الفصل الخامس

كيف كان تفكير الناس قديمًا؟

إذا كان فهم تفاصيل الحياة — التكنولوجيا وكسب لقمة العيش وغير ذلك — مسألة صعبة، فالأصعب منها الدخول إلى عقول الناس ومحاولة الحصول على فكرة، ولو بسيطة، عما يؤمنون به وعن طريقة تفكيرهم. فإذا كانت قدراتك لا تُسعفك لأن تقرأ أفكار زوجتك (والأفضل ألا تفعل!) بعد سنوات كثيرة من الزواج، فما بالك بالصعوبة في إعادة بناء ما يُطلق عليه — في المصطلحات الرهيبة — «طرق التفكير في ثقافات ما قبل التاريخ».

وهنا، نركن إلى ذوي الشجاعة ممن يطمحون إلى «علم آثار العقل» — وهم علماء الآثار الإدراكيون — إذ إنهم يرفضون فكرة أن الأفكار والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية القديمة قد طُمِست إلى الأبد، ويعتقدون أن بإمكانهم إحياءها من خلال المنطق الذي يطبَّق على البقايا الفنِّية والبقايا المادية الأخرى التي يعتقدون أنها مرتبطة بالدين والطقوس وما إلى ذلك.

في الوقت الحالي، يسعى العديد من العلماء جاهدين إلى التوصل إلى إجراءات صريحة من أجل تحليل الأنماط الإدراكية لدى المجتمعات الأولى، لا سيما التي لم تَترُك نصوصًا خطية تساعدهم. وقد توافر العديد من النُّهُج المشجعة لهذه المهمة التي تبدو مستحيلة. على سبيل المثال، بإمكان المرء أن يحقق في الطرق التي وصف بها الناس عالمهم وقاسوه، وكيف خططوا للمعالم الأثرية والمدن وبنَوها، وما هي المواد التي حظِيت بقيمة عظيمة عندهم واعتبروها رموزًا للثروة والقوة. وعلى وجه الخصوص، بإمكان المرء أن يدرس البقايا المادية الخاصة بالدِّين.

ثَمة شيء من الحقيقة في قولهم: إن الدين في الأساس هو محاولة البشر للتواصل مع قوى الطبيعة، وقد كُرس قدر كبير من الجهد في الماضي من أجل هذا المسعى. وعلى الرغم من النزوع المعروف لدى علم الآثار بأن يطلق لفظة «طقس ديني» على أي شيء يبدو غريبًا، فإنه يظل صحيحًا — كما نعرف من الدراسات الحديثة الخاصة بالشعوب البدائية — أن الأنشطة الدينية غالبًا ما يكون لها أهمية عظيمة في الحياة؛ وبما أنه لا يوجد حد فاصل حقيقي بين الشيء المقدس والشيء العلماني، فقد يبدو في النهاية أن قدرًا كبيرًا من الحياة مكرَّس من أجل الدين.

في السنوات الأخيرة، تبين أن أدلة التفكير تعود إلى زمن أبعد من المتصوَّر. على سبيل المثال، ساد اعتقاد لفترة طويلة أن الدفن المتعمَّد لدى البشر بدأ مع إنسان النياندرتال في أوراسيا منذ مدة تتراوح بين ١٠٠ ألف إلى ٤٠ ألف سنة؛ وهناك العديد من الحالات المعروفة، وإحداها حالة الدفن الشهيرة في كهف شاندر بالعراق؛ إذ يبدو أن الجثة وُضعت معها الزهور (وقد عُرف ذلك من حبوب اللقاح التي وُجدت مع العظام). لكن الاكتشافات التي عُثر عليها في حفرة العظام بأتابويركا (انظر الصورة ١٣) دليل قوي على تنفيذ نوع من الطقوس الجنائزية منذ ما يزيد على ٦٠٠ ألف سنة؛ إذ إن مجموعات العظام قد جُلبت عمدًا وأودعت في الحفرة؛ فهذا الموقع ليس موقع حياة (إذ لم توجد أدوات أو بقايا أخرى تدل على نفايات منزلية في المكان)، ولم تُجلب الجثث إلى الحفرة بفعل حيوانات ضارية (إذ لم توجد آثار أسنان على العظام وكل أجزاء الجسم موجودة ولا توجد بقايا من حيوانات مفترسة أخرى). وفي عام ١٩٩٨، عُثر على بلطةٍ يدوية أصلية ورائعة من الكوارتزيت الأحمر يطلق عليها «إكسكاليبور» بين العظام، والأرجح أنها نوع من القرابين. إذَن في هذه الحالة، يطمئن المرء، من محتوى الاكتشافات وسياقها فحسب، أنه كان يحدث نوع من الطقوس الدينية البدائية.

ينطبق الأمر نفسه على «الفن». الفن مفهوم معروف عنه أنه صعب الفهم، ولا يزال الجدال محتدمًا حول صياغة تعريفه. ربما أبسط نهج لفهمه هو التمسك بتعريف عمره قرون وهو: أن «الفن عمل يُبدعه الإنسان مقارنةً بما تبدعه الطبيعة»؛ ومن ثَم نتجنب أي تمايز في تنوع الصور أو المحتوى أو القصد. وكما هي الحال مع الدين، فإنه يصعب كثيرًا في العديد من المجتمعات «البدائية» التفريق بين ما يمكن أن نعتبره فنًّا وما يمكن ألا نعتبره فنًّا؛ فهذه الفروق لا تعني شيئًا لمن يرون كل ضروب «الفن» بأنها وظيفية، سواء أكان بطريقة مباشرة، باعتبار الفن أداة يمكن استخدامها، أو بطريقة غير مباشرة، باعتباره طريقة للتواصل مع الأرواح أو الآلهة أو قوى الطبيعة أو أي شيء آخر. كل شيء يحمل أهمية ومعنًى وهدفًا، ولا تستطيع العديد من الثقافات ببساطة استيعابَ مفهومنا عن «الفن» باعتباره شيئًا منفصلًا أو خاصًّا أو غير وظيفي.

على مدار سنوات عديدة، كان يُرى أن الفن بدأ مع الإنسان المتحضر في أوروبا؛ أي مع أول عمل فني منقول والرسومات داخل الكهوف من أواخر العصر الجليدي. ولكن هذه الفكرة قد كُشف زيفها. ففي الوقت الحالي، يتساوى «الفن» من حيث القِدم بين كل القارات؛ إذ يوجد في أستراليا أقدم نقوش على الصخور على مستوى العالم (إذ يبلغ عمرها أكثر من ٤٠ ألف سنة إذا صحَّ تأريخ مسرِّع قياس الطيف الكتلي)، والأهم من ذلك أنه بات واضحًا الآن أن «الفن» موجود قبل ظهور الإنسان المتحضر بكثير. عُرف هذا الأمر منذ عقود، حيث اكتُشف مدفنٌ لإنسان النياندرتال في جنوب غرب فرنسا وبه بلاطة حجرية عليها سلسلة من «النقوش» الصغيرة (تجاويف دائرية صغيرة) ذات تنظيم دقيق. ولكن ما برحت المؤسسات الأثرية تنبذ هذا الاكتشاف وتعتبره زائفًا، ولم «يحدث سوى مرة واحدة»، ولا يرتقي إلى عجائب فن الكهوف التي اكتُشفت بعد ذلك، مثل كهف لاسكو أو كهف ألتاميرا.

fig9
شكل ٥-١

لكن الآن لم تتزايد أعداد الأمثلة على مختلف «الأعمال الفنية» البسيطة التي أبدعها إنسان النياندرتال فحسب، بل أصبح واضحًا أنه استُخدمت أدوات التزيين؛ وهذا يشهد عليه الصَّدَف الموجود في مواقع إنسان النياندرتال بإسبانيا. بل إن هناك أعمالًا فنية أقدم؛ على سبيل المثال، تمخَّض كهف بلومبوس بجنوب أفريقيا مؤخرًا عن بقايا ورشة لمعالجة المغرة يبلغ عمرها ١٠٠ ألف سنة، وكانت فيها الأدوات التي استُخدمت لإنتاج مركَّب غني بالمغرة، وتخزينه في أوعية صدفية. والمثال الأروع على الأعمال الفنية حصاة صغيرة من صخرة بركانية، وقد عُثر عليها في بركة رام — وهي موقع مكشوف على هضبة الجولان بإسرائيل — في ثمانينيات القرن العشرين. شكلها الطبيعي يشبه امرأة، ولكن توجد تجاويف حول «الرقبة» وتحت «الذراعين»، غير أنه لا يُعرف هل هذه الخطوط طبيعية هي الأخرى أم من صنع إنسان. أثبت التحليل المجهري الذي أجراه الباحث الأمريكي ألكسندر مارشاك، وبما لا يدع مجالًا للشك، أن هذه الخطوط من صنع الإنسان، ومن ثَم فإن هذه الحصاة لا شك أنها «تمثال صغير»؛ أي إنها عمل فني يبلغ عمره ٢٣٠ ألف سنة على الأقل، وربما يزيد. ومن ثَم يصبح لدينا دليل واضح — مرة أخرى — على وجود نشاط إدراكي؛ فقد تعرف أحدهم على الشبه الذي بين الحصاة والمرأة، ثم عمد إلى تحسينه.

حتى وإن ركنَّا إلى الرأي السائد بأن الفن الحقيقي بدأ مع الإنسان المتحضر في نهاية العصر الجليدي، فسيظل صحيحًا أن فن ما قبل التاريخ — لا سيما «الفن الصَّخري» — يشكل ٩٩ في المائة من تاريخ الفن. ومن المفارقات أن معظم الكتب التي تتحدث عن تاريخ الفن تبدأ بصورة ملتقَطة من فن الكهوف (وعادةً ما تكون من كهف لاسكو أو كهف ألتاميرا، وكلاهما لا يمثل تاريخ الفن كليًّا) أو بصورة تمثال صغير لامرأة (وعادةً ما تكون امرأة سمينة، وهي لا تمثل تاريخ الفن كليًّا على حدٍّ سواء) قبل الانتقال إلى الحديث عن أشهر المناطق، وهي أرض مصر وأرض الإغريق. وعلى الرغم من ذلك، فإن كهف لاسكو — الذي يبلغ عمره قرابة ١٧ ألف سنة — يقع عند منتصف مسيرة تاريخ الفن؛ وبالطبع في ضوء التمثال الصغير الذي عُثر عليه في بركة رام، فإنه يسعنا القول: إن كهف لاسكو قد بدأ في «مرحلة متأخرة» من تاريخ الفن!

لا يتسم فن ما قبل التاريخ باتساع النطاق الزمني فحسب، بل بطيفٍ واسع من الأنواع والموضوعات؛ إذ يمتد من النقوش على العظام وحتى الرسومات الرائعة المتعددة الألوان، وبدايةً من علامات الأصابع البسيطة على الصلصال وحتى المنحوتات المعقَّدة الثلاثية الأبعاد. ومن ثَم فبمقدور المرء أن يجد كل شيء وأي شيء يتمنَّاه في هذا الفن؛ وحتى هؤلاء الأفَّاكون وقراؤهم الساذجون — الذين ادعوا في سبعينيات القرن العشرين أنه توجد أدلة على وجود كائنات فضائية أو رواد فضاء قدماء في السجلات الأثرية — وجدوا صورًا في الفن الصخري تبدو (على الأقل في نظرهم) مثل رجال الفضاء!

مما نعرفه عن الفن «البدائي» اليوم، يتجلى لنا أن فنَّ ما قبل التاريخ لا بد أنه خدم عدة أغراض؛ ومنها: الألعاب والأساطير والروايات والرسم على الجدران والرسائل وأساطير الخلق والدِّين. وليس بالضرورة أن تنبثق كل هذه الأغراض عن الجدية وعدم الهَزل بحيث تُبرز الرعب الكامن في الظواهر الخارقة للطبيعة، بل جزء كبير منها ينبثق عن مظاهر الاحتفال بالحياة، بحيث تعكس المرح والبهجة. فقد نُفذت بعض هذه الأعمال في أماكن مكشوفة يراها الجميع، وبعضها في أماكن ذات خصوصية شديدة؛ إذ إنها تختفي في الخبايا أو الكهوف العميقة. وعلى الرغم من هذا التنوع الجَلِي، فإن كثيرًا ممن يدرسون الفن الصخري — أو حتى فن العصر الجليدي — لديهم ميول موروثة بطرح تفسيرات شمولية ومفرطة التبسيط. في الواقع، لا يخلو جانب في علم الآثار من هذا الميل الموروث، وربما كان خطأً متأصلًا في السلك الأكاديمي؛ بحيث إنه بمجرد عثور أحد ما على فكرة قيِّمة في ظاهرها (وعادةً ما تكون مستعارةً من شخص آخر، لكن يحسُن أن يكون من تخصص آخر)، تتملكه رغبة جامحة في تطبيقه على كل شيء من دون استثناء، وفي تطويع كل جانب من جوانب ظاهرة متنوعة بامتياز إلى تفسيرٍ واحد شمولي.

fig10
شكل ٥-٢: رسم عُثر عليه في كهف لاسكو، فرنسا.

عادةً ما تُبرز التفسيرات المختارة الأفكارَ الراسخة والتحيزات المعاصرة؛ ففي البداية، كان يُنظر إلى فن ما قبل التاريخ على أنه رسم عبثي أو أنه نشاط ترفيهي، بمعنى «الفن من أجل الفن وكفى». ثم في مطلع القرن، بدأت تظهر روايات عما فعلته الشعوب «البدائية» المعاصرة، وقد طُبقت بعض الأفكار التبسيطية على فن ما قبل التاريخ من دون أي نقد؛ وأبرز هذه الأفكار أن هذا الفن خدم أغراضًا سِحرية؛ بحيث يساعد في عمليات الصيد أو الخصوبة. وفي خمسينيات القرن العشرين، قادت الحركة البنيوية في فرنسا إلى أفكار جديدة حول توافر عنصر البنية المحددة والمتكررة في فن الكهوف؛ وعلى الجانب الآخر، شهدت فترة «الستينيات الحماسية» مقترَحًا بأن الحيوانات المرسومة على الكهوف كانت رموزًا جنسية، كذلك أدى عصر الفضاء إلى التركيز على الرموز القمرية المحتملة وغيرها من عمليات الرصد الفلكية الملموسة في بعض الفنون والآثار التي تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ. أما في عصر الكمبيوتر، فلا ريب أنه أدى إلى رؤية الفن الصخري وكأنه سلسلة من الأقراص المدمجة أو «الأقراص المرنة» الضخمة؛ إذ تسجَّل عليها المعلومات بهدف تخزينها واسترجاعها سريعًا. ويبدو أن أحدث النظريات — التي تقول إن الفن الصخري يتكون إلى حدٍّ كبير من صور النشوة — كانت إرثًا مباشرًا لثقافة المخدرات التي شاعت في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن العشرين؛ إذ اتَّسمت هذه الفترة بالميل إلى النزعة الصوفية والشامانية والمهلوسات وتغير حالات الوعي وما إلى ذلك، وقد بلغت ذروتها في المؤلفات الهائلة التي تتحدث عن «العصر الجديد».

بغضِّ النظر عن هذه التفسيرات، وربما جميعها يحمل قدرًا من الصحة، لا تتغير حقيقة أن الفنان هو الوحيد القادر على أن يقول ما الذي يعبر عنه العمل الفني وما الغرض من ورائه. ولا يسعُنا التيقُّن من شيء. ففي تجربة شهيرة، طلب عالم أسترالي من بعض السكان الأصليين أن يتعرفوا على بعض الحيوانات في لوحة فنية على الصخر، وقد اختلفت تسمياتهم عمَّا توصلت إليه مبادئ علم الحيوان في البلدان الغربية اختلافًا كبيرًا؛ فمن بين ٢٢ صورة، أخطأ علماء الغرب في نحو ١٥ صورة، ولم يصيبوا على ما يبدو إلا في سبع صور! ولكن لأن من عاشوا في عصور ما قبل التاريخ لم يعودوا بيننا، ومن ثَم لا يمكننا الوصول إلى المعنى الحقيقي من وراء العمل الفني، فلا يسعُنا إلا محاولة تقييم ما يصوره العمل الفني، على حد ما نرى، ومحاولة تقييم أهميته.

لا شك أن الفن الصخري استُخدم في بعض العصور من أجل تسجيل المعلومات ونقلها. تصبح الأمور أسهل بكثير على عالم الآثار الإدراكي حين يتعلق الأمر بالنصوص الحقيقية. ولكن عليه أولًا أن يفك رموز هذه النصوص. وهذه مهارة متخصِّصة للغاية وتحتاج إلى نوع خاص من العقل التحليلي. ولا يخلو المجال من الرواد البارزين، مثل شامبليون وهو أول من فك رموز اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة (وقد ساعده على ذلك اكتشاف حجر رشيد الذي يحمل نصوصًا متطابقة باللغتين المصرية القديمة واليونانية). وفي القرن العشرين، ظهرت شخصية كبيرة — حظِيت بكل التبجيل لأن صاحبها تُوفي في أوج شهرته مثل بعض نجوم البوب — وهو مايكل فينتريس، وكان مهندسًا معماريًّا، أعلن في سنة ١٩٥٢ أنه فك رموز النظام الخطي «ب»، وهو نص يعود إلى الحضارات الأولى التي قامت عند بحر إيجة، كما أنه شكل قديم من اللغة اليونانية (وعلى الرغم من وجود النص في جزيرة كريت، فإنه لا صحة لروايةِ أن أحد الألواح كُتب عليه: «إنه شيء صغير ولكنه من الحضارة المينوسية»). لم يقابَل اكتشافه — مثل معظم الرواد — بالاحتفاء، بل بصيحات الاستنكار الساخطة من زملائه في المجال. وهذا شائع في كل شُعَب علم الآثار؛ وقد حدث الأمر نفسه حين اكتُشفت مكتبة كاملة من الألواح المكتوبة بالنظام الخطي «ب» مدفونة في اليونان، وقد تطابقت ترجماتها تطابقًا تامًّا مع ما قاله فينتريس، ولم يكن أمام الخبراء خيار سوى أن اتهموا المنقِّب وفينتريس بالتزوير!

لا تتخيل أن فك الرموز فن آخذ في الأُفول، بل إن شمسه لا تزال مشرقة وساطعة. ولم تُفهم نقوش المايا المعقدة في أمريكا الوسطى فهمًا صحيحًا إلا في الآونة الأخيرة بعد قرن من الجهود البحثية التراكمية، وأما نقوش «رونجو رونجو» في جزيرة الفصح — المكتوبة على ٢٥ لوحًا خشبيًّا فقط — فقد فُكت رموزها، على الأقل من حيث بنيتها ومحتواها العام. لكن لا يزال كمٌّ هائل من العمل بحاجة إلى الإنجاز، ولم تُفك حتى الآن رموز النظام الخطي «أ» (من حضارات بحر إيجة)، ولا رموز النقوش السندية (التي استخدمتها الهند القديمة وباكستان)، ولا تزال هذه النقوش تمثل تحديًا أمام المتحمسين الذين يريدون تحدي عقولهم.

بمجرد التمكن من قراءة هذه النصوص، فلا شك أنها ستوفر قدرًا عظيمًا من المعلومات القيمة عن الأنماط الإدراكية في الماضي، مثل النقوش من المواقع الكلاسيكية أو الكتابات الأولى التي خطَّها المستعمرون، وغير ذلك. ولكن كما هي الحال مع التاريخ بوجه عام، ينبغي أن تُرى الكلمة المكتوبة دومًا على أنها مُكملة لعلم الآثار وليست بديلًا عنه؛ وتصح هذه النظرة للمجتمعات القديمة على وجه الخصوص؛ إذ إنهم لم يستخدموا الكتابة إلا لأغراض محدودة جدًّا، وكانت معرفة القراءة والكتابة مزيةً تختص بها الصفوة الأقلية. لكن من ناحية أخرى، انتشرت معرفة القراءة والكتابة في اليونان الكلاسيكية، واستُخدمت الكتابة في كل مناحي الحياة تقريبًا؛ ومن ثَم فإن النصوص يمكن أن توفر أفكارًا هائلة، مثل الأفكار الخاصة بالتعرف على الآلهة والأساطير في الأدب (ومن دون الأدب الكلاسيكي، فإن معظم الأعمال في الأدب الإغريقي والروماني لن يعني لنا الكثير)، ولكن كما هي الحال دومًا، لا تخلو النصوص من التحيزات، كما أنها تفتقر إلى الكمال.

خُصِّص جزء كامل من علم الآثار الإدراكي لدراسة علم الفلك الأثري، ويُقصد بها دراسة المعارف القديمة الخاصة بالظواهر السماوية. وكما ذكرنا من قبل، ربما توجد نقوش قمَرية من العصر الجليدي الأخير (لا شك أن أطوار القمر كانت الطريقة الرئيسية التي تقيس بها الشعوب القديمة مرور الزمن)، ولكن الأمر وصل إلى قمة تألُّقه في أواخر حقبة ما قبل التاريخ مع ظاهرة موازاة المعالم الأثرية لأحداثٍ فلكية مهمة، مثل شروق شمس منتصف الشتاء أو شمس منتصف الصيف. وبدايةً من المعالم الأثرية الصخرية لحقبة ما قبل التاريخ في غرب أوروبا وحتى الأبنية الضخمة في حضارات أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، كانت هناك حالات موازاة دقيقة ما يبين المعرفة العميقة بحركة الأجرام السماوية وبالأهمية التي تنطوي عليها.

fig11
شكل ٥-٣: المدخل إلى نيو جرانج، أيرلندا. لاحظ «النافذة» فوق عتبة الباب إذ تنفذ منها أشعة الشمس ساعة الصبح حين يحدث الانقلاب الشتوي.
بالمناسبة، كلمة Megalith لفظة يونانية، وتعني بالعربية «العمود الحجري الكبير» (وهي على عكس كلمة Microlith، وهي مصطلح آخر بالغ الأهمية في علم الآثار؛ إذ يُستخدم لوصف الأدوات الحجرية بالغة الصغر). وأبسط شكل من أشكال العمود الحجري الكبير هو الحجر الفردي القائم — مثل الحجر الذي يحمله أوبليكس في قصة «أستريكس» المصورة — في فرنسا وغيرها، والمصطلح الصحيح الذي يطلق على هذه الحجارة هو menhir ويعني «الشاخص الحجري». في أوروبا، هذه الشواخص الحجرية مرصوصة في شكل صفوف ومجموعات أو «خطوط مستقيمة»، ولكن في بريطانيا على وجه التحديد، فإنها تتخذ أشكالًا دائرية أو بيضاوية. يُعتقد أن هذه الشواخص تُوازيها ظواهر فلكية، ولكن لا يمكن التيقُّن من هذا الاعتقاد دومًا؛ إذ إن السماء مليئة بهذه الظواهر، لدرجة أنه يوجد احتمال كبير أن تتوازى الحجارة المرصوصة بطريقة منتظمة أو غير منتظمة مع ظاهرة مهمة عن طريق الصدفة البحتة. لكن في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أبهر عددٌ من علماء الفلك المتخصصين العالَم الأثري الشاسع بحسابات معقَّدة وأدوات صُممت كي تثبت أن الناس في حقبة ما قبل التاريخ كانت لديهم معرفة قوية؛ لدرجة أنهم تمكنوا من بناء حواسيب صخرية، ومن الأمثلة على ذلك معلم ستونهنج؛ إذ كان أداة ضخمة ودقيقة للتنبؤ بحالات الكسوف والخسوف!

بمجرد أن فُضح هذا الشطط، تُرك المجال مفتوحًا لعقولٍ أكثر منطقية كرَّست قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد — في مواجهة الشكوك الأولية الهائلة التي تحوَّلت تدريجيًّا إلى قبول على مضض — كي تُثبت أن العديد من الدوائر الحجرية في أوروبا تتوازى توازيًا تقريبيًّا، ولكنه مقصود، مع الظواهر الفلكية لأغراض التقويم على الأرجح، وبذلك يعرف المزارعون مواسم الزراعة والحصاد (أم هل يُفترض بالمرء أن يتمكن من معرفة هذه المواسم من دون تقويمات حجرية ضخمة؟).

من أبرز المؤيدين لهذا الرأي المهندس الاسكتلندي ألكسندر توم؛ إذ إنه وضع خططًا دقيقة للدوائر البريطانية، واعتقد أنه استُخدمت وحدة قياس قياسية في تخطيط هذه الدوائر، وقد أسماها «الياردة الحجرية»، وهي تساوي ٢.٧٢ قدم. وعلى الرغم من صعوبة إجراء قياسات دقيقة في هذه المعالم الأثرية — فغالبًا ما تكون الحجارة خشنة وغير منتظمة الشكل؛ ومن ثَم من أين لك أن تعرف المكان الذي ينبغي أن تضع فيه طرف شريط القياس؟ — فقد صار هناك قبول عام أنه ربما استُخدمت وحدة قياس قياسية. ولكن بعيدًا عن اللجوء إلى الرياضيات المعقدة، فإن التفسير الأرجح أن بناة المعلم الأثري استخدموا الخطوة البشرية لوضع الحجارة في مكانها.

انقسم الناس في العصور الأولى إلى طبقات كما هي الحال اليوم، ويتجلَّى هذا الانقسام في رموز القوة التي تتفاوت بدايةً من التماثيل الضخمة للحكام (مثل جبل راشمور) وحتى الملابس أو الزينة الغالية الثمن (شعارات المصمِّمين، الأقراط الماسية)، وكل هذه الأشياء ليس لها فائدة جوهرية غير أن الصفوة تعتبرها أشياء قيِّمة. وعادةً ما كانت المواد النادرة والثمينة تُعطى على سبيل الهبة، ومثلها المقتنيات المزخرفة ذات الصنعة الجميلة التي لا تُستخدم في أغراضها الظاهرة (مثل الفئوس السهلة التفتيت، والدروع المصنوعة من الألواح البرونزية، ورءوس السهام الحجرية الرقيقة). كذلك المدافن التي تضم مقتنيات فخمة يقتضي المنطق أنها تخصُّ الأثرياء أو أصحاب النفوذ، وهذا يؤكد طبقيةَ المجتمع. وبطبيعة الحال، ينتهي بنا المقام إلى المقابر المَهيبة والفخمة للحكام المعروفين في كل الحضارات الكبرى — بدايةً من الملك أور والملك توت، وحتى جيش الطين الصيني وملوك سيبان في بيرو — والفن والعمارة المهيبة المرتبطة بالنخبة في هذه الثقافات وفي غيرها. لكن لا يسع المرء أن يتيقن بنسبة مائة في المائة بشأن أي شيء في الماضي، مثل وضع معادلة بسيطة تربط الثروة بالمكانة (ففي نهاية الأمر، ملوك المملكة العربية السعودية الفاحشو الثراء في أيامنا هذه يُدفنون ولا يوضع معهم شيء)، ولكن العقل بوجه عام يفترض أن القبور الفخمة يسكنها أناس كانوا مرفَّهين في حياتهم أيضًا. لكن وجب التنويه إلى أن وضع المقتنيات مع الميت لا يدل بالضرورة على أي إيمان بالحياة الآخرة؛ ففي بعض الثقافات، كانوا يعتقدون أن استخدام مقتنيات الميت تجلب الحظ السيئ؛ ولذا كانوا يدفنونها معه. لكن وجود الطعام في المقبرة دليل دامغ على توقُّع أن ينهض الميت ويتناول وجبة خفيفة بعد موته في العالم الآخر، ومن ثَم فهذه دلالة على شيء من معتقَدٍ ديني. وينطبق الأمر نفسه إذا وُجد المرءُ الميتُ يرافقه خدمه بعد نحرهم عمدًا كي يستمروا في وظيفتهم إلى الأبد في الحياة الآخرة؛ وهذه صفقة عفِنة في حق الأيدي العاملة.

كثيرًا ما اتُّخذ الدين في هذه المجتمعات ليكون وسيلة للحفاظ على هذه الطبقية، ولكن التعرف على وجوده في المادة الأثرية ليس بالمهمة السهلة، لا سيما إذا كان داخلًا في الأنشطة اليومية. لكن يوجد عدد من القرائن الواضحة التي ينبغي البحث عنها، مثل الأبنية الخاصة المكرَّسة للوظائف المقدسة، والتركيبات الخاصة، مثل المذابح، وأدوات الطقوس، مثل النواقيس والأجراس والمصابيح وما إلى ذلك. وغالبًا ما تدخل المياه في هذه الطقوس؛ ولذا قد تكون المسابح أو الأحواض ذات أهمية؛ وكذلك ربما نُحرت القرابين من الحيوانات والبشر. يمكن أن تكون صور العبادة ورموزها واضحة، وكذلك الأمر مع صور أشخاص يراها (الناظر منَّا) وكأنهم يؤدون عبادة؛ وعلى الجانب الآخر، يمكن العثور على نذور من طعام أو قرابين (وغالبًا ما تكون مكسورة أو مخفية). وفي النهاية، غالبًا ما ترتبط الأبنية أو المراكز الدينية المهمة بالثروة الضخمة في المحتويات والزخارف.

fig12
شكل ٥-٤

لا تنطوي فرادى هذه العناصر على قدر كبير من المعلومات، ولكن إذا عُثر على عدد منها مجتمعةً وفي سياق أثري واحد، فحينها يقف عالم الآثار الإدراكي على أرض صلبة بالقدر اللازم لتفسير الأدلة على أنها استُخدمت في أداء العبادات. ينطبق الأمر نفسه على المجموعات الكاملة من المقتنيات الثرية التي يُعثر عليها في ظروف خاصة، مثل أسلحة العصر الحديدي الملقاة في نهر التايمز، أو المئونة الضخمة من الأدوات المعدنية في المستنقعات الاسكندنافية، أو الكميات الهائلة من المقتنيات الثرية من الناحية الرمزية (والأشخاص) التي رماها شعب المايا في الحفرة (البئر) في تشيتشن إيتزا. والأرجح أن كل هذه المواد قد آلت إلى المياه نتيجة ممارسات الطقوس، وليس بسبب عدم الاكتراث لها، على الرغم من احتمالية هذا الرأي.

وعلى كلٍّ، بإمكان علم الآثار الإدراكي إجراء بعض التقييمات للعقول التي غابت عن دنيانا. لكن في مجالات أخرى، يتطلب الأمر كثيرًا من التفاؤل، ويحتاج إلى أن ينتصر العقل على المادة. وفي أفضل الأحوال، يقدم علم الآثار الإدراكي افتراضاتٍ محفزة قائمة على معلومات قديمة أو حديثة — لا سيما الروايات التي يرويها الغزاة أو المبشرون والمستعمرون الأوائل — أو على استنتاجات من البقايا المادية نفسها. أما في أسوأ الحالات، فإنه يمتلئ بالأفكار الحالمة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمحاولات فك رموز فن ما قبل التاريخ؛ فإنه يُنتج «قصصًا خالية من المعنى» وخيالًا محضًا لمحاولة تفسير البقايا المادية، ومن بعدها ينعت المؤلفون أنفسهم بأنهم روائيون محبَطون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤