الفصل التاسع

تقديم الماضي إلى الناس

إذا كان علم الآثار يرجو أن يكون له قيمة أو مسوِّغ، فلا بد ألا يقتصر التعريف باكتشافاته على الطلاب وأهل التخصص، بل يجب تعريف عامة الناس به في المقام الأول؛ إذ إنهم مصدر التمويلات ومنبع الرواتب بوجه عام. وعلى الرغم من ذلك، لا نزال نرى أمثلةً من علماء الآثار ممن ينشغلون عن ذلك أو ممن يُتعجَّب من عدم شعورهم بأي ضرورة لإهدار وقتهم في هذه المهمة. شاء الله أن يتولى أستاذٌ نمساوي اسمه كونراد شبيندلر — ليس بفضل خبرته، ولكن بفضل وجوده في المكان والوقت المناسبين — مسئولية دراسة «رجل الثلج» الذي يعود إلى حقبة ما قبل التاريخ وعُثر عليه عام ١٩٩١ (وهو من الاكتشافات التي تُهم رجل الشارع حقًّا)، ولكنه قال: إن «إخبار العامة عن نتائج هذا الاكتشاف ليس من شأنه حقًّا»، وهذا تصريح صاعق وشائن، ولا يصح من وسط أكاديمي يتلقَّى تمويله من عامة الناس.

بطبيعة الحال، تقديم الماضي إلى العالم أجمع مسئولية كبيرة، لا سيما أنه لا سبيل إلى الموضوعية في هذه المهمة. وما برِحنا نعتقد أن الأمر ممكن، وأن المسألة لا تتطلب سوى وضع اكتشافاتنا في صناديق زجاجية وعليها بعض النصوص التوضيحية، أو طرحها في الكتب من أجل إمتاع عامة الناس. لكن في الآونة الأخيرة، حين انغمس علماء الآثار في مراجعة أنفسهم بفضل الاهتمام بالنظريات (الفصل السابع)، وبسبب شن هجوم شامل عليهم (الفصل الثامن)، فقد أدركوا أنه من خلال اختياراتهم للقِطَع الأثرية والموضوعات والنُّهج، فإنهم لا يبرحون يعرضون رسائل تُبرز تحيزاتهم ومعتقداتهم الشخصية، أو تحيزات ومعتقدات مجتمعهم أو دينهم أو سياساتهم أو نظرتهم العامة للعالم؛ إذ إن كل هذا يتأثر بخلفيات علماء الآثار ونشأتهم وتعليمهم ووضعهم الاجتماعي واهتماماتهم ومُعلميهم وأصدقائهم، وبمعتقداتهم الدينية والسياسية، وبمؤيديهم وخصومهم؛ فكل هذه العوامل تنطبع فيها صورة الماضي، وغالبًا ما تُولى الظهور للأدلة الفعلية.

لنضرب مثالًا واحدًا على كيف أن معتقدات الفرد يمكن أن يكون لها تداعيات كبيرة، ولنتأمل قصة جابرييل دي مورتييه، وهو من عظماء المؤرخين المتخصصين في حقبة ما قبل التاريخ. وُلد جابرييل عام ١٨٢١ لعائلة كاثوليكية عريقة تناصر الملَكية، وقد أُلحق بالكلية اليسوعية حين بلغ التاسعة. وهذه التجربة أثَّرت في تطور قدراته إلى حد كبير، وزادت في توتره العصبي الكبير بالفعل، وغرست فيه كراهية مدى الحياة تجاه الدين ورجاله؛ كانت العصا والسَّوط لا يزالان يُستخدمان بقوة وحماسة حينذاك! ولما بلغ سن المراهقة، تسببت أنشطته المناصرة للاشتراكية والجمهورية إلى أن يلاحقه أنصار المبادئ الإكليركية وأنصار الملكية على حد سواء، واضطر إلى اللجوء خارج فرنسا. وفي النهاية، تخصص في حقبة ما قبل التاريخ، ولما عاد إلى باريس عام ١٨٦٤، أسَّس صحيفة «ماتريو» (وهي أول صحيفة تتخصص في هذا الموضوع)؛ وقد أسسها في وقت كان البحث في العصور القديمة للإنسان يتسبب في استياء الكنيسة. وقد بات يقاتل من أجل قضية نبيلة وعادلة. لكن لسوء الحظ، كانت شخصيته مروِّعة؛ إذ اتسم بالعدوانية وسوء المِزاج، ولم يتحلَّ بالأمانة الأكاديمية في كثير من الأحيان، ويميل إلى الثأر لشخصه والانتقام من الأشياء التافهة واللغة العنيفة، ولا يتحمل أدنى انتقاد لكلامه. وعادةً ما تمثَّل الهدف من إنشاء صحفه المتنوعة اللاحقة في النَّيل من الصحف المنافسة، والعجيب أنها كانت تنشر كتابات طلابه وحلفائه وتُفرِط في الثناء عليها، وفي الوقت نفسه تتجاهل العلماء الآخرين أو تحط من قَدرهم. كذلك لم يُبالِ بكل النظريات الجديدة لأنه يعتقد أنها إن لم تتفق مع نظرياته فهي خاطئة. وفي النهاية، أفضت طبيعته الجدالية والاستبدادية في الرأي إلى انفضاض الناس من حوله؛ لأنه أغلق عقله واعتقد أنه معصوم من الخطأ.

على الرغم من أن عيوب شخصية دي مورتييه لا تزال موجودة بين رواد علماء الآثار اليوم، فإن كُرهه للكنيسة هو الأهم في هذا المقام؛ لأنها تركت فيه آثارًا عميقة ودائمة.

fig19
شكل ٩-١: رسمة كهف ألتاميرا: ثور أمريكي قائم.

وعلى الرغم من أنه من أشد المؤيدين لفكرة التطور، فإنه لم يعتبر البتة أن الدين ربما تطور مثل الأدوات الحجرية، أو ربما كان نتاجًا طبيعيًّا للعقل البشري، بل إنه تمسك عاضًّا بنواجذه على اعتقاده بأن الدين عبارة عن خدعة، خدعة ابتكرها الكهنة ونشروها في العصر الحجري الحديث. ولأن الدفن مرتبط عمومًا بوجود أفكار دينية، فقد قضى — مخالفًا لكل الأدلة — أنه لم تكن ثَمة عمليات دفن قبل العصر الحجري الحديث؛ ومن ثَم رفض كل حالة دفن من العصر الحجري القديم تُعرَض له رفضًا منهجيًّا بعِلة أنها مندسَّة من عصور لاحقة. وحتى وفاته، ما انفكَّت كتبه الأكثر مبيعًا عن حقبة ما قبل التاريخ تُردِّد الفكرة الغريبة القائلة بأن المجتمعات خلت من أدنى أثر للدِّين على مدار مئات الآلاف من السنين قبل العصر الحجري الحديث.

الأخطر كانت ردة فعله تجاه فن الكهوف في العصر الجليدي؛ ربما كانت تعيد إلى ذاكرته الصور الجدارية في المعابد والكنائس! وسرعان ما بذَرَ شكوكه في وجود هذا الفن، وحين طُرحت البيانات الأولى بشأن الرسوم في سقف كهف ألتاميرا الإسباني عام ١٨٨٠، كان دي مورتييه هو الذي يحذر زملاءه من أنها مكيدة مُلتوية من اليسوعيين المناهضين للتطور من أجل تشويه حقبة ما قبل التاريخ. وردة فعله هذه لم تؤدِّ إلى نبذ الكهف ازدراءً، وتأخير قبول فن الكهوف لمدة ٢٠ سنة فحسب، بل إنها كانت سببًا رئيسيًّا في وفاة سانز دي ساوتولا المبكرة، وهو صاحب الأرض الإسباني الذي صرح بالبيانات الأولى عن كهف ألتاميرا، وما أرعبه أنه أصبح منبوذًا بتهمة السذاجة أو الاحتيال.

وقع خطأ كبير ثانٍ ناجِمٌ عن مناهضة دي مورتييه للإكليريكية بعد ١٠ سنوات من وفاته عام ١٨٩٨. ففي عام ١٩٠٨، عثر ثلاثة قساوسة على الهيكل العظمي لإنسان النياندرتال الشهير في قرية لا شابيل أُو سانت الفرنسية. وبدلًا من إرسال الهيكل إلى مدرسة الأنثروبولوجيا المناهضة للإكليريكية التي أسسها دي مورتييه، فقد عهدوا به إلى مختبر مارسيلين بول، وقد أسفر هذا القرار عن عواقب وخيمة لنظرتنا إلى إنسان النياندرتال. فقد تأثر بول إلى حد كبير بآراء ألبرت جودري؛ إذ كان أستاذه وراعيه وصديقه، ولم يعتقد أن إنسان النياندرتال يمكن أن يكون من أسلاف الإنسان الحديث؛ ومن هنا نقول: إنه على الرغم من علم بول أن هيكل لا شابيل كان لرجل عجوز يُظهر عموده الفقري أنه كان مصابًا بالتهاب العظم والمفاصل، فإنه ادعى أن الرفات يثبت أن إنسان النياندرتال لم يستطع المشي منتصبًا، بل كان مخلوقًا يمشي متثاقلًا ومحني الظهر. وبسبب هيمنته على المجال، لم يُفحَص الهيكل العظمي مرة أخرى بالتفصيل حتى خمسينيات القرن العشرين، واعتُقد أن إعادة بنائه للهيكل أمر حاسم لدرجة أن العديد من بقايا إنسان النياندرتال الأخرى لم يُعَد بناؤها ولم تُفحص بأي تفصيل، وهذا يصور مخاطر الاعتماد الزائد على آراء الشخصيات المؤثرة؛ وعلى الرغم من فهم هذه النزعة، فإنها متفشية في كل جوانب مجال علم الآثار حتى يومنا هذا.

لذا، يتكرَّر ربط الفكرة الراسخة عن ماضي البشر — ونقصد هنا فكرة أن إنسان النياندرتال كان وحشًا دون البشر — بالتفاعلات الناجمة عن التحالفات والعداءات الشخصية. ومن ثَم لا تنفصل البحوث — وكذلك تفسير الماضي وتمثيله — عن الخلفيات الاجتماعية ولا عن مجموعة الباحثين. ولا ينبغي أن يغيب عنا البتة من أين «يأتي» العلماء وإلى أين يحاولون «الوصول» في عملهم وفي حياتهم المهنية كي يكون لدينا فهم كامل عن نوعية «القصص المقبولة» التي يختارون نسجها عن الماضي.

لكن من الذي يقرر إذَن النسخة التي تقدَّم إلى عامة الناس عن الماضي؟ في المتاحف الأقدم في أوروبا، لا تزال الآراء والتفسيرات التي سادت في القرن التاسع عشر موجودة على العديد من القِطَع الأثرية المعروضة، لكن معظم القطع الأثرية المعروضة في الصين لا تزال تعتمد اعتمادًا كبيرًا على كتابات ماركس وإنجلز. ولكن بُذلت جهود كبيرة في الآونة الأخيرة — لا سيما في الغرب — لاستئصال أسوأ المفاهيم الاستعمارية والعنصرية والجنسية المسبقة. وفي كثير من الأحيان، لا تُعرض القطع الأثرية بشكل منفصل، باعتبارها أعمالًا فنية، بل إنها تُعرض في سياقها التاريخي أو في معروضات تثقيفية تُبيِّن وظيفتها. وفي السنوات الثلاثين الماضية، صارت دراسات المتاحف مجالًا مهمًّا في حد ذاته، وبات واضحًا تعقيد المسائل المعنِية باختيار المواد الأثرية وعرضها للجمهور.

يجب أن يكون هناك توازن دقيق بين التعليم والترفيه؛ فلا بد من الارتقاء بالمعروضات الأثرية المملة التي يعلوها التراب في المتاحف، ولكن لا بد من تجنُّب النقيض الآخر، وهو الإفراط في التبسيط وإزالة العناصر المشينة، بحيث يبدو الماضي وكأنه للتسلية. الغالبية العظمى من المؤلفات عن علم الآثار لا تزال تتكون من مجلدات دسمة ومليئة بالمصطلحات والكلام الخاوي من المعنى، ولكن تتزايد الحاجة إلى ما أُطلق عليه «المواد التثقيفية العالية»؛ أي تأليف أعمال سهلة الفهم وممتعة، بحيث تجذب الإنسان العادي أو المبتدئ من دون فقدان المحتوى أو الدقة. قد ينخدع المرء ويظن أن تأليف هذه الكتب مهمة سهلة، ولكنه صعب إلى أبعد الحدود في الحقيقة، ويسرني أن أقول ذلك، وإلا لأصبحت من دون عمل. وللأسف، فإن أفراد الجمهور السُّذَّج (وهؤلاء ما أكثرهم إذ يحكمون على قيمة الكتاب من أرقام مبيعاته) دائمًا ما يقعون فريسة لهذه الكتب المضلِّلة أو الاحتيالية الصريحة؛ إذ إنها تنسج لهم قصصًا تافهة عن رواد الفضاء القدماء والحضارات الفائقة التقدم وما إلى ذلك.

تزيد مشاركات وسائل الإعلام الأخرى في هذا العمل. فالعديد من البلدان في أوروبا وكذلك في الولايات المتحدة تنتج مجلات ملوَّنة ذات ورق لامع ورائعة لعموم الناس (ولكن لا يزال يطلع عليها الطلاب والمتخصصون) متخصصة في علم الآثار على مستوى العالم. يوجد في بريطانيا الآن مجلتان رائعتان متخصصتان في علم آثار بريطانيا، بالإضافة إلى مجلة تتناول الموضوع على مستوى العالم، ومع الأسف مجلة أخرى موجَّهة إلى تجار القطع الأثرية على وجه التحديد.

كذلك أصبحت الأعمال التي يجري إنتاجها لعرضها على شاشة التليفزيون وأقراص الفيديو الرقمية وسيلة رئيسية لتقديم الماضي إلى عموم الناس، وما برحت تحقق أرقام مشاهدات مرتفعة، حتى حين تكون البرامج سيئة. وأفضل البرامج هي التي لا تكتفي بنقل المشاهد إلى الأماكن التي قد لا يتحمل تكاليف زيارتها أو التي لا يمكنه الوصول إليها مطلقًا، بل التي تقدَّم له أيضًا الأدلة بطريقة متوازنة ورصينة وحماسية أيضًا، وتتجنب الحيل وحالات الترويج غير المتزنة للنظريات الملهبة لاهتمام العامة.

وبالمثل، أثبت الإنترنت أنه مصدر قيِّم للمعلومات ووسيلة للتواصل الفوري، ولكن للأسف فإنه يحوي كمًّا هائلًا من النظريات الخاوية والمعتوهة التي ينشرها المخبولون والمتعصبون من كل الأطياف. وبما أن كثيرًا من هذه النظريات تُطرَح في صفحات إلكترونية ذات تصميم جميل، بحيث يوحي مظهرها بأنها موثوقة، فقد يعتقد الغافلون والسُّذَّج حتمًا أن الجُناة يعرفون ما يتحدثون عنه ويقدمون الحقيقة! وبالطريقة نفسها، تنتشر الأخطاء الفعلية والمزاعم الاحتيالية حول العالم بضغطة زر واحدة، ولا يمكن إزالتها مطلقًا، وهذا كابوس حقيقي يؤرق الذين يسعون إلى تحرِّي الدقة والصدق في إحياء الماضي، ولا يليق بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وغيرها من المؤسسات الإعلامية أن تقبل هذه الاحتيالات، التي تبدو أنها ذات قيمة في ظاهرها، من دون طلب مشورة أهل التخصص لئلَّا تساعد في نشر هذا الهراء الخبيث. فمنذ عقود، كان يعمل لدى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) موظفون متخصصون في مجالات مختلفة، وقد اكتسبوا معلومات هائلة في علم الآثار — على سبيل المثال — من إعداد مسلسل مثل «كرونيكل» (وقائع)، ولكن كل هؤلاء الخبراء العاملين لدى الهيئة قد رحلوا منذ فترة طويلة، ويتجلى رحيلهم أكثر في غفلتهم حين يقبلون المزاعم المشكوك في صحتها. ومؤخرًا، أحسَّ محرر إحدى المجلات البريطانية المعنية بعلم الآثار بالذهول عندما اتصلت به نشرة أخبار الساعة العاشرة صباحًا في قناة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تسأله عن رأيه في اكتشاف سفينة نوح! لقد افترض أن هذه مزحة، ولكن لم يكن ذلك هو الأول من أبريل، وكان مذيع قناة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في حيرة من أمره لأنه لم يأخذ هذا القول على محمَل الجد!

كارثة أخرى جديدة وهي قدرة القرصنة الإلكترونية على سرقة جهود الآخرين — سواء أكانت نصوصًا أو قوائم مراجع أو صورًا — ونشرها على مواقع الويب من دون أي إذن. وأنا شخصيًّا وقعت فريسةً لهذا الوباء؛ فمن الإحباط أن يرى المرء عمله «مقترَضًا» (وغالبًا ما يساء فهمه أو يحرَّف) على يدِ أحمق قليل العلم له أجندة خاصة أو نظرية عظيمة الخلل ويروج لها!

غالبًا ما يعتبر المنقبون عموم الناس وكأنهم عوائق لعملهم، ولكن الأفطنَ فيهم يدرك الامتيازات المالية، وغيرها من الامتيازات التي يمكن أن يكسبها من تحريك اهتمام رجل الشارع. ولذلك ينظمون أيامًا مفتوحة ونشرات تثقيفية وتغطية إعلامية حيثما أمكن، ورحلات مدفوعة في بعض الأحيان. ففي اليابان، تقدَّم عروض في الموقع بمجرد الانتهاء من الحَفر، وتُعطى التفاصيل للصحافة قبل الانتهاء بيوم، بحيث يستطيع الناس القراءة عن الموضوع في الصحيفة المحلية الصباحية قبل حضور العرض التقديمي، ودائمًا ما يحضُرون بأعداد غفيرة.

من الواضح أن الناس متعطِّشة للمعرفة عن علم الآثار، وقد اتخذت شكلًا من أشكال الترفيه منذ حالات الحَفر الأولى لتلال الدفن (الفصل الأول) والكشف عن المومياوات المصرية أمام الناس في القرن التاسع عشر. والآن، أصبح للترفيه شكل وهدف يطغى عليهما الجانبان العلمي والتعليمي، ولكن لا مناص من أن يتنافس علم الآثار مع عوامل الجذب المنافسة الأخرى إذا كنا نريد له أن يزدهر أو أن يحيا؛ إن نضب التمويل من الناس، فسينضب جزء كبير من علم الآثار.

إننا في عصر السياحة الجماعية و«صناعة التراث»، وأكثر موقع يقدَّم على أنه مثال يجمع بين ترفيه الناس وتثقيفهم هو مركز جورفيك بمدينة يورك الواقعة في شمال إنجلترا. لم يكتفِ المنقبون بتشجيع الناس على زيارة الموقع في أثناء الحفر واستخراج بقايا الفايكنج في أواخر سبعينيات القرن العشرين (بلغ إجمالي الزوار نصف مليون زائر على مدار خمس سنوات)، بل إنهم أعادوا بناء جزء من الموقع، وأكملوه بالشوارع والمنازل على اعتبار أنه سيكون قلبَ متحف جديد، وقد بات هذا المتحف من أشهر المتاحف التي أقيمت على أنقاض موقع أثري وأنجحها ماليًّا على مستوى العالم. ويقع المركز تحت مجمع تسوُّق عصري. وفيه تعود السيارات الإلكترونية بالزوَّار إلى «الماضي»؛ إذ يمرون بالمنازل المسقوفة بالقش والوِرَش والسُّفُن. وبداخل هذه الأبنية وحولها توجد شخصيات من الألياف الزجاجية وبأحجام طبيعية وعليهم ثياب تحاكي فترة الفايكنج، وفي الوقت نفسه توفر التسجيلات الصوتية الأجواء الصاخبة للشوارع المزدحِمة؛ حيث يتحدث الأطفال والكبار باللغة الاسكندنافية القديمة الأصيلة، وكذلك تفوح الروائح المناسبة لتلك الفترة، مثل الروائح في الأماكن القريبة من حظائر الخنازير والمراحيض (لا سيما الروائح المعروفة بين شباب الزوَّار، مثل البطاقات التي تعمَل بتقنية الخدش والشم). بعد ذلك، تمرُّ السيارات من موقع يُحاكي عملية التنقيب، ويصل الزوار إلى معروضات الاكتشافات الأثرية ومتجر هدايا عبر محاكاة لمختبر يوضح طريقة صنع المصنوعات اليدوية والبقايا العضوية قيد الدراسة.

fig20
شكل ٩-٢

لذا، يحظى المركز بأهمية كبرى في تقديم موقع بعينه وفترة بعينها للناس، وكذلك في توضيح نتائج الاكتشاف الأثري وتفسيره بصورة تخيلية جديدة. ومن الناحية المالية، دعم المركز عمليات التنقيب الجديدة في مدينة يورك، وقد أدى نجاحه — بواقع ثمانية ملايين زائر في أول ١٠ سنوات منذ افتتاحه عام ١٩٨٤، و١٥ مليون زائر بحلول عام ٢٠١٧ — إلى إنشاء مواقع عرض مماثلة في المدن البريطانية الأخرى وفي البلدان الأخرى. افتُتح الموقع المطابق لكهف لاسكو بفرنسا (وهذه ضرورة لأن الموقع الأصلي لم يعُد وجهة للسياحة الجماعية) عام ١٩٨٣، وهو الآخر يستقبل مئات الآلاف من الزوار كل عام؛ ولكن على الرغم من رسوم الدخول الباهظة، فإنه لا يُسهم في البحوث الأثرية المحلية.

يتمثل التحدي الأساسي لمجال التراث في كيفية الموازنة بين المتطلبات الأساسية للحفاظ على التراث والحق الأساسي للناس في رؤية تراثهم الخاص وزيارته؛ بعبارة أخرى، كيفية قياس التأثيرات المعروفة أو المحتملة للسياحة الجماعية في المواقع الأثرية. ومع زيادة شهرة علم الآثار، ومع ظهور وسائل السفر الجوي المريحة، أصبح عددٌ من المدن أو المناطق أو حتى بلدان كاملة — مثل الصين أو بيرو أو المكسيك أو مصر — تعتمد اعتمادًا كبيرًا على السياحة الأثرية. وطبقًا للأمم المتحدة، أصبحت السياحة أهم نشاط على مستوى العالم بحلول عام ٢٠٠٠؛ إذ إنها تحتكر ٦ في المائة من كل الوظائف. هذا التوجه صحي في بعض الجوانب؛ إذ إن الوعي العام والاستمتاع بعلم الآثار لا غنى عنهما من أجل بقاء هذا التخصص وتطوره في هذه الأوقات التي تتسم بالضوائق المالية، ولكن ثَمة عواقب مؤسفة. وأُولى هذه العواقب هي مخاطر التلف والتهالك، كما ذكرنا من قبل، ولكن من ضمنها أيضًا حقيقة أن المواقع، أو حتى السياح أنفسهم، يمكن أن تستهدفهم الأعمال الإرهابية، كما حدث في مرتفعات بيرو ووادي النيل؛ فقد ثبت أنه من السهل ترويع عدد كبير من السياح بهذه الطريقة؛ ومن ثَم يتأثر اقتصاد البلاد كثيرًا من دون أدنى جهد. على سبيل المثال، الهجمات التي شنها المتعصبون الإسلاميون عام ١٩٩٥ كلفت الحكومة المصرية مليارَي دولار على الأقل في صورة خسارة عوائد سياحية، والسياحة من المصادر الأساسية للعُملة الصعبة لعلاج اقتصاد البلاد المعتل؛ وكذلك ذَبح ٥٨ سائح في الأقصر عام ١٩٩٧ أفقد مصر ٧٠٠ مليون دولار أخرى. كذلك كان لثورات الربيع العربي التي اندلعت عام ٢٠١١ تأثير سلبي في السياحة لدى مصر، ولم تتوقف التأثيرات عند عمليات السطو التي تعرض لها المتحف المصري بالقاهرة والمواقع الأثرية؛ بل إنه من ضمنها إثارة الشكوك — أو ربما التأخير إلى أجل غير مُسمًّى — حول مشروعات ضخمة مثل المتحف الوطني الجديد على هضبة الجيزة، بالإضافة إلى خطة إغلاق معظم المقابر الشهيرة في وادي الملوك (توت عنخ آمون، سيتي الأول، نفرتاري، وغيرهم) وإعداد نسخ مطابقة منها كي يزورها السياح. كذلك يمكن أن تكون السياسة رفيقًا مزعجًا لعلم الآثار، وقد شهدنا هذا جليًّا في حالات إساءة استخدام علم الآثار على يد ستالين في روسيا وهتلر في ألمانيا.

ولكن ربما في بعض الأحيان تتعامل السياسة مع علم الآثار بطريقة دمِثة. على سبيل المثال، كثيرًا ما روى تشارلز ماكبيرني — مدرس تاريخ العصر الحجري القديم بجامعة كامبردج — كيف أنه لما كان ضابطًا في الحرب الأخيرة أمر جنودَه أن يقيموا معسكرًا بجوار وادٍ في شمال أفريقيا، وقد اختار هذا الوادي لأن به مصاطب من عصر البلايستوسين. وبينما جنوده عاكفون على عملهم، انطلق بطول هذه المصاطب يبحث عن أدواتٍ من العصر الحجري القديم. وبعد فترة، رفع بصره ورأى على المصاطب في الجانب الآخر من الوادي ضابطًا ألمانيًّا يفعل الشيء نفسه. «لوَّح أحدنا إلى الآخر، وواصلنا عملنا!»

في الحقيقة، علم الآثار له عدة أوجه، وله العديد من الأدوار المهمة كما رأينا بين صفحات هذا الكتاب، ولكن يمكن أن تُسيء استغلالَه قلةٌ معدومة الضمير تسعى إلى الوصول إلى أهدافها الخاصة، وكذلك الأمر مع غالبية العلماء الحقيقيين ممن لا يريدون سوى دراسة الماضي ونقل المعلومات إلى مَن يرغبون معرفتها من الناس. ولذا، لا يبقى لنا إلا أن نتطلع ونتدبر في غد علم الآثار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤