الفصل الثامن

الأقليات والجمعيات النسائية

حتى وقت قريب جدًّا، كان علماء الآثار يُرَون — أو على الأقل يرون أنفسهم — بأنهم مُنقِّبون عن المعلومات يتسمون بالوداعة والبراءة؛ إذ إنهم لا يفعلون سوى الخير للمناطق أو البلدان التي يعملون بها، وذلك عبر إحياء الماضي واسترجاع الأمجاد السابقة. لكن منذ سبعينيات القرن العشرين، أحاطت بهم — ومعهم علماء الأنثروبولوجيا — الذمائمُ من كل جانب، وكانت هذه صاعقة بالنسبة لهم. فقد وُجهت إليهم اتهامات العنصرية والمركزية الأوروبية والاستعمار الجديد وسرقة المقابر والتعصُّب الذكوري (ليس بالضرورة أن يُتَّهموا بكل هذه الاتهامات جُملةً، أو بهذا الترتيب). انتهت الأيام الخوالي لعلم الآثار، وقد عاد إلى سابق عهده، وبات مضطرًّا إلى إجراء مراجعات طويلة وشاقة ونقدية لممارساته وأهدافه.

في الماضي، بوجهٍ عام، أحس علماء الآثار — ضمن سياق الاستعمار أو الهيمنة الغربية — بأن لديهم الحق في أن يعملوا أو يحفروا في أي مكان يحلو لهم، وأن ينتهكوا حُرمة الموتى، وأن ينقلوا رفات الإنسان والمواد المقدسة إلى المتاحف من دون أي تصريح أو تشاور مع السكان الأصليين، الذين، في أفضل الحالات، يوظَّفون مُرشدين أو عُمالًا، وفي أسوئها يُتجاهلون تمامًا. لكن في العصر الراهن، لم تعد بعض المجموعات من أهل البلاد ساخطة فحسب، لا سيما في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، بل إنهم يطالبون باسترداد هذه الآثار.

بعض هذه المطالب منطقية تمامًا، مثل التماس بسيط لمشورة السكان الأصليين وطلب إذنهم. وكما قال أحد سكان أمريكا الأصليين في مؤتمر عن «إعادة الدفن» عام ١٩٨٩: «ليس عليكم إلا أن تطرقوا الباب وتستأذنوا. فلِمَ التسلق من النافذة والسرقة؟» كذلك يدعم كثير من علماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا عودة الرفات البشري الحديث الذي ينتمي إلى شخصيات معروفة، أو القطع الأثرية التي لها قدسية خاصة (مثل آلهة الحرب لشعب الزوني الذي عاش في جنوب غرب أمريكا؛ إذ لا يخفى أنها تعرضت للنهب، لأن شعب الزوني ما كان ليرتكب هذا الفعل مطلقًا).

تنشأ المشكلات حين تكون مطالب أهل البلد واسعة النطاق وتشمل كل الرفات البشري حرفيًّا (بما في ذلك العينات القديمة للغاية) أو مجموعات الأدوات بالكامل. وفي بعض الحالات، تبلغ هذه المطالب حدودًا مُتطرِّفة وسخيفة؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أعلنت فئة صغيرة من سكان أمريكا الأصليين أنه حتى خصلات الشعر البشري المتساقطة بطبيعتها — المستعادة من المواقع الأثرية — تدخل ضمن الرفات البشري (ومن ثَم فإن لها حرمتها)، وقد طولب باسترجاعها!

نشب جدال ومعركة قانونية حول عظام «رجل كينويك» التي عُثر عليها عام ١٩٩٦ في ولاية واشنطن، ويعود تاريخ الكربون المشع إلى ٩٣٠٠ عام قبل سنة ١٩٥٠. فقد رفع ثمانية من علماء الأنثروبولوجيا البارزين دعوى قضائية ضد سلاح المهندسين في الجيش — إذ إنه كانت له الولاية القضائية على الموقع — للحصول على إذنٍ من أجل دراسة العظام، ولكن قوات المهندسين سلَّمت الهيكل العظمي إلى قبيلة يوماتيلا التي تسكن المكان وتنتمي إلى سكان أمريكا الأصليين كي تعيد دفن الرفات. وعلى وجه الخصوص، خشي العلماء من إجراء الاختبارات؛ إذ إن رجل كينويك من أقدم الأشخاص الذين عُثر عليهم في أمريكا، ولكن تبين أنه لا يحمل شبهًا كبيرًا بالهنود الأمريكان، كما أنه كانت هناك رأس رمح حجري في فخذه! وعلى الجانب الآخر، فقد عارضت قبيلة يوماتيلا إجراء أي دراسات معارضة شديدة، وأصرَّت أن تقاليدهم المتوارثة تقول إن قبيلتهم تعيش في هذه الأرض منذ بداية الخليقة؛ ومن ثَم فإن كل العظام المستخرَجة من هذه الأرض لا بد أنها لأسلافهم، ولا يصح أن تتعرض لضرر من أجل تأريخ أو تحليل جيني. لكن في عام ٢٠٠٢، أكَّد أحد القضاة على حق العلماء في دراسة العظام، وعلى الرغم من دعاوى الاستئناف اللاحقة، فقد كُسِبت المعركة أخيرًا في عام ٢٠٠٥، وبدأت الدراسات التحليلية بجدية (أُنفِقت ملايين الدولارات في هذه القضايا على أتعاب المحاماة؛ فالمحامون دائمًا يكسبون هذه القضايا).

الأفعال الصالحة والطالحة وغير الأخلاقية

حين بدأت دراسة علم الآثار في أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان أهل علم الآثار لا يزالون يرون أنفسهم فوق الآخرين، قانعين بوضعهم؛ إذ إن المهتمين به كانوا في المقام الأول من «البلدان المهيمنة»؛ إذ كانوا يُجرون الدراسات بشكل أو بآخر على أي اكتشاف أثري أو في أي مكان أثري كما يروق لهم، ولم تكن ثَمة موانع تقِف أمام حرية عملهم سوى الحروب والمخاطر الطبيعية. ولا أتذكر أني سمعت كلمة عن الأخلاقيات، سواء في محاضراتهم أو في مؤلفاتهم حينذاك. فقد اكتسبوا المعرفة ونشروها وهم يضعون نُصْب أعينهم مجتمع علماء الآثار في المقام الأول (بهدف التقدم الوظيفي أو اكتساب احترام الأقران)، ثم عموم المثقفين، ويأتي في النهاية بقية البشر، هذا إن أَوْلَوهم اعتبارًا.

fig17
شكل ٨-١: مقبرة تضم هيكلًا عظميًّا بشريًّا كاملًا وبه مهماز مطلي بالذهب، في ميكوليس بجنوب مورافيا.
من المفارقات أن علماء الآثار — كما رأينا — لم يكتفوا بالتعامل مع المصنوعات اليدوية باعتبارها أشخاصًا (الفصل السابع) — مع هجرة صناعات الأدوات الحجرية أو أساليب صناعة الفخار أو تشابكها — ولكن تعاملوا أيضًا مع رفات الإنسان كما يتعاملون مع المصنوعات اليدوية. ولم يحاول أحدٌ استخراج التراخيص من «الجهات المعنية». حتى العلماء الذين اعتنقوا النهج «التعاطفي» — والذين حاولوا أن يفهموا ما كان في عقل الذين قضوا منذ أمدٍ بعيد — لم يروا تناقضًا في تعاملهم مع المدافن وكأنها مجرد مصادر للمعلومات. وكما قال السير مورتيمر ويلر، وهو من أبرز معتنقي النهج التعاطفي، في لقاء تليفزيوني:

لست مع من يزعمون أنه لا يجب انتهاك حرمة الميت … فهذا مجرد تقليد عاطفي. لا؛ إذا نقَّبت عن شخص مدفون حوله أوعيةٌ ومقتنيات أخرى … فهو ميت. لقد مات منذ زمن بعيد … وسيبقى ميتًا لزمن طويل … ولن يحيا مرة أخرى. ولكن حوله كل أنواع المقتنيات، وهي ما تهمنا. فهي تساعدنا على فهم جزء صغير من التاريخ، ومن دونها لما استطعنا فهمه. كذلك تُعيننا في إحياء العالم والتاريخ الذي نعيش فيه. وأعتقد أن هذا شيء ذو قيمة. كما أننا لا نتسبب في أذًى لهؤلاء البؤساء. فحين أموت، يمكنك التنقيب في مقبرتي ١٠ مرات للبحث عما كنت أهتم به … فلن أطاردك … كثيرًا.

أو كما تقول المزحة الأثرية القديمة: «إذا كنت سأموت، فلا تفكر إلا في أنني سأمكث هنا مدة طويلة ومعي مرفقات جنائزية من المرحلة ب.»

لكن بحلول نهاية سبعينيات القرن العشرين، بدأت أصوات الاستياء تعلو من الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية وأستراليا، ومن اليهود المتشددين في إسرائيل، بشأن انتهاك حرمة الأموات من الأسلاف ودراسة رفاتهم وعرضِه. وقد شهدت السنوات الخمسة والثلاثون الماضية تغيرًا جذريًّا في الموقف؛ فقد تحولت المسألة التي كانت بين أهل التخصص إلى قضية كبرى ودوَّت أخبارها. فإرجاع المتاحف في أستراليا وأمريكا الشمالية للقِطع الأثرية وعقد المؤتمرات الخاصة بهذه المسألة كشف عن مدى تحوُّل الأخلاقيات وأخطاء الماضي إلى نقطة محورية في علم الآثار.

في كلٍّ من أستراليا وأمريكا الشمالية، تلقَّى السكان الأصليون معاملةً قاسية من الرجل الأبيض الذي لم يقصد أي أذًى لهم، ولم يُرد إلا الاستيلاء على بلادهم! ومع تزايد القوة السياسية للسكان الأصليين على مدار العقود القليلة الماضية، تحوَّل تركيزهم إلى الجرائم التي ارتُكبت في فترة الاستعمار، بما في ذلك الحالات التي لا تُحصى من انتهاك المواقع المقدسة أو مواقع الدفن، على يد علماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا. وقد اتُّخذ سكان أستراليا الأصليون والهنود عيناتٍ مختبَرية، وفي النهاية اكتَسبت جميع المواد الخاصة بهم — سواء الرفات البشري أو المصنوعات اليدوية — أهميةً رمزية كبيرة في العديد من المتاحف. ولا يوجد تقليد أصيل واحد وموحَّد حتى داخل البلد الواحد؛ إذ إن لدى السكان الأصليين مواقف واسعة النطاق تجاه الموتى. لكن بما أن قضية الأخلاقيات لا جدال فيها، فقد بدأ علماء الآثار في تصحيح الأخطاء قدر استطاعتهم، وذلك بإرجاع كمية كبيرة من المواد من أجل إعادة دفنها أو حفظها. وكذلك اعتُمدت قواعد الأخلاقيات في العديد من البُلدان، وأصبح لزامًا على علم الآثار أن يحترم ويتشاور مع الأحياء الذين تُدرَس حياة أسلافهم. المستقبل يكمن في المزج بين قبول السكان الأصليين والتفاوض والتوصل إلى تسوية معهم وإشراكهم في جميع مراحل الدراسة. وبالفعل تحسنت علاقات العمل، كما تتزايد أعداد السكان الأصليين الذين أصبحوا يقدِّرون الإسهامات التي يمكن أن يقدمها علم الآثار لتاريخهم وإحياء ثقافتهم.

يبدو أن مرحلة الصراع في هذه القضية انتهت الآن، وقد ترسَّخ كلٌّ من التعاون والاحترام المتبادَل، ولكن تُستثنى من ذلك إسرائيل؛ حيث لا يزال اليهود المتشددون والمتعصبون يعترضون بشدة على الانتهاك المزعوم لحرمات القبور. ويحاوِل المحتجُّون المتشددون إيقاف عمليات التنقيب بإدخال أنفسهم إلى كُهوف الدَّفن، وترويع علماء الآثار في الموقع، ومضايقتهم في مساكنهم عبر الاتصالات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني. ولذا أمسى معروفًا أن فِرَق التنقيب تعمل ليلًا وترسل فِرَقًا مضلِّلة إلى «عمليات حفرٍ وهمية» كي تشتت الانتباه عن الموقع الحقيقي. وقد آلت الأحزاب السياسية المتشددة على نفسها أن تستمر في الاحتجاج على «انتهاك حرمات قبور الآباء»، وبالفعل اضطُرَّ علماء الآثار إلى الموافقة على إعادة الدفن الفوري لأي رفاتٍ بشري يعثرون عليه في أثناء الحفر، على الرغم من أن هذا يعوق أي دراسة أنثروبولوجية.

الجثامين واللصوص

حريٌّ أن تُعاد على الآذان حقيقة أن عمليات انتهاك حرمات الموتى في الماضي لم ينفذها علماء الآثار كلها، ولم يقتصر الأمر على رفات السكان الأصليين الغرباء عن العلماء، وأن بعض علماء الآثار الأوائل كانت لديهم نوايا حسنة ونبيلة. وما توقفت سرقة المقابر — وتُسمى أحيانًا «ثاني أقدم مهنة في العالم» — عن الانتشار؛ ففي مصر على سبيل المثال، اضطُرَّ الفراعنة في القرن الثاني قبل الميلاد إلى تعيين لجنة للتحقيق في عمليات نهب المقابر بالجملة في وادي طيبة. ومن بين المقابر العادية المنحوتة من الصخر في مصر، تعرض ٩٩ في المائة منها للنهب في العصور القديمة، ولم يتبقَّ لنا سوى المقابر التي لا تستحق محتوياتها المخاطَرة أو الجهد المبذول. ولم تَسْلم أي مقبرة مَلَكية بالكامل، حتى مقبرة الملك توت.

في أمريكا الشمالية، كانت هذه الظاهرة تحدث في وقت الحج، حيث رأى الحُجاج أن المرفقات الجنائزية الهندية «تتعفن في الأرض من دون سبب وجيه»؛ ومن ثَم كان ردهم — المسجَّل بالفعل في عام ١٦١٠ — هو «تحرير» القطع الأثرية عن طريق سرقة القبور؛ يمكن تبرير سرقة القبور بأنه فعل ديني يساعد في تبديد الخرافات الوثنية. لكنهم علموا أن هنود قبيلة ماساتشوست على سبيل المثال اعتبروا العبث بآثار الموتى سلوكًا بعيدًا كلَّ البعد عن القيم الدينية والإنسانية.

من ناحية أخرى، لا يستحق معظم علماء الآثار أن يُنعَتوا بأنهم عنصريون ولصوص. وفي الحقيقة، ربما لم يكن بعض المنقِّبين الأوائل أفضل من اللصوص كثيرًا، ولكن لا يجدر وضع أهل التخصص اليوم مع لصوص الماضي في سلة واحدة. وعلى أي حال، تُكتشف العديد من المقابر من دون توقُّع وعن طريق الصدفة من خلال عوامل التعرية أو التعمير وما إلى ذلك، ما يؤدي إلى عمليات التنقيب من أجل «إنقاذها» أو «نجدتها».

لا شك أن رفات الإنسان والمقابر تحظى بأهمية كبيرة في تاريخ علم الآثار، ولكنهما لا يزالان يمثلان جزءًا صغيرًا مما يدرسه علماء الآثار. وعدد المواقع الأثرية التي نعرفها اليوم أكثر من كل المواقع التي درسها علماء الآثار الذين عاشوا في العديد من العصور؛ كما أنه يوجد كمٌّ هائل من الحفريات والقطع الأثرية غير المعلَن عنها في المتاحف والمؤسسات. كذلك ليس ثَمة مسوِّغ للتنقيب البحثي اليوم، وقد توقفت أعمال التنقيب إلى حد كبير في العديد من البلدان؛ وكما ذكرنا آنفًا، فإن عمليات التنقيب الإنقاذية هي مصدر معظم اللقاءات الأثرية مع الموتى. ومن ثَم فإن السؤالين الأساسيين اللذين تنبغي إجابتهما هما: كيف ينبغي تنفيذ عمليات الإنقاذ، وما الذي ينبغي فعله مع الرفات غير المكتشَف الذي له حُرمته؟

الاعتراض الأساسي لدى علماء الأنثروبولوجيا على إعادة دفن رفات الهياكل العظمية هو أنه لا يوجد تحليل قاطع النتيجة، ولن تبرح التقنيات الجديدة تتطور، ما يؤدي إلى استخلاص مزيد من أنواع المعلومات من الرفات. لا شك في صحة هذا الاعتراض (على الرغم من أنه عزاءٌ لا يغني للموتى)، ولكن التقنيات الجديدة إما أنها ستتضمن ميزات خارجية (وفي هذه الحالة فإن القوالب متقنة الصبِّ ستفيد مثل الأصل) وإما ميزات داخلية (مثل المواد الجينية)، وهذه تكفيها عينة صغيرة؛ ومن ثَم فإن أحد الحلول الوسط أن يُحتفظ بسنٍّ أو شظية عظام من كل هيكل عظمي. وعلى أي حال، فدائمًا سيكون هناك آلاف الهياكل العظمية المتاحة لإجراء الدراسات، سواء المحفوظة في المتاحف على مستوى العالم أو التي لا يرغب أحد في إعادة دفنها. وفي المناطق الأكثر حساسية، مثل أمريكا الشمالية وأستراليا، حيث تختلف آراء السكان الأصليين حول هذه القضية اختلافًا كبيرًا، فإن العديد من المجتمعات المحلية تؤيد إجراء بعض التحليلات للرُّفات. كذلك لن تنضب موارد العينات الجديدة؛ إذ إنه لا شك في أن عمليات التنقيب الإنقاذية ستستمر وتتزايد مع اتساع وتيرة التطوير والتعمير. ومن ثَم، فإن إعادة دفن بعض القطع الأثرية قد لا يكون له تأثير سلبي في «العلم» كما قد يبدو للوهلة الأولى.

لا يختلف علم الآثار عن التخصُّصات الأخرى من حيث المسئوليات، وما ينبغي لعلماء الآثار أن يتجاهلوا حقوق الأقليات الأخرى. وتتمثل معضلتهم الأساسية في التوفيق بين احترام الموتى والانتهاك المتعمَّد لحُرمة رفاتهم وتدمير قبورهم ونقل جثثهم ومُرفقاتهم الجنائزية. كذلك في بعض الجوانب، يكون إعادة الدفن مشكلة معقَّدة؛ إذ إنها تنطوي على العديد من العوامل، ومن المؤكد أن التوصل إلى الحل والجدول الزمني والتفاصيل في كل حالة مسألة صعبة. ولكن بوجه عام، فقد صلح علم الآثار؛ ولكن لم تهمه مسألة «فقدان البراءة» في هذه القضية بقدر ما أهمه إدراك الذنب. إذا كانت أخطاء الأطباء غير الأكْفاء تُدفن مع مرضاهم، فعلى علماء الآثار الأكْفاء أن يدفنوا أخطاء الماضي.

في الماضي، عادةً ما كان علماء الآثار يتعاملون مع كل الاعتراضات على بحوثهم باعتبار أنها قائمةٌ على الجهل، وتنتهك بعض الحقوق الأصيلة والراسخة لمتابعة عملهم أينما وكيفما رغبوا. لقد حققوا استقلالهم الذاتي وحمَوه بشراسة؛ إذ استاءوا من الوعظ بشأن أي شيء وسَعَوا إلى ممارسة مهنتهم من دون أن يكون عليهم رقيب. ومع ذلك، فقد اضطُرُّوا الآن إلى قبول أن الجماعات الأخرى لديها مطالبات قانونية، أو مصالح مشروعة، في المواد التي يرغب علماء الآثار في دراستها. فلم يعودوا الحراسَ الوحيدين لآثار الماضي، وبات عملهم يحمل آثارًا اجتماعية كبيرة.

البحث عن المرأة

قيل إن علم الآثار — من دون أي مسوِّغ يُذكر — متحيِّز للذكور (يأخذ صف الذَّكَر) منذ القِدم، وليس على مستوى المصطلحات الأساسية (مثل الرجل الأول) فحسب، بل أيضًا في تأكيده على ما يُعتقد أنها أنشطة ذكورية، وهذا ما تبرهن عليه تقنيات الصيد وأدواته، مثل رءوس السهام والرماح؛ ولذلك قيل إن علم الآثار يجب أن يحارِب التحيز الجنسي في كلٍّ من ممارساته المهنية وتفسيراته. ولعلنا تجاوزنا وجهة النظر التي أوضحها جيه بي دروب في كتابه الصادر عام ١٩١٥ بعنوان «الحفريات الأثرية»، إذ إنه اعترض على إقحام المرأة في عمليات التنقيب؛ لأن الرجل في لحظات التوتر لا ينفِّس عن مشاعره الحقيقية في وجود السيدات! قال في كتابه:

لم أرَ مطلقًا عاملة تنقيب مدرَّبة في العمل … وفي بضع عمليات التنقيب المختلطة التي شهدتها … أعتقد أن [السيدات] قبل بدء التنقيب يكنَّ فاتنات، ولكن في أثناء التنقيب … يختفي جمالهن … وبخلاف حالة الزواج، حيث يمكنني أن أتخيل زوجين يتعاونان في عملية حفر صغيرة بسعادة بالغة، أعتقد أن حالات الحفر المختلطة ستُفضي إلى فقدان جو الهدوء، ومن ثَم فقدان الكفاءة … وستكون هناك لحظات … يريد المرء أن يعبر فيها عما يدور في خَلَده صراحةً، وهذا مُحال أمام السيدات.

ولكن حتى في الآونة الأخيرة، لم يكن من السهل على المرأة أن تفعل ذلك في مجال علم الآثار المهني. فقد قالت أنا شيبرد:

أُدرك تمامًا أن معظم الناس يعتبرون المرأة غير مؤهَّلة للعمل الميداني. وفيما يتعلق ﺑ «المضايقات» و«الصعوبات» في حياة المخيم، أعتقد أن الفكرة مجرد مُزحة … لكن بسبب هذا الاعتقاد العام، فلا بد أن تُظهر المرأة مؤهلاتٍ خاصة كي تحصل على أي فرصة في علم الآثار. ويبدو أن فرصة الدخول إلى العمل الميداني من خلال العمل في المختبرات عملية أكثر.

لذلك فقد حظِي التركيز الذي مُنح للدراسات الجنسانية بالترحيب، ولا يرجع السبب فحسب إلى محاولات خلقِ وعي أكبر بالحاجة إلى تمديد المساواة بين الجنسين، بحيث تشمل كل مناحي الحياة المعاصرة، بما في ذلك الأوساط الأكاديمية، بل أيضًا إلى المساهمات الهائلة التي أفهمتنا كيف سيرت المجتمعات القديمة شئونها. ولكن ما أُطلق عليه «علم الآثار الجنساني» كان في حقيقته علم آثار أنثويًّا؛ فالأخوات كنَّ يضعن بصمتهن في علم الآثار.

كان الهدف المعلن هو التركيز على الجنسانية (بمعنى التركيز على الجوانب الاجتماعية والثقافية بدلًا من الفروق بين الجنسين) في السجلات الأثرية. ولكن على الرغم من التأكيدات على خلاف ما يلي، كان واضحًا أن الهدف الأساسي لم يكن تصوير الرجل والمرأة بطرق غير متحيزة جنسيًّا في حقبة ما قبل التاريخ بقدر ما كان محاولة لإظهار المرأة في الماضي. وهذا الهدف يستحق الثناء التام؛ إذ إنه أصبح رائجًا إلى حد كبير لفترة من الزمن مع انتشار الكُتب التي تتحدث عن المرأة في حقبة ما قبل التاريخ أو في مصر القديمة أو العصر الروماني أو عصر الفايكنج أو أي حقبة أخرى. إنه جزء من النهج «النسوي» تجاه الماضي، ويتمثل هدفه في إلقاء ضوء جديد على الجوانب التي ظلت مهملة في السجلات الأثرية، وهذه الظاهرة صاحبَها ازدياد مستمر في المؤتمرات التي تنعقد على مستوى العالم، وعادةً لا تتغير الشخصيات التي تنظمها أو تظهر فيها. وعلى الرغم من وصف هذه الأحداث بأنها تتعلق ﺑ «الجنسانية في علم الآثار»، فإنها ركَّزت على الجنس الأنثوي، وقد حضرها ثلة من عالمات الآثار، بالإضافة إلى قليل من العلماء الشجعان الذين يطمحون إلى التصويب السياسي. ولذلك، فإن مصطلح gender (الجنسانية) حاق به خطرُ استخدامه بمعنًى غير المقصود، مثلما تغير معنى كلمة gay من السعادة إلى المثلية الجنسية.
fig18
شكل ٨-٢

في الماضي، اعتاد مؤلفو الكتب والدراسات البحثية (ومعظمهم من الرجال) على استخدام كلمة «رجل» أو «رجال» للإشارة إلى البشرية جمعاء. أما اليوم، فبِتْنا نفهم أن بعض النساء يمقُتن استخدام هاتين الكلمتين (على الرغم من أن العديد من عالمات الآثار ما برِحن يستخدمنهما، حتى في أمريكا الشمالية)، ولكنهن لم يمقتنهما بوجه عام بدافع التحيُّز الجنسي العلني. ولا أعلم إن اعتُبر كتاب عالم الآثار الأمريكي روبرت بريدوود الصادر عام ١٩٧٥ بعنوان «الرجال في حقبة ما قبل التاريخ» تحيزًا جنسيًّا. وعلى أقل تقدير، لم تُذكر المرأة على وجه التحديد في هذه الأعمال، وفي معظم الأحوال كانت تُجمع مع الرجل ببساطة في كلمة «الناس». (على سبيل المثال، صدر كتاب عام ١٩٩٥ لعالمة آثار فرنسية شابة بعنوان «الناس في زمن كهف لاسكو»!) فهذه المصطلحات لم تُشِر إلى الذكور وحدهم. لكن ظهرت مجموعة كتب جديدة أسقطت ذِكر جنس الذكور على وجه التحديد، وهذا يبدو تحيزًا جنسيًّا متعمَّدًا. والفرق الأساسي بين الموقفين يكمن في الإسقاط غير المقصود والإسقاط المتعمَّد.

صحيح — وجدير بالتأكيد — أن العلماء تعاملوا مع بعض الأنشطة في كثير من الأحيان على أنها ذكورية حصرًا؛ ولا سيما الصيد وصناعة الأدوات الحجرية والفن الصخري، على الرغم من أن الإثنوجرافيا تُبين أن النساء يفعلن هذه الأنشطة في كثير من الأحيان. والعلماء الذكور إما أنهم جهِلوا هذه الحقيقة وإما أنهم اختاروا تجاهلها، والنتيجة نسخة محرَّفة عن الماضي. لكن بصرف النظر عن تعمُّد اجتناب هذه الممارسة، فإن النسويَّات أنفسهن (على الرغم من شكواهن المبررة) يفعلن الأمر نفسه بالضبط عبر تجاهل أو تنحية الأمثلة على الرجال الذين ينفذون أنشطة «نسائية». وعلى أي حال، فمعرفة أن المرأة صنعت أدوات حجرية لن تُفضي إلى رؤًى مفحِمة. الأدوات لا تخبرنا شيئًا عن الجنسانية؛ فحتى إن تمكنت بعض التقنيات المستقبلية من اكتشاف آثار الفيرمونات أو فرمون الكوبلين على أداة حَجَرية، أو بقايا الدم التي يمكن عزوها إلى ذكر أو أنثى، هذه الاكتشافات لن تخبرنا إلا عن آخر جنس لَمَس الأداة، ولن تكشف أي معلومات عن أي الجنسين صنعها أو اعتاد استخدامها.

أي معرفة مفصَّلة عمَّن أنجز العمل من الجنسين ترِد إلينا من التاريخ الإثني أو الإثنوجرافيا، وليس من علم الآثار. ولا سبيل إلى إعادة إحياء الماضي إلا بالجمع بين ما نرصده في عصرنا الراهن والبيانات الأثرية. ولكن إلى أي مدًى يمكن أن تساعد الإثنوجرافيا في «العثور» على المرأة في الماضي؟

تكمن المشكلة الأساسية في أن الإثنوجرافيا عادةً ما تقدم عددًا من التفسيرات المحتملة للبيانات الأثرية. وقد أشير إلى أنه حتى مقبرة الأنثى الثرية لا تدل بالضرورة على أن صاحبة القبر كان لديها أي سلطة؛ فربما لا تبرز إلا ثروة زوجها (وبالطبع ينطبق الأمر نفسه على مقبرة الذكر الثري).

في الواقع، يصعب أن نرى كيف تُحدَّد أدوار الرجال أو النساء أو حتى الأطفال (إذ بدءوا يظهرون على الساحة الآن!) من الأدلة الضعيفة التي يقدمها التنقيب الأثري. والرسالة المهمة التي يوصلها علم الآثار الجنساني هي أن علم الآثار معنيٌّ بالناس؛ وليس حكرًا على الرجال، ولا على النساء على حد سواء.

جدير بالثناء تمامًا أن نتطلع إلى التخلص تمامًا من التحيز الجنسي المتأصل في كثير من علم الآثار التقليدي، وأن يزيد وعي الناس بوجود المرأة وأهميتها في المجتمعات القديمة، وأن تُطرَح دراسات تركز على المرأة في العصور المختلفة. ولكن إذا انحرفنا بعيدًا عن التحيز الذكوري في الماضي، فإننا نخشى أن ننجرف إلى النقيض الآخر؛ فالعنصرية الجنسية يمكن أن تطول الجنسين كليهما. وكما قال ألبرت كامو ذات مرة: «يبدأ العبد بالمطالبة بالعدالة، وينتهي بالرغبة في أن يكون ملكًا. ولا بد أن يأتي دوره في الهيمنة.»

إن الترياق الشافي للتعصب الذكوري بشأن الماضي هو قيام علم آثار مبني على المساواة والحياد، وليس علم آثار نسويًّا. وإذا كان المؤيدون يؤكدون على أن الهدف ليس مجرد إظهار صورة المرأة في السجلات الأثرية كما يزعمون، فهل ثَمة حاجة إلى «علم الآثار النسوي» على الإطلاق؟ لا يزال أمامنا شوط طويل نقطعه، ولكن الطريق الحقيقي للمُضِي قُدمًا هو علم آثار متوازن وغير متحيز جنسيًّا وليس علم آثار نسويًّ؛ إذ إنه مجرد وجه آخر للعملة التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤