مصر والحبشة وبارجواي والفلبين، وحتى في أستراليا وجنوب أفريقيا … وظلت فرنسا لسنوات عديدة هي المركز الأكبر للأدب الروسي، حيث وُجد فيها منذ مطلع الثلاثينيات حوالي نصف مليون روسي، وبعد وقوع الجزء الأكبر من أوروبا تحت احتلال جيوش هتلر واستسلام فرنسا، هاجر الأدباء الروس إلى إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.

لقد سار أدب المهجر الروسي عبر موجات ثلاث.

الموجة الأولى: وهي الموجة الأكثر إلهامًا والأهم من ناحية المبدأ بالنسبة لصورة الأدب الروسي في المنفى، وتقع في الفترة من عام ١٩١٧م، وحتى عام ١٩٢٣م. هؤلاء وجدوا أنفسهم خارج روسيا: أ. أ. فيرتشينكو، وج. آداموفيتش، وم. ألدانوف، ول. أندرييف، وق. بالمونت، وأندريه بيلي، وإ. بونين، وز. جيبيوس، وم. جوركي، ور. جول، وب. زايتسيف، وف. إيفانوف، وجيورجي إيفانوف، وأ. كوبرين، ود. ميريجكوفسكي، والأم ماريا (ي. سكوبتسيفا)، وف. نابوكوف، وم. أوسورجين، وب. بوبلافسكي، وأ. ريميزوف، وف. روبشين (ب. سافينكوف)، وإ. سيفيريانين، وأ. تولستوي، وت. تيفي، وف. خوداسيفيتش، وم. تسفيتايفا، وساشا تشيورني، وف. شكلوفسكي، وإ. شميليف، والكثير غيرهم من الأدباء.

الهجرة الثانية: تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية، عندما اضطُر المهاجرون بشدة إلى مغادرة أراضي الاتحاد السوفييتي المحتَلة، في البداية إلى ألمانيا، لينتشروا بعد ذلك في أنحاء العالم كافة، وهؤلاء عُرفوا باسم «المتنقِّلون». ومن بين أدباء هذه «الموجة الثانية» كان هناك أكثر الشعراء شهرة: إ. يلاجين؛ والأدباء والكتَّاب الاجتماعيين: ن. ناروكوف، وف. يوراسوف، كما كان من بين أصحاب هذه «الموجة» أيضًا الأديب المُسن، صديق ألكسندر بلوك، ر. ف. إيفانوف-رازومنيك، والشاعرة الشابة أ. أناستيه وهي زوجة إ. يلاجين، وكذلك علماء الدراسات الأدبية: ي. إيفاسك، ول. رجيفسكي، ول. فوستر (مؤلف الببليوجرافيا الرصينة «الأدب الروسي في المنفى»)، وآخرون غيرهم.

كان للهجرة الثانية صورتها الخاصة، فقد اضطُرت في الكثير من الأحيان لاتخاذ موقف «مُسيَّس» معادٍ للنظام السوفييتي في ظروف «الحرب الباردة». وقد تم استخدام العديد من الأدباء «المتنقِّلون» للعمل في أجهزة الاستخبارات الغربية الدعائية. في الحقيقة فقد كانت قيمة هذه الهجرة متواضعةً للغاية مقارنةً ﺑ «الموجة الأولى» باستثناء الشاعر الكبير والمتميِّز إيفان يلاجين.

في الختام سوف نتحدَّث على نحو خاص عن «الموجة الثالثة»، موجة المهاجرين- «المنشقِّين».

تُرى هل كانت الهجرة الأدبية الروسية الأولى مُوحَّدة، من لُحمة واحدة؟

لا، لم تكن موحَّدة، ولم تكن من لُحمة واحدة، بل لم تكن حتى متماسكةً من حيث تركيبها. لقد عاد إلى الوطن كل من إ. سولوكوف-ميكينوف، ود. سفياتوبولسك-ميرسكي، وأ. كوبرين، ومارينا تسفيتايفا وزوجها س. ي. إيفرون. وفي العقد الأول من القرن العشرين كان من الممكن إلى حدٍّ ما الخلط بين الأدب السوفييتي وأدب المهجر. كان من الممكن سفر الكتَّاب السوفييت إلى الخارج. بعض من هؤلاء، على أي حال، لم يكن على علاقة وثيقة مع المنفيين في المهجر. على أنه وبعد عودة مكسيم جوركي إلى الاتحاد السوفييتي (وقَبوله بشكل نهائي لسياسة ستالين الأدبية بدايةً من عام ١٩٣١م)، انقطعت هذه العلاقة، التي لم يكن يعوَّل عليها حتى دون عودة جوركي (هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار نشاط «رابطة العودة إلى الوطن» الممالئة للاتحاد السوفييتي والمُمولة من جانبه، والتي عمل بها س. إيفرون). لم يكن ي. زامياتين آخر مَن تبيَّن أنه في نهاية عام ١٩٣١م كان يحمل في الخارج في نهاية عام ١٩٣١م جواز سفر سوفييتيًّا بشكل شرعي.

كانت صورة أدب المهجر غايةً في التعقيد. لم يكن هذا الأدب يمثِّل «تيَّارًا واحدًا». كان فنانو المهجر متنوِّعين أشد التنوُّع من الناحية الإبداعية، كثيرين ولكنهم لا يشعرون داخليًّا بالحرج في علاقاتهم بالحياة الروسية والعالمية. وكذلك كانت علاقاتهم بالسياسة أيضًا؛ ضم المهجر ثوريين ديمقراطيين وكاديت،١٦ ملكيين وأعضاءً في تيار «سمينا-فيخا»١٧ (مستعدين للتعاون مع الذين رفضوا تطرف السلطة السوفييتية) وأدباء اهتموا بالماركسية بتفسيرها المعادي للدوجما، والذي أعطى الحرية للبحث الفكري (عن هذه الماركسية كتب نيكولاي بيردياييف)، وإلى جانب المتحوِّلين إلى «الاتجاه المعاكس»، أصبح «الأوراسيون» تيارًا مؤثرًا، وهؤلاء وجدت أفكارهم، بالمناسبة، مناصرين كثيرين بين الإنتليجنسيا ذات التوجه الوطني في الوقت الحالي، كل هذا أضفى على حياة المهجر ألوانًا عديدةً شديدة التباين.
من الطبيعي أيضًا أن المواقف الأدبية الجمالية، التي حملها المهاجرون معهم من روسيا، واصلت تحديد العديد من التصرفات الاجتماعية والأدبية للكتَّاب في الغربة؛ فقد واصل كلٌّ من د. ميريجكوفسكي وز. جيبيوس وق. بالمونت وف. إيفانوف، وغيرهم، تقاليد المدرسة الرمزية، كما تذكر ج. إيفانوف وج. آداموفيتش أصواتهم الذُّروية، أما المستقبلي الذاتي egofuturist إ. سيفيريانين فقد ظل بعيدًا، وخارج الجماعات أيضًا وقف ف. خوداسيفيتش وم. تسيفيتايفا، في حين ظل الكتَّاب الواقعيون إ. بونين وب. زايتسيف وإ. شميليف وم. ألدانوف في قلب الحياة الأدبية في العشرينيات والثلاثينيات. كان هناك أيضًا ساحر الكلمة الفريد على نحو لا يتكرَّر، أ. ريميزوف، وظل أ. أفيرتشينكو ون. تيفي وساشا تشيورني على إخلاصهم لمدرسة «ساتيريكون».١٨

كان النشاط الإبداعي لأدباء المهجر، فضلًا عن نشاطهم الثقافي، أمرًا مثيرًا للدهشة.

سرعان ما أسَّست «بنية تحتية» أدبية معقدة ومتطوِّرة، شملت دُور نشر ومجلات وصحفًا وجمعيات أدبيةً ومراكز. أجد من الضرورة أن أطرح هنا ولو في عجالة بعض المعلومات: لا تزال دار نشر YMCA-Press قائمةً منذ عام ١٩٢١م وحتى الآن (ظهرت في البداية في براج ثم في برلين وأخيرًا في باريس). وفي برلين ظهرت وعملت على نحو فعَّال دُور نشر جرجيبين ولاديجنيكوف وكذلك «بتروبوليس». أما في باريس فقد ظهرت أهم مجلات المهجر: «سوفريميني زابيسي» (السجلات المعاصرة)، «تشيسلا» (الأعداد)؛ وصحف: «بوسليدنيي نوفوستي» (آخر الأنباء)، «فوزروجدينيه» (البعث)، «دِني» (الأيام)؛ ومجلتا «فيرستي» (الفراسخ) و«يفرازيا» (أوراسيا)؛ وفي برلين صدرت مجلات: «سبولوخي» (ضياء الشمال)، «سمينا فيخ» (التحول إلى الاتجاه المعاكس)، وقد حلت محلها المجلة الأسبوعية «ناكانوني» (العشية)، كما قام جوركي بإعداد مجلة «بسييدا» (المحاورة)، وقد تلخَّص هدفها في الجمع بين الأدبين السوفييتي والمهجري، وهو هدف لم يتحقق. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها جوركي، فإن المجلة لم تحقِّق، بسبب موانع غير معلنة، انتشارًا واسعًا في الاتحاد السوفييتي. وفي براج ظهرت صحيفة «فوليا راسييا» (إرادة روسيا)، والتي تحولت بعد ذلك إلى مجلة تحمل الاسم نفسه، ساهم في الكتابة فيها كتَّابٌ سوفييت ومهجريون، ننوِّه أيضًا بمجلة «روسكايا ميسل» (الفكر الروسي) (صوفيا)، وصحيفة «رول» (المِقود) البرلينية ذات التأثير الواسع. بعد وقوع أوروبا تحت الاحتلال الألماني أغلق العديد من إصدارات المهجر الروسي الأدبية لينتقل مركز الحياة الأدبية إلى ما وراء المحيط. وهناك في نيويورك بدأت «نوفي جورنال» (المجلة الجديدة) في الظهور بدءًا من عام ١٩٤٢م، وهلم جرًّا. لم يتجاوز عدد المواد المسجلة في ببليوجرافيا المهجر١٩ في الفترة من ١٩١٨م وحتى ١٩٣١م عدد ١٠٠٥ دوريات روسية، وفي الفترة من ١٩١٨م وحتى ١٩٦٨م صدرت في المهجر ١٠٨٠ رواية، وما يزيد على ألف ديوان شعر لشعراء روس، وغير ذلك من المطبوعات.

هذا هو الجانب «الشكلي» للقضية بنظرة عاجلة للغاية. إذن، أين تكمن الأصالة النوعية لأدب المهجر الروسي؟ وهل تمكَّن هذا الأدب من أن يقول كلمته، عن روسيا والعالم؟

ينبغي أن نؤكِّد هنا على سمة مميزة للمصير الأدبي العام للمهاجرين الروس؛ فبالنسبة للعديد من هؤلاء المهاجرين لم تنتهِ حياتهم الإبداعية ولم تنهَر بعد الافتراق عن الوطن، وإنما بدأت، في جوهر الأمر، في الارتقاء بعد ذلك من جديد إلى ذُرى الأستاذية بعد أن تشبَّعت بالفكر الناضج، وكثير منهم كُتبت له الحياة مرةً أخرى كفنانين (إيفانوف، وشميليف، وخوراسيفيتش).

كانوا يكتبون عن روسيا فحسب. يُقال إن الجرح لا يندمل ما دمت تنظر إليه طوال الوقت. وقد ظل تذُّكر الوطن المفقود هو هذا الجرح المفتوح دومًا بالنسبة لهم. زد على ذلك أنه لم يكن وطنًا مفقودًا فقط، وإنما وطن جرى اكتشافه واكتسابه من جديد. لقد كان «الوطن الروحي» الأصيل الذي حملوه معهم هو روسيا الأدبية ذاتها، روسيا الكلمة، التي حافظوا عليها في غربتهم كما حافظت هي عليهم فيها.

لم يكن الفراق عن الوطن هينًا على الكتَّاب الروس. لقد رفضت أنَّا أخماتوفا في اللحظة الفاصلة، كما هو معروف، الخروج الدرامي لتبقى في روسيا بعد أن قبلت مصيرها المأساوي. أما إيفان بونين فقد صرَّح بدوره قائلًا: «بعد أن اقتنعنا أن مقاومتنا المستمرة سوف تهدِّدنا بموت سخيف غير مثمر وحسب، خرجنا إلى الغربة» (١٩٢٤م، خطاب «رسالة المهجر الروسي»).

تُرى فيمَ تمثَّلت هذه الرسالة؟

لقد تحدَّث إيفان بونين نفسه عن ذلك بشكل قوي ومباشر: «فيمَ تمثَّلت رسالتنا، ومن نُمثَّل؟ /…/ في الحقيقة لقد عملنا، وعلى الرغم من كل سقطاتنا الإنسانية وضعفنا البشري باسم إلهنا ومثاله، وكذلك باسم روسيا، لا التي خانت المسيح من أجل ثلاثين قطعةً فضية، ومن أجل الحق في السرقة والقتل، روسيا التي غرقت في رذائل الفظائع والأمراض الأخلاقية كافة، وإنما من أجل روسيا أخرى مستعبدة، معذَّبة، ولكنها على أي حال لا تعرف الخضوع حتى النهاية /…/ ما الذي حدث؟ حدث السقوط المدوي لروسيا، ومعه سقوط الإنسان عمومًا. إن سقوط روسيا هو أمر لا يمكن تبريره …»

لقد عايش المهاجرون بحدة شديدة شعور فقدان الوطن (نحن نقف على ضفة محيط اختفت شواطئه، هذا ما كتبه ج. آداموفيتش).

لقد رفض أدباء المهجر من التيارات والجماعات كافة، سقوط روسيا الأم وسرقتها روحيًّا واجتماعيًّا. وراح أدب المهجر الروسي، بعد أن عانى في السنوات الأولى من الحرب الفكرية القاسية ضد البلاشفة، زمن المواجهة السياسية المباشرة، راح يعمل على إعداد موضوعه الرئيسي، والذي تمثَّل في خلق صورة روسيا باعتبارها هي الوجود الحقيقي، لا روسيا «القديمة» ولا تلك التي «فُقدت»، وإنما روسيا الخالدة، التي تبقى هي الشيء الأهم في مصير الشعب والإنسانية. وإذا كان الأدب السوفييتي الجديد قد انطلق بطاقة متصاعدة نحو المستقبل الطوباوي، مضحيًا بكل ما يقف في طريقه، فإن أدب المهجر راح يتأمل بنظرة ثاقبة في عمق كل ما هو روسي وقومي شامل وخالد. لقد أخذ أدب المهجر على عاتقه عملًا ذا أهمية روحية فائقة؛ لقد وعى هذا الأدب المأساة الوجودية لمصيره الذي حل به كابتلاء، كدعوة نحو الحركة باسم روسيا.

لقد كرَّس المهاجرون العديد من الكتب لتناول الأحداث عشية الثورة وفي أثنائها، وهذه الكتب تقدِّم نوعًا خاصًّا من تقرير شهود الكارثة، فضلًا عن سعيها لإدراك المغزى الباطني لهذه العقدة التراجيدية الأهم في التاريخ القومي («الأيام الملعونة» لإيفان بونين، «القصائد الأخيرة» لزيناييدا جيبيوس، «شمس الأموات» لإيفان شميليف، «روسيا وسط الإعصار» لألكسندر ريميزوف).

لقد تأمَّل المهاجرون روسيا الآفلة وقد امتلأت عيونهم بالدموع، دون أن يُخفوا غضبهم وتعاطفهم، مدركين الثورة على أي حال لا باعتبارها هزةً اجتماعية وسياسية لا يمكن تغييرها، بقدر اعتبارها تنافرًا داخل الروح الإنسانية، روح الشعب.

لقد رأى الأدباء المهاجرون رسالتهم في الدفاع عن القيم الأخلاقية التي صنعتها الحياة الروسية ضد عنف الجماهير المخدوعة التي أصابها التوحُّش والفجور، من الرعاع ومن كارثة الكفر والفوضى الاجتماعية المدمرة.

وإذا كان من الممكن ربط الأدب «السوفييتي» بالمأثرة المشكوك فيها وهي «القضاء على المسيحية»، فإن «أدب المهجر أنجز مهمته لأنه ظل أدبًا مسيحيًّا» (ج. أداموفيتش).

لقد قدَّم كتَّاب المهجر أيضًا حياة الروس في تنوُّعهم العريض؛ في علاقاتهم الطبقية وبحثهم الديني، في الأجيال المتعددة والمصائر المختلفة، وفي تعدد الشخصيات الفريد. كانت روسيا التي تركوها بمثابة بستان مثمر ومزدهر بالنسبة لهم، مثل روح كونية، مثل بيت كبير معمور (عند بونين (وليس عنده فقط) يُعد ذلك من العلامات الجذرية المباشرة). نقول، في معرض المقارنة، إن ذلك ما ميَّز الكتَّاب «السوفييت» الأرثوذوكس، الذين كانوا يسعَون، «مبتعدين عن العالم القديم» نحو مهمة مضادة؛ السعي نحو العالمية الأممية، هدفها الرئيسي المساواة بين الناس (تحقيق التماثل، إن شئنا الدقة). لقد أراد «الكتَّاب السوفييت» خلق نماذج جديدة (والأهم أن تكون نماذج للأدوار الاجتماعية الجديدة): الرواد، الكومسوموليون (أعضاء منظمة الشباب الشيوعي)، عمال المناجم، فلاحو المزارع الجماعية (الكولخوزات)، الطيارون، رجال حرس الحدود، موظفو الحزب، وهلم جرًّا. من المفهوم أن حديثنا هنا يدور حول تيار الأدب «السوفييتي» وليس عن عدد من الكتب الشهيرة، التي جعل منها مؤلفوها قضيتهم باعتبارهم فنانين، كتبًا لا تنسى؛ مثل الشخصيات الحزبية عند ميخائيل شولوخوف في روايتَي «الأرض البكر» و«الدون الهادئ».

لقد أحب كتَّاب المهجر وطنهم لكونه بطبيعته غنيًّا ومركبًا على نحو لا ينضب، وفي هذا تكمن الحقيقة الفنية الكبرى التي اكتشفوها، فعل الإنسانية الحقيقية، التي تحمي الإنسان الروسي من النمطية الإجبارية، التي، كما كشف لنا تطوُّر الأحداث، لم تكن على الإطلاق مجرد تهديد فارغ.

لقد قدَّموا صورةً حية متعدِّدة الجوانب، صورةً ليست «قديمة» أبدًا! ولكنها بالنسبة لهم صورة لروسيا التي لا تزال باقية. فإذا أردنا أن نرى بأم عيوننا على أي نحو كانت الحياة الروسية في عقود ما قبل الثورة، وما الذي ورَّثته للأجيال الجديدة، فينبغي علينا أن نكتشف كتبهم.

إن الثروة الهائلة الموجودة في ذاكرة الحياة الروسية الخالدة؛ الدنيوية والطبيعية، العائلية والشخصية، الثقافية والفنية، الحربية والتجارية، البرجوازية والريفية، القروية والمدنية، كل هذه البانوراما المتعدِّدة الألوان تمر أمام من يقرأ كتب بونين، وشيميليف، وزايتسيف، وخوداسيفيتش، وج. إيفانوف، وتسفيتايفا، وسيفريانين، وبالمونت … وفي الوقت نفسه، فإن عالم هذا الأدب نراه واضحًا في الفضاء الروحي، إنه أدب يقدِّر على نحو رفيع، النشاط، الرهبنة، قداسة خدمة الأهداف السامية، مغزاها وفحواها بعيدًا عن بطلان الدنيا، هذه الكتب تتناول مقدسات التاريخ الروسي والعقائد كما رآها شميليف وريميزوف وزايتسيف، وفي العديد من قصص بونين القصيرة وروايات د. ميريجكوفسكي الكبيرة …

الحياة في أدب المهجر الروسي تقوم على التعددية والفطرة، وهي تواجه في غموضها وأصالتها، روحيًّا وشعوريًّا، النمط الدعائي الذي يجرِّد الفرد من سماته. وقد أبدع كتَّاب المهجر في جوهر الأمر أدبًا دخل بكل حماس في جدل مع الأحلام الطوباوية السطحية الضيقة الأفق، ومع الممارسة الشمولية ﻟ «الاشتراكية» البلشفية، كان هذا الأدب هو أدب القيم الإنسانية الخالدة.

في العديد من الآراء التي طُرحت في عشرينيات القرن العشرين في كتب كتَّاب المهجر (كان ذلك لا يزال أمرًا ممكنًا في أول الأمر) مال النقاد السوفييت باللوم على هؤلاء الكتَّاب، وخاصةً على بونين وميريجكوفسكي وشميليف وزايتسيف تحديدًا؛ لانحيازهم للموضوعات القومية والخالدة، ولابتعادهم عن «المنحى الاجتماعي»، وخاصةً لاهتمامهم الشديد بدراما الوجود: الحب، الموت، الوحدة، معاناة الشعور بقسوة الحياة، النزعة المأساوية للمصير الإنساني، عدم التوصل لكشف أسرار العالم … لقد بدا أن أبطالهم يقفون دائمًا في مواجهة قضية الخلود والأسئلة الميتافيزيقية المعذِّبة، التي تظهر لهم في كل خطوة، وهو أمر تقليدي بالنسبة للأدب الروسي.

«في كل دقيقة أفكر: ماذا عن وجودنا هذا الغريب والفظيع؟ في كل ثانية تشعر وكأنك معلَّق بشعره! ها أنا ذا على قيد الحياة، صحيح البدن، ولكن من يدري ماذا سيحدث لقلبي بعد ثانية واحدة، هذا القلب، الذي مثله مثل أي قلب إنساني، هو شيء لا يقارَن في خلقه من ناحية غموضه ورقته؟ وبهذه الشعرة نفسها تتعلق سعادتي وطمأنينتي؛ أي حياة وصحة كل من أحبهم وأعتز بهم أكثر من نفسي ذاتها … لماذا وما الهدف من وراء هذا كله؟» (إيفان بونين «المياه الوفيرة»).

بالنسبة لكتَّاب المهجر فإن كل حياة إنسانية ترتبط بالمصادر العالمية الخالدة، كل مصير مشدود إلى ما وراء التاريخ، بكل شيء تُحل بواسطته الأسئلة الشخصية الرئيسية كافة، كل حياة إنسانية تخلقها على نحو غامض الحياة الفردية.

وهكذا فإن هذا الاهتمام الوجودي لا ينبغي اعتباره «تخلُّفًا»، وإنما على العكس من ذلك، ينبغي الاعتراف بأنه واحد من الفضائل الجوهرية لأدب المهجر الروسي الكبير.

كانت الرواية التاريخية على مدى عقد من الزمان تنتظر ساعة ظهورها، وقد تحقَّق لها ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت هذه الروايات هي روايات ميريجكوفسكي وألدانوف في المقام الأول. لقد نهض التاريخ العالمي والقومي في المشاهد الضخمة عند الأول، وفي قصصه التاريخية الدينية قبل وبعد الثورة، بدءًا من روايته الثلاثية «المسيح والمسيح الدجال»، وحتى روايتَي «١٤ ديسمبر» و«عيسى المجهول». وقد جرى نشر روايات م. ألدانوف التاريخية في السنوات الأخيرة على نطاق واسع، وقد تناولت بالدرجة الأولى التاريخ الوطني («المفتاح»، «الهروب»، «الكهف»)، وقد لاقى مسلسله القصصي «المفكر»، والذي تناول فيه الأحداث الفاصلة في تاريخ روسيا وأوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تقع أحداث الثورة الفرنسية الكبرى في القلب منها، لاقى نجاحًا كبيرًا. كما يقدِّم ميريجكوفسكي وألدانوف التاريخ العالمي والقومي من خلال صور وأحداث أُسقط جزء كبير منها وجرت مُعالجتها بشكل مختلف، بطبيعة الحال، في الرواية التاريخية السوفييتية.

واجهت رواية المهجر التاريخية أيضًا الأسئلة الخالدة، وقد تأملت هذه الرواية وبحثت بعمق كذلك فيما وراء تاريخ الوجود، ساعيةً للربط بين المصائر القومية وبين أوضاع النظام العالمي، مادة جذورها في الفضاء الغابر منذ آلاف السنين للبحوث الروحية والإلهامات الإنسانية.

بعد هذا العرض الموجز والسريع تمامًا لأدب المهجر الروسي، يُطرح أمامنا سؤال عقلاني: إذن هل أصبح هذا الأدب من الماضي؟ ولعل هذا الأدب، بما يمتلكه من مضمون داخلي، يعني الكثير لنا في المستقبل، ليقدِّم حلولًا لتلك الأسئلة التي توقفت أمامها اليوم ثقافتنا بخوف ورجاء، وليكشف لنا عن قيمة وأصالة الحياة الإنسانية، عن علاقته بالعالم الكبير والمركب، الروحاني الكوني، الذي تعيش بداخله الإنسانية كلها (وربما لذلك، نؤكد على ذلك بين قوسين، ظل أدب المهجر الروسي «وحيدًا» على طريقته في الغربة؛ فلم ينشر ولم يندمج في ثقافة الغرب، وأن الغرب، الذي عايش عملية «التراكم» الثقافي، بدا بصورة عامة، غير مؤهَّل لقَبول هذا التكامل مع بحوث المهاجرين الروس ومع ما عقدوه من آمال، مع جدية وأهمية القضايا العامة التي عالجوها. ولعله في عدم الذوبان هذا وعدم الالتحام يكمن أحد تفسيرات جوهر الأدب الروسي، الذي ينطلق به من المؤقَّت والنهائي إلى الخلود).

ضمَّ أدب المهجر، بطبيعة الحال، عددًا كبيرًا من الكتب والمطبوعات الوثيقة الصِّلة بقضايا الساعة، دخلت على نحو عدواني وبقسوة أحيانًا في جدل مع البلاشفة ومع السلطة السوفييتية، وقد انصبَّ جزء كبير من الحماس السياسي على صفحات مجلات وصحف المهجر. كانت هناك كتب ذات طبيعة سياسية متحيزة؛ ففي «يوميات» زيناييدا جيبيوس نشعر بمرارة عدم التسامح تجاه الإساءة السياسية التي تلقَّتها، وفي كتاب خروج إيفان بونين «الأيام الملعونة» الذي يطفح بالخوف الشديد والمرارة، وفي رواية شميليف الكئيبة «شمس الموتى» (وتدور عن الإرهاب الأحمر في القرم، حيث جرت تصفية ابن الكاتب الطالب بالرصاص، وهو الذي وضع ثقته في الكلمة المخلصة للبلاشفة أبناء بلده، وبيل كون، الذي سلَّم سلاحه مثل آلاف الضباط الروس …).

لقد ملأ الحماس السياسي عن الثورة روايات م. ألدانوف أيضًا، وكذلك أعمال رومان جول عن الجيش الأبيض … ومنذ زمن غير بعيد ظلت هذه الروايات تُقرأ بشغف كبير ربما أكثر من النثر والشعر الخالصَين النقيَّين، اللذين احتلَّا مكانةً تسمو على قضايا الساعة، ولكن هذا الاهتمام المشحون بالسياسة والإثارة سوف ينتهي. واليوم بعد عقود من التصوير الزائف «للقوميسيرات ذوي الخوذات المُتربة»، سنتعرف على المغزى الحقيقي، وعلى طابع أحداث الثورة، على كوابيسها وقسوتها الدموية. إن هذا النثر سيظل جرحًا عميقًا في ذاكرتنا التاريخية، ومع ذلك فسينتهي الألم. أما «طرقات مظلمة» و«حياة أرسينييف» لبونين، فهي أعمال لا تزال حية، وأما «الحج» و«الصيف الإلهي» لشميليف فستبقيان، كما أن «ليلة أوروبية» لخوداسيفيتش، و«قصيدة الجبل» و«صائد الفئران»، و«السلم» لمارينا تسفيتايفا و«صورة لا شبيه لها» لجيورجي إيفانوف، فستدخل جميعها إلى ديوان الشعر الروسي الكبير جنبًا إلى جنب مع ليرمنتوف وتيوتشيف وفت وبلوك، وإلى جانب أفضل ما كتبه شعراء «روسيا الحمراء» باسترناك ويسينين وزابولوتسكي وتفاردوفسكي …

إن «البللورة السحرية» التي يرى الفنان العالم من خلالها تغيِّر كل شيء بداخله وتبث فيه السلام، حتى في أوقات الكآبة والألم والفقد:

«تغلق عينيك لحظة،
وتتنفَّس نسيمًا باردًا،
يأتيك من بعيد صوت أغنية ما،
تأخذك قشعريرة ما مبهمة.
ليست روسيا وليس العالم،
ليس الحب ولا الضيم، إنه القلب الحر يحلِّق
عبر مملكة الأثير الزرقاء.»
ج. إيفانوف

ومع ذلك فإن هذه الأبيات الخالدة تؤكد من جديد أن من الصعب الإحاطة بأدب المهجر الروسي بنظرة واحدة. إنه آلاف المطبوعات وعشرات الأسماء، التي من بينها عدد لا يستهان به من كبار الكتَّاب. كل ذلك ينتظر منا استيعابًا جادًّا في الوطن الذي هجروه رغم إرادتهم.

ومع ذلك يمكننا اليوم أن نتوصل إلى استنتاج رئيسي، وهو أن الأدب الذي تم إبداعه في الغربة، وخاصةً أدب «الموجة الأولى» الأرفع قيمة، بدا أنه هو الحارس لهذه القوة الروحية الضرورية لخير الشعب في المستقبل. هذا الأدب المتراكم لا يزال قوةً غير مستغلَّة في نهضتنا الثقافية. أحيانًا يكتب البعض، بشكل عام، وهم على حق في ذلك، أن الأدب الروسي في المهجر قد تحوَّل شيئًا فشيئًا إلى أسطورة «أرض الميعاد» الروسية المفقودة. ما الذي ينبغي أن نقول؟ إن الأدب هو جزء من أي أسطورة قومية، ولكن، كم من الحياة تبدو في هذه الأسطورة! إن الدافع الروحي هنا كبير، دافع خرج به هذا الأدب من روسيا، كانت قدرته على استبصار الحقائق الخالدة كافيةً لاستمراره ثلاثة أرباع قرن حيًّا حتى عودته الحالية إلى الوطن. وهل من المعقول، على سبيل المثال، أن «اكتشافات» الأدب «السوفييتي» الأرثوذوكسي، التي تحقَّقت في إبداعات بايايفسكي وفيرتا وسوفرونوف وماركوف وغيرهم من الحائزين على الجوائز الشمولية كانوا، من الناحية الثقافية، مطلوبين في العقود الأولى من القرن العشرين حتى يُصبحوا هم «الأدب العائد» لأحفادنا وأحفاد أحفادنا؟ في الواقع فإن تأثيرهم لم يكن كافيًا حتى لعامين أو لثلاثة أعوام. لقد اكتشفوا بمجرد ظهورهم أنهم «وُلدوا أمواتًا». في مطلع الخمسينيات كتب تفارودوسكي يقول: «كل ما حولي موات وخواء، فراغ مثير للغثيان.»

وهكذا فإن الفكرة العميقة لأدب المهجر لا تتمثَّل فقط في «المصادر» أو في الحديث عن الماضي، ولكن في الحديث عن المستقبل أيضًا؛ إذ إن هذا الأدب يستكمل أحد مستويات القيم الروحية التي أسقطتها الكارثة التاريخية، وبدون هذه القيم، لا يكون هناك وجود للشعب ولا للأدب. إن نهضة أدبنا المعاصر تستمد طاقة نهضتنا من إنجازات الأدب الروسي في المهجر، وسوف يتحقق الأمل عندما «يندمج ما يبدعه هذا الأدب بذاته يومًا ما في قضيتنا الخالدة المشتركة» (ج. آداموفيتش).

ينبغي أن نتحدث هنا بإحساس بالمرارة عن «الجيل الثاني» لهذا الأدب المهجري. لقد كان حظ الأدباء «الشباب» في المنفى أقل بكثير. لقد تشكَّلت مصائرهم الإبداعية والمعيشية على نحو صعب وغير عادل. هؤلاء لم يريدوا، ولم يستطيعوا أن يفترقوا عن الكلمة الروسية، عن الموضوع الروسي، وأن يتحوَّلوا إلى «مواطنين عالميين ثرثارين» بحسب تعبير ج. آداموفيتش.

وقد كان من بينهم كثير من الفنانين الموهوبين المتميِّزين، جدير بالذكر هنا: ج. بوبلافسكي، وج. جازدانوفا، وإ. كنورينج، وأ. بريسمانوفا، ود. كنوت، وغيرهم … لكن الذين فقدوا علاقاتهم العميقة مع «التربة» الروسية، لم يصنعوا ما كان باستطاعتهم أن يفعلوه، وما كانوا يودون فعله. لقد أصاب الذبول قبل الأوان الفرع الأكثر شبابًا في شجرة المهجر الأدبي، لقد قطعته فأس التاريخ على نحو عميق ومميت أكثر من الجميع. هؤلاء ضحية أخرى قدَّمها الأدب الروسي قربانًا «لقدر الأحداث» التي لا ترحم. ومن أدباء هذا الجيل الذين بدءوا إبداعهم في المنفى، ف. نابوكوف، وحده هو الذي نجح في الخروج إلى الأدب العالمي الكبير لكونه يتمتَّع بطبيعة أنجلو أمريكية.

والآن نقدِّم بضع كلمات عن «الهجرة الثالثة».

ظهرت الموجة الثالثة للهجرة بدءًا من الستينيات وحتى الثمانينيات وسنوات «البيريسترويكا»، وكان لها إرهاصاتها الخاصة. لقد أيقظ زمن «ذوبان الجليد» التوقعات الساذجة والمشوَّشة في كثير من جوانبها عن الحماس الثوري «النقي». لقد توقع البعض تحرير الحياة الاجتماعية وانتصار حرية الكلمة وتحقيق حقوق الإنسان. على أنه خطوة وراء أخرى جرت: الحملة ضد باسترناك، ملاحقة مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، محاكمة الشعراء أ. سينيافسكي وي. دانييل وإ. برودسكي، وكذلك الاضطهاد القاسي لألكسندر سولجينيتسين، وهلم جرًّا. وهكذا راحت الحياة تزيد من إحباط هذه التوقعات أكثر فأكثر. كان الأدباء، الذين أصبحوا قوةً ملحوظة في الأدب «الشاب» مضطرين إما إلى التواؤم مع النظام البيروقراطي، أو الكتابة ووضع إبداعهم في «الأدراج»، أو البحث عن طرق «غير رسمية» لتأكيد الذات، فكان «الساميزدات»، ويعني النشر غير المُراقب لأعمالهم مع تجنُّب إجراءات النشر الرسمية المعتادة، هو أول نشاط للمقاومة، وكثيرًا ما كانت أعمالهم تُكتب على الآلة الكاتبة وتوزَّع منسوخة، وسرعان ما يتم نشرها في دُور النشر الأجنبية المعادية للنظام السوفييتي، والتي تُصدرها باللغة الروسية (فيما عُرف باسم «التاميزدات»). في البداية كان الأمر يتم على نحو مستتر، بعد ذلك راح جزء من الأدباء، من الجيل الذي سُمي بجيل «ذوبان الجليد» في التعامل مع «المؤسسة» السوفييتية الأدبية البيروقراطية. هؤلاء دخلوا بشكل نشيط في حركة «الدفاع عن الحقوق» وأصبحوا يُعرفون باسم «المنشقون».

سرعان ما بدأت الهجرة المباشرة، والتي تبيَّن أن الذين شاركوا فيها هم من الذين كانوا يشغلون مكانةً بارزة في الحركة الأدبية القائمة: ف. أكسيونوف، وج. فلاديموف، وف. فوينوفيتش، وأ. جاليتش، وأ. جلاديلين، ول. كوبيليف، ون. كوجافين، وأ. كوزيتسوف، وف. ماكسيموف، وف. جورينشتاين، وف. نكراسوف. أما أ. سولجينتسين، فقد تعرَّض «للطرد» الإجباري. كان هناك أدباء أقل شهرةً ولكنهم اكتسبوها في الخارج: ي. أليشكوفيسكي، وأ. أمالريك، وف. بيتاكي، ود. بوبوشيف، وإ. برودسكي (الذي انتشرت أشعاره بشكل واسع عبر المنشورات، ولكنها لم تُطبع في الهيئات الأدبية التابعة لاتحاد الكتَّاب السوفييت)، وس. دوفلاتوف، وإ. ليمونوف، وأ. تيرتس (سينيافسكي)، ول. لوسيف، وب. بارامونوف وغيرهم.

انضمت «الموجة الثالثة» على نحو فعَّال إلى حياة أدب المهجر، متعاونةً بدرجة ما مع حركة النشر الأدبية، التي كانت موجودةً هناك، والتي أنشأت جزئيًّا أيضًا دُور النشر الخاصة بها؛ نشير هنا إلى مجلات الهجرة الثالثة: «كونتينينت» (القارة) (١٩٧٤م باريس، المحرِّر ف. ماكسيموف، تصدر المجلة منذ عام ١٩٩٢م في موسكو، المحرِّر إ. فينوجرادوف)، «سينتاكسيس» (علم النحو) (١٩٧٨م باريس، المحرِّران أ. سينيافسكي وم. روزانوفا)، «جراني» (الحدود) (تصدر منذ عام ١٩٤٦م، المحرِّر في السنوات الأخيرة ج. فلاديموف)، «فريميا إي مي» (الزمن ونحن) (تل أبيب، أورشليم، نيويورك)، «إيخو» (الصدى) (١٩٧٩م)، «ستريليتس» (رامي القوس) (١٩٨٤م)، «كوفتشيج» (الفلك) (١٩٧٨م، باريس) وغيرها. ولا تزال كتب مهاجري «الموجة الثالثة» تُطبع في دُور نشر «YMCA-PRESS» و«بوسيف» (الزرع).

من بين أدباء هذا الجيل يشغل كل من ف. نكراسوف (تُوفِّي في عام ١٩٩٠م)، وأ. سولجينيتسين وإ. برودسكي، مكانةً خاصة، وهم من الفنانين الكبار، الذين تخطَّى إبداعهم حدود المواجهة السياسية والأيديولوجية.

وفي الوقت نفسه ينبغي أن نؤكد على الفارق الجوهري تمامًا بين أدباء الهجرة الأولى و«الموجة الثالثة» الانشقاقية.

كانت روسيا بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، في جوهرها التاريخي، ما وراء التاريخي، إن شئنا الدقة، هي دعامة الروح وهي البيت الكبير. هكذا انتمى لنا، مع وجود وجهات نظر متباينة فيما بينهم، كل من جيبيوس وبونين، ج. إيفانوف وتسيفيتايفا، شميليف وزايتسيف … وقد اتفقوا جميعًا على هذا الأمر.

لقد اتفقت مطبوعات «التاميزدات» رغم وجود تناقضات أكثر حدةً فيما بينها، على أمر آخر، تمثَّل في أنها جميعًا كانت تولي اهتمامًا أقل بميتافيزيقا روسيا (ما عدا أ. سولجينيتسين بطبيعة الحال، وهو الذي واجه مزاج الإحباط السائد في روسيا بصورة لائقة). حوَّلت «الموجة الثالثة» تقديرات روسيا إلى الجانب المعاكس؛ لقد جعلت الخطيئة «الشيوعية» الوطن والشعب بالنسبة للأغلبية مريضين لا براء لهما، متراجعين، فقدا القدرة على أن يكونا الدعامة الروحية ومصدر القوة.

لقد تحوَّل سكان هذا البلد إلى «مهمَّشين» وإلى «طُفيليين»، وباتوا تحت رحمة «القوائم»، وفقدوا القدرة على الوجود الشخصي اللائق. وفي وجود كل مشاعر القلق الذاتي والمعاناة الحادة للوضع، سادت أدبَ «الموجة الثالثة» روحُ التشرد، بصورة قوية، أو بتعبير أدق، كان هناك رفض لإمكانية نهضة الوطن. يتضح ذلك جليًّا من خلال التناول الساخر السائد للواقع «السوفييتي» و«المبالغة» العادية، والمحاكاة اللاذعة في وصف الأحداث والأشخاص وقيم التاريخ الوطني (وهو أمر مميَّز على نحو خاص في روايتَي ف. فوينوفيتش «حياة الجندي إيفان تشوكين ومغامراته العجيبة» و«متطلِّع إلى العرش»).

لقد ربط النضال المشترك ضد «الشمولية السوفييتية» في ذلك الوقت الأدباء المنشقين ﻟ «الموجة الثالثة»، وعندما سقطت هذه الشمولية، دون مشاركة منهم، وقع الكثيرون منهم، من الذين كانوا يعوِّلون على محاربتها في أيامها الأخيرة في حيرة كبيرة. اختفت التربة، التي كانت تقرِّب بينهم. وفي السنوات الأخيرة ﻟ «الموجة الثالثة»، تفرَّقوا وتشتَّتوا في بعض الأحيان نتيجةً للجدل العدائي، الذي نشب بينهم.

ومع ذلك، فإن دراسة هذه الفئة من أدب المهجر لا يزال ينتظرها الكثير في المستقبل؛ فحتى الآن لا تزال التقديرات تحمل طابعًا ذاتيًّا وتمهيديًّا.

(٤) صعود «الأدب السوفييتي» وانهياره

إن ما يسمى عادةً بالأدب «السوفييتي»، هو في الواقع ظاهرة ثقافية لم يسبق لها مثيل، جديلة من آداب مختلفة، ظهرت في روسيا بعد عام ١٩١٧م واستمرت حوالي سبعين عامًا؛ أي حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين. يمكن أن نلاحظ في بعضها آثار تماسِّها مع أدب المهجر الروسي، ليس فقط من ناحية الاتفاق، وإنما أيضًا من ناحية التنافر الحاد والدخول في جدل، بل حتى العداء.

إذن ما حقيقة هذا ﺑ «الهجين» الغريب المسمى «الأدب السوفييتي» للقرن العشرين، المركَّب والوحيد بأبعاده المتعددة، والذي شرعنا اليوم في استيعابه؟ نجد أن الآداب السوفييتية تشغل مكانةً كبيرة، بدأنا لتوِّنا فقط في فهمها على نحو حقيقي، ونحاول إدخالها في النظام المحدَّد للأبعاد الثقافية.

(٤-١) بين الأدبين الروسي والسوفييتي

إذن ما الأدب السوفييتي؟

إذا ما تأملنا الأمر، فسنجد أن هذا الاسم المُسيَّس والمؤدلج للأدب، هو أمر غريب في حد ذاته؛ فالأدب في جميع الأزمات ولدى كل الشعوب كان أولًا وقبل كل شيء أدبًا قوميًّا. لقد ظهر الأدب في ظروف المكانة الخاصة (أرض هذا الشعب بكل تنوعها الطبيعي) والزمان (في تاريخه القومي)، وكلاهما يحدِّد صورة حياة هذا الشعب على مدى آلاف السنين. وهذه الظروف تحدِّد بشكل مركَّب وخصوصي الأدب أيضًا، وتُكسبه على نحو أو آخر طابعه الأيديولوجي المميز، وهذا لا مراء فيه. لكن الجوهر العميق للأدب وحقيقته، يتجسَّدان في الكلمة القومية، وفي الوعي الذاتي للشعب بأكمله وتميزه بين الشعوب الأخرى. إن النموذج الفني يولِّد على نحو حدسي من مجمل الخبرة التي عاشتها الأمة والتي تتمركز داخل روح الفنان. ربما لذلك يُعتبر الفنانون العظام بمثابة «أعضاء للإحساس» القومي العام، «أعضاء» الروح، والمعبرين عن الجميع، المفهومين من الجميع. ومهما كانت العواصف السياسية، التي عانت منها البلاد، فإن الأدب الكبير الحقيقي، لا يخضع لتشوُّهاتها. لا يمكن أن نُلحق الأدب الكبير بالمقاصد الأيديولوجية الواعية أو السياسية للكاتب فحسب، حتى نسمي إبداعه، على سبيل المثال، إبداعًا إقطاعيًّا أو نبيلًا، برجوازيًّا أو بروليتاريًّا، ملكيًّا أو اشتراكيًّا أو رأسماليًّا، وهلم جرًّا (وإلا أصبح ذلك «تفسيرًا اجتماعيًّا مبتذلًا، ينظر دائمًا بالقرب من الأدب ولا ينشغل إلا بالمكسب السياسي الشخصي»).

كلما كانت الأنانية الطبقية والمصالح الشخصية للجماعة ملحوظة في أعمال هذا أو ذاك من الأدباء، قل فيها الصدق الفني والإنساني «الذي يمكن أن يتمتَّع كل فرد بالدفء تحت جناحه» (هكذا كان جريجوري ميليخوف يحلم في «الدون الهادئ»)، وكان عمر هذه الأعمال وهذا الأديب أقصر في ذاكرة الثقافة.

قيل منذ آلاف السنين: عندما يدوِّي السلاح، تصمت آلهة الفن. لا يهم عندئذٍ ما إذا كان صوت الحرب يُدوِّي في بعض الأحيان على صفحات ما يعرف ﺑ «القصائد» أو «الروايات». على أي حال فليس هذا بصوت آلهة الفن (أي الخير والحق والجمال)، وإنما هو صوت الكراهية أو حب الذات، الحسد أو الغرور. إن هذه الأصوات لا علاقة لها بالفن. في قصيدة «فاسيلي تيوركين» يقول الشاعر كلمات مملوءةً بالحقيقة العميقة، أخلاقيًّا وفنيًّا: «المعركة تسير لا من أجل المجد، وإنما من أجل الحياة على الأرض.» بالضبط تمامًا: لا من أجل المجد، أو الكسب أو المتعة! إن الحقيقة الفنية الأصيلة (مثلها مثل الحقيقة العلمية) هي الاستقلال والموضوعية في أعلى صورهما، هي الإيثار الكامل دون نقصان، وهي في الوقت نفسه الحب الكامل للعالم وللإنسان وللبشرية.

إننا نعلم أن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر الكلاسيكي كان أدبًا قوميًّا عامًّا، تسمو فيه القيم الروحية الخالدة فوق أشكال الجدل السياسي والأيديولوجي كافة. لقد ظل الكتَّاب الكلاسيكيون بوشكين وجوجول ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف راسخين، حتى عندما راحت نيران الأهواء السياسية تضطرم في المجتمع.

وهكذا ما يمكن قوله أيضًا عن أدب «العصر الفضي» الروسي: كثيرًا ما وجدنا أسماءً مثيرة للجدل، وكذلك كانت هناك جماعات انخرطت في مناظرات فيما بينها، ومع ذلك فقد ظل دَور الأدب كله باعتباره صوت روسيا، أمرًا لا ريب فيه. كان الأدب مع ذلك من الأهمية بمكان، ومن ثم كان متعدِّد الأصوات، شعبيًّا، قوميًّا شاملًا. وعلى هذا فإن ألكسندر بلوك أيضًا باعتباره الشاعر الأعظم لعصره، كان شاعرًا لا يتطرَّق إليه الشك.

فجأة، وبعد أكتوبر ١٩١٧م، اختفى الأدب الروسي المركَّب والمُوحد، فهل ظهر بدلًا منه ما عُرف بالأدب السوفييتي؟

كلا، لم يظهر الأدب «السوفييتي» على الفور، وإنما بعد مرور عدة سنوات. ومن ثم فقد أسرع الساسة والأيديولوجيون، الذين وصلوا إلى السلطة إلى تفتيت الأدب الروسي «القديم». وبدلًا من أدب واحد ثري ومركَّب (من الواضح أنه كان أدبًا بالغ الثراء)، ظهر هناك حاجز فصل بين «الحُمر» و«البِيض»، أُعلن عن أكثر من أدب لا تصالح لِما بينهم من عداء. وبحلول عشرينيات القرن شاعت المصطلحات التالية: الأدب «البروليتاري» (وكان أكثر المصطلحات تميُّزًا إذا جاز القول)، الأدب «البرجوازي» (وهو مصطلح متعسِّف بطبيعة الحال)، ثم الأدب «الريفي»، وبعد ذلك بفترة وجيزة ظهر أيضًا مصطلح أدب «البرجوازية الصغيرة» أو أدب «رفيق الرحلة».٢٠ استمر الهجوم على الكتَّاب تبعًا لانتمائهم إلى شيء محدَّد (في تلك السنوات، لأصولهم الاجتماعية أو «لتسجيلهم» الاجتماعي)، استمر ذلك في الأدب إلى أن هدأت الحرب شيئًا فشيئًا. كانت هذه وجهة نظر غلاة أتباع الأدب «البروليتاري» في تلك الفترة، أولئك الذين أطلقوا على مجلتهم اسمًا مستفزًّا هو «نا باستو» (في نوبة الحراسة) (لم يظهر تدقيق لهذا الاسم إلا بعد مرور عدة سنوات ليصبح «في نوبة الحراسة الأدبية»). هؤلاء كانوا يسمَّون إما «حراس النوبة» أو «أعضاء راب» (نسبةً إلى راب RAPP، اختصارًا لاسم أكبر منظمة للأدباء البروليتاريين، وهي الجمعية الروسية للأدباء البروليتاريين). لقد أطاح التناول الاجتماعي المبتذل للأدب الذي قدَّمه أعضاء راب على نحو عدواني، بالموهبة والإلهام، بالجمال والحقيقة، بالإله وبالروح، بالخير والشر، بالأصالة الإبداعية الفردية، بالطبيعة وبالعالم الباطني للإنسان؛ أي، في جوهر الأمر، بكل ما يسمَّى بالقيم الإنسانية المشتركة. إن كل ما عدَّدناه سابقًا وجد مضطهِدين لا يعرفون الرحمة من أعضاء نوبة الحراسة وجمعية الأدب البروليتاري. لقد كان محكومًا على الأدب أن يصبح تكملةً لوزن الأيديولوجيا، وسلاحًا ووسيلة ﻟ «الصراع الطبقي» فحسب.

ولهذا فإن كتَّابنا «البروليتاريين» كانوا بحاجة إلى سُبل الدعم كافة، على الرغم من أنه من بين آلاف «الحِراب» الأدبية لأتباع جمعية راب، كان هناك عدد قليل للغاية من الأدباء الموهوبين بالفعل (يقول دميان بيدني: «ليكن أشعث أغبر، على أن يكون أصيلًا.»)، أسمِّي هنا أكبر الكتَّاب البروليتاريين: أ. فادييف، ود. فورمانوف، وف. جلادكوف، وأ. سيرافيموفيتش … أما من هم من «غير كتَّابنا» وخاصةً «البرجوازيين»، فهؤلاء يجب معاملتهم معاملةً سيئة وملاحقتهم، والأفضل فرض الحظر عليهم. كان ذلك هو موقف راب من أخماتوفا بولجاكوف وزامياتين وكليويف وألكسي تولستوي وأندريه بيلي وإيليا أهرنبورج وآخرين. هؤلاء جميعًا كانوا كتَّابا برجوازيين!

كان من الضروري على «البرجوازيين الصغار»، و«رفاق الرحلة» أن يجتازوا مظهر الراب القاسي؛ لكي يتمكنوا من الحصول في وقت ما على شهادة الثقة. ولكن الكثير من «رفاق الرحلة» لم يستحقوا هذه الشهادة. لقد راح أعضاء الراب يزجرون حتى جوركي، ويلقِّنونه فن الثبات الأيديولوجي. وقد وصل الأمر إلى أنه في عام ١٩٢٩م، عام «الانعطافة الكبرى»، جرى «حجب الأكسجين» ليس فقط عن زامياتين ولولجاكوف وبيلنياك وبلاتونوف وكليويف وأخماتوفا وماندلشتام، بل عن ماياكوفسكي. أعلن حراس الراب الأيديولوجيون الصاخبون حتى جوركي أيضًا «بوقًا للعدو الطبقي المقنَّع».

على أي حال سوف نتحدَّث عن كارثة «الانعطافة الكبرى» لاحقًا، أما الآن فسوف نعود إلى مطلع العشرينيات، عندما كان الوضع الأدبي لا يزال هادئًا نسبيًّا؛ فمن بين البلاشفة، كان هناك أناس لا يزالون يملكون تأثيرًا محبًّا ومتفهمًا للأدب، وكانوا يرَون أن من الضروري، إذا جاز القول، الحفاظ على «القوة الكامنة للثقافة» في الأدب، وكذلك البحث عن الطريق نحو كبح العدوانية الأيديولوجية، وكانوا يريدون الحفاظ على الأدب من الانشقاق غير القابل للحسم.

عندئذٍ فقط ظهر المصطلح الجديد «الأدب السوفييتي».

(٤-٢) أدب الآمال الباطلة، أو الأدب «السوفييتي» الأول

في مطلع العشرينيات ظهر مصطلح الأدب «السوفييتي» ليُستخدم بقدر ما لكبح الأهواء السياسية، كما أصبح فعلًا للوفاق الاجتماعي وشرطًا لقَبول التعايش السلمي في الأدب، على سبيل المثال بولجاكوف ودميان بيدني، أخماتوفا وبيزيمينسكي، بلاتونوف وفادييف، باسترناك وجاروف …

وإذا لم تكن صفة كاتب «سوفييتي» وأدب سوفييتي قد استخدمت لتُصالح بين الكتَّاب، أو لتساوي بينهم، فإنها كانت تسمح، على الأقل لمن كان لديه سجل اجتماعي «غير لائق» ولأصحاب الرؤى الفنية المختلفة للعالم بالحياة والتنفس. كان ألكسندر قنسطنطينوفيتش فورونسكي، الناقد الشهير آنذاك، ومحرر مجلة «كراسني نوف» (الأحمر البكر) هو من أدخل في عام ١٩٢٢م مصطلح «الأدب السوفييتي» (كتب فورونسكي يقول: «هذا ليس أدبًا بروليتاريًّا وليس أدبًا شيوعيًّا، إنه إجمالًا أدب سوفييتي، آتٍ من الأمزجة الأدبية المعاصرة»). في بداية الأمر لم يكن هذا المصطلح يتضمن مغزًى سياسيًّا وأيديولوجيًّا ضيقًا، وبهذا المعنى أخذ مكانته. وقد دعم فورونسكي كلًّا من أ. ف. لوناتشارسكي وجوركي ويسينين وغيرهم من الكتَّاب الموهوبين «رفاق الرحلة».

يرى فورونسكي أن الأدب «السوفييتي» هو أدبنا الروسي الحقيقي ما بعد أكتوبر، والذي ظل داخليًّا ذا وجوه متعددة فنيًّا من الناحية العضوية، وسوف يكون مخلصًا، وهو يتحدث لغته، في علاقته بالبناء السياسي (وخاصةً أن الأمل الليبرالي الرومانسي كان لا يزال موجودًا في أن سلطة البلاشفة سوف تكون مؤهلةً للتطور الديمقراطي الطبيعي (السياسة الاقتصادية الجديدة NEP)، «والسير في الاتجاه المعاكس»، وأن مصالح الشعب والوطن وروسيا هي مصالح عزيزة على هذه السلطة بالفعل).

لننظر إلى الأدب «السوفييتي» الأول عن قرب.

إن هذا الأدب «السوفييتي» المبكر كان أدبًا على قدر كبير من التنوع، على الرغم من أنه كان يمالئ النظام، على أنه سرعان ما تبيَّن أنه لم يكن على وفاق معه سواء في توجهاته أو في فرديته. إن جذور هذا الأدب، المتشعِّبة للغاية، كانت تضرب بلا شك في الطبقة الثقافية التقليدية، في الأدب الروسي الكبير، الذي خاض تجربة «العصر الفضي». وحتى «أعمدة» «العصر الفضي» مثل فيودور سولوجوب وميخائيل كوزمين وأنَّا أخماتوفا ويفجيني زامياتين، كانوا موجودين في هذا الأدب «السوفييتي»، كما تبنَّى هذا الأدب ورثته الذين لا يتطرَّق إليهم الشك: د. خارمس، وق. فاجينوف و«الإخوة سيرابيون». على وجه الخصوص (ف. تيخونوف، وف. إيفانوف، وم. زوشينكو، وق. فيدين، ول. لونتس، وغيرهم؛ وقد كان هذا المصطلح ملحقًا دائمًا بأدب «الشباب» بصفة خاصة). كانت العلاقات بأدب ما قبل الثورة واضحةً في شعر أ. ماندلشتام، وف. ماياكوفسكي، وب. باسترناك. كان «العصر الفضي» مدرسةً كبيرة لكل من إ. باجريتسكي، وي. أوليشا، وب. بيلنياك، ون. زابولوتسكي، ول. ليونوف، وإ. بابل. وقد احتل الكتَّاب الواقعيون من مدرسة «جوركي»: أ. سيرافيموفيتش، وف. فيريسايف، وكذلك م. بريشفين؛ والشعراء الريفيون، الذين شعروا بالأمل الذي وهبه لهم «قدر الأحداث»، وهؤلاء سرعان ما أُصيبوا بالإحباط بعد ذلك وهم: س. يسينين، ون. كليويف، وس. كليتشيكوف، وكثيرون غيرهم. ظهر كل ذلك في وقت ما واضحًا جليًّا، بعد أن اكتسب نوعًا من الشرعية باعتباره أدبًا «سوفييتيًّا»، ومن ثم أصبح الجميع كتَّابا «سوفييتًّا» على نحو أو آخر.

في تلك السنوات، وفي هذا الوضع، الذي بدا أنه وضع ملائم نسبيًّا، كان من الممكن الاعتماد على ازدهار الأدب، وخاصة، كما ذكرنا سابقًا، أن تربة «العصر الفضي» كانت تعد بالكثير من الثمار الحلوة، غير الضارة بفضل ريح التجديد الطازجة التي آمن بها أ. بلوك. لقد أعطى التحرُّر من «المتع» السوداء المحرمة، ومن الإغراءات البوهيمية، أعطى للفنانين، وخاصةً لأدب الشباب، الذي بقي كله تقريبًا في الوطن، في روسيا، آمالًا روحية جديدة، لا يمكن ألَّا نلاحظ هذه النزعات. لقد أدار «العصر الفضي» الرءوس والأرواح، وابتلعها في حفرة عميقة، فخورًا بلا نهائيتها. كان هذا على أي حال قرنًا «لا وطن له».

ليس من المدهش أن عددًا لا يستهان به من المثقفين، ناهيك عن كونهم من العيار الثقيل، بدا لهم أن العصر الجديد هو الطريق الحق إلى التطهر والصحة الروحية، وأنه لم يعد من الصعب تشكيل الحياة من البداية. وحتى أنَّا أخماتوفا التي مضَّها الحزن؛ لأن «كل شيء تمَّت سرقته وخيانته وبيعه …» وفجأةً إذا بها تقول في دهشة: «ما الذي جعلنا نشعر بالصفاء؟»

لقد شعر أ. فورونسكي، الذي أحب الأدب وأدرك كنهه، هذه العلاقة بين عصرين، عندما جمع في مجلته «كراسني نوف» بين الكتَّاب «القدامى» و«الجدد» ممن كانوا يشاركونه الأمل في عصر نهضة سوفييتي حقيقي. أذكِّر هنا أن الصلات بين الأدب في روسيا السوفييتية وأدب المهجر كانت لا تزال متماسكةً في تلك السنوات. ومن هذا المهجر تعالت أصوات كثيرة عبرت عن حنينها صراحةً إلى الوطن الذي هجروه (على سبيل المثال، لا يمكن تصور شعر وشخصية مارينا تسفيتايفا من دون حنينها إلى حياة أخرى آخذةً في النهوض هنا، «إن سطوة روسيا» هي التي أعادت ألكسي تولستوي إلى الوطن …).

لعل الدليل على ذلك هو هذا «التدفق» المتواصل للطاقة الإبداعية وهذه القائمة من المهوبين الذين لا يتطرَّق إليهم الشك، الذين أصبحوا مطلوبين في هذا العقد الذي تلا ثورة أكتوبر (أذكر هنا الأسماء الجديدة تمامًا فقط): م. بولجاكوف، ول. ليونوف، وأ. بلاتونوف، وف. إيفانوف، ون. تيخونوف، وق. فيدين، وإ. بابل، وأ. فادييف، ود. فورمانوف أرتيوم فيسيولي، وف. زازوبرين، وإ. كاتاييف، وإ. إيلف، وي. بتروف، وق. فاجينوف، ود. خارمس، وب. بيلينياك، ون. زابولوتسكي، وم. إيساكوفسكي، وم. شولوخوف، وغيرهم كثير. بعد «الانعطافة الكبرى» لم يستمر هذا الاتجاه، ولم يعد هناك أحد بحاجة لا إلى هذا الأدب، ولا إلى هذه المواهب، التي ظهرت على تخوم العشرينيات والثلاثينيات، لتظهر هناك قائمة من الأسماء مختلفةً كل الاختلاف. وحتى الكتب العظيمة التي أبدعها ميخائيل بولجاكوف وم. شولوخوف، وأ. بلاتونوف، التي كُتبت في الثلاثينيات (والتي نُشر بعضها) لم تُدرَج باعتبارها «مثالًا للطلب الاجتماعي» الذي وضعه «الأدب السوفييتي» على امتداد السنوات الأخيرة. لقد كان ذلك الأدب أدبًا مختلفًا.

باختصار، فإن الأدب «السوفييتي» الأول (من عام ١٩٢١م وحتى عام ١٩٢٩م) كان تعبيرًا عن الحياة الأدبية بأبعادها المتعددة، ودليلًا على طبيعته الروحية المتفردة. لم يستلهم هذا الأدب «قضايا الساعة» المضجرة، وإنما استلهم الجذور الروحية القومية العميقة الأكثر أهمية. لقد ملأ هذا المضمون القومي مفهوم الأدب «السوفييتي» المبرَّر والتقدمي في تلك الظروف.

لكن إلحاح الأدب المُسيَّس راح يزداد قوةً عامًا بعد الآخر. وعلى حدود العقد لم يتحمَّل الأدب «السوفييتي» هذا الضغط على حد تعبير فورونسكي، وعندها انفجرت كارثة عام ١٩٢٩م.

(٤-٣) «الانعطافة الكبرى»

في عام «الانعطافة الكبرى» اكتسبت صفة «سوفييتي» معنًى آخر تمامًا بفضل كاتب إرشادي مثل ستالين؛ ففي خطابه إلى ف. بيل بيلوتسيركوفسكي أشار بوضوح إلى أن تعريف «سوفييتي» وغير سوفييتي يتحوَّل من الآن فصاعدًا إلى تقييم أيديولوجي، ولم يعد يعني الدفاع عن التنوع في الأدب، وإنما على العكس تمامًا، سلَّم الكاتب ليكون فريسةً لقضاة التفتيش السياسي. تم وضع معايير اجتماعية مبتذلة، ويا لها من لحظة! كتب ستالين: «حبذا لو تم وضع أولوية للمفاهيم الأدبية الفنية للنسق الطبقي، أو حتى لمفاهيم «سوفييتي» و«مناهض للسوفييتي»، «ثوري» و«مناهض الثورة»، وهلم جرًّا» (المؤلفات، المجلد الثاني، ص٣٢٦-٣٢٧). وحتى لا يكون هناك شك في ضرورة العقاب الأيديولوجي في الأدب، يرسم ستالين صورةً مشئومة للأدب الفني «في المرحلة الراهنة من تطوره، حيث توجد التيارات كافةً على اختلافها، حتى المُعادي منها للنظام السوفييتي والمُعادي أيضًا للثورة على نحو مباشر» (المصدر السابق)، وإذا أردنا أن نقدِّم هنا مثالًا ونموذجًا لذلك سنجد أنه وصف أعمال ميخائيل بولجاكوف، وكذلك أفضل مسرحياته «الهروب» و«الجزيرة القرمزية» بأنها «أدب رخيص غير بروليتاري» …

وبجرة قلم مُسيَّس، فقد الأدب الفني استقلاله الروحي والجمالي، أو اخدم المصالح «الطبقية»، ولتكن «سوفييتيًّا»، أو كما يقال: قف وظهرك للحائط! لقد بدا الأدب قد انتقل إلى مستوًى آخر تمامًا، حيث بات الفنانون الأصلاء لا حول لهم ولا قوة في كثير من الأحيان، أما عندما يُحرزون انتصارًا، فيتم اعتبارهم مجرد كتَّاب حاذقين، «مهرة» (بتعبير يفجيني زامياتين) وانتهازيين.

كيف واصل الخليط الغريب من الآداب الذي تشكَّل في العشرينيات وجوده في هذه الظروف؟

بعض الكتَّاب الموهوبين للغاية تأقلموا أحيانًا، مع النظام الجديد، بعد أن عانَوا تجربة الانكسار الروحي الصعبة (هؤلاء دفعوا الثمن دائمًا من حريتهم الداخلية). ينطبق ذلك بدرجة كبيرة أو أقل على أ. تولستوي، وب. بيلنياك، وق. فيدين، ول. ليونوف، وي. أوليشا، ون. تيخونوف، وف. كاتاييف، وغيرهم.

البعض اضطُر للنزول تحت الأرض، حيث راح يستوعب الواقع بصورة تراجيدية (م. كوزمين، د. خارمس، ل. دوبيتشين، ن. كليويف، س. كليتشيكوف).

والبعض الآخر لم يغضَّ بصره عن الخبرة التراجيدية، فضمَّنوها في صورة العالم الشجاعة والحكيمة. من هؤلاء: بولجاكوف، وشولوخوف، وبلاتونوف، وأخماتوفا، وباسترناك، وتفاردوفسكي، وماندلشتام …

قلة قليلة هي التي لجأت إلى هذا الخيار؛ إذ كان المطلوب هو النشاط الروحي، بينما قبلت الأغلبية «قدر الأحداث»، وخاصةً أن «عصا الجمعية الروسية للأدباء البروليتاريين، «راب»» كانت تدور بسرعة مروحة طائرة. وعلى الرغم من أن أعضاء «راب» سرعان ما تم القضاء عليهم «دون هوادة»، فإن أنصارهم من أصحاب المذهب الجدانوفي حاولوا أن يفعلوا كل شيء لكي ينزعوا عن كلمة «سوفييتي» مغزاها التعددي الأول، وأن يلوِّحوا بإشارة الاحتكار الأيديولوجي الساخط، بعد أن أكَّدوا تحت هذه الراية نظام القيادة الإداري في الأدب. وليس من المستغرب أنه بنهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات كان واضحًا أن زوشينكو وأخماتوفا وباسترناك وبلاتونوف (أذكر هنا أسماء كبار الكتَّاب، الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة آنذاك) لم يكونوا كتَّابًا «سوفييتًّا» بالمعنى البدائي لهذا المصطلح.

بعد هزيمة جميع المخالفين في الفكر والمخالفين في الرؤية، جاء زمن الازدهار المصطنع للأدب «السوفييتي» الجدانوفي الستاليني وانتصار سرابه وأفكاره المثالية الطوباوية. وبعد أن تم القضاء على أعضاء «راب» أنفسهم، وبعد التمثيل الفخم لمسرحية مؤتمر الكتَّاب السوفييت، حاول الزعماء الجدد للأدب على الفور استبعاد كل ما يعارض النموذج الثابت من الممارسة. وبذلك جرى تأمين احتكار هذا النموذج لعدة عقود حتى منتصف الخمسينيات. كان هذا زمن الأدب «السوفييتي»، دُون زامياتين وبولجاكوف، دُون زوشينكو وبولجاكوف، دُون أخماتوفا وماندلشتام، دُون يسينين وبابل، دُون باسترناك وكليويف، دُون أرتيوم فيسيولي وفورونسكي ودُون ماياكوفسكي الحقيقي، ودُون كتَّاب المهجر بطبيعة الحال؛ ومن ثم فإن اتحاد الكتَّاب سرعان ما امتلأ ﺑ «الكوادر» المطيعة والمرتشية، المستعدة لعمل أي شيء، أما غير المطيعين فقد صمتوا نتيجةً للاضطهاد أو أبعدوا إلى الجولاج٢١ أو ذهبوا إلى العدم، ليُحذفوا من الذاكرة ذاتها.

(٤-٤) «الأدب السوفييتي الحقيقي»، أو عن ضرر الاحتكار

إذن ما الذي حدث في أعماق التاريخ الروسي في نهاية العشرينيات ومَطلع الثلاثينيات؟

حدثت كارثة قومية عامة عظمى، أكبر من تلك التي حدثت في عام ١٩١٧م؛ تم نزع ممتلكات الفلاحين، أساس الأمة، و«أرضهم السوداء» وفي الوقت نفسه تم القضاء على طبقات أخرى «مستغِلة»: النبلاء، رجال الدين، التجار، وإرهاب العلم الأكاديمي الروسي، وتخويف التكنوقراط على يد قضاة مزيَّفين، أما الكتَّاب فقد تم نقلهم إلى الثكنات.

ينبغي أن ندرك أن هذه الكارثة كانت كارثةً ثقافية في المقام الأول. ومنذ هذه اللحظة تحديدًا (بدرجة أكبر ممَّا كان عليه الوضع في عام ١٩١٧م) سار الأدبان الروسيان، في الوطن الأم وفي المهجر، في طريقين مختلفين. وراحت الثقافة والفن في روسيا السوفييتية يتحوَّلان إلى عنصر لخدمة النظام السياسي والإداري المنتصر. لم تكن العملية الإبداعية تظهر بصورة أكثر عَفْوية من أعماق الحياة الشعبية ومن روح الكلمة الروسية، ومن التفرُّد الإبداعي للكاتب، وإنما أصبح الأدب موجَّهًا.

إن الانقطاع الذي حدث في السياق الأدبي على حدود العشرينيات والثلاثينيات كان حتميًّا بفضل التدمير المخطَّط للغة العامة للثقافة. وكما هو معروف، فقد ظل الأدب فيما سبق يتوجَّه إلى الإنسان وإلى المجتمع على أساس اللغة الأدبية التقليدية المشتركة. كان هذا هو حال الأدب منذ بوشكين وحتى تشيخوف وبلوك، الأدب المنطلق من الخبرة الروحية، التي تراكمت من خلال الأمة بأسرها، والذي ظل ينصت له كل روسي مثقَّف. ومع ذلك فقد احتفظ الريف «غير المثقف» أيضًا بلغته العامة، اللغة التي احتوت العقيدة الأرثوذوكسية كلها والثقافة الشعبية أيضًا.

بعد انقلاب ١٩١٧م، بدأت هناك «ثورة ثقافية» أكثر راديكالية، وبدا الجمهور الروسي العادي، الذي عاش هذه الثورة وكما لو أنه يعيش في واقع آخر في «نظام علامات» مختلف ونظام آخر للقيم. كان من الضروري أن تصبح كلمته لغةً جديدة «سوفييتية» تسعى لإعادة تسمية كل شيء حولها وحتى داخل الإنسان نفسه. يعرض أ. بلاتونوف في روايته «الحفرة» الاستظهار الجماعي، الخنوع للكلمات السوفييتية الجديدة؛ فحرف أ يعني طليعًا avent-garde، ونشيطًا active، وقرضًا avance، وشديد اليسارية archileftist، ومعاديًا للفاشية antifaciist؛ وحرف ب يعني بلشفيًّا وبرجوازيًّا ورئيسًا ثابتًا parmenant chairman و«برافو-برافو يا أنصار لينين!» وهلم جرًّا.

كل هذه الكلمات لم تكن موجودةً لا في الحياة الروسية القديمة، ولا في الأدب القديم؛ ولهذا فإن المؤلفات الكلاسيكية الروسية الكبرى وكتاب «العصر الفضي» وأخلافهم في الأدب «السوفييتي» المبكر (في حقيقة الأمر، فإن الأدب الروسي كله؛ أي بوشكين وجوجول ودستويفسكي وتورجينيف وتولستوي، وكذلك بلوك و«المهاجر الأبيض» بونين وسولوجوب وأخماتوفا والمستقبليون وباسترناك في تلك السنوات، وزابولوتسكي وأوليشا وماندلشتام وآخرون) كانوا جميعهم خارج حدود هذه اللغة «السوفييتية» الجديدة.

عدد قليل من الكتَّاب هم الذين أجادوا هذه اللغة الجديدة بالنسبة ﻟ «الجماهير» وﻟ «البروليتاريين» بصفة رئيسية، أما باقي الكتَّاب فقد تعيَّن عليهم إعادة تعلُّمها (وهو ما فعله العديد، «حلَّت في الحلق أغنية خاصة»).

تمثَّلت صعوبة وضع الكتَّاب أيضًا في أن الضغط الذي واجهوه كان يأتي ليس فقط من «أعلى» وإنما من «أسفل» أيضًا. جوهر الأمر أن الطبقة الشعبية المثقفة على نحو حقيقي والأكثر نضجًا من الناحية الروحية (الإنتليجنسيا، رجال الدين، «الكولاك»،٢٢ الفلاحون المستقلون، النبلاء، «البرجوازيون»، رجال الأعمال، وغيرهم) فقد تم تدميرها.
لقد دخل إلى عالم الثقافة ملايين الناس، الذين راحوا يستوعبون كل شيء من جديد، ولم يكونوا على استعداد بعدُ لفهم لغة الثقافة الصعبة. وبدءًا من منتصف العشرينيات، وخاصةً مع حلول زمن «الانعطافة الكبرى» وما بعدها بصورة مستمرة، فُرض على الأدب وعلى الثقافة «السوفييتية» طلب سلطوي جديد من جانب الجماهير (عُرف باسم «الطلب الاجتماعي»)، وفي هذه المرة كان طلبًا بالتبسيط. وبإخلاص أو بتصنُّع كبح الكاتب «السوفييتي» الجديد ما يعتمل في نفسه وراح ينفِّذ هذا الطلب. في هذا المجال على وجه الخصوص تميَّز الكاتب البارز في تلك السنوات دميان بيدني (يمكن أن نتذكر في هذا السياق الشعار الذي رفعته «الجمعية الروسية للأدب البروليتاري، راب» بشأن «دَمينة الأدب»).٢٣

في جوهر الأمر كان كل ذلك توحيدًا حقيقيًّا للحياة الأدبية والثقافية للبلاد جاء موجَّهًا من أعلى، ومؤيَّدًا من أسفل.

إن قيام نموذج مبسط متفائل جديد للأدب، لم يكن من الممكن إلا أن يكون مدعومًا من «النظام» الذي وجد نفسه في واقع جديد، والذي كان بحاجة إلى دعم روحي. لقد كان على ملايين الناس، الذين «زُج بهم في ظروف خارقة للعادة» (بتعبير ف. بريوسوف) أن يجدوا طريقهم في عالم مجهول، فضلًا عن تحمُّلهم لإرهاق نفسي وعصبي لم يسبق له مثيل ولم يسمعوا به من قبل.

إن ذلك الأدب «السوفييتي»، الذي جاء نتيجة الرهان على «الجماهير» كان له مآثر خاصة هنا. لقد كان أدبًا، كما كُتب في تلك السنوات، ﻟ «التفاؤل التاريخي» بفضل ثقته في مستقبل باهر وفرحه الدائم بالحياة. لقد تبيَّن أن هذا الأدب منقذ للجماهير الغفيرة بحق، ومن دونه لم تكن لتعيش دهشة وتجربة «الخطط الخمسية»، و«التطهير»، و«المزارع الجماعية»، و«نزع ممتلكات الكولاك» و«فضح أعداء الشعب»، و«مسابقات العمل الاشتراكي»، وهلم جرًّا. كان الناس بحاجة دائمًا إلى حديث «مخدِّر» فعَّال، إلى نظام من المؤثرات الدعائية المهدئة واللاهية والمحفِّزة. وهكذا أصبح «الأدب السوفييتي الحقيقي» هو هذا المخدر، وخاصةً «الأغنية الجماهيرية»، التي سادت طوال الوقت جنبًا إلى جنب الجماهير، تقودها وتوجِّهها. الأدب «الحرس» لعب دَوره التاريخي المهم، ليصبح هو «كتاب الحياة» الجديدة للملايين.

الحقيقة أن «كتاب الحياة» كما اتضح بعد ذلك، ما هو إلا «انتحال لليوتوبيا». إجمالًا، فإن ما عُرف باسم «الثورة الثقافية» هو سرقة روحية للشعب، راحت تتصاعد من عام لآخر، وإهدار للقيم الثقافية التي جرى اكتسابها عبر القرون.

لقد سادت الطموحات البلشفية إلى الاحتكار الجماعي والأيديولوجي العالمي، وإلى دفع «الثورة العالمية» (نرفع راية العمل الحمراء، في كل المحيطات والبلاد)، سادت أيضًا أكثر النماذج الثقافية تبسيطًا (نتذكر هنا شخصية ماكار ناجولنوف الشيوعي، الذي نال قسطًا بسيطًا من التعليم في رواية ميخائيل شولوخوف «الأرض البكر»، الذي راح يتعلَّم الإنجليزية لكي «يثرثر بها مع المكتب الدولي بلغته»). إذا واجهنا الحقيقة فعلينا أن نقول: إن إضفاء الروح الطفولية على الأدب (مثله مثل كل الحياة الثقافية) كان يسير على نحو نشيط للغاية. وقد تم تنظيم ذلك بمساعدة الأدب وعلى مستوى البلاد بأسرها لإعادتها إلى «روح الطفولة» البدائية. لقد أُلقي بروسيا إلى الماضي السحيق، وأُرغمت على التخلي عن الطريق التي تسير فيه الثقافة (وفي سياق ذلك سارت عملية إقامة «ثقافة اشتراكية» بدائية واكبَتها دعاية واسعة لم يسبق لها مثيل؛ عشرات الآلاف ومن بعدهم مئات الآلاف، بل ملايين البشر تلقَّوا تعليمًا متوسطًا نمطيًّا، ثم تعليمًا عاليًا نمطيًّا أيضًا، تعليم، إذا ما نظرنا جديًّا إلى عواقبه، لوجدنا أنه كان أيضًا وسيلةً لاستبدال التصورات الدعائية السطحية بالمعرفة الحقيقية بالحياة). لقد حوَّل «البالغون المركزيون» (بتعبير أ. بلاتونوف في رواية «الحفرة») حوَّلوا روسيا كلها إلى «بلد المراهقين» (الأمر الذي سُر له ف. ماياكوفسكي). وهكذا أصبحت كلمات الأغنية الشهيرة في الثلاثينيات: «سوف نشرب ونضحك مثل الأطفال …» هي الشعار الملهم للغفلة. في الواقع فقد أصبح «الأدب السوفييتي الحقيقي» نوعًا خاصًّا من «أدب أطفال مخصص للبالغين».

وبواسطة المركزية التي لم يسبق لها مثيل للحياة الروحية بأكملها، تحقق التناول الدعائي والتبسيط لمصير الإنسان ومصائر الشعب بأسره، واستبعاد «الأسئلة الخالدة»، الأسئلة الخاصة بمغزى الحياة، وإقصاء ما يُعرف بالإشكالية «الوجودية»، تحقق في هذا «الأدب السوفييتي». وفي الثلاثينيات، وخاصةً في سنوات ما بعد الحرب، تم توصيل هذا الأدب إلى حالة مثالية؛ في الواقع، فقد ظهر في «الأدب السوفييتي» «البطل الجماعي» و«البطل الإيجابي»، الذي انتقل من كتاب إلى آخر، كما ظهر أيضًا «المؤلف الجماعي»، ونعني به اتحاد الكتَّاب السوفييت وعلى رأسه اللجنة المركزية للحزب.

هذا الأدب «الثاني» أو «الأدب السوفييتي الحقيقي»، كما خُطط له وجرى تحقيق جزء كبير منه، لعله كان الأدب الأكثر «سوفييتية» من بين آداب القرن العشرين كافة. لقد طمح هذا الأدب لأن يكون أدبًا نقيًّا «كيميائيًّا» من الناحيتين الفكرية والفنية. لقد كان أدبًا جرى تحضيره وفقًا للمعادلات والوصفات، التي تم إعدادها في «المعامل» الأيديولوجية، وإنتاجها وفقًا للمرجعيات الموجودة في اتحاد الكتَّاب، وفي هيئات تحرير الصحف والمجلات وفي دُور النشر، وبطبيعة الحال، في إدارة «الرقابة». وتشكِّل المراسيم والقرارات التي لا حصر لها، والتي صدرت بشأن قضايا الأدب والفن على مدى نصف قرن، سِفرًا ضخمًا (وقد أُعيد طبعها عدة مرات)، كان كل سطر فيها مقدسًا، غير قابل للجدل، كان يحدِّد مصائر الكتَّاب والكتب ويوجِّه الحياة الأدبية والثقافية بأسرها.

لم يحدث على مدى ثلاثة قرون في الأدب الروسي! أن صدر هذا القدر من القرارات و«التعليمات»، سواء في الأعمال النظرية أو النقدية بخصوص الواقعية الاشتراكية وجوانبها الجمالية والعملية. فعلى سبيل المثال، ما إن ظهرت فكرة «واقعية بلا ضفاف» (للكاتب الفرنسي روجيه جارودي) حتى أشار المنظِّرون السوفييت على الفور إلى أخطاء هذا «التحريفي» ليعيدوا «واقعيتنا» إلى الضفاف التي ينبغي أن تكون عندها. لقد كانت الموهبة والبنية العضوية والإخلاص قيمًا مشكوكًا فيها دائمًا بالنسبة للمفاهيم الجمالية الاشتراكية. ولكن الأهم على الدوام كان متمثلًا في «الالتزام الحزبي» و«التوجه الفكري» للكاتب، «المعبِّر» و«الممثل» عن الحزب والشعب.

آنذاك قوبلت وبحماس كبير الجملة الشهيرة التي أعلنها شولوخوف، معارضًا الذين مالوا باللوم على الكتَّاب؛ لأنهم يكتبون «بناءً على تعليمات الحزب» وعلى الذين يستسلمون للمطالب، التي لا تقبل الجدل ﻟ «الإخلاص» و«الالتزام الحزبي». يقول شولوخوف: «نحن نكتب بناءً على تعليمات قلوبنا، وقلوبنا تنتمي للحزب.»

باختصار، فإن «الأدب السوفييتي الحقيقي» على مدى عدة عقود انتصر على كل «أعدائه»، دون رحمة في صراع لا رحمة فيه، ولكنه وللسبب نفسه قضى على نفسه قضاءً مبرمًا.

إن «الأدب السوفييتي» بهذه الصورة، مثله مثل الاشتراكية الأرثوذوكسية، عندما أقام عنوة، والأفضل أن نقول، فرض «الوحدة الثقافية» المعادية للطبيعة؛ قد أصبح أحادي الثقافة، وتخلَّص من الفكر المغاير بالنفي والجولاج والاضطهاد والرشوة والديماجوجية، ولكنه بهذا الفعل قد حرم نفسه من مصدر التطور، فضلًا عن حرمانه من الحياة ذاتها. لقد خلق «الأدب السوفييتي» نظامًا مغلقًا من الدوجمات، التي يستحيل استبدالها بالحياة. لقد تبيَّن أن «الأدب السوفييتي» مريض بداء عضال لا براء منه، أدب أصابه التدهور على نحو مشين.

وقد تبيَّن أن منهجه الاحتكاري هو الطريق إلى الانتحار.

(٤-٥) اليوتوبيا «السوفييتية» والأدب الكبير

وفي الوقت نفسه فإنه، بالنسبة للعديد من ظواهر الأدب الكبير في العشرينيات وحتى الأربعينيات، لا يمكن إطلاقًا أن نتجاهل صفة «سوفييتي» وإلا سيكون ذلك أيضًا أمرًا ظالمًا وغير علمي. لم يكن من الممكن أن تظهر أعمال مثل «الدون الهادئ» لشولوخوف أو «فاسيلي تيوركين» لتفاردوفسكي، وكذلك «بلد مورافي» و«الابن الثالث»، «جان» و«فرو» لبلاتونوف، «المحطة» و«الغزو» لليونوف، ورواية «الغابة الروسية» وقصص أركادي جايدار، و«في فنادق ستالينجراد» لنكراسوف، إلى جانب عدد كبير آخر من الأعمال الأقل جودة، وإن كانت مقنعة من الناحية الأدبية، بعيدًا عن البناء الاجتماعي والأخلاقي والنفسي لتلك الأيديولوجيا (الأفضل أن نقول الأسطورة)، التي ظهرت في الثقافة الروسية في العقود الأولى من القرن العشرين. إن تميُّز هذا الأدب (وهذه الثقافة) قد حظي بالمناسبة بلقاح «سوفييتي» (ولا أقول شبه رسمي).

ما الذي نعنيه هنا بذلك؟

لقد حدث ذلك في الزمن، الذي ظهرت فيه في الوعي الاجتماعي الأوروبي والروسي الفرضية المغرية لإعادة بناء العالم بواسطة الثورة الشيوعية البروليتارية. وقد أثارت هذه الفرضية لدى كثير من الفنانين الروس، وخاصةً لدى الفنانين الهامشيين، والبوهيميين التجريبيين، اهتمامًا لا يتطرق إليه الشك. هذه حقيقة! لقد جذب مستقبل «الثورة العالمية» في جوانب كثيرة منه الجماهير المهمشة القلقة. وهناك أمر طبيعي أيضًا؛ فهذه الثورة قدَّمت وُعودًا للجميع بالمساواة وبالسعادة المضمونة في عالم يتغير على نحو لا نظير له، كما أنها فتحت بابًا للخروج من الطرق المسدودة، كما لوَّحت بإمكانات جديدة تبدو غير محدودة لإدارة العالم وفقًا لرغبتها (حتى إن الأغنية التي ذاعت آنذاك كانت تقول: «ليس هناك من عوائق تقف في طريقنا: لا في البحر، ولا في البر …»).

ينبغي ألَّا ننسى أيضًا أن روسيا أصبحت في مطلع القرن واحدةً من دول العالم الكبرى. تكوَّنت روسيا الدولة العظمى، وراحت تبحث عن وضع طاقتها في قضايا العالم. لقد كان الاتحاد السوفييتي امتدادًا إمبراطوريًّا لهذا الاتجاه، أما «الأدب السوفييتي» الحقيقي، الذي يدور حوله الآن حديثنا، فقد جاء تعبيرًا عن هذا الاتجاه الإمبراطوري نحو استيعاب الفضاء العالمي، ونحو زرع الشيوعية في العالم باعتبارها «المستقبل المشرق للبشرية جمعاء».

باختصار، فإن فرضية إعادة البناء الشيوعي للعالم قد استولت على الكثير من الفنانين، ودفعتهم إلى تأويل صورة الحياة، جاعلين منها حياةً حقيقية مبتكرة مليئةً بالحيوية والأحداث الدرامية.

وعلى امتداد عقدين من الزمان تقريبًا، في العشرينيات والثلاثينيات، راحت هذه الفرضية تعمل بطريقتها على نحو مركَّب ومثمر، بما في ذلك عملها — في الفن الخالص — على نفي ذاتها. لقد استنفدت هذه الفرضية نفسها بعد أن جرى توصيلها إلى النهاية واختُبرت تاريخيًّا، على أن ذلك ساعد في رؤية شيء مغاير، لم نكن لنراه للأسف.

ما هذه الفرضية؟

هي افتراض أن طبقات تقدمية ما، لها الحق في إعادة البناء الثورية للحياة، وأن الإنسان (الأسمى!) يستطيع بإرادته وبما يضعه من خطط أن يعيد تركيب العالم، وأن يخلق «فردوسًا أرضيًّا»، «مملكة الله على الأرض» وفقًا لهذه «الخطة» وﺑ «العلم»، وأن يضمن السعادة لنفسه في هذا العالم الأرضي. لكن كل ما حدث في مطلع القرن لم يُدِر رأسًا متحمسًا واحدًا، وخاصةً من رءوس الهامشيين، «المطرودين» من الطبقة، الوحيدين، الذين يشكِّلون «الجماهير».

إن الأمر الجوهري، هو أن هذه الفرضية المغرية لم «تأتِ من أعلى» إلى هذه الجماهير بقدر ما كانت، على العكس تمامًا، قد جاءت من أسفل بطلب من الجماهير «المُشرَّدة» ﻟ «الصفوة» الاشتراكية المثقفة على تخوم القرنين. إن الصياغة العلمية لهذه التركيبة من المشاعر والآمال والأوهام والأحلام والأفعال الإرادية، التي وُلدت في العالم الروسي المحطَّم، قد تم طلبها من هؤلاء المثقفين «اليساريين» الهامشيين أنفسهم. وهؤلاء هم الذين صاغوا اليوتوبيا في روسيا وفي العالم بأسره في صورة الأيديولوجيا «السوفييتية» ﻟ «الماركسية اللينينية».

بهذا المفهوم أصبحت الأيديولوجيا «السوفييتية» في القرن العشرين في روسيا واحدةً من أسباب تغيير الثقافة القومية والحياة القومية كلها. العديد من الفنانين، بمن فيهم كبار الفنانين أُولعوا بهذه الفكرة لفترة محدودة. وهذا هو السبب، على أي حال، الذي يجعلني أفترض أن استخدام صفة «سوفييتي» أمر ممكن بالنسبة لهذا الأدب، الذي قاموا هم بتأسيسه، مُحدِثين انفجارًا هائلًا هزَّ مصائر البشرية وأسَّس للنظرة الشعبية ذاتها، هذا الانفجار، الذي أثارته محاولة تجسيد الفكرة اليوتوبية في الحياة.

هذا الأدب «السوفييتي» قطع على مدى ربع قرن (من العشرينيات وحتى زمن ما بعد الحرب) طريقه من الإعجاب بالأفكار الحماسية ونكران الذات، وحتى الإحباط التراجيدي منها.

من بين هؤلاء الفنانين كان هناك م. شولوخوف، وأ. تفاردوفسكي، ول. ليونوف، وأ. بلاتونوف، ون. زابولوتسكي، وم. زوشينكو، وم. إيساكوفسكي؛ وحتى المختلفين في أمور أخرى: ب. باسترناك («العام ١٩٠٥» و«الملازم شميدت»). لا أتحدث هنا عن العديد من الكتَّاب من أصحاب القدرات الإبداعية الأكثر تواضعًا، الذين وضعوا على أي حال أفضل مشاعرهم وآمالهم لتجسيد هذه الفكرة والدفاع عنها: أ. فادييف، وأ. جايدار، ون. أستروفسكي، وف. فيشينسكي، ود. فورمانوف، وأ. سيرافيموفيتش (التيار الحديدي). يمكن أن نذكر هنا عددًا كبيرًا من الأسماء والكتب، التي تدخل في هذا السياق، وكان الفنان يتميز أحيانًا بشيء واحد فقط، بسطر واحد، تاركًا الجميع في معسكر «معاداة الأدب» (لنتذكر هنا م. إيساكوفسكي وقصيدتيه العظيمتين: «كاتيوشا» و«الأعداء أحرقوا بيتنا الريفي الحبيب»؛ وأوليشا صاحب «الحسد»، وف. سيمونوف وقصيدته «انتظريني»، وغيرهم وغيرهم). في عتمة غروب هذه «الأسطورة» أسهم النثر «الريفي» و«العسكري» في انتزاع المجد منها، وفي الصحوة الأخيرة والقصيرة لأوهامها عشية «فترة الستينيات».

باختصار، فقد جاء هذا الأدب السوفييتي إلى العالم في لحظة انفجار اجتماعي وروحي لم يسبق لها مثيل، وذلك عندما حدث قذف للطاقة من جوف الحياة الشعبية والتاريخ القومي. لقد أصبح الفنانون شهودًا ومدوِّنين تاريخيين لأحداث لا نظير لها؛ عشرات الملايين، الذين اندفعوا نحو سراب السعادة النهائية، وبذلوا جهودًا عظيمة من أجل أن يقلبوا الحياة العالمية كلها دفعةً واحدة، لكنها انتهت للأسف نهايةً مأساوية، وفي صراعهم من أجل ذلك، دخل ملايين البشر في صراع مع بشر آخرين، وقد تبيَّن أن هذه المعركة هي معركة دموية، شرسة وعمياء في كثير من الأحيان. وفي سبيل أوهام الجنة الأرضية القريبة — الشيوعية — انهارت المبادئ التي استمرت على مدى آلاف السنين، وديست الطبقية التي تم اختيارها ومعها الأخلاق الشعبية والفردية. وفي المُحَصلة تبيَّن أن الحياة نفسها باتت مهدَّدةً على الأرض، وكذلك وجود النوع الإنساني نفسه، لا سيما شعبنا وإنساننا الروسي.

عانى الناس من هزات اجتماعية لم يسبق لها مثيل، ونتيجةً لهذا الانفجار اهتزت الثقافة العالمية كلها، وعلى نحو أكثر حدة، عانت ثقافتنا القومية من جرائها. ولمَّا كانت هذه الثقافة موجودة في بؤرة الانفجار، فقد دخلت تجربة الصدمة الروحية القوية المدمِّرة تقريبًا.

كل ذلك أصبح، فوق هذا، موضوعًا ومادة لأدب لا نظير له من قبلُ في روسيا، أدب لا يمكن ألَّا نسميه «سوفييتيًّا».

يا لها من ظاهرة أدبية خلقها التاريخ في القرن العشرين!

إنها ظاهرة لم تحدث من قبلُ في أي أدب آخر في العالم، ولا يمكن أن توجد.

في الأدب ما قبل السوفييتي لم تطرح هذه الأهداف (وإن كانت قد طُرحت فلنتذكر «نادوا روسيا إلى الفأس!»)؛ ولهذا فإن هذه الأفكار، رغم تطرفها، ظلت متمسكةً على أي حال بالتجربة الأخلاقية الخالدة، كما أن فئةً صغيرة من المجتمع فحسب، فئةً منفصلة عن الطبقة، هي التي تأثرت بهذه الأفكار.

هذا الموضوع التراجيدي عمومًا تم «إخماده» وإبعاده عن «الأدب السوفييتي الحقيقي»، الذي اقتنع، بشكل رئيسي، بأن الحياة أصبحت أفضل، وأن العيش أصبح أكثر مرحًا، وفي واجهة هذا الأدب بتنا نقرأ كتابات مختلفة تمامًا: «لا أعرف بلدًا آخر يتنفس فيه الإنسان على هذا النحو من الحرية.» أما في الآداب الغربية في القرن العشرين، فإن هذه الصور إذا ما تم طرحها، فإنها تُطرح في سياق مخطط الكوابيس المناقضة لليوتوبيا (أورويل، هكسلي، فوينجوت، برادبيري، ليم، وغيرهم).

أما بالنسبة لنا هنا فكل شيء مخيف، شبيه بسفر الرؤيا وهو أيضًا عزيز علينا، كل ذلك وُلد في فضاءاتنا وخرج من أعماق تاريخنا القومي.

ولذلك فإن الأدب السوفييتي، الذي تحدَّثنا عنه آنفًا، لم يكن من السهل أن يتحوَّل اسمه بالضرورة إلى «الأدب الروسي في العصر السوفييتي». في وقت ما اتضح أن ذلك كان أمرًا ممكنًا، لكنه لم يكن على هذا النحو من البساطة. لقد استمر الخط الكلاسيكي للأدب الروسي، ولكن ليس على نهج الأدب السوفييتي، وإنما على الأرجح، على نهج الأدب الروسي في المنفى، أدب المهجر الروسي الرحب (ومع ذلك فهذا الأدب كانت له أيضًا انحرافاته). هذا الأدب السوفييتي أصبح، دون تحفُّظ، يعاني من «خلل حقيقي» في التفكير. إن هذا الأدب لا يزال يمثِّل ظاهرةً غير مسبوقة في عبقريته، وفي تحوُّله المأساوي المفاجئ.

لقد تعجَّل الأدب «السوفييتي» ذو النزعة الستالينية الجدانوفية لكي يصبح مساعدًا للعدمية الطوباوية والتطرف، ولكنه أصبح ظهيرًا للجلادين. وسرعان ما خرج هذا الأدب من طبيعته الفنية الخالصة، لا بقدر الفكرة الطوباوية العارية، وإنما بقدر الجهد الخدمي البيروقراطي الصريح والعبودية.

أدب «سوفييتي» آخر؛ من بلاتونوف وحتى تفاردوفسكي، انتهى به الطريق الذي استمر سبعين عامًا إلى نتيجة أخرى تمامًا. تلخص هذا الأدب في أن حياة الشعب والإنسان ينبغي ألَّا يتعرضا للتغيير القسري، وأن الطبيعة والمجتمع والثقافة والفرد مستقلون لا يخضعون للتدخل من جانب أي نوع من ادعاءات المحسِّنين، وأن الفنان لا يمكنه ولا ينبغي له أن يصبح شريكًا في العنف تحت أي ظرف.

إذن ما الذي يمكن أن نقوله بصورة محددة وكاملة عن وجود ثلاثة آداب سوفييتية لدينا على مدى نصف قرن على أقل تقدير، للقراء والطلاب والمدرسين والباحثين وأمناء المكتبات والناشرين، وعلى المرء أن يكون مؤهَّلًا للتمييز بينها واختيار ما يناسبه.

وبعدُ، ينبغي أن نذكر هنا بضع كلمات بوصفها حاشيةً تقريبًا على الأدب «السوفييتي» الرابع. بعد غروب الإمبراطورية السوفييتية، كان هذا الأدب موجودًا وكأنه يقف على هامش العملية الأدبية «الرئيسية» المدعومة بشكل رسمي. لم يكن المنشقُّون هم الذين صنعوا هذا الأدب على الإطلاق، كما أنه لم يُكتب على نحو سري، وإنما كتبه أعضاء طبيعيون في اتحاد الكتَّاب السوفييت. ميزة واحدة أساسية تميَّز بها هذا الأدب عن باقي الآداب «السوفييتية» وهي أنه كان أدبًا غير مُسيَّس منذ البداية. لقد ظهر هذا الأدب لا «بطلب اجتماعي» وليس انطلاقًا من الإحساس «بالواجب الوطني»، وإنما من الإحساس العضوي بالحياة الموجود لدى الكاتب، الإحساس بالأرض الحبيبة. لم يولِ هذا الأدب أي اهتمام تقريبًا ﺑ «الإنسان السوفييتي» في سياق وظيفته الاجتماعية، وإنما تناول الإنسان الروسي البسيط بعيدًا عن النموذج «السوفييتي» لأسلوب الحياة، وفي الممارسة الطبيعية العادية «الخاصة»، في العمل الرجولي، في الصيد والقنص، في السمر حول النار، في عرض الحياة على الأرض وفي الغابة وعند المياه … أبطال هذه الأعمال مرسومون بعيدًا عن الأحداث «التاريخية» الموجَّهة أو بالمبادرات؛ ولذلك فهو موجود في الدائرة الطبيعية للحياة، في الحركة الطبيعية. الأفضل أن نقول: في تيار الحياة. إن الأمر الرئيسي في تلك الموضوعات هو التأمل، اللقاءات والأحاديث، في تدبُّر الأمور اليومية والخالدة، وليس في «الصراع من أجل» أو «الصراع ضد»، الأمر الذي كان مقبولًا في النماذج الأرثوذوكسية للأدب «السوفييتي».

كان كتَّاب هذه الكتب «الهادئة» الجادة هم: يوري كازاكوف، وجيورجي سيمينوف، ويوري كورانوف، وأحيانًا ف. كونيتسكي، وف. سولئوخين، وف. كورتشيكن، وأ. ليفيروفسكي، وأ. ليونوف، وف. ليالينكوف، وج. جوريشين، وف. سيرجونينكوف، وأ. سوكوف … ظل هؤلاء الكتَّاب طوال سنوات «الصراع الأدبي» الصاخب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات كما لو كانوا خارج قائمة «النشاط المدني» الموصى به، بل خارج العملية الأدبية «السوفييتية» الرسمية بكل ما تملكه من صفات استعراضية. هؤلاء لم يؤدُّوا «دورًا اجتماعيًّا»، وإنما راحوا ببساطة يكتبون كتبًا تمتِّعهم. ومن هنا ظهر هذا الأدب الهادئ؛ فهؤلاء الكتَّاب السوفييت لم يتعرضوا لأحد، كما أن أحدًا لم يلحظهم تقريبًا.

إنهم حتى لم يبذلوا جهدًا لكي ينأَوا بأنفسهم عن المشهد، لقد كانوا دائمًا على سجيتهم؛ كانوا يكتبون ما يستطيعون كتابته وما يرغبون في كتابته. هل يستحقون أن نسميهم بكُتاب الحياة الخاصة؟

لقد راح هؤلاء الكتَّاب يذكِّروننا بأنه إلى جانب «الحياة الاجتماعية» المصطنعة، التي تدعو إلى النفاق، الذي يُسكر الروح، هناك أيضًا حياة أخرى أساسية وخالدة موجودة في الطبيعة؛ معها أو ضدها، ولكنها غير منفصلة عنها. وهناك واجب أساسي وصعب عند أبطالهم، وهو أن يكونوا، ببساطة، بشرًا.

لقد ظلت أسماء وكتب هؤلاء الكتَّاب ملحوظةً دائمًا على نحو محدود وسط ضجيج الصراع الاجتماعي والأدبي، ولكن عندما سكن هذا الضجيج (أخذ معه العديد من الكتب ومن صُناعها، الذين أثاروا هذا الضجيج)، اتضح فجأةً أن «الأدب الهادئ» هو الذي ظل موجودًا، وأن قراءته كانت أكثر تشويقًا (إذ إن طزاجته تعود لأنه لم يتناول «قضايا الساعة» ولم يلجأ إلى الإثارة، وإنما لأنه كانت لديه القدرة على رؤية وسماع ما هو غير عابر).

(٤-٦) انهيار «الأدب السوفييتي» ونتائجه

ظهر الأدب ما بعد السوفييتي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بفترة طويلة. كانت فترة ما عُرف بأدب «ذوبان الجليد» في «الستينيات» هي الصعود الأخير للآمال والأوهام الطوباوية. كما كان انهيار هذا الأدب، الذي بدأ في النصف الثاني من الستينيات هو بداية انهيار العملية الأدبية «السوفييتية»، التي بدا أنها ظاهريًّا موحَّدة ومتوافقة. وبدءًا من هذه الفترة أصبح واضحًا لكل الكتَّاب الجادين والمفكرين أن يوتوبيا «المستقبل الشيوعي المشرق» يعاني من سقوط غير قابل للإصلاح. فإذا ما بحثنا عن عمل أصبح رمزًا يمثِّل التخلي عن هذه اليوتوبيا المستحيلة التحقق، والتي دفع ثمنها بكل إنكار للذات ضحايا يصعب حصرهم، فإنني أسمِّي هنا قصيدة أ. تفاردوفسكي «بحق الذاكرة»، قصيدة الإثم والندم.

لم تعد هناك ذرة واحدة على الإطلاق من الإيمان والإخلاص القديم في هذا الأدب، الذي ازدهر في تلك السنوات، الأدب الذي عُرف باسم «أدب السكرتارية» والروايات والقصص، التي كتبها الأدباء من البيروقراطيين الكبار أصحاب المناصب الكبرى في جهاز اتحاد الكتَّاب السوفييت، والذين في سياق إصدارهم لأعمالهم السميكة ومؤلفاتهم المكوَّنة من مجلدات عديدة وبأعداد كبيرة، كانوا يعرفون منذ زمن بعيد وأفضل من الجميع، أن الأدب «السوفييتي»، الذي كان موجودًا أمام الجميع، قد مضى زمنه، وأن النظام الذي صنع هذا الأدب، يعاني بشدة سكرةَ الموت.

وقد امتدت سكرة الموت هذه عشرين عامًا، وسُميت بفترة «الركود».

كان من الغريب أن يسمَّى هذا الخليط الأدبي المتفجر بسبب قوى الدفع الداخلي، الذي ظهر في سنوات «ذوبان الجليد» وخاصةً سنوات «ما بعد ذوبان الجليد»، أدبًا «سوفييتيًّا» كما كان يحدث في الماضي. إن النموذج السابق، الذي تم صنعه بعناية فائقة «من أعلى»، والذي جرى دعمه بحكم العادة «من أسفل» كان يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة. إن هذا الأدب، بتعبير ألكسندر بلوك، «فقد الوجود». في تلك الفترة الانتقالية الصعبة كان أعضاء اتحاد الكتَّاب السوفييت أيضًا كتَّابًا غير متوافقين؛ مثل سولجينتسين وسينيافسكي وفلاديموف ونكراسوف من جانب، وبين كوتشينوف وماركوف وتشاركوفسكي وبروسكورين من جانب آخر. وفي داخل اتحاد الكتَّاب السوفييت نفسه كان هناك تفاردوفسكي وأبراموف وبيلوف وشوكشين، وكذلك بتروشيفسكايا وفامبيلوف وجاليتش، وهؤلاء كانوا على وفاق، وهو أمر غريب ومعقَّد، مع هؤلاء وأولئك. ومن بين الكتَّاب الذين لم يحملوا بطاقة عضوية اتحاد الكتَّاب السوفييت: يفروييف، وفيسوتسكي، وبرودسكي، ودوفلاتوف … ولا يمكن على الإطلاق تصوُّر أن يكون س. سوكولوف، وت. كيببروف، وإ. إيرتينيف، وإ. ليمونوف، وف. سوروكين، وف. ناربيكوف، وكثير غيرهم داخل النظام السوفييتي الشرعي على أي صورة من الصور. هؤلاء، الذين وصفوا أنفسهم بأنهم كتَّاب «الأندرجرواند» و«ما بعد الحداثة» و«المفاهيمية» وغيرها — ليس الأمر هنا أمر علامة مميزة — بدا وجودهم ممكنًا وإنما على أطلال الأدب السابق فحسب. لقد أصبحوا وكأنهم يتنفسون هواءً مختلفًا تمامًا، هواءً سامًّا مميتًا من جرَّاء حياة أصابها التحلُّل والعفن. واقع آخر مريض، مختصر، دخل في تركيبة «إبداعهم» وتسلَّل إلى نسيح مؤلفاتهم، واقع بعيد كل البعد وعلى نحو لا يمكن تصوره، ليس فقط عن ذلك الواقع، الذي أُعلن عنه في الأعمال المملوءة بالحياة والبهجة التي كتبها منشدو البلد «الأكثر تقدمية»، وإنما بعيد أيضًا عن الواقع الحقيقي، وقد تعرَّفوا عليه أيضًا، والذي انطلق منه الكتَّاب الروس الكلاسيكيون من بوشكين إلى تشيخوف. بل إنه كان بعيدًا أيضًا حتى عن الواقع المتناقض، رغم حيويته، الذي ظهر في مؤلفات الكتَّاب الروس في العصر السوفييتي، سواء زابولوتسكي أو باسترناك، يسينين أو روبتسوف، ماكانين أو أبراموف. وعلى الرغم من أن صور الحياة في أعمالهم، كما نعرف، مملوءة بالهواجس وتثير الإحساس بحفظ الذات، فقد كان هذا الواقع مؤهَّلًا على أي حال لاستعادة الذات والامتلاء الواعي للحياة والقوة. وحتى في مؤلفات كتَّاب «ما بعد الحداثة» كان الواقع لديهم يمثِّل «سفالة الإهمال»، الوطن المهجور، المسكون فقط بالأشباح المريضة …

ينبغي البحث عن تفسير ذلك، كما هو واضح، في أن أدب «الأندرجراوند»، باعتباره متنوعًا في الأدب المعاصر في زمنه، كان مصابًا «بشكل مميت» بنفس الأنماط والابتذال المميزَين للأدب «السوفييتي» البيروقراطي، وأنه «اشتبك» في جدل معه. إن «ما بعد الحداثة» تؤدي في الوقت الحالي دورًا خاصًّا؛ دورًا صحيًّا. إنها تنظف أوساخ إسطبل «البروباجندا» والكذب واللغة المنمقة. وقد واجهت تحلل جثة الأدب المزيف الراحل لتجعل منه أدبًا غير موجود، وفي الوقت نفسه راحت تقوم بعملها «البيئي» المفيد. لسنا في حاجة هنا للحديث عن قراء أدب «ما بعد الحداثة»؛ فهذا الأدب لا يقرؤه سوى دائرة من المحترفين، ولا تتجاوز طبعاته بضع مئات، أو بضع آلاف من النسخ في أفضل الأحوال، وسرعان ما يفارق الحياة في الجيل الأول، لا يبقى منه سوى ما يتناوله مؤرخو الأدب بالدراسة.

(٤-٧) هل هناك مستقبل للأدب الروسي على تخوم القرن الحادي والعشرين؟

أتصور أن الطريق الذي قطعه الأدب الروسي في القرن العشرين، وخبرة صعوده وانهياره سوف تسمح لنا بالاقتراب من الإجابة على هذا السؤال التي ستكون على نحو ما، ربما، مفاجئةً ومثيرة للجدل.

ذات يوم قال يفجيني زامياتين في معرض تحذيره من محاولات استخدام الأدب في أغراض المواءمة السياسية، مدافعًا عن ضرورة الحرية الروحية للكاتب وإلا «لن يبقى للأدب الروسي سوى شيء واحد؛ ماضيه». واليوم يمكننا أن نكرِّر هذا التوقع، ولكن مع بعض التصويبات. المسألة أن الأدب الروسي كان لديه في الماضي الكثير من المخاطر والأوهام التي غرَّرت به، لعل أهمها المبالغة في «الدور المدني» للكاتب، وفي تأثير الأدب على سياق ما كان يسمَّى ﺑ «حركة التحرير». أليس ذلك هو الوهم الذي جرَّ الأدب الروسي إلى طرقات الأدب «السوفييتي» الأرثوذوكسي المسدودة؟ فعلى امتداد المائة عام الأخيرة (وخاصةً منذ منتصف القرن الماضي!) راح الأدب «السوفييتي» يخضع للأدلجة والتسييس. لقد تحوَّل الأدب «السوفييتي»، المساعد المخلص وخادم النظام عمومًا على يد هذا النظام، إلى أداة للتأثير الأيديولوجي على مستوى هذه الدولة الهائلة بأكملها. وهذا الأمر، كما بات واضحًا للجميع الآن، قد أنزل خسارةً لا تعوَّض بهيبة الأدب، وقوَّض الثقة في الرسالة الروحية للكلمة الروسية على وجه العموم.

إذا ما نظرنا في أعماق تيارات الحياة الأدبية، سوف نلاحظ بلا شك أن حركتها في الوقت الحاضر أصبحت تتحدَّد على نحو أقل بهذين العاملين (ونعني بهما الأيديولوجي والسياسي).

في الربع الأخير من القرن بدأ في التشكل نظام جديد للأولويات والمعايير والقيم الأدبية. ظهر أدب القوى الروحية الجديدة المطلوبة، والذي لم يكن عُوده قد اشتدَّ بعد، خارج الأيديولوجيا والسياسة. أما الأدب السابق، حتى ذلك الذي امتلك قيمةً رفيعة، ولكنه دخل في علاقات عميقة بالسياق الاجتماعي والسياسي («نثر معسكرات الاعتقال»، «النثر الريفي»، «نثر الحرب»، وهلم جرًّا) لم يعد بإمكانه، كما كان في السابق، أن يتطلَّع إلى اهتمام استثنائي، وأن يقود العملية الأدبية مع حلول عصر جديد.

لم يكن الأمر هنا مرجعه إلى «تعب» القارئ، ولا في الانضباط الاجتماعي (الغائب!) على وجه الخصوص، في حياتنا، وإنما إلى تراجع صدق هذا الأدب، الذي كان الأدب التقليدي المؤدلج مؤهلًا له؛ فهذا الأدب الجديد لم يقل كل الحقيقة عن الحياة، ولم يرَ الأهم فيها.

وبعيدًا عن الأدب الاجتماعي الأيديولوجي في العقود الأخيرة، ظهر على نحو غير ملحوظ (ليواصل تطوره) أدب آخر نضج في ظلال «زعماء» الأمس. وينتمي هذا الأدب على نحو مميز مثير للشك إلى النماذج الاجتماعية والأيديولوجية التقليدية إلى حد المحاكاة الازدرائية اللاذعة، وإلى «العدمية» السياسية الاستعراضية.

وفي الوقت نفسه فقد وقف هذا الأدب مبهورًا كما لو كان قد اكتشف من جديد عمق وتوتر المشكلات الوجودية، وعن قيم العالم الذي تحتَّم عليه أن يعيش فيه في الأسئلة، التي طُرحت على نحو مخيف، أو التي تم حلها في الأدب السابق، ليست في صالح الحياة الروحية للإنسان و«استقلاله».

يرتبط هذا التيار الأدبي، على سبيل المثال، بمسرحيات أ. فامبيلوف؛ ونثر ف. ماكانين، وس. كاليدين، وف. بيليفين، وأ. بيتوف، وأ. كيم، وم. كواريف، وبكتاب «موسكو» الديكة، ف. بروفيوف؛ وبنثر ومسرحيات ل. بتروشيفسكايا، وت. تولستوي، وس. فاسيلينكو، وغيرهم. وهذا الأدب يحدِّد لنا أكثر العملية الأدبية الحية في زماننا.

إن ظهور هذا الأدب «الوجودي» مجازًا لم يشطب، بطبيعة الحال، التقليد الكبير، الذي ظل موجودًا دائمًا، على الرغم من أن أبطاله حذفوا بخُيلاء على يد الأدب «السوفييتي» الرسمي، الذي كانت له الغلبة في وقت ما.

إن المآثر التي اجترحها الأدب الكبير حتى في الزمن السوفييتي أمر لا مراء فيه، وحتى في سنوات الخمسينيات، السنوات الأسوأ ما بعد الحرب (وبعدها سنوات «الركود») كتب باسترناك وليونوف وجروسمان ول. تشركوفسكايا رواياتهم دون أمل خاص في خروجها إلى النور. ووضع أ. بلاتونوف مخطوطات أعماله، وكتبت أنَّا أخماتوفا «قصيدة بلا بطل». عندئذٍ وعلى خلاف النماذج الموصى بها تمامًا، بدأ النثر «الحربي» و«الريفي»، ودخل إلى عالم الأدب كل من: أ. سولجينيتسين، وإ. برودسكي، وف. أبراموف، وف. بيلوف، وج. فلاديموف، وي. دومبروفسكي، وف. شوكشين، وف. شالاموف …

إن كل ما يرتبط بهذه الأسماء في الأدب الروسي يدخل دون أدنى شك في نواة تقاليد الأدب القومي الكبير ذاتها.

على أنه ينبغي القول أيضًا بأن الأدب الحي لا يكتفي بالتقاليد وحدها، حتى بأرفعها قيمة؛ فمن الواضح أن استلهام أدب جديد آخر سوف تقوم به فئات جديدة غير مألوفة حول هذه النواة الأساسية للأدب الروسي. الأرجح هنا، أنه يجب البحث، كاتجاه! عن مستقبل لحياة جديدة للأدب الروسي — في زمننا — وفي هذا السياق سوف يُقرأ هذا الأدب الكبير السابق، الذي قام بأداء مهمته، بطريقة جديدة.

يبدو أن هذه المهمة سوف ترحل الآن إلى الماضي.

تتلخص وظيفة الأدب الروسي الثنائية المعتادة، التي أُنجزت على مدى الثلاثمائة عام الأخيرة في، إما اخضاع طاقة الشعب لأشكال السلطة، أو في دعوة الشعب لإسقاط هذه السلطة أو غيرها. هذا الأدب المُسيس لم تعد روسيا، كما يبدو، بحاجة إليه. لقد ظهر في ظروف غير متوازنة، ولم يستطع إصلاح وتقويم هذه الظروف، وإنما على العكس من ذلك، ضاعف من عدم انسجامه فحسب. ليس من المستغرب أن التاريخ الروسي في نهاية القرن العشرين كان مستعدًّا بشكل صريح وواضح أن يحيل هذا الأدب إلى «التقاعد».

إن الأدب الجديد المعاصر يتعمق، في آنٍ واحد، فيما هو «معيشي» وفي «تيار» الحياة اليومية، وفي تحليل كل ما هو «جزئي» متواصل، وفيما يبدو أنه عابر، كما أنه ينغمس في عمق الروح، وفي الفضاءات المبهمة لوعي الإنسان الحديث، الذي وجد نفسه أمام المعاني الرئيسية لوجوده، والتي لم يتم حلها بعد. واليوم يختلط النشاط الروحي الجديد، الذي لا يزال مجهولًا بالنسبة للإنسان مع ما هو «معيشي» و«عادي». إن المجال الذي دخله هذا النشاط الروحي يتمثل في عرض طرق تجسيد هذا النشاط في المصائر الجديدة، التي لا تتشابه مع كل ما عاناه الإنسان الروسي على امتداد المائة عام الأخيرة.

هكذا ظهر فوق أطلال الأدب «السوفييتي» أدب جديد (وإن كان قد تعلم منه واكتسب قُوته من خلاله) مشكِّلًا واقعًا أدبيًّا جديدًا. في هذا الوضع الأدبي الجديد، بكل تعقيداته وتعدُّده، ظهر العديد من القوى والميول والشخصيات، التي لا تخضع لأي نموذج ضيق الأفق، كما ظهرت وبشكل واضح ملامح قرن أدبي جديد، أكثر صرامةً وابتعادًا عن الأوهام. أدب، إذا ما قارناه بالعصر «الفضي»، نجده أكثر صرامة، له رؤية مباشرة للإنسان وللعالم.

نعاني اليوم كثيرًا من وضع الحدود. يتلخَّص هذا الوضع في أن الأدب سوف يصبح الآن في مواجهة مع قضيته الداخلية الرئيسية، ومع قارئه. هذا القارئ مرَّ عبر المدرسة التراجيدية للقرن العشرين، هو قارئ غير ميَّال للحكايات، لم يعد يؤمن بالأوهام الطوباوية، أدرك أن عليه ألَّا يعوِّل على أحد. لقد وجد نفسه وجهًا لوجه أمام العالم وأمام نفسه، وأمامه كتاب الأدب الروسي العظيم مفتوحًا على مصراعيه.

إننا أمام خيار تاريخي.

إما في مصيرنا المحزن — وفي مصائر أدبنا — أن ينتصر ما أسماه بوشكين «الإنسان المستقل»، وعندها سوف تكتب لنا الحياة، ويتم الدفاع عن «الكلمة الروسية العظيمة».

وإما أن نفنى عن بكرة أبينا.

وعندئذٍ لن نجد ما نأسف عليه. لقد جاءتنا الفرصة، فإذا لم نستغلَّها، «فإن كلمة «روسي» بعد مائة عام سوف تُمحى من القاموس» (ألكسندر سولجينيتسين، «القضية الروسية في نهاية القرن العشرين»).

١  «البرج» شقة فيتشيسلاف إيفانوف وتقع في أحد المباني المرتفعة في مدينة بطرسبورج، وهي مقر اجتماع الرمزيين أيام الأربعاء، وتُعد الحلقة أحد المراكز الفكرية الرمزية الروسية و«معملًا إبداعيًّا» للشعراء. (المترجم)
٢  الانحطاطية decandence: اسم عام يطلق على عدد من ظواهر أزمات التدهور في الفن في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تميَّزت بالنزوع نحو التشاؤم الفردي والضجر من الحياة واللامبالاة بالعدم. (المترجم)
٣  حياة أرسينيف: حازت على جائزة نوبل عام ١٩٣٣م (لم تترجم بعدُ إلى العربية). (المترجم)
٤  كاتيلينا: قاضٍ روماني.
٥  «الوحش الأشقر» Die blonde Bestie: أتباع المتحمسين (الألمان) لنظرية التفوق العرقي أو الوطني حسب التفسير المبتذل لأفكار نيتشه (على نحو ساخر). ورد التعبير في كتاب نيتشه «مدخل إلى قضية الأخلاق» (١٨٨٧م) وغيره من الأعمال. (المترجم)
٦  العصر الذهبي: في تصور العديد من شعوب العالم القديم هو فجر الوجود الإنساني، عندما كان الناس يعيشون شبابًا خالدًا لا يُرهقهم الهم أو الأحزان، عندما كانوا مثل الآلهة وإن كانوا يذوقون الموت، ولكن مثل حلم لذيذ يأتيهم. وفي المعنى المجازي، فالعصر الذهبي هو زمان ازدهار الفن والعلم أو الزمن السعيد. (المترجم)
٧  جافريل رومانوفيتش ديرجافين (١٧٤٣–١٨١٦م): من أوائل الشعراء الروس الكلاسيكيين. (المترجم)
٨  فيودور إيفانوفيتش تيوتشيف (١٨٠٣–١٨٧٣م): شاعر روسي يميل في شعره إلى الفلسفة ووصف الأحاسيس التراجيدية والتناقضات الاجتماعية ووصف المناظر الطبيعية. (المترجم)
٩  ألفاظ صوتية لا معنى لها. (المترجم)
١٠  ألاتير: مدينة روسية تقع في شوفاشيا. (المترجم)
١١  بوسولون Posolon: مصطلح كنسي، ويعني تدفق الشمس من الشرق إلى الغرب. (المترجم)
١٢  «الإسقيثيون»: جمعية أدبية ظهرت في روسيا عام ١٩١٧م، وتُعد ذروة الشعبوية الروسية ورائدة الحركة الأوراسية، ومُنظِّرها هو الشاعر إيفانوف رازومنيك. (المترجم)
١٣  الصلاة الأربعينية: صلاة تختص بها الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، وتمتد لأربعين يومًا. (المترجم)
١٤  الهون: قبائل رُحَّل، ظهروا في شرق نهر الفولجا وهاجروا إلى أوروبا حوالي ٣٧٠ ميلادية، وقاموا ببناء إمبراطورية ضخمة فيها. ساهموا في انهيار الإمبراطورية الرومانية. وقد قام أثيلا الهوني بتوحيدهم مكوِّنًا إمبراطورية كبرى حتى وفاته في عام ٤٥٣م، وبوفاته انهارت الإمبراطورية. (المترجم)
١٥  إذا كانت هناك آلاف الكتب ومئات الآلاف من المقالات قد كُتبت عن الأدب السوفييتي، فإن النشر الصريح عن أدب المهجر ظل حتى وقت قريب صامتًا تقريبًا، أما القراءة الجادة للأدب والمرتبطة بهذا الموضوع، فقد كانت أمرًا ممكنًا بشرط الحصول على تصريح خاص للاطلاع عليه في الأراشيف المتخصِّصة.
١٦  طلاب الكليات العسكرية في روسيا القيصرية. (المترجم)
١٧  «سمينا-فيخا» (التحول إلى الاتجاه المعاكس): تيار سياسي اجتماعي داخل الإنتليجنسيا الروسية البرجوازية، نشأ بشكل أساسي في المهجر في العشرينيات من القرن العشرين. كان يمثِّل تحوُّل بعض شرائح الإنتليجنسيا من محاربة السلطة السوفييتية إلى الاعتراف بها. كان منظِّرو هذا التيار يعوِّلون على تحوُّل السلطة السوفييتية في ظل تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP). أصدر التيار مجلة «سمينا-فيخا» (باريس ١٩٢١-١٩٢٢م) لتعبِّر عن آرائه. (المترجم)
١٨  ساتيريكون: مجلة أسبوعية ساخرة ذات توجُّه ليبرالي برجوازي، ظهرت في بطرسبورج في الفترة من ١٩٠٨–١٩١٤م. تولَّى تحريرها منذ عام ١٩١٣م (العدد التاسع) أ. أ. أيرتشيكو، ١٩١٣م (وحتى ١٩١٨م) انفصل جزء من موظفيها ليُصدروا «نوفي ساتيريكون» (ساتيريكون الجديد) حيث نشر ماياكوفسكي أشعاره فيها. (المترجم)
١٩  تجنبت الببليوجرافيا الأدبية السوفييتية ذِكر أدب المهجر. على أنه قد صدرت في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أخرى بعض المجموعات الببليوجرافية التأسيسية تعرض تصورًا كاملًا للأعمال العديدة لكتَّاب المهجر الروسي. لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع انظر: المصادر.
٢٠  يعود مصطلح «رفيق الرحلة» إلى ليف تروتسكي (انظر كتاب الأدب والثورة، ١٩٢٣م). يرى البعض أن هؤلاء الكتاب مرتبطون بشدة بالعالم «القديم»؛ ولهذا فإنهم قد الْتقَوا بالثورة «في طريقهم» قبل الأوان فحسب. وقد دار الحديث في الموضوع نفسه عن الشباب الموهوب، الذي كان قريبًا من قيم الماضي، والذي امتلك فكرًا فنيًّا وثقافيًّا رفيعًا وكلمةً مجازية. من بين «رفاق الرحلة» كان هناك: ب. باسترناك، وأ. ماندلشتام، ل. ليونوف، ون. تيخونوف، وي. أوليشا، وإ. باجريتسكي، ف. ماياكوفسكي، وس. يسينين، أ. بلاتونوف، ون. زابولوتسكي، وغيرهم. ومن المفهوم أن بطاقة «رفيق رحلة» كانت تعني ثقةً سياسية وأيديولوجية محدودة تمامًا تجاه هؤلاء الكتاب.
٢١  معسكرات العمل الإصلاحي الحكومي. (المترجم)
٢٢  الكولاك: الفلاحون الأغنياء. (المترجم)
٢٣  الكتابة بطريقة دميان بيدني. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤