الفصل الأول

أصول علم الآثار وتطوره

علم الآثار — مثل الحنين إلى الماضي — لم يكن كما هو عليه الآن، إذَن من أين نشأ علم الآثار؟ أو بعبارة أخرى، ما «جذور علم الآثار»؟

أغلب الناس يهتمون بالماضي؛ وفي الحقيقة، حين نعلم حقيقة أننا ميِّتون، وأننا، دون غيرنا، القادرون على تدمير الكوكب، فقد يكون هذا الاهتمام من السمات التي تميز البشر. وكأن الإنسان ما برح يكتنفه الفضول بشأن الآثار التي خلفها أسلافه؛ إننا لا نعرف البتة متى بدأ هذا الفضول، ولكن هناك العديد من الحالات التي تقول إن الثقافات القديمة قد جمعت، أو حتى عظَّمت من شأن، آثار أسلافها، على سبيل المثال، عُثر على مجموعة من الفئوس من العصر الحجري في مقبرة إحدى أميرات التراقيين من القرن الخامس في بلاد البلقان. وفي أمريكا الشمالية، احتوت مواقع قبائل الإروكوا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر على مصنوعات يدوية صُنعت قبل آلاف السنين، وفي أمريكا الجنوبية يقال إن أباطرة الإنكا جمعوا الأواني الفخارية الرائعة التي تحتوي على رسومات إباحية من حضارة الموتشي، ويبلغ عمرها قرونًا.

أول «عالم آثار» معروف هو الملك نابونيدوس الذي حكم بابل، حيث إنه في القرن السادس قبل الميلاد حفر في أرضية معبد حتى وصل إلى حجر الأساس الذي وُضع قبل آلاف السنين. وفي فيلم صامت عن ملحمة «التعصب» (إنتوليرانس) الذي أخرجه دي دبليو جريفيثس عام ١٩١٦، احتوى مشهدٌ على التعليق الآتي: «مرَّ والد بلشاصر بيوم لا يُنسى. فقد نقب حتى وصل إلى حجر الأساس لمعبد «نارام سين» الذي بُني قبل ٣٢٠٠ سنة. وبالمناسبة، إنه يقول إن الملك كورش الفارسي — العدو القوي لمدينة بابل — يقترب من المدينة.» وهذا يشير إلى أنه حتى رواد علم الآثار الأوائل قد أصابهم الهوس بالموضوع، وكانوا عرضةً لأن يستحوذ على عقولهم.

علماء الآثار القدامى لا يشبهون دومًا علماء الآثار اليوم. ففي اليونان في القرون الأولى بعد الميلاد، أشار المصطلح إلى فئة من الممثلين الذين أحيوا الأساطير القديمة على المسرح عبر عروض التمثيل الدرامية! أما مصطلح علم الآثار بمفهومه اليوم، فأعاد صياغتَه طبيبٌ وجامع آثار من مدينة ليون في القرن السابع عشر اسمه جاك سبون. إنه مَن نحت كلمة «أركيوجرافيا»، ولكن هذه الكلمة لم تلقَ أي قَبول.

في العصر الروماني، اكتشف جنود يوليوس قيصر العديد من المقابر التي احتوت على آثار عظيمة وهم يؤسسون المستعمرات في إيطاليا واليونان، وقد جمعوها من أجل الحصول على الأواني والمصنوعات البرونزية، وبيعت بأسعار مرتفعة في روما، وهذا مثال مبكر على نهب المقابر والتجارة في الآثار. ويقول المؤرخ سويتونيوس إن الإمبراطور أغسطس كان يجمع «الهياكل العظمية الضخمة للوحوش البحرية والبرية المعروفة باسم «عظام العمالقة»، وكان يجمع أيضًا أسلحة الأبطال القدامى».

بحلول العصور الوسطى، افتُتن الناس في أوروبا ﺑ «الأواني السحرية»، وهي أوانٍ (ربما جِرار حرق الجثث) ظهرت من الأرض ظهورًا غامضًا بسبب عوامل التعرية أو الحيوانات التي تعيش في الجحور. وفي الوقت نفسه، ما فتئت أحجار الصوَّان التي شكَّلها الإنسان والفئوس الحجرية المصقولة تظهر حين كان المزارعون يحرثون الأراضي. وطبقًا للاعتقاد السائد، كانت هذه المصنوعات اليدوية سهامًا عِفريتية أو صواعق، وقد قدستها وجمعتها شعوب نائية؛ مثل شعوب أفريقيا والهند، واستخدمها الناس باعتبارها تعويذات أو تمائم. وفي أوروبا، آل العديد من هذه المصنوعات إلى «حجرات العجائب»، وهي مجموعة من الأشياء الطبيعية والصناعية التي جمعها المهتمون بالآثار، وبدأ الوعي يتنامى رويدًا رويدًا لدى العقول المستنيرة بأن «مقذوفات الصواعق» أو «الأواني السحرية» هي في الحقيقة آثار مِن صُنع الإنسان، خلَّفتها الشعوب القديمة. وفي الوقت نفسه، ألهم اكتشاف المنحوتات اليونانية والرومانية الفنانين المعاصرين لدراسة الأشكال الكلاسيكية، في حين أن العائلات الثرية بدأت تَجمع الآثار الكلاسيكية وتعرضها.

في القرن السادس عشر في شمال غرب أوروبا، بدأ بعض العلماء بالفعل في تفنيد مقولة فرانسيس بيكون بأن «العصور القديمة (باستثناء ما حُفظ منها في النصوص المقدسة) قد باتت في طي النسيان»، وأدركوا أن المعلومات عن الماضي البعيد يمكن أن تُستنبَط من دراسة الآثار الميدانية؛ ومن ثَم، بدأت مجموعات كاملة من المهتمين بالآثار في بريطانيا والدول الاسكندنافية والبلدان الأخرى في زيارة هذه المعالم الأثرية ووصفها. وعلى إثر ذلك شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تطورَ هذه الأنشطة إلى اهتمام أكثر منهجيةً؛ إذ صحبه تزايد في أعداد عمليات التنقيب. ولما كان الهدف من هذه العمليات استخراج هذه الآثار من الأرض، فقد تعامل بعض الرواد مع عمليات التنقيب وكأنها عمليات تشريح دقيقة؛ إذ يدوِّنون العلاقة بين هذه المصنوعات اليدوية وطبقات التُّربة؛ وبوجه عام، أدركوا أن الآثار الموجودة في الطبقات العُليا لا بد أن عمرها أصغر من تلك الموجودة في الطبقات السفلى.

أدى هذا النهج الجديد في دراسة الأرض ومناظرها الأثرية، وقراءتها وكأنها وثيقة، إلى زيادة عمليات التنقيب زيادة مهولة؛ وأقصد هنا عمليات التنقيب في تلال الدفن في شمال غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي بادئ الأمر، كانت هذه العمليات مسعًى ترفيهيًّا للنبلاء ورجال الدين والأطباء ورجال الأعمال والمدرسين ومَن على شاكلتهم؛ وحتى اليوم، تُقدم هذه المهن إسهامات كبيرة في علم الآثار ﻟ «الهواة».

في الواقع، منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصفه، بدأ علم الآثار يحل محل الأثريات، بمعنى أنه تطلع إلى أن يكون أقوى في طابعه المنهجي والعلمي بشأن الآثار التي خلَّفها الماضي. في هذه الفترة، أدت اكتشافات الأدوات الحجرية في غرب أوروبا، بالإضافة إلى الحيوانات التي أصبحت منقرضة الآن، إلى أول إثبات على وجود الإنسان منذ القِدَم، ثم انتشار قبول هذا الإثبات بوجه عام في النهاية. وبنهاية القرن التاسع عشر، أصبح علم الآثار الفعلي مشروعًا مزدهرًا؛ حيث جدَّ العديد من «الشخصيات المرموقة» في العمل؛ مثل بيتري في الآثار المصرية، وكولدوِي في الآثار البابلية، وشليمان في حضارة بحر إيجة، وبيت-ريفرز في الحضارة البريطانية. وبالنسبة إلى معظم هؤلاء الرواد (ربما يستثنى منهم شليمان الكاذب والمخادع)، تحوَّل الأمر من البحث عن الكنوز إلى البحث عن المعلومات، وصار وسيلة للإجابة عن أسئلة محددة.

fig3
شكل ١-١: التنقيب في تايلور لو، ويتون، مايو ١٨٤٥.

على مدار القرن العشرين، وبفضل الإسهامات التي قدمها عدد كبير من القامات أمثال ويلر في بريطانيا والهند، ورايزنر ووُولي في الشرق الأدنى، ويولي وكيدر في أمريكا، وبوردس وليرُوي-جورهان في فرنسا، أصبح علم الآثار مشروعًا ضخمًا ومتشعب التخصصات؛ إذ يعتمد على الخبرات في العديد من المجالات؛ بدايةً من علماء الجيوفيزياء (الذين يمكنهم اكتشاف الأشياء القابعة تحت الأرض باستخدام مجموعة من الأدوات)، والمتخصصين في التصوير الجوي، وعلماء الحيوان، وعلماء النبات، وعلماء الكيمياء، وعلماء الوراثة، ومجموعة كبيرة من العلماء الذين يمكنهم تحديد التاريخ من المادة الأثرية أو من الرواسب التي تعلَق بها (الفصل الثاني).

في العصر الراهن، أصبح علم الآثار المستند إلى الأساليب العلمية يحتل الصدارة، ويسهم علم الوراثة كثيرًا في العديد من جوانب دراسة الماضي. وأيضًا يشارك علماء الآثار في بعض المناقشات البارزة التي تشغلنا في العصر الحديث؛ مثل دور تغير المناخ، وتأثيرات الارتفاعات في مستوى البحر، واحتمالية الاحترار العالمي. وفجأة، أصبحت الدراسات المعنية بتوقيت وتأثير الزلازل وأمواج تسونامي القديمة ذات أهمية بالغة في تقييم احتمالية حدوثها في المستقبل، والحيز المكاني الذي يمكن أن يطوله تأثيرها.

برز توجُّهان في علم الآثار بمرور الوقت، وهما: الأول تباطؤ عمليات التنقيب إلى حد كبير وزيادة صعوبتها. فبدلًا من الجلوس حول الطبقات الأثرية بالمَعاول (أو حتى المتفجرات!) كما كان في الماضي، أصبحت العناية مخصوصة بتجريف كل طبقة أو كشطها أو تفريشها، وغربلة كل طبقة حتى لا يُفقَد أي جزء من المعلومات التي قد تحتفظ بها الأرض. على سبيل المثال، «حفرة العظام» الواقعة في أتابويركا بإسبانيا عبارة عن حجرة عميقة داخل كهف، وتحتوي على هياكل عظمية لمجموعات من البشر عاشوا منذ ٦٠٠ ألف سنة على الأقل (وفي الحقيقة، يبدو أن هذا الاكتشاف هو أقدم طقس جنائزي معروف على مستوى العالم (الفصل الخامس))، ولا يزيل عمال التنقيب أكثر من ١٠ بوصات في شهر يوليو من كل عام من هذه الحفرة. ينتج عن هذا العمل نحو ٣٠٠ عظمة بشرية، ولا يسعهم التعامل مع أكثر من هذا العدد؛ لأنه يجب تنظيف كل عظمة وتقويتها وحفظها. ولذا يتسم هذا العمل بالدقة المتناهية؛ إذ تُغسل الرواسب المتبقية وتُنخل بعناية فائقة؛ لدرجة أنه استُعيدت عظام الأذن الداخلية الصغيرة.

التوجه الرئيسي الثاني — وهذا من المفارقات — هو أننا لا نحصل على كميات متزايدة من المواد من كل الأنواع فحسب، بل إننا — بفضل ابتكار تقنيات حديثة متطورة وإجراء التحليلات العلمية — يمكننا معرفة الكثير والكثير عن كل مادة أثرية. لنضرب مثالًا بقطعة فخارية واحدة (شظايا الفخار من أكثر الأدلة الأثرية ديمومة؛ ومن ثَم من أكثرها انتشارًا في كل مكان)؛ في الماضي، كان يمكن تصنيف القطعة ضمن أحد الأوعية الفخارية بناءً على شكلها ومادتها وزخارفها إن وُجدت. ولكن الآن صار بمقدورنا الحصول على تحليل مفصل عن المواد الخام للوعاء الفخاري؛ ما يُمكِّننا من تحديد مصدره، بل يمكننا معرفة درجة حرارة فرن التجفيف، ومعرفة المواد المضافة لتقويته، كذلك يمكن تأريخ الوعاء الفخاري نفسه باستخدام تقنية اللمعان الحراري (الفصل الثاني)، ويمكن استخدام طرق أخرى لتحليل أضعف آثار البقايا على السطح الداخلي ومعرفة ما كان بداخل الوعاء!

بعبارة أخرى، مع تطور علم الآثار، صار ممكنًا إنجاز الكثير باستخدام موارد أقل. ولكن للأسف يُنتج هذا التطور كمًّا هائلًا من العمل بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. فعلى مستوى العالم، تتزايد أعداد علماء الآثار الذين يتنافسون على المناصب، وكلٌّ يحاول إنتاج معلومات أو بيانات جديدة. كذلك تُعقَد أعداد كبيرة من المؤتمرات والندوات، وفي نهاية المطاف تُنشر محصلات هذه المؤتمرات والندوات في كتب. ومن ثَم تصدر مؤلفات مهولة عن علم الآثار، وتتفرع عناوين كثيرة مع بزوغ الجرائد الجديدة وسلاسل الدراسات العلمية كل عام، ولا يستطيع توفير كلفتها سوى قلة من الناس، حتى إن المكتبات تصارع من أجل شرائها في ظل تقلص الميزانيات في هذه الأيام. لا يسع أحدًا الإلمام بكل المؤلفات عن فترة أو منطقة أو تخصص واحد، فما بالك بعلم الآثار عن قارة واحدة، بل عن العالم بأسره.

تفاقم هذا الكم في السنوات الأخيرة بسبب المواد المهولة التي تُرفع على شبكة الإنترنت. فقد شرعت المكتبات في التخلِّي عن النسخ الورقية من دورياتها لصالح النسخ الإلكترونية، وهي، لا شك، تشغل مساحة أصغر بكثير! كذلك بزغت ظاهرة جديدة تُعرف باسم «المؤلفات غير الرسمية» (بكل ما تحمله الكلمة من معنًى) وتتألف من عدد لا حصر له من التقارير المنشورة عبر قنوات غير رسمية أو غير المنشورة؛ ومن ثَم يصعب تتبعها على الرغم من أنها قد تحتوي على معلومات مفيدة. ولذا من المفارقات أن التكنولوجيا الحديثة — بطريقة أو بأخرى — صعَّبت الإلمام بكل هذه المؤلفات.

كان الوضع قبل الحرب العالمية الثانية مختلفًا. وإذا ألقيت نظرة على أطروحات الدكتوراه لأسماء عظيمة، مثل جراهام كلارك أو جلين دانييل، في مكتبة جامعة كامبريدج، فستجد أن هذه الأطروحات قصيرة للغاية، ولا تكاد تعادل فصلًا واحدًا من الأطروحات في عصرنا الحالي. بالطبع توافرت مواد ضئيلة للغاية للتعلم أو القراءة عن علم الآثار في أيام دراستهم، وكذلك لم تتوافر لديهم رفاهية استخدام التقنيات العظيمة المتاحة اليوم، مثل «زيروكس» أو «إبسون» أو «أبِل»؛ ومن ثَم كانوا يُضطرون إلى الاعتماد على تدوين الملاحظات ورسم الخرائط بأيديهم.

في الوقت نفسه، تفيض المتاحف بالقطع الأثرية؛ ومن ثَم تفاقمت مشكلة حفظها (الفصل التاسع). في مصر على سبيل المثال، لجأ علماء الآثار إلى إعادة دفن القطع الأثرية لعِلمهم بأنها ستعيش بحالة أفضل ولمدة أطول إذا أُوكِلت إلى الأرض الأم بدلًا من أقبية المتاحف أو المخازن، والهدف من ذلك أن تشاهدها الأجيال المستقبلية. ومثلما أنه يوجد عدد هائل من أعمال التنقيب غير المعلَنة، يوجد «كم هائل من القطع الأثرية» ومجموعة من القطع غير المفهرسة أو غير المدروسة في متاحف العالم. الأمور سيئة للغاية لدرجة أن متحف نابولي — منذ عدة سنوات — اضطُر إلى إغلاق أبوابه لفترة من الزمن لأن الآلاف من العملات المعدنية، وغيرها من القطع الأثرية الأخرى، كانت تختفي من مخازنه، في حين أن القطع المفهرسة لم تبلغ نصف المخزون. من الواضح أنه يوجد الكثير مما ينبغي القيام به إذا كان على علم الآثار أن ينظِّم ساحته المبعثرة والمكتظة.

علم الآثار باعتباره مجالًا منفصلًا

منذ تجدد التفاؤل في ستينيات القرن العشرين (الفصل السابع)، زادت ثقة علماء الآثار إلى حد كبير في أن مجالهم لديه القدرة على تقديم إسهامات فريدة في دراسة سلوك الإنسان، وقد تبينت أهمية هذا الموضوع في أمريكا الشمالية على وجه الخصوص؛ نظرًا لعلاقة علم الآثار بالمجالات الأخرى ذات الصلة.

يعني علم الأنثروبولوجيا ببساطة: دراسة البشرية؛ وفي بريطانيا، ينقسم هذا العلم إلى علم الأنثروبولوجيا الاجتماعي (أو الثقافي)، وهذا القسم يهتم بتحليل ثقافة الإنسان ومجتمعه، وعلم الأنثروبولوجيا المادي (أو الأحيائي) ويهتم بدراسة السمات المادية للإنسان وكيف تطورت. لكن في أمريكا، يعتبر علم الآثار جزءًا أصيلًا من الأنثروبولوجيا؛ ومن ثَم يوجد معظم علماء الآثار في «أقسام الأنثروبولوجيا»؛ إذ يعامَل مجالهم على أنه منهج فرعي وليس مجالًا قائمًا بذاته كما هو في بلدان العالم القديم.

يطلق على علم الآثار «الزمن الماضي لعلم الأنثروبولوجيا الثقافي»، وبما أنه يتعامل مع ماضي الإنسان، فلا شك في أنه يمثل جانبًا من جوانب الأنثروبولوجيا. ومع ذلك، فإن علم الآثار جزء من التاريخ على حد سواء؛ وفي الواقع، يقتضي الإنصاف أن يوصف التاريخ بأنه غيض من فيضِ علم الآثار؛ حيث إن أكثر من ٩٩ بالمائة من علم آثار الماضي الخاص بالإنسان هو المصدر الحقيقي الوحيد للمعلومات. فالتاريخ (بعيدًا عن التاريخ الشفهي) لا يبدأ إلا مع اختراع السجلات المكتوبة التي ظهرت في غرب آسيا منذ نحو ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، ثم ظهرت في بقية العالم بعد ذلك بفترة طويلة. وحتى فيما يتعلق بالحقب التاريخية، لا تزال المعلومات المستقاة من البيانات الأثرية مكملًا لا يقدَّر بثمن للتاريخ المعروف من النصوص؛ وعلى أي حال، غالبًا ما يكون عالم الآثار هو أول مَن يكتشف الوثائق والمخطوطات.

بالطبع أحد الفروق الجوهرية بين الأنثروبولوجيا وعلم الآثار هو أن مجال علماء الأنثروبولوجيا بوجه عام أسهل بكثير؛ إذ إن لديهم القدرة على رصد سلوك الإنسان والتحاور معه؛ لأن علم الأنثروبولوجيا يُستقى من الوقت الحاضر. (بالطبع أشار بعض المتحذلقين في «علم الآثار ما بعد الإجرائي» (الفصل السابع) إلى أنه لا يوجد شيء اسمه الحاضر؛ لأنه بمجرد أن يصبح الإنسان واعيًا باللحظة، فإنها تصير في الماضي. لكن هذا النوع من الملاحظات السطحية لا يدعو إلا إلى السخرية). أما «شهود» علم الآثار فصاروا تحت التراب ولم تعد شهاداتهم مسموعة؛ ومن ثَم يُضطر إلى الحصول على الإجابات بالحيلة. ويمكن تشبيه الاختلاف بينهما بالحديث إلى شاب تدبُّ فيه الحياة والصحة والحديث مع جثة هامدة.

والنتيجة الطبيعية الأخرى لهذا الاختلاف هي أنه بينما يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا أن يروا كيف يتصرف الإنسان محل الدراسة ويطلبون تفسيرات، يتعين على علماء الآثار إعادة بناء السلوك. ولإعادة بناء السلوك، فإن العلماء بحاجة إلى وضع افتراضٍ جوهري بأن سلوك الإنسان لم يتغير منذ ظهور «الإنسان العاقل الحديث تشريحيًّا» منذ قرابة ١٠٠ ألف عام؛ ومن ثَم يمكن التنبؤ بسلوكه. كذلك يجب وضع الافتراض نفسه بشأن الحيوانات والنباتات التي استغلوها؛ أي افتراض عدم تغير سلوك هذه الحيوانات والنباتات، وعدم تغير مذاقها، وعدم تغير تحملها للمناخ والعوامل البيئية، وعدم تغير التربة ودرجة الرطوبة؛ ومن ثَم يمكن طرح تنبؤ موثوق عند إعادة بناء الماضي. ومن ثَم أمامنا عدد هائل من الافتراضات، لا سيما أنه لا يمكن التأكد من مسوغاتها البتة، ولكنها ضرورية؛ لأنه من دونها لن يؤتي علم الآثار ثماره. إذا لم نستطع أن نخمن بقدر من الدقة الكيفية التي تفاعل بها الإنسان في الماضي مع مجموعةٍ محددة من الظروف، فيمكننا هجر هذا المجال والتوجه إلى الأنثروبولوجيا؛ فهو مجال لا تبلغ صعوبته درجة علم الآثار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤