الفصل التاسع عشر

الأيام الأخيرة

ترك ديكارت هولندا قاصدًا السويد عام ١٦٤٩. وكان السفير الهولندي في ستوكهولم بيير شانو يراسل ديكارت بالنيابة عن الملكة كريستينا التي أرسلت — شأنها شأن الأميرة إليزابيث — أسئلة للفيلسوف عن الانفعالات، إضافة إلى موضوعات أخرى في الفلسفة الأخلاقية. ولكي يلمح لها تلميحًا عن النظرية خلف آرائه التي أعرب عنها في خطاباته، قدم ديكارت لكريستينا نسخة من مؤلَّفه «انفعالات النفس»، وأُعجبت الملكة بالكتاب أيما إعجاب، لدرجة أنها طلبت من ديكارت أن يزور بلاطها. تردد ديكارت لكنه قَبِل دعوتها في النهاية.

كان ديكارت لديه ما يجعله ينفر من هولندا؛ فصراعه الطويل مع فوتيوس في أوتريخت تبعه جدال آخر في ليدن، أطرافه مرة أخرى أنصار ديكارت من الفلاسفة وعلماء اللاهوت المناوئين له. كان ديكارت متهمًا بالهرطقة البيلاجية (إنكار الخطيئة الأولى والتأكيد على احتمالية الخلاص دون الغفران الإلهي) في أطروحات خطها أستاذ يعرف باسم ترايجلانديوس. وانضم ريفيوس، عميد الكلية اللاهوتية الملحقة بجامعة ليدن، أيضًا إلى زمرة الذين اتهموا ديكارت بالكفر. (سبق أن أعرض ديكارت عن ريفيوس بعد محاولة الأخير إقناع ديكارت بأن يدين بالبروتستانتية، ويبدو أنه كان يحمل له ضغينة.) في مايو ١٦٤٧، كتب ديكارت رسالة إلى الجامعة ومسئولين في المدينة للاعتراض على هجمات علماء اللاهوت الشرسة، وتحدى خصومه بتفنيد اتهاماتهم بفقرات من كتاباته. في النهاية، صدر قرار يحظر الإشارة إلى أفكار ديكارت في أية أطروحات أو دروس تُدَرَّس في ليدن. وفي هذه الفترة، بدأ ديكارت يفكر في الرحيل عن هولندا بلا رجعة.

وقرابة الوقت الذي نُشِرَت فيه النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، حاول أصدقاء ديكارت في فرنسا أن يُؤَمِّنوا له حظوة لدى ملك فرنسا. مُنح ديكارت معاشًا، عانى في استلامه لاحقًا، وسافر إلى باريس عام ١٦٤٨ ليرى إن كان بإمكانه الحصول على وظيفة لدى الملك. وكانت الرحلة محبطة؛ حيث اشتكى ديكارت من أنه لم يلفت انتباه الناس إلا باعتباره كائنًا غريبًا، كفيل أو نمر (٥ : ٣٢٩). شعر بالوحشة في باريس التي كانت تموج بالاضطرابات السياسية آنذاك، هذا بالإضافة إلى أن ميرسين كان يحتضر. سافر ديكارت إلى هولندا في نهاية شهر أغسطس، وتوفي ميرسين في غرة سبتمبر، وأصبح مراسله الأساسي كلود كليرسيلييه.

ولذا عاد ديكارت إلى هولندا بخُفَّيْ حُنين ليواجه جدلًا جديدًا؛ فقد انقلب عليه ريجيوس الذي كان له حليفًا في صراعه مع فوتيوس. وفي عام ١٦٤٦، نشر ريجيوس، بالمخالفة لمشورة ديكارت، أطروحة في الفيزياء تحتوي في المقام الأول على أفكار مستعارة من ديكارت، علاوة على آراء ميتافيزيقية مشوهة لرؤى ديكارت. تبرأ ديكارت من أطروحة ريجيوس في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة» عام ١٦٤٧، ورد عليه ريجيوس في أطروحة له، فأجابه ديكارت برد سريع يفند كل نقطة على حدة فيما عرف باسم «ملاحظات على برنامج محدد» عام ١٦٤٨.

كان من المتوقع أن تجعل الإحباطات والنزاعات العديدة التي جرت في أواخر أربعينيات القرن السابع عشر من ديكارت شخصًا منعزلًا يعيش على مقربة من ألكمار في مدينة إجموند، لكنه ظل يستقبل زوارًا، وكان من بينهم شاب يدعى فرانس بورمان. سجل بورمان حوارًا فلسفيًّا طويلًا دار بينه وبين ديكارت على العشاء في أبريل ١٦٤٨. وكان بورمان قد أعد له مجموعة كبيرة من الأسئلة بدا أن ديكارت أجاب عنها بصراحة مدهشة وحضور ذهني يحسد عليه.

fig7
شكل ١٩-١: الملكة كريستينا ملكة السويد تصغي السمع إلى ديكارت وهو يلقي عليها درسًا في الفلسفة في الصباح الباكر؛ الأمر الذي أدى إلى وفاته في سن صغيرة عام ١٦٥٠.1

عام ١٦٤٩، تلقى ديكارت دعوتين للانضمام إلى بلاط الملكة كريستينا في ستوكهولم. واستغلت كريستينا فشل ديكارت في العثور على وظيفة عندما عاد إلى فرنسا عام ١٦٤٨، وانتهزت الفرصة لتضيف إضافة جديدة رائعة إلى حاشيتها، لكن ديكارت الفيلسوف لم يقبل هاتين الدعوتين مباشرة؛ فقد كان يخشى أن تكون موافقته على السفر إلى السويد ليست محل قبول: فمن ناحية، كان ديكارت كاثوليكيًّا ولم يكن باستطاعته الانضمام إلى بلاط بروتستانتي بسهولة، ومن ناحية أخرى، فهو لم يُرِد أن يُنظر إليه على اعتبار أنه يشتت الملكة عن القيام بشئون الدولة، ولكن في أواخر صيف عام ١٦٤٩ تغلب ديكارت على تردده وسافر إلى ستوكهولم.

لكنه ندم على قراره منذ أن وصل تقريبًا؛ فقد كانت الملكة تستعين بخدماته كفيلسوف فيما ندر، وفي أوقات غير مناسبة، فلم يكن يطيب لكريستينا أن تتلقى العلم إلا في الخامسة صباحًا. وكان شانو صديق ديكارت، الذي عوَّل ديكارت على صحبته، خارج ستوكهولم حتى ديسمبر ١٦٤٩. اضطر ديكارت إلى كتابة أشعار لعرض باليه، ثم شرع في تأليف عمل كوميدي عن أميرين ظنَّا أنهما راعيا غنم. ولم يلائم شتاء السويد صحة ديكارت، فأصابه المرض وتُوفي في الحادي عشر من فبراير عام ١٦٥٠.

هوامش

(1) Courtesy of Giraudon/Bridgeman Art Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤