الجسر

إلى مريد البرغوثي، تحية له، ولرام الله.

حين دخلت المقهى المطل على الميدان، فلأنه بدا أقرب الأماكن إلى الجسر، ولأني كنت أريد أن أستعيد ما حدث.

التفتُّ — بعفوية — ورائي، قبل أن أخطو داخل الجسر، يسبقني ويتبعني العشرات، رجال ونساء وأطفال، يحملون الحقائب والأكياس، أو يكتفون بحافظة ورق. يصدر عن وطء أقدامهم لخشب الجسر تلاغط طقطقة. أعرف أن المئات يعبرون الجسر كل يومٍ؛ عمان هي الترانزيت، ميناء العبور من مدن المنفى وإليها، أحاذر في خطواتي، الطقطقة المنبعثة من تحت القدمين تشي بقرب سقوطه.

لم أتبيَّن من تقارب السحن والملابس، وحتى اللغة العربية التي كان يتحدث بها الجميع، مَن هم منا، ومَن هم من الإسرائيليين. شردت في روايات أبي، ونحن نجلس في الشرفة المطلة على المنتزه، عن جيرته لأسرة يهودية في حي الظاهر، أعوام دراسته في القاهرة، فضَّلت أن ألوذ بالصمت والانطواء، لا أتكلم إلا إجابة عن سؤال.

قدمت أوراق أمنا وأوراقي إلى الضابط الإسرائيلي من كوة النافذة الزجاجية، أشار بيده إلى صفوف الكراسي في الصالة المستطيلة، تنبَّهت من الشرود الذي أخذني على النداء باسم أمنا، واسمي، دفع الضابط بالأوراق من وراء الكوة: «المرأة تدخل.»

ونقر بإصبعه على بقية الأوراق: «حاتم عبد الهادي … لا يوجد تصريح بالدخول.»

دنوت من الكوة الصغيرة: «أرجو أن تتأكد … أنا من مواطني رام الله.»

من دون أن يزايل هدوءه: «أنقل عن الأوراق، وليس عن مزاجي.»

غلبني الارتباك، لم أعرف من ينبغي أن أتجه إليه، فتكلمت إلى كل من أنصت لي، غلبني اليأس، حاولت أن أتجنَّب الوداع الذي لم أكن أعددت له نفسي.

أومأت أمي إلى رأسها، حملتُ الحقيبة، ووضعتُها عليه، أشفقتُ لاهتزاز جسدها تحت ثقل الحقيبة.

حتى لا تتقابل عينانا، تظاهرت بمتابعة الحركة في نهاية الجسر، لم أكد أتابع سيرها البطيء، حتى التفتت بجسدها كلِّه، كأنها حدست أني أحتضنها بنظرتي.

لوَّحت بيدي، في مغالبة الارتباك، وابتعدت.

– غريب أننا نستطيع لمَّ شملنا في باريس، ولا نستطيع ذلك في فلسطين.

كانت هذه المرة الأولى، التي تغادر فيها أمنا رام الله، لم تغادرها حتى أيام الاحتلال، ولا أيام السلطة الوطنية. تصفَّح الضابط الإسرائيلي طلب التصريح لها بالخروج من رام الله، واتته الرغبة في الدعابة: «تريدين الالتقاء بأولادك في باريس، لماذا لا تقيمين هناك، إنها مدينة جميلة.»

اكتفت أمنا بالقول: «رام الله أجمل!»

ربت كتفها: «لا شيء يظل على حاله.»

سافرت مع أمي من رام الله إلى عمَّان، سافر خالد من القاهرة، كنت — أنت — تنتظرنا في باريس، تنبَّهت إلى موضعك خارج مبنى المطار من صيحة أمنا: «نايف.»

وأنا أدفع إليك بالكيس البلاستيك: «هذه زجاجة زيت زيتون …»

واحتضنت كتفك: «أردت أن أذكِّرك بزيتون رام الله.»

التمعت عيناكِ بومضة حزينة: «هل تغيب رام الله عن بالي فأحاول تذكُّرها؟» وعلا صوتك بالانفعال: «أنا هنا أفتقد حتى الحجر الأبيض الذي بُنِيت منه رام الله.»

قال خالد: «الطمي في حياة المصريين من قبل أن يعيشوا في الوادي، لكنهم — في الأزمنة القديمة — فضَّلوا أن يشيِّدوا البيوت والمقابر بالحجر، وليس بالطوب اللبن.»

استعدت نظرتي إلى البنايات المقابلة: «لماذا اخترت الإقامة في هذا الشارع الخلفي؟»

– «لرخص الشقة النسبي، ولأن البيت قريب من الحي الذي يقيم فيه العرب.» ثم، وأنت تشير بامتداد ذراعك: «على بُعد أقل من مائتي مترٍ يوجد المسجد ومحال الأطعمة المغربية ومقهى أم كلثوم والمقاهي التي يتردد عليها العرب.»

تحدثت عن حرصك — في أيام إقامتك الأولى — على الانتقال بالمترو، شبكته الهائلة تغطي قلب باريس وضواحيها، وضعتَ خريطة المترو في جيبك، وتنقَّلت بين المترو الأحمر والمترو الأزرق، تجد نفسك في المكان الذي تقصده، سافرت للعمل في جمع العنب، كان الجليد قد حرق المحصول في ١٩٧٤م، تجوَّلت — بلا عملٍ — في المدينة، مضيت إلى الأماكن التي تقصدها من أسهمٍ تشير إلى مسار الاتجاهات، الشوارع الواسعة، والبنايات ذات المقرنصات والنقوش، وتماثيل الميادين، وأشجار المارون والبلانتين والكستناء، وتنقل خطواتك في الشانزلزيه وساحة الباستيل وأمام الأوبرا واللوفر وقوس النصر وعلى شاطئ السين، ومربعات البازلت أمام كاتدرائية نوتردام، تتأمَّل الجداريات المنحوتة والتماثيل التي تتخلل البناء. لم تعد تخشى حتى الشرود، أو الابتعاد عن المحطة، أو فقدان الطريق، تعود بالمترو المقابل إلى محطة البداية، تلجأ إلى مكاتب الاستعلامات داخل المحطة، أو تسأل رجال الشرطة بالإنجليزية، تتلقى الإجابة باللغة نفسها.

قال خالد: «المشكلة أن الفرنسيين الذين نطلب إرشادهم لا يتحدثون إلا الفرنسية.»

هززت إصبعك في الهواء: «قد يعرف الفرنسي لغة أخرى، لكنه يعتز بلغته.»

ثم، وأنت تومئ إلى المدى خارج النافذة: «إذا تعرَّفت إلى الأماكن على الخريطة جيدًا، فلن تحتاج إلى مَن تسأله.»

ورسمت على شفتيك ابتسامة مهوِّنة: «من الصعب على المرء أن يتوه في باريس؛ حتى لو قرر هو نفسه ذلك، يكفي أن ينظر — على النواصي — إلى الشوارع ومحطات المترو.»

أضاف خالد ملاحظة عن سهولة الإجراءات في مطار أورلي، سريعة، ولا تحتاج إلى الكثير من الكلام، يقدِّرون — ربما — أن السياح والزوار قد لا يعرفون الفرنسية، يلغون توقُّع الارتباك بوضع كلمات بالإنجليزية في بطاقة الدخول، دقائق قليلة كان يقف، والحقيبتان في يده، أمام باب المطار.

قلت: «تابع سائق التاكسي كلامنا.»

وأشرت إلى أمنا: «تكلم بالعربية … عرفنا أنه جزائري.»

أمَّنت بهزة من رأسك: «عدد كبير من سائقي التاكسي جزائريون ومغاربة.»

وأشحت بيدك: «إذا كنا نعاني الاحتلال، فالكثير من العرب يعانون استبداد الأنظمة.»

وأنا أتأمَّل الشعرات البيضاء التي تسلَّلت إلى مقدمة رأسك وفوديك: «يستطيعون العودة إلى بلادهم، تظل أوطانهم، أما نحن فالأمر يختلف.»

تحدثت عن حبك للخضرة، ذلك ما ألِفته في رام الله، وضعت في قلب السور المعدني المتوازي أصصًا فخارية، بها زهور وورود ونباتات تدلَّت أوراقها على الجدار، يهمك أن تطل — في أي وقت — على الخضرة التي تفتقدها، ليست الخضرة المترامية في أرض رام الله، لكنها تذكِّرك بها، أحدس النشوة في انفراج شفتيك عن أسماء الأحياء والشوارع والبنايات؛ البيرة، المقاطعة، ميدان المنارة، شارع الإرسال، شارع القدس، قرية سردة، مبنى المحافظة، كنيسة الله، جامع العين، المكتبة، مقر الرئيس عرفات، حي المسيون، تماثيل الأسود الأربعة المنحوتة في حجر الورد، جامعة بير زيت، رام الله القديمة، تلال جبال القدس.

حذَّرك الساكن في شقة البناية المقابلة من أنه سيلجأ إلى الشرطة، إذا لم ترفع أحواض الزرع من فوق كورنيش الشرفة: «لاحِظ أنها توسخ واجهة البناية.»

وتداخلت في صوتك دهشة: «المهم أنه يسكن في بناية أخرى …»

ثم بصوتٍ هامس: «رفعت الأحواض حتى لا تتدخل الشرطة.»

وأشرت إلى المدى خارج النافذة: «في أيام الآحاد أزور فونتناليه على بُعد ٥٠ كيلومترًا عن باريس، أحاول تعويض غياب خضرة رام الله.»

قال خالد: «إن ألفة المكان لا معنى لها في حياته، تنقَّل بين الكثير من المدن والشقق والفنادق، قبل أن يتم تعرُّفه إلى المفردات، ينتقل إلى ما لم يكن أعدَّ له نفسه باختياره، أو بانتهاء الإقامة، أو بإنهاء تصريح إقامته، يعتني بما في الحقائب أكثر من عنايته بما في الأدراج، الحقائب تسعفه وقت الرحيل الذي ربما يكون مفاجئًا، أما الأثاث فيظل في موضعه. اختلطت نوعيات الأثاث، وأوانه، وعدد الغرف، وسحن الجيران، والأماكن التي تطل عليها، تعرَّف إلى المئات في المنافي، زهقوا من الخيام وعشش الصفيح واستمارات هيئة الإغاثة، أخذتهم القبور والمعتقلات والمدن القريبة والبعيدة.»

– أنت تشاهد أفلامًا كثيرة في قناة الدراما، تختلط في ذهنك الأحداث، فتعجز عن تذكُّر أي فيلم!

تكلَّم عن ظروف وفاة والدنا، كانا بمفردهما في الشقة المطلَّة على ميدان الجيش، أسند رأسه إلى يديه، ثم سقط الرأس واليدان، وتهاوى الجسد كله.

أدرك أن شيئًا ما، يهدد أبانا بالخطر، شيئًا لا يستطيع أن يلمسه، أو يراه، وإن بدت أنفاسه قريبة، خمَّن أنه يعاني غيبوبة السكر، استغاث بالجيران والإسعاف، لكنَّ الحياة كانت فارقته.

غالبت أمي تأثُّرها: «ثاني مرة يفارقني في زواج أربعين سنة.»

ثم، وهي تغالب النشيج: «أصرَّ على أن يقضي رمضان في القاهرة.»

التمعت عيناك: «أجله!»

قالت أمي في تأثُّرها: «يؤلمني أني لم أكن معه، ولم أودعه.»

قال خالد: «شعبنا كله في قوائم الموتى الأحياء.»

ثم، وهو يهز المسبحة الصغيرة بأصابعه: «الموت في ظروفنا روتين.»

أضاف إلى نظرتي المتأمِّلة في المسبحة، في يده: «لم تفارقني منذ اشتريتها من خان الخليلي.»

وهرش رأسه بطرف إصبعه: «من الأشياء القليلة التي اخترتها بذوقي …»

تكلم عن الزيارات التي يجريها عبر أسلاك التليفون؛ تناقش التقدم الدراسي، والمشكلات الصحية، وظروف الإقامة، والهجرة إلى المنافي، ومشروعات الزواج والطلاق، ونبرات الحنين والشوق واللوم والعتاب والأسى والخوف والسأم والملل.

تكلَّف ابتسامة: «أظن أن مخترع التليفون كان يتنبَّأ بحاجة الفلسطينيين إليه، بعد أن يشردوا في الأرض!»

اتجهت ناحيتي بنظرة متسائلة: «حاتم، ما أخبار رام الله؟» قلت: «مدينة تحت الاحتلال!»

– ماذا تفعل السلطة الفلسطينية؟

– الحدود إسرائيلية والعملة إسرائيلية والجوازات كذلك.

ثم، وأنا أظهر التململ: «كل شيء يخضع لسلطة الاحتلال!»

غابت أمي في زحام الناحية الأخرى من الجسر، حملتُ الحقيبة، ومِلتُ ناحية الضفة الشرقية، طالعتني تقاطعات الشوارع والميادين وزحام المارة والسيارات، جلستُ على أول مقهًى صادفته، أستعيد ما حدث. التفتُّ — بتلقائية — إلى رام الله الممتدة أمامي؛ البيوت المسقوفة بالقرميد، المتدرجة على الجبل، تتوسَّط مساحات الخضرة، والشوارع المسفلتة العريضة، والشوارع الترابية، والجبال، والكهوف الصخرية، والشعاب، وحقول الزيتون وكرم العنب والتين واللوز والمشمش، والتلال الخضر الممتدة إلى أفق البحر، والقرى الصغيرة فوق رءوس التلال.

تلاشى التوقُّع، وما يجدر بي أن أفعله، اجتذبتني الحيرة؛ لا أدري إن كنت سأبعث هذه الكلمات إليك، وما عنوان المرسِل الذي يجب أن أكتبه على مظروف الرسالة، أو أتصل بأمنا في رام الله، أو بنايف في القاهرة؟

اتجهت نظرتي إلى الجانب المقابل؛ تلال عمان السبعة، والمخيمات، بدت طريقًا وحيدة، لعلَّ المشاركة تدلُّني على خطواتي التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤