الفصل الثاني

التأريخ

لن تجد في دراسة الماضي فائدةً كبيرة إن لم تعرف عُمر الاكتشافات الأثرية، أو على الأقل تعرف أي اكتشاف أقدم من الآخر. فليس هناك أي قدر من الحماسة لدراسة الماضي، يمكن أن يُستعاض به عن التسلسل الزمني المحكم؛ ولا فائدة من امتلاك الشغف إن لم تعرف تاريخ الاكتشاف الأثري. إذَن، كيف يؤرخ علماء الآثار الاكتشافات الأثرية؟

حتى وقت قريب جدًّا، لم تتوافر سوى طريقتين لوضع التسلسل الزمني؛ وهما: التأريخ النسبي والتأريخ التاريخي. وببساطة، يعني التأريخ النسبي وضع الاكتشافات الأثرية — القطع الأثرية والترسُّبات والأحداث والثقافات — ضمن تسلسل معين، بحيث يكون عُمر بعضها أصغر من عمر بعضها الآخر أو أكبر منه. أما التأريخات التاريخية فتنبثق من الفترات التي لها شواهد مكتوبة، مثل العصور الوسطى أو الرومانية. لكن في حقبة ما قبل التاريخ، لا يفيد فيها سوى التأريخ النسبي، وعلى الرغم من معرفة أن العصر البرونزي أسبق من العصر الحديدي، وأن العصر الحجري أسبق من العصر البرونزي، فإننا لا نعرف طول الفترة الفاصلة بين العصور.

ينبع المنطق الأساسي الداعم للتأريخ النسبي من علم طبقات الأرض، وهو دراسة الطريقة التي تكونت بها الطبقات أو الترسُّبات بعضها فوق بعض. وبوجه عام، تترسب الطبقة الأساسية أولًا؛ ومن ثَم فإنها تسبق الطبقة التي تعلوها. تنطبق هذه الطريقة على القطع الأثرية التي توجد بداخل هذه الطبقات ما لم يوجد شيء يعكس هذا الترتيب، مثل جحور الحيوانات أو حفر مقبرة أو مقالب النفايات أو التعرية أو إعادة الترسبات.

ثَمة طرق لمعرفة هل العظام في الطبقة الواحدة لها العمر نفسه أم لا عن طريق التأريخ الكيميائي. فبمرور الوقت، يتضاءل محتوى النيتروجين في العظْمة، كما أنها تمتص الفلور واليورانيوم بالتدريج. ومن ثَم فإن قياس هذه العناصر سيحدد ما إذا كانت مجموعة العظام دُفنت في الفترة نفسها أم في فترات مختلفة. استُخدمت هذه الطريقة في أوائل خمسينيات القرن العشرين لكشف خدعة بلتداون؛ وهي محاولة وقعت في ساسِكْس عام ١٩١٢ لإثبات «الحلقة المفقودة» المفترضة بين القِرَدة والبشر، ولكن تبين أنها خدعة حقيقية. فقد كشف التأريخ الكيميائي أن الجمجمة حديثة، وأن الفك أُخذ من إنسان غابٍ متحضر. كذلك لُوثت الأسنان وتعرضت للتآكل عمدًا كي تبدو قديمة ومقنعة. احتدم النقاش على مدار عقود وعلت الأصوات بشأن المسئول أو المسئولين عن هذه الخدعة، وكان من ضمن المشار إليهم تيلار دو شاردان وسير آرثر كونان دويل، ولكن من الواضح أن الجميع يتفق الآن على أن المسئول هو تشارلز داوسون؛ إذ إنه «مكتشف» الاكتشافات، كما أنه تورط في عمليات احتيال أثرية أخرى.

النوع الأثري الأساسي الثاني للتأريخ النسبي هو «التصنيف النوعي»، ويقصد به تصنيف القطع الأثرية ضمن أنواع تتشارك السمات المادية نفسها والشكل والزخارف، أو أيًّا من ذلك. يعتمد هذا النظام الكلي على فكرتين أساسيتين؛ وهما: الأولى أن القطع الأثرية من مكان وحقبة زمنية محددين تتشارك نمطًا مميزًا (فرز القطع المتشابهة معًا)، وأن التغيرات في النمط تكون تدريجيةً إلى حدٍّ ما. وفي الحقيقة، يمكن أن تتزامن الأنماط المختلفة، ويمكن أن يستمر النمط الفردي مدة طويلة، ويمكن أن تحدث التغيرات في النمط سريعًا، ولكن لحسن الحظ، لا تخوض كتب المقدمات القصيرة في هذه التعقيدات!

على أي حال، كرَّست أجيالٌ من علماء الآثار — وأبرزهم العلماء من البلدان الجرمانية — حياتها لوضع تسلسلات تفصيلية لأشكال الأواني والأدوات والأسلحة، ثم محاولة ربط التسلسلات من مناطق مختلفة. وحينئذٍ تُجمع القطع الأثرية المختلفة — ذات الحقبة الزمنية الواحدة — معًا في «مجموعة»، وتُرتَّب المجموعات ضمن تسلسلات وتُعقد المقارنات بين المناطق بعضها وبعض.

تعتمد التسلسلات الزمنية النسبية الأخرى على تعاقب الأطوار المناخية للعصر الجليدي (العصور الجليدية أو مراحل الزحف الجليدي، والعصور بين الجليدية أو الفواصل الزمنية الدفيئة، والتقلبات الطفيفة التي تُعرَف باسم العصور الباردة والعصور الدفيئة)، ولكن بفضل المعلومات المناخية المفصَّلة المأخوذة من العيِّنات الجليدية الجوفية في القطبين الشمالي والجنوبي، أصبحنا نعرف أن المناخ في العصر الجليدي كان أشد تعقيدًا وأكثر تقلبًا مما نعرف بكثير. كذلك تعطي حبوبُ اللقاح من الترسبات تسلسلات عن التغيرات المناخية والنباتية، ولكن عادةً ما تكون محلية إلى حدٍّ ما. وأيضًا، التأريخ الحيواني — القائم على وجود عظام فصائل الحيوانات المختلفة — طريقة مهمة، لا سيما في علم آثار المعني بعصر البلايستوسين (دراسة العصر الجليدي المتأخر)، حيث توافدت الفصائل الحيوانية التي تعيش في المناخ «البارد» والمناخ «الدفيء» وانقرضت مع التغيرات المناخية والبيئية.

التوصل إلى التسلسلات الزمنية إنجاز عظيم، ولكن تواريخ التقويم — «التواريخ المطلقة» — هي ما يَتُوق إليه علماء الآثار. وحتى أواخر القرن العشرين، لم يكن ثَمة تواريخ متاحة غير التي عُرفت من الروابط الأثرية بالتسلسلات الزمنية والتقويمات التي وضعتها الشعوب القديمة، وهذه التقويمات لا تزال ذات أهمية كبيرة في عصرنا الحاضر. والعديد من هذه التقويمات — مثل التقويم الروماني والمصري والصيني وغيرها — اعتمد على سنوات الحكم للقناصل أو الأباطرة أو الملوك أو «الأسرات الحاكمة». الأسرات الحاكمة المصرية، على سبيل المثال، يمكن تأريخها بدايةً من غزو الإسكندر الأكبر لمصر، الذي وقع عام ٣٣٢ قبل الميلاد حسب المؤرخين اليونانيين. كذلك ورد مزيد من التفاصيل والتوضيحات من السجلات المصرية الخاصة بالأحداث الفلكية التي نعرف تواريخها من مصادر علمية مستقلة.

كان لدى حضارة المايا في أمريكا الوسطى تقويم بالغ الدقة؛ إذ لم يعتمد على الحكام أو الأُسرات الحاكمة، بل اعتمد على دورة من ٢٦٠ و٣٦٥ يومًا، وقد بدأ هذا التقويم في أغسطس ٣١١٣ قبل الميلاد (حسب نظامنا نحن).

كل هذا يعطي الفرصة لعلماء الآثار كي يؤرخوا اكتشافات أثرية معينة، مثل النقوش التي تتحدث عن الوقائع أو الحكام، وبالطبع العملات المعدنية في العصور الرومانية والوسطى؛ إذ تحمل اسم الحاكم في تلك الفترة. وعلى المرء أن يضع في اعتباره دومًا أن تأريخ الاكتشاف الأثري لا يستلزم تأريخ الفترة التي عُثر عليه فيها؛ فالعملة المعدنية يمكن أن تتقلب بين الطبقات أو تُكنَز لعقود أو قرون، ولكنها تعطيك على الأقل الحد الأقصى لعمر الطبقة؛ إذ لا يمكن أن تكون طبقة الأرض أقدم من التاريخ على العملة (ما لم تكن العملة قد طُمرت بعد تكوُّن الطبقة)، بل إنها تكون أحدث منه بكثير.

بعيدًا عن هذه العصور التاريخية والتقويمية، لم تكن ثَمة حيلة لعلم الآثار حتى قدَّم له العلم سلسلة كاملة من الوسائل للتوصل إلى «التواريخ المطلقة» من مواد مختلفة. فالتسلسل الزمني المحكم (إلى حدٍّ ما) كان أعظم هدية قدَّمها العلمُ لعلم الآثار (وكما يقولون، لا توجد هدية تضاهي الزمن …).

قبل الحرب العالمية الثانية، لم يتوافر سوى تقنيتين محليتين، وهما: «طبقات الترسب الحَولي» في الدول الاسكندنافية، والحلقات الشجرية في جنوب غرب أمريكا. كلمة Varves (طبقات الترسُّب الحولي) مصطلح سويدي يعني الترسبات الطينية التي تتراكم سنويًّا عبر الصفائح الجليدية الذائبة. يتفاوت سُمك هذه الطبقات سنة بعد أخرى، حيث إن السنة الدفيئة تؤدي إلى ارتفاع نسبة الذوبان؛ ما يزيد من سُمك الطبقة. وبمقارنة درجات السُّمك المتعاقبة لسلسلة من الطبقات ومقارنتها بالنمط في مناطق أخرى، فإن حالات التعاقب الطويلة يمكن أن ترتبط بعضها ببعض وتعطي عمرًا يمتد إلى آلاف السنين. ينطبق الأمر نفسه بالضبط على نمو الحلقات في الأشجار؛ إذ إن تعاقب الحلقات الأكثر أو الأقل سُمكًا — الناجم عن التقلبات المناخية المحلية — يمكن أن يتراكم عبر أنماط متداخلة من الأشجار ذات الأعمار المختلفة. على سبيل المثال، لدينا الآن تسلسلات كاملة تمتد إلى ٨٠٠٠ سنة قبل الميلاد في ألمانيا، ويمكن استخدامها في المقارنة بين الأخشاب القديمة وتحديد أعمارها.

وبطبيعة الحال، فإن التقنية يتلاءم تطبيقها أكثر في مناطق مثل جنوب غرب أمريكا؛ حيث حافظ الجفاف على كثير من الأخشاب القديمة، أو في شمال غرب أوروبا؛ إذ تُركت الأخشاب المشبَّعة بالمياه في مناطق رطبة. ومن ثَم بدأت تظهر نتائج ذات دقة مذهِلة؛ ففي بريطانيا على سبيل المثال، يشير تحليل الأخشاب من ممر خشبي يُعرف باسم «سويت تراك» في سومرست — وممتد عبر مستنقع — إلى أنه بُني في فصل الشتاء من عام ٣٨٠٧ أو ٣٨٠٦ قبل الميلاد.

طريقة الحلقات الشجرية لها قيمة كبيرة باعتبارها وسيلة للتحقق من التواريخ المحددة بطريقة الكربون المشِع، وهذه الطريقة لم تُحدث ثورة في علم الآثار فحسب، بل أثبتت «فاعليتها بدرجة تدعو إلى الريبة فيها» بمعنًى أو بآخر. تتكون العينات من المواد العضوية المأخوذة من المواقع الأثرية، مثل الفحم والأخشاب والبذور وعظام الإنسان أو الحيوانات، ولأن هذه الطريقة تقيس الكمية الضئيلة من نظير الكربون المشع ١٤ (C14) المتبقي في المواد العضوية … حيث إنه يُمتص على مدار الحياة، فإنه دائمًا ما يُفقد بعد الوفاة، وفي تطور يُعرف باسم مسرِّع قياس الطيف الكتلي (AMS)، لا يلزم أن تتوافر غير عينات صغيرة للغاية، ثم تُعَدُّ ذرات الكربون المشع ١٤ مباشرةً. ولكن حد التواريخ الموثوقة لا يزال يبلغ ٥٠ ألف سنة تقريبًا.

الافتراض الأساسي الداعم لطريقة الكربون المشع هو أن تركيز الكربون المشع ١٤ ثابت في الغلاف الجوي، ولكن ثبت في النهاية خطأ هذا الافتراض، فقد بِتنا نعرف أن نسبة التركيز قد تفاوتت عبر الزمن تفاوتًا كبيرًا بسبب التغيُّرات في المجال المغناطيسي للأرض. ولو اختُبرت هذه الطريقة على حلقاتٍ لأشجار ذات عمر معروف، فلربما سارت الأمور بشكل أسلس منذ البداية، وحُلت هذه المشكلات المستعصية. أدى إنشاء رسوم تقارن بين تحديد الأعمار بالكربون المشع والأعمار بالحلقات الشجرية إلى رسم «منحنيات معايرة»، وهي عبارة عن تمثيلات بيانية توضح درجات التغير الخاصة بنسبة الخطأ في التأريخ بالكربون المشع ١٤ بمرور الوقت؛ إذ تعود إلى نحو ٧ آلاف سنة قبل الميلاد.

وعلى الرغم من هذه الشكوك والمخاطر المستمرة لتلوث العينات، أصبح التأريخ بالكربون المشع أكثر أداة مفيدة ومنتشرة في علم الآثار؛ حيث إنها تضع تسلسلات زمنية للمناطق التي كانت تفتقر إلى جداول زمنية من أي نوع. فهذه الطريقة يمكن استخدامها في أي مكان من دون وضع المناخ في الاعتبار، ما دامت المادة العضوية متوفرة.

fig4
شكل ٢-١: الممر السهل، سهول سومرست.

ولكن ما الذي يحدث إن «لم» تتبقَّ مادة عضوية في الموقع؟ حتى وقت قريب، لربما أدى حدوث ذلك إلى قتل أي أمل في الحصول على تاريخ، ولكن قد تغير الحال بفضل عجائب العلم الحديث. في المواقع العتيقة التي تحتوي على حفريات الإنسان، مثل التي في شرق أفريقيا، فإن نسبة البوتاسيوم/الأرجون يمكن أن تؤرخ الصخور في المناطق البُركانية. أما في الأماكن الأخرى، فإنه يمكن تطبيق التأريخ حسب سلاسل اليورانيوم على الصخور الغنية بكربونات الكالسيوم، مثل الرواسب الكلسية في الكهوف. كذلك يمكن استخدام تقنية اللمعان الحراري لتأريخ المواد الفخارية، وهي أقدم مادة غير عضوية متوفرة بكثرة في المواقع الأثرية التي يمتد عمرها ١٠ آلاف سنة، وأيضًا لتأريخ المواد غير العضوية الأخرى، مثل حجر الصوان المحترق. كذلك يمكن استخدام التلألؤ المحفَّز بصريًّا في رواسب معينة تحتوي على مادة أثرية، مثل الرواسب في الملاجئ الصخرية في أستراليا التي تتراوح أعمارها من ٥٣ ألف حتى ٦٠ ألف سنة، وهي من أهم الأدلة على وصول البشر الأوائل إلى هذه القارة. وأخيرًا يمكن استخدام الرنين المغزلي للإلكترونات على أسنان الإنسان والحيوان لتحديد فترات أبعد من التي يتوصل إليها الكربون المشع ١٤، مثل المواقع الإسرائيلية، التي يصل عمرها إلى ١٠٠ ألف سنة.

يوجد العديد من طرق التأريخ الأقل فاعلية، ولكنها بالغة التعقيد، وتبعث على الملل، ولا يسعُنا تناولها هنا. وعلى أي حال، فإن علماء الآثار لا يحتاجون حقًّا إلى معرفة الكثير عنها؛ لأن معظمهم يجدون صعوبة في فهم المبادئ العلمية التي ترتكز عليها حتى الطرق البسيطة منها، كما أن لديهم إيمانًا مؤثرًا، وغالبًا ما يكون في غير محله، بقدرة الباحثين — «العلماء الجادِّين» — على أخذ عينات من المادة المتوفرة والتوصل إلى مجموعة تواريخ مناسبة. وثقة عالم الآثار في المختبرات تقوضها حقيقة أنه عند تقديم عينة للتأريخ باستخدام الكربون المشع، عادةً ما يُطلب من عالم الآثار أن يذكر تاريخًا متوقعًا سلفًا! لكن بما أن علماء الآثار يعرفون أساسيات هذه الطرق والمواد التي تنطبق عليها والنطاق العمري، فبمقدورهم التركيز على قضايا أهم، مثل البحث عن المواقع التي لم تُمَسَّ ولم تتأثر بالعوامل الخارجية، وأخذ عينات بأقصى درجات العناية، وتجنب التلوث، وجمع أموال كثيرة من أجل دفع رسوم التحليلات في المختبرات. وكما يعتبر المراهقون مواعدة فتاة ليس بالأمر السهل، فإن عالم الآثار لا يجد عمليةَ التأريخ سهلة بالمثل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤