الفصل السابع

كيف حدثت التغيرات، ولماذا؟

لعل أصعب الأسئلة التي تواجه عالم الآثار هي التي تبدأ بأداة الاستفهام «لماذا». فما الذي أحدث التغييرات المشهودة في المجتمعات القديمة في السجلات الأثرية؟ يصب كلٌّ من التعددية واتساع نطاق علم الآثار في العصر الحالي وتشعُّب النهج الخاصة بماضي الإنسان في تنوع نظرية علم الآثار المعاصرة، وهذا التنوع لا يُرى إلا كونه نقطةَ قوة، ولعله يتمخَّض عن رؤًى جديدة: لا بد من استكشاف كل السبل، حتى وإن تبيَّن أن العديد منها نهايته مسدودة. يرتبط التنوع جزئيًّا بالتصورات والمفاهيم المسبَقة المختلفة لدى علماء الآثار. وفي الحقيقة، ما انفكت محاولات علم الآثار في شرح الماضي، ولا سيما التغيرات التي حدثت في الماضي؛ تتنوع تنوعًا كبيرًا تبعًا للميول والسياسات والخلفية الاجتماعية لدى علماء الآثار، إذ يصب العالِمُ تركيزه على عامل واحد فقط مثل البيئة أو تغير المناخ أو التكنولوجيا أو الضغط السكاني أو الغزو أو الكوارث، أو غيرها من العوامل.

تبيَّن أنه لا شيء كافٍ من هذه التفسيرات «الأحادية العامل»، ولكن ربما يحمل كل تفسير منها قدرًا من الحقيقة. وعلى أي حال، يعكف علماء الآثار باختلاف مشاربهم على محاولة تفسير الأحداث المختلفة بناءً على الحقبة الزمنية أو النطاق الزمني أو نوع الموقع أو المسألة التي يهتمون بها. فعالمٌ يتناول تغير توزيع المواقع في العصر الجليدي ربما يستخدم نهجًا مختلفًا عن عالم يدرس غليون التبغ المصنوع من الصلصال ويبلغ عمره بضعة قرون. وبذلك يتضح أن في أيدينا مجموعة كبيرة من التفسيرات التي ننتقي منها؛ على سبيل المثال، هل يحاول الواحد منا دراسة أحداث فردية في الماضي أم حلقات قصيرة المدى أم صورة طويلة المدى وتمثل مزية فريدة في علم الآثار؟ ومن الأسئلة التي يمكن طرحُها ما يأتي: ما أسباب تدمير هذه المدينة؟ أو ما الذي أحدث هذا النمط في المادة الأثرية؟ أو كيف بدأ إنتاج الغذاء على مستوى العالم؟ وحرِيٌّ بالمرء أن يختار تفسير عالم ما بعناية كي يطمئن إلى أنه سيساعده في المسألة التي هو بصدد دراستها. ولحسن الحظ، يوجد كم هائل من التفسيرات التي ننتقي منها.

على مدار سنوات عديدة، ظل معظم علماء الآثار قانعين بالإجابة عن الأسئلة البسيطة التي تحمل أدوات الاستفهام «ماذا»، و«متى»، و«أين»، و«كيف»، كما أنهم غضُّوا الطَّرْف عن الأسئلة الأصعب أو نحَّوها جانبًا بإجابات مبسَّطة، بل إنهم ركزوا على ما يعتبرونه داخلًا في «علم الآثار». وكما قال فيليني ذات مرة: «لا أعرف كيف أطرح الأسئلة، ولا أعرف متى أتمكن من طرح سؤال ذكي، بل أجدُني غير مهتم حقًّا بالإجابة.» وعلى الرغم من ذلك، فقد أنتج أفلامًا جيدة (وأنتج كذلك أفلامًا سيئة بالطبع). لكن في العقود القليلة الماضية، اكتسب «علم الآثار النظري» شهرةً واسعة، لا سيما في أمريكا الشمالية وبريطانيا والدول الاسكندنافية، وقد انعقدت سجالات شديدة التجريد. لا بد من توضيح كل شيء؛ فقد رُفع الستار عن كل الافتراضات الخفية، وكذلك عن الاستدلال المنطقي الداعم لكل مرحلة في طرح التفسيرات.

لا تزال الشُّعب الأخرى، مثل علم الآثار الكلاسيكي أو التاريخي، تصب تركيزها على العمل الميداني وتحليل النصوص والتعامل مع الأدلة الحقيقية. على سبيل المثال، بعض علماء الآثار في ألمانيا — حيث يُخصص اهتمام ضئيل جدًّا للنظريات — عادةً ما يرون علماء الآثار التنظيريين ينتمون إلى علم الآثار اسمًا فقط (لا سيما أنهم ليسوا متأكِّدين من أن يخلفهم أحد). وعلى الرغم من ذلك، ما برِح علم الآثار يتأثر تأثرًا كبيرًا بالنظريات، سواء كان ذلك ضمنيًّا (أو حتى دون وعي) أو صراحةً. على سبيل المثال، قدمت فكرة التطور — التي طرحها تشارلز داروين بأقصى درجات الوضوح في كتابه «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩ — تفسيرًا منطقيًّا لأصل الجنس البشري وتطوره، وقد أثرت هذه الفكرة من فورها في علماء الآثار حينذاك، وساعدت في وضع الأساسات التي يُستند عليها في دراسة التصنيف النوعي للمصنوعات اليدوية (الفصل الأول). وفي المجال الاجتماعي أيضًا، رُسِمت مخططات تقدُّم الإنسان في سبعينيات القرن التاسع عشر على يدِ كلٍّ من إدوارد تايلور (من بريطانيا) ولويس مورجان (من أمريكا)؛ حيث اقترحا أن المجتمعات البشرية تطورت من مرحلة «الوحشية» (الصيد البدائي) مرورًا بمرحلة «البربرية» (الزراعة البسيطة) ثم إلى مرحلة «الحضارة» (وهي أرقى أشكال المجتمع). وتوجد في بعض الأحيان مرحلة رابعة، وهي مرحلة الانحطاط.

على وجه الخصوص، اعتمدت مخططات مورجان اعتمادًا كبيرًا على معرفته بالهنود الأمريكيين الذين هم على قيد الحياة، ومعرفته بأن هؤلاء الناس سبق أن عاشوا حالة من الشيوعية البدائية، أي كانوا يتشاركون الموارد بالتساوي، وهذا بدوره أثَّر تأثيرًا عميقًا في مؤلفات كارل ماركس وفريدريك إنجلز عن مجتمعات ما قبل الرأسمالية، وقد ألهمت هذه المؤلفات عالِم الآثار العظيم جوردون تشايلد، المولود في القرن العشرين في أستراليا، والمتخصص في حقبة ما قبل التاريخ. ففي أحد مؤلفات تشايلد الأخيرة — التي تأثرت بالأفكار الماركسية والثورة الماركسية في روسيا (في مرحلة متأخرة نسبيًّا) — طرح فكرة أنه في حقبة ما قبل التاريخ اندلعت «ثورة العصر الحجري الحديث»، ما أدى إلى النهوض بالزراعة، ثم اندلعت «ثورة حضرية» أدت إلى بناء القُرى والمدن الأولى. وكان تشايلد من أوائل علماء الآثار الذين اهتموا اهتمامًا حقيقيًّا بحل هذه المواضيع الشائكة التي تتناول بدقة لماذا وقعت الأحداث وتغيرت في الماضي وكيف، على الرغم من أنه كان موهوبًا كثيرًا في جمع البيانات، ومرتاحًا أيَّما راحة في المسعى الأكثر تقليديةً، وهو إنشاء التسلسلات الزمنية والتصنيفات النوعية. قد تكمن الإجابة عن هذا التناقض الواضح في انحرافه ونهجه غير التقليدي تمامًا في الحياة؛ فالأسماك الميتة فقط هي التي تسبح مع التيار.

في أمريكا، كان أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في القرن العشرين هو عالم الأنثروبولوجيا جوليان ستيوارد، الذي قدم تفسيرات للتغيُّر الثقافي بناءً على فَهمه لأنماط الثقافات الموجودة في عصرنا الراهن. فهو لم يركز على كيفية تفاعل الثقافات بعضها مع بعض فحسب، بل ركز على مدى تأثير البيئة في إحداث تغيير ثقافي، وهو ما أسماه «علم البيئة الثقافي». أما عالم الآثار البريطاني جراهام كلارك — المتخصص في حقبة ما قبل التاريخ منذ ثلاثينيات القرن العشرين فما بعد — طوَّر نهجًا بيئيًّا يختلف عن علم الآثار التقليدي الذي تهيمن عليه المصنوعات اليدوية، والذي اهتم به معاصروه، فقد أدى تأكيده على كيفية تكيف السكان مع بيئتهم إلى التعاون مع العديد من أهل التخصصات الأخرى، الذين يمكنهم التعرف على بقايا النباتات والحيوانات، وأعاد بناء بيئة الماضي وطرق العيش بقدر كبير من التفاصيل. وقد وضع هذا العمل الرائد أسس شُعبة كاملة من علم الآثار الحديث.

بحلول ستينيات القرن العشرين، ترسَّخ هذا النوع من علم الآثار «العلمي»، ومع ظهور طرق التأريخ المطلق (الفصل الثاني)، باتت التواريخ تحدَّد بسرعة كبيرة، ولم تعُد ضمن الأهداف الأساسية في البحث. ومن ثَم أتيحت الفرصة للانتقال — أو تخصيص مزيد من الاهتمام — إلى الأسئلة الصعبة حقًّا بدلًا من الأسئلة البسيطة المتعلقة بالتسلسل الزمني أو الثقافة. ومن هنا طفَت حالات الاستياء؛ ففي حركة تذكرنا بتمرُّد الشباب الأثرياء على آبائهم القانعين بأنفسهم، بدأ «بعض العلماء الشباب المستائين» — لا سيما في وسط غرب أمريكا — يحطُّون من قدر الطريقة التي تُجرى بها البحوث الخاصة بعلم الآثار، وخصُّوا منها — بقدر من التبرير — التفسيرات البسيطة التي تُطرح لتوضيح الأنماط في البيانات، مثل الهِجرات أو الغزوات أو الانتشار أو «التأثيرات» الغامضة. تكاد الأدوات الحجرية والمصنوعات الفخارية تُرى على أنها مرادفة للشعوب، وكأنها ترتحل وتتزاوج من أجل إنتاج أنواع وأنماط جديدة. وبطبيعة الحال، فقد وقعت الهجرات وشُنَّت الغزوات، في واقع الأمر، في الماضي (مثل الاحتلال الأول لجزر المحيط الهادي)، ولكن ربما لم يكن التعرف عليها شائعًا أو مباشرًا في السجلات الأثرية، وهذا على خلاف ما اعتُقد من قبل.

جاء الرفض الشديد من العلم الذي أصبح معروفًا باسم «علم الآثار الحديث» أو «علم الآثار الإجرائي»، وهذه التسمية نابعة من التركيز على التفسيرات الإجرائية أو دراسة العمليات المختلفة التي تحدث داخل المجتمع. وإذا غضضنا الطَّرْف عن الشخصيات المعنية — من المفارقة أن الشَّيب قد اشتعل في شعر لِحاهم وتعتبرهم الأجيال الشابة أن الزمن عفا عليهم وأصبحوا مملين — فما الجوانب الإيجابية لهذه الحلقة من تطور علم الآثار؟ أولًا، شجعت العلماء كي يتحلوا بمزيد من التفاؤل (أو حتى المثالية) بشأن أنواع وكم المعلومات التي يمكن استخراجها من الآثار المادية التي خلفها الماضي. وقد أثمر هذا عن مزيد من الوضوح في كل مراحل الاستنتاج المنطقي في علم الآثار؛ ومن ثَم لا يجدُر قبول فكرةٍ ما لمجرد أن مقدمها هو العالم فلان لأنه حُجَّة وخبير ذو مكانة مرموقة في علم الآثار. وبذلك يتوجَّب أن تقوم كل حجة على إطار من المنطق، وعلى فرضيات سديدة وقابلة للاختبار. وفي بادئ الأمر، كان جُل التركيز ينصبُّ على التفسير دون الوصف. فبدلًا من الطرق البسيطة الخاصة بعلم الآثار الأول (مثل التأثيرات والهجرة وغير ذلك)، كانت الثقافات تُحلَّل على أنها أنظمة رئيسية وأخرى فرعية. فقد كُرِّس قدر كبير من الاهتمام إلى العلاقات بين البيئة ولقمة العيش والاقتصاد، وإلى التفاعل بين الوحدات الاجتماعية المختلفة؛ ومن الأمثلة على ذلك: الطرق التي عملت بها الجوانب المختلفة في المجتمع، وكيف توافقت معًا، بحيث تساعد في تفسير التطورات بمرور الزمن؛ ومن ثَم تساعد في وضع «قواعد» لصلاحية التطبيق العام في السجلات الأثرية.

بالطبع جانب كبير من هذا كان امتدادًا طبيعيًّا لما بدأه ستيوارد وكلارك والعديد من الرواد غيرهما، وأضف إلى ذلك المساهمات الجديدة التي قدمتها العلوم الصعبة وتكنولوجيا الكمبيوتر في كل مجالات التحليل، وكذلك الأفكار المستمَدَّة (على الرغم من أنها لم تُكلَّل بالنجاح والتوفيق على الدوام) من الجغرافيا وفلسفة العلوم وعلم البيئة، وغيرها من العلوم. وفي حقيقة الأمر، في بحث مُضنٍ اضطلع به علماء الآثار الجدد عن الحداثة، أدخلوا العديد من المفاهيم المتنوعة من كل المجالات، ولا شك أن تلك المفاهيم فتحت آفاقًا مفيدة وسط هذه الأفكار السطحية القليلة الفائدة. إنما مثَل علم الآثار كمثل إسفنجة ضخمة تمتص وتدمج بداخلها قصاصات الأفكار والتقنيات من محيطٍ يضم كل التخصُّصات العلمية.

للأسف، يمكن القول: إن المعارك الكلامية التي شنَّها «علم الآثار الحديث» ضد «التقليديين» لا تشبه شيئًا بقدر ما تشبه السياسات الحزبية ذات المبادئ الشديدة التعارض؛ حيث يقتتل أنصار كل حزب في انتقاد كل ما يقوله أو يفعله الحزب المعارض. ومن ثَم أصبحت النظرية شارةً شخصية؛ إذ يختارها الشخص كما يختار حزبًا سياسيًّا أو دِينًا. وهذا يعني الانحياز إلى مجموعة واحدة، وبدأت النظريات يكون لها مشجعون مثلما هي الحال مع نجوم موسيقى البُوب. وعلى إثر ذلك، كوَّن أصحاب علم الآثار الحديث «المجموعة الداخلية»، ومن ثَم يُنبَذ أي شخص آخر تلقائيًّا إلى «المجموعة الخارجية»؛ ومن هنا جاءت الإدانة الصاخبة لمبادئ التقليديين وممارساتهم؛ إذ إن السببين الأساسيين في نبذهم هما: زعمهم أنه لا مجال للنظريات، ومنهجهم غير العلمي. على الرغم من ذلك، أشار ستيفن جاي جولد إلى أن السكوت عن طرح النظريات لا يدل على أنه لا توجد نظريات. ولم تدرك الأجيال الشابة في علم الآثار الحديث أنه توجد طرق مختلفة لممارسة علم الآثار، وكلها طرق مشروعة وصالحة إلى حدٍّ ما.

اتَّسم هجومهم وشراستهم بالضراوة، كما أنهم لم يكتفوا بتوجيهه إلى خصومهم، بل وجهه بعضهم إلى بعض؛ وكأنهم يقولون إذا كنت في موقف ضعيف، فاصرخ! لكن توجد سمات لدى أهل علم الآثار الحديث تسببت في أكبر قدر من الإساءة، وهي العُجب والتعصُّب والتشبُّث بالرأي وغموض اللغة؛ وهي سمات منبوذة؛ لأنها أخفت صدقًا جوهريًّا ومتَّقِدًا، وقللت من تأثير الجوانب الإيجابية في نهجهم إلى حدٍّ كبير. فقد عجَّت لغتهم بالألفاظ الاصطلاحية، واتُّخذت بديلًا للفكر؛ فالإسهاب المفرط عادةً ما يخفي نقصًا جوهريًّا في المعلومات الحقيقية. وفي رأي الكثيرين، فلم يكن تعبيرهم عن أفكارهم تعبيرًا ضحلًا فحسب، بل كانت أفكارهم خاوية، وهُم قالوا ذلك علانية بل أكثر من مرة.

آل كلُّ هذا التفاخر والتهويل المفرطَين إلى سخرية حين أتت اللحظة الحاسمة؛ فدائمًا ما تنطلق الضحكات حين يُرى شخص متباهٍ وقد انكبَّ على وجهه. وبطبيعة الحال، تكمن بعض الفوائد في هذا كله، لكن إذا ركنت إلى أيديولوجية تنهار في نهاية المطاف (كما يفعل الجميع)، فلن تخرج من دون أن يطولك أذًى. وبمرور الوقت، سكت الغضب، وأدرك المناصرون أنه لا توجد قوانين كونية إعجازية في سلوك الإنسان كي تُستخلَص من البيانات الأثرية غير القوانين المباشرة وذات التبسيط المفرط (ومن أشهر الأمثلة عليها قانون: «كلما زاد السكان في الموقع، زادت أعداد أقبية التخزين»)، كما أدركوا أن علم الآثار الحديث لم يُنجِز كثيرًا مما وعد به؛ إذ بشَّر بمستقبل مشرق جديد «قائم على العلم» في إعادة إحياء الماضي. لقد نضج الشباب المتحمس والمتمرد حتمًا، وبلغوا مرحلة الواقعية البراجماتية التي يتميز بها منتصف العمر. ولكن ظل الحال كما هو بالنسبة إلى الغالبية العظمى من علماء الآثار، لا سيما من هم خارج بريطانيا وأمريكا الشمالية. لكن الكلاب تعوي والقافلة تسير.

لكن حدث ما لا مفر منه، وسرعان ما اندثر «علم الآثار الحديث»، وبدوره حُطَّ من قدره؛ إذ حلَّت محله نُهجٌ جديدة على يد شباب أتراك استماتوا كي يأتوا بجديد ويتركوا بصمتهم. كذلك نُبِذ علم الآثار الإجرائي لأنه يتبع النمط «العلمي» أو «الوظيفي»، ويعتمد على التفسيرات البيئية، ويُفرط في الاهتمام بالأنماط النفعية للحياة. وبذلك، أصبح لدينا كمٌّ هائل من النُّهج، وقد عجَّ المجال بالجدالات بين أنصار الوضعية والماركسية والبنيوية وما بعد البنيوية ومَن على شاكلتهم حتى بلغ السيل الرُّبى.

أخص بالذكر هنا ظهور نهج يُسمى «علم الآثار ما بعد الإجرائي» أو «التأويلي»، وينطوي على تأثيرات من الدراسات الأدبية ومن مجالات أخرى تشمل التاريخ والفلسفة. رفض هذا النهج التعميمات التي يبدو أنها أحد أهداف علم الآثار الحديث، ومن ثَم انصبَّ تركيزه على تفرد كل مجتمع وثقافةٍ وتنوعِهما. بالإضافة إلى ذلك، أصرَّ على عدم إمكانية تحقيق الموضوعية التي هي هدف آخر من أهداف علم الآثار الحديث، وقد أصاب حين جَزم بأنه لا توجد طريقة واحدة أو صحيحة لتفسير الماضي أو لإجراء البحوث المتعلقة به. ونتيجة لذلك، فإن لكل راصدٍ الحق في أن يُدلي برأيه عن الماضي، ما يؤدي حتمًا إلى موقف «يباح فيه كل شيء»؛ حيث ينبغي أن تعتبر آراءُ غير المطَّلع أو الدعيِّ أو كاتب الخيال العلمي صالحة مثل آراء أهل التخصص المطلعين! كذلك انصبَّ تركيز جديد على الجوانب الرمزية والإدراكية الخاصة بالماضي (انظر الفصل الخامس)، وعلى الأفكار والمعتقدات التي اعتنقتها المجتمعات في الماضي، وعلى أعمال الذين قضوا منذ أمدٍ بعيد وأفكارهم، ويصحب ذلك محاولات حازمة ﻟ «النفاذ إلى عقولهم»؛ وهذه المهمة ليست سهلةً البتة.

نقطة مهمة ينبغي ألا تغيب عنا حين ندرس علم الآثار النظري، وهي أنه لا يُتوقع من أي أحدٍ أن يكون على صواب تامٍّ بشأن أي جانب من الماضي؛ وعلى أي حال، كيف لنا أن نعرف إن كنا على صواب أم على خطأ؟ فالمعرفة ليست سوى تخمين خضعَ لاختبارات متفاوتة، والكلمات من مثل البرهان والحقيقة والموضوعية لا تنطبق على عالم التخمينات. وما نسعى إلا لأن نزيد مقدار الثقة التي يمكن أن نضعها في هذه التخمينات. يتعامل علم الآثار مع درجات من الاحتمالات، وواضح تمامًا أن الفرضية المنطقية القائمة على بيانات موثوقة أقرب على الأرجح إلى الحقيقة من فرضية خيالية منسوجة من لا شيء ولا يدعمها دليل (فرضية لا أساس لها على الإطلاق).

شيء آخر بالغ الأهمية ينبغي تذكُّره وهو أن علم الآثار النظري ينبغي ألا يؤخذ على محمل الجد كثيرًا؛ فمن السهل السخرية ممن أصبحوا مهووسين به؛ وفي الحقيقة هذه نقطة جوهرية. أسوأ جزء هو أن العديد منهم يبدو أنه أصبح غاضبًا وكثير التذمُّر ولا يرى الامتيازات الهائلة والعظيمة والمهيبة لمن يشتغل بعلم الآثار.

fig15
شكل ٧-١: الفجوة الواقعية (١): الطريقة التي يروق لبعض علماء الآثار أن يراهم بها الآخرون (وكما يروق لهم أن يروا أنفسهم) …
fig16
شكل ٧-٢: الفجوة الواقعية (٢): … ونظرة واحدة لحقيقة علماء الآثار.

ولكن من المفارقات أنه بعد سنوات من المعارك العقيمة والكلامية، اتَّجه كثير من أنصار علم الآثار النظري إلى العمل الميداني، وقد أصبحت التفسيرات المطروحة للتعبير عن تغييرات الماضي أشد تعقيدًا بكثير، وتضمنت العديد من العوامل (ويطلق عليها «التفسيرات المتعددة المتغيرات»)؛ ونتيجة لذلك، صارت هذه التفسيرات أقرب إلى الواقعية. وعلى الرغم من ذلك، فلن نتمكن البتة من إعادة إحياء «الماضي الحقيقي» الذي كان متنوعًا ومعقَّدًا إلى أبعد الحدود. وأفضل ما يمكننا فعله أن نحاول توضيح بعض المؤثرات والعوامل الرئيسية فيه، تمامًا مثلما يفعل المؤرخون.

يقول المتهكِّمون: إن جانبًا كبيرًا من علم الآثار النظري يتكون ببساطة من تقنيات للعثور على إجابات غير مفاجئة لأسئلة واضحة، ولم يكن لدى أحدٍ الوقت أو الأدوات أو الميل لطرحها من قبل. ولأن الإفراط في التجريد لا يمكن تطبيقه على الأدلة الأثرية الفعلية، بل لا يمكن تطبيقه إلا على النماذج التي جُعلت مثالية وعمليات المحاكاة بالكمبيوتر، ولأنه لا يتحدث بلغة ذات معنًى أو بمصطلحات تهم الرجل العادي (الفصل التاسع)، فقد أُهملت أسس هذا الموضوع بالجملة. وفي كثير من الأحيان، ينسج منظرو علم الآثار قصصًا جميلة ومقنعة للغاية، ولا يشوبها إلا حقيقة أنها لا تحمل أدنى تشابه مع الواقع أو مع العالم الحقيقي للبيانات الأثرية، التي يحاول البشر الأقل شأنًا التعامل معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤