مقدمة

قليلة هي الهوايات التي تُكسِب الإنسانَ صحة جيدة وملَكة فلسفية، ومن تلك الهوايات علم الآثار لعصور ما قبل التاريخ.

(صحيفة «ذا تايمز»، ١٨ يناير ١٩٢٤)

في رواية «الشعب السري»، وهي من أوائل روايات جون ويندام الأقل شهرة، توجد شخصية تقول: «إنه عالم … عالم … على أي حال، هو يُنقب عن أشياء لا تُحقق منفعة عملية لأي شخص.» لا شك أن هذا رأي متطرف — كما أنه منتشر — بشأن جهود علماء الآثار. وعلى الجانب الآخر، قد يتغنى أحد، مثل كارستن نيبور، إذ يقول: «من يعيد الأشياء المطمورة إلى الوجود ينعم وكأنه خَلَقها.» ومؤكد أن بعض علماء الآثار يفخرون بما «يعيدونه إلى الحياة»، ويعتبرون أنفسهم يشبهون الخالق من عدة جوانب لهذا السبب.

عادةً ما يربط عموم الناس بين علم الآثار والحَفر وكأنه جلُّ ما يفعله المشتغلون في مجال الآثار طيلة الوقت؛ ولا تبرح المجلة البريطانية الساخرة «برايفت آي» تصور عالم الآثار في صورة «رجل ذي لحية واقف في حفرة». وعادةً ما تُصوِّر أفلامُ الكرتون علماء الآثار في صورة أناس عتيقي الطراز، ينبذون الحداثة ويؤثِرون عليها التراث القديم؛ مثل الأواني الفخارية والأدوات المصنوعة من العظام. لا شك أن هذه الصورة صحيحة، ولكنها لا تُبرز إلا جزءًا ضئيلًا للغاية عن علم الآثار. على سبيل المثال، بعض علماء الآثار لا يشتغل بالتنقيب مطلقًا، وقِلة منهم يقضون أوقاتهم في أعمال التنقيب.

إذن، ما هو المعنى الدقيق لعلم الآثار؟ تنحدر كلمة archaeology (وتعني علم الآثار) من الكلمة اليونانية arkhaiologia (وتعني الحديث عن الأشياء القديمة)، ولكنها أصبحت تعني دراسة ماضي الإنسان من خلال الآثار الملموسة التي لا تزال باقية حتى الآن. لكن حريٌّ بنا التأكيد على مصطلح «ماضي الإنسان»؛ لأن علماء الآثار لا يدرسون الديناصورات أو الصخور في حد ذاتها، وهذا يناقض الاعتقاد السائد بين العامة، والذي روَّجت له أفلام فلينتستون الكرتونية وصور البكيني الفرائي التي لا تُنسى لراكيل ويلتش. بل إن هذه المجالات يهتم بها علماء الحفريات وعلماء الجيولوجيا؛ إذ إن الديناصورات انقرضت منذ عشرات الملايين من السنين حين ساد البشر الأوائل الأرض.

يبدأ علم الآثار فعليًّا مع ظهور أول «مصنوعات يدوية» (أدوات) يمكن التعرف عليها؛ وبناءً على الأدلة الحالية، فقد وُجدت هذه الأدوات في شرق أفريقيا منذ قرابة ٢٫٥ مليون سنة؛ ويمتد هذا العلم حتى العصر الذي نعيشه. فالشيء الذي رميته في المرأب بالأمس — بغضِّ النظر عن مدى عدم نفعه أو قبحه أو سوئه — قد أصبح جزءًا من السجل الأثري الحديث. وعلى الرغم من أن غالبية علماء الآثار يدرسون الماضي السحيق (الفترات التي يعود تاريخها إلى مئات، أو ربما آلاف، السنين)، هناك أعداد متزايدة ممن يتجهون إلى الفترات التاريخية القريبة وحتى الظواهر الحديثة؛ على سبيل المثال، انجذب علماء الآثار في الآونة الأخيرة إلى دراسة موقع التجارب النووية في نيفادا، وأكواخ مستكشفي القطب الجنوبي، وحتى المخابئ النازية وجدار برلين!

في أواخر القرن السادس عشر، وصف ويليام كامدن — وهو أول جامع قِطَع أثرية إنجليزي — دراسة القِطَع الأثرية بأنها «الفضول لمعرفة الماضي»؛ بعبارة أخرى، الرغبة في معرفة الماضي، ولا شك أن العديد من المهتمين بالمجال يتمتعون بهذا الفضول بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. إنه موضوع يشبه المغناطيس لأصحاب الاهتمامات غير المألوفة، غير أن اتساع نطاقه يضمن عثور جميع الأطياف على مبتغاها. فالشخص الانطوائي المحب للعُزلة يجد مبتغاه في غرفة مليئة بالغبار وهو يجمع العملات القديمة أو أجزاءً من الأواني أو الأحجار، وكذلك الشخص المنفتح يجد مبتغاه في قضاء أسابيع في مكان منفتح وسط فريق ضخم أفرادُه مفعَمون بقدر هائل من الحماسة.

من أسباب البهجة في علم الآثار أنه يضع العالَم بأكمله بين يديك، شريطة أن تتمكن من جمع التمويل اللازم للعمل. فبوُسعك أن تختار بقعة من الأرض أو أي حقبة تاريخية للتركيز عليها؛ ستجد دومًا مسألة أثرية بحاجة إلى الدراسة، وقد تعكُف على دراسة هذه المسألة في أدغال كثيفة أو كهوف مظلمة أو صحارٍ حارقة أو جبال جليدية. بل إنك لست مقيدًا بالبحث في اليابسة؛ بوسعك أن تصبح عالم آثار لعالم ما تحت البحار، أو تتخصص في التصوير الجوي، إذا كانت هذه اهتماماتك. وبما أن هذا المجال يضم بين دفَّتيه كل حقب التاريخ، فإنه تتوافر أمامك سلسلة كاملة تختار منها، وهذه السلسلة تبدأ من البقايا الحفرية للإنسان، مرورًا بحقب العصور الوسطى، ووصولًا إلى العصور الصناعية، وبذلك تتاح أمامك دراسة كل شيء وأي شيء؛ بدايةً من الأدوات الحجرية الخشنة التي لا تكاد تميزها عن الأحجار الطبيعية، وصولًا إلى تحليل صور الأقمار الصناعية للحصول على بيانات عن المواقع الأثرية.

بوسعك أن تختار أعمال التنقيب الكثيفة، أو تنفيذ أعمال مسحٍ سطحية مكثفة، أو أن تقضي وقتك في فرز الأنواع المختلفة للقطع الأثرية، أو وضع نظريات مجردة، أو أن تخبر الجميع عن مكامِن الخطأ، وكيف أنه لا يوجد شيء صحيح. كذلك بإمكانك قضاء وقتك في مكتبة أو في مختبَر. يمكنك العمل في متحف أو في وحدة إقليمية معنية بالآثار، أو تكريس حياتك للتدريس أو إجراء أبحاث أصلية (وقلة تستطيع الجمع بينهما)، أو يمكنك البقاء خارج «التخصص» وتلقَّب بأنك «عالم آثار هاوٍ»؛ فقد قدم «الهواة» إسهامات هائلة في علم الآثار على مدار سنين، ولم تنضب إسهاماتهم بعد على الرغم من أن قاطني الصروح الأكاديمية كثيرًا ما ينظرون إليهم نظرة دونية ويهزَءون بهم. في الحقيقة، قد يكون كثير من «الهواة» على اطلاع أوسع بكثير من «المختصين» ومتفانين أكثر ممن ينظرون إلى علم الآثار على أنه مجرد مهنة أو وسيلة لكسب العيش، بدلًا من أن يرَوه مجالًا يُلهِب شغفهم ويستهلك عطلاتهم الأسبوعية وكل لحظة من أوقات فراغهم. وبطبيعة الحال، يمكن المبالغة في ذلك، ولا يوجد أسوأ أو أشد إملالًا ممن يُهوَسون بعلم الآثار — سواء من أهل التخصص أو الهواة — إلى حدٍّ يستنزف طاقاتهم. ولذا حريٌّ بنا أن نتحلَّى بنظرة متوازنة، وأن نذكِّر أنفسنا أننا في الأساس ندرس بقايا السابقين، ونحاول أن نضع فرضيات للطريقة التي عاشوا بها.

إذا كنت مهتمًّا بالنُّهُج النشِطة أكثر أو غير التقليدية ولكنك لا تملك الرغبة (أو حتى القدرة أو الوسيلة المالية) لأعمال التنقيب أو المسح، فبين يديك عددٌ هائل من البدائل؛ على سبيل المثال: علم الآثار التجريبي أو «علم الآثار الإثنوجرافي» (الفصل الثالث)، أو البحث في الأعمال الفنية على الصخور. بوسعك أيضًا البقاء حيث أنت أو السفر حول العالم وممارسة مهاراتك اللغوية في الحالتين كلتيهما. وربما تحتاج إلى دراسة سلوكيات الحيوانات البرية وعاداتها أو أساسيات الزراعة، وربما تكتشف أن الأنفع لك أن تسأل أهل الخبرة في الحرف التقليدية، مثل الإنشاءات الحجرية أو النجارة أو بناء السفن أو صناعة الأواني الفخارية، أو تستشير أصحاب المهارات في الملاحة أو علم الفَلَك. بعبارة أخرى، دراسة علم الآثار يشبه حضور مجموعة دروس مسائية في شتَّى التخصصات دفعةً واحدة.

نطاق الاحتمالات لا حصر له، وحتمًا لن نتمكن من طرح كل الموضوعات بين صفحات هذا الكتاب. بل سنُلقي نظرة فقط على بعض المجالات الرئيسية التي تهم علم الآثار في العصر الراهن، والهدف من ذلك فتح شهيتك وتحفيز فضولك لمعرفة الماضي.

من الصفات التي يجب أن يعلو مستواها عند معظم علماء الآثار — بغضِّ النظر عن تخصصهم — التفاؤل؛ أي يؤمن عالم الآثار بأنه يمكنه قول كلام له معنى عن الماضي بناءً على آثاره المادية. المشكلة الأساسية التي يواجهها علماء الآثار هي أنه لم ينجُ من أحداث الماضي سوى جزء صغير من الأدلة، ومن هذه الأدلة لم يسترجع العلماء إلا أصغر جزء منها، وتفسير أو تعريف هذا الجزء الضئيل مما استرجعه العلماء تفسيرًا صحيحًا غير مستيقَن. لكن ينبغي ألا يضع هذا الحديث عائقًا أمامك، فمعظم الناس يستخدمون هذا الموقف لصالحهم؛ فالبعض يكرس الوقت لرسم جسورٍ عبر الفجوات في الأدلة من أجل طرح تسلسل للأطوار أو الأنواع، والبعض يغض الطَّرْف عن مدى عدم موثوقية البيانات وعدم تمثيلها للموقف، ويستخدمونها، برغم ذلك، من أجل نسج حكايات عن الماضي. وكما ورد على لسان عالم الأحياء ستيفن جاي جولد من جامعة هارفارد: «يتطور قدر كبير من العلم عبر سرد الحكايات بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها تبقى مجرد حكايات. فكر في السيناريوهات التقليدية عن تطور الإنسان، مثل الحكايات عن الصيد واستخدام النيران والطقوس وصنع الأدوات والتقدم في العمر والصراع والموت. فكم منها اعتمد على الأدلة التي جُمعت من العظام والمصنوعات اليدوية، وكم منها اعتمد على المبادئ المطبَّقة في المؤلفات؟»

fig2
شكل ١

قد تعتقد أن علم الآثار التاريخي يوقفك على أرض أصلب، ولكن الوضع ليس كذلك على الدوام. وبطبيعة الحال، نعرف المزيد عن بعض أنماط هذه الثقافات لأنها تركت سجلات مكتوبة، ولكن كل المؤرخين يعرفون أنه ينبغي أخذ مسألة الانحياز وعدم الدقة في الاعتبار. على سبيل المثال، تختلف كل النصوص الباقية وروايات شهود العيان بشأن هزيمة كاستر الساحقة في معركة ليتل بيجورن — التي وقعت عام ١٨٧٦ — اختلافًا جوهريًّا، ليس من حيث ما وقع في المعركة وكيف فحسب، بل من حيث المسائل الأساسية أيضًا، مثل أعداد المقاتلين على كلا الجانبين. وكما قال إيه جيه بي تايلور: التاريخ ليس فهرسًا، بل نسخة من الأحداث.

بالطبع قد يجد المرء متشائمين بين صفوف علماء الآثار — وهم الذين يرون أن البقايا التي يدرسونها ليس لها نفع، وبشكل أو بآخر، يرون أن إنجازاتهم ليس لها نفع. لا شك أن علم الآثار موضوع «كمالي»، ولا ينفك يحتاج إلى مسوِّغ لوجوده (الفصل التاسع)، ولكن في الوقت نفسه يراه كثير من الناس موضوعًا جاذبًا وممتعًا، وهذا واضح في أرقام المشاهدات المرتفعة على الدوام على شاشات التلفزيون (لا سيما حين يكون الحديث عن مصر)، وهو ما يُسهم إلى حد كبير في السياحة العالمية (الفصل التاسع).

وعلى الصعيد الشخصي، فإن علم الآثار موضوع يجعل المرء يستمتع كثيرًا بعمله، ويلقى عددًا من الأشخاص الودودين والمتشابهين في الأفكار من جميع أنحاء العالم، لا سيما في المؤتمرات، أو يوطد علاقاته بهم. أما على الجانب الآخر، فإن درجة الغيرة والحقد والطعن في الظهر والقتال الشرس بين أهل المجال على بعض الأسباب يفوق الحد الطبيعي الموجود في المجالات الأخرى. لذا إذا كنت تنوي الدخول في هذا المجال، فعليك أن تتسلح بقدر كبير من عدم الاكتراث. وحتمًا لا يخلو المجال من بعض علماء الآثار المغرورين والمنافقين والمخادعين والمدَّعين والمعتدِّين بأنفسهم والمجردين من المبادئ، لكن هذا لا يوقف نجاحهم في المجال. بل على العكس تمامًا في الحقيقة. (للأسف، لا يمكنني ذكر بعض الأسماء هنا، على الرغم من أني أود ذلك، ولكنهم يعرفون أنفسهم.)

باختصار، علم الآثار أوسع المجالات؛ إذ يجد الجميع فيه منهله، كما أنه يسع الجميع، حتى — أو لا سيما — غير المؤهلين، والمهووسون، وغير المندمجين في المجتمع، فهؤلاء لا بد أن يجدوا مشربهم في المجال أكثر مما يجدونه في رصد أرقام القطارات على سبيل الهواية أو تصفح الإنترنت.

وبما أنه لا أحد مطلقًا يعلم ما حدث في الماضي (بما في ذلك التاريخ الحديث)، فلن تنتهي الأبحاث المتعلقة بعلم الآثار مطلقًا. ستظل النظريات تُطرح وتُطمَر، وستُحيِي الأدلةُ أو الاكتشافات الجديدة القصةَ المقبولة التي تشكل الرأي السائد عن الماضي؛ إذ يرسخه التكرار بين الناس وانتشار قبوله. وكما قال ماكس بلانك: «لا تنتصر الحقيقة العلمية بإقناع الرافضين لها وتبيان جوهرها لهم، بل تنتصر بموت الرافضين لها ونشوء جيل جديد على دراية بها.»

علم الآثار بحث لا ينقطع، وليس اكتشافًا فعليًّا، إنه رحلة أبدية ليس لها وجهة حقيقية. وكل ما فيه عابر، ولا شيءَ فيه نهائي.

لئلا يبدو ما سبق نظرة تشاؤمية نوعًا ما، فاطمئن إلى أن علم الآثار لا يزال مجالًا ممتعًا كثيرًا، ويمكن أن يلهب المشاعر لدرجة أن اكتشافًا غير عادي حقًّا، مثل رجل الثلج أو جيش الطين (تيراكوتا) الصيني، يمكن أن يشعل اهتمام العالم بأسره. والمجالات التي لها هذه السمة ليست كثيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤