تمهيد

منذ قرابة ٥٥ عامًا، نشر فير جوردون تشايلد — وهو من أوائل المؤرخين المختصين في حقبة ما قبل التاريخ، كما أنه من أهم الأشخاص الذين سلكوا منحًى غير تقليدي في علم الآثار — كتابًا بعنوان «مقدمة قصيرة في علم الآثار». ولا نقول إن الكتاب الذي بين أيديكم ندٌّ لذلك العمل السابق إلا في إيجازه.

في الحقيقة، لا يهدف هذا الكتاب الموجز إلا إلى فتح الشهية عبر تناول بعض الأساسيات عن علم الآثار، بغرض تحفيز القارئ إلى التعمُّق أكثر في مؤلفاته الغزيرة، أو إلى إجراء بعض الأبحاث أو الأعمال الميدانية، أو إلى اتخاذ قرار بحضور دورة دراسية في هذا التخصص إن كان القارئ لا يزال طالبًا. قد لا تجد الوظيفة في انتظارك بعد الانتهاء من هذه الدورة الدراسية، ولا حتى بعد نيل درجة الدكتوراه، ولكن في هذه الآونة، لم تعد حتى المجالات «الآمنة»، مثل المجال المصرفي، تضمن الحصول على وظيفة مدى الحياة، أرجو أن يكون هدفك الأول هو الاستمتاع، وكما قال الراحل جلين دانييل، فإن القيمة الجوهرية في علم الآثار هي المتعة التي يشعر بها المهتمون به. لا شك في أنك قد تحتاج إلى نقل أجزاء كثيرة من تُربة الأرض وغربلتها، وإلى تذكُّر بعض التواريخ الصعبة الحفظ، والتكلف في نُطق بعض المصطلحات الغريبة، ومحاولة فهم النظريات المعقدة وكأنك تتحدى مُصارعي السومو؛ ولكن في الوقت نفسه ستنتقل إلى عالم من الفنون والقطع الأثرية، والمعابد والأدوات، والمقابر والكنوز، والمدن المفقودة، والمخطوطات الغامضة، والمومياوات، وبقايا الماموث … وعلى الرغم من أن بعض القدامى في المجال يزدرون هذه العناصر أو ينكرونها بحجة أنها مبتذلة أو لا تمثل علم الآثار الحديث، فإنه سيكون مستغربًا من المحدَثين ألا ينجذبوا إلى هذه العناصر المذهلة والرائعة.

إذا سألت أيًّا من المنتمين إلى أوساط المثقفين في أي بلد في العصر الحالي أن يسمي عالم آثار على قيد الحياة، فلا أحسب أن أحدًا يضرب لك مثالًا واحدًا، اللهم إلا شخصية إنديانا جونز الخيالية. وهذا يدل على تأثير هوليوود، وعلى عدم الوعي بعلماء الآثار في الوقت الحالي وبإسهاماتهم. الشخصيات العظيمة في الماضي لم تعُد بيننا، وربما لن نرى مثلها أبدًا، ولكن هناك جيشًا من المتخصصين وغير المتخصصين أصحاب الأفكار غير التقليدية، نوعًا ما، الذين يكرسون أنفسهم ويجدُّون في العمل حول العالم كي يُحللوا الماضي تحليلًا منطقيًّا. وأنت يمكنك الارتقاء إلى ما ارتقوا إليه، وهذا الكتاب قد يساعدك في أن تقرر هل أنت أهلٌ لهذه المهمة أم لا. وإذا كنت تريد التمرُّس في علم الآثار، فأمامك ثلاث طُرق أساسية، وهي: حضور دورة دراسية في علم الآثار بالجامعة، أو حضور دورة دراسية في دراسات المتاحف، أو العثور على وظيفة في وحدة إقليمية أو في إدارة الموارد الثقافية (في أمريكا) لاكتساب الخبرة العملية. ربما لا تصير عالم آثار عظيمًا، ولكن إن لم تستطِع بلوغ حُسن العمل، فتعلَّم أن تستمتع بالذي تؤديه، حتى وإن لم تؤدِّه على النحو الأمثل.

نقطة أخيرة، لا تتوقع أن تصير ثريًّا.

fig1
شكل ١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤