إيقاعات

خطرت الفكرة في باله كالومضة، لم يكن — في تلك اللحظة تحديدًا — يفكر إلا في اللقاءات التي تملأ أيامه الأربعة في بيروت، محاضرتان، وربما ثلاث في اليوم الواحد، وأحاديث في وسائل الإعلام، ولقاءات بمسئولين، لم يعد نفسه؛ حتى لمجرد السير في شارع الحمراء الذي يحب محاله ومقاهيه وصخب الحياة فيه.

ومضت الفكرة، استعادها، أزمع أن يخضعها للمحاولة، إذا جاوز الإخفاق، فهو يستعيد الثقة الغائبة، وإذا لقيت المحاولة صدودًا؛ فعليه أن يظل السر مقيدًا داخل حجرته في الفندق، القيد نفسه؛ الذي خلَّفه في حجرته في الشقة المطلة على نيل الزمالك. قال الطبيب: «التردُّد يؤدي إلى الحوادث.»

كان يقصد حوادث المرور، لكنه لاحظ أن المعنى ينسحب على كل شيء.

تحسَّس — بعفوية — موضع العملية الجراحية في صدره، كيف يواجه النظرات المشفقة، أو المشمئزة؟ وبَّخ نفسه لأنه استدعى الفكرة، وقلَّبها؛ يدعو المرأة إلى زيارته في حجرته، يقضيان معًا وقتًا لم يستمتع بمثله من قبل. «أخادمة الغرف؟»

يفرُّ من المشكلة الحقيقية؛ فيثير مشكلات هو في غِنًى عنها.

قضى موظف الاستقبال على تردُّده: «هل يقدم نفسه باسمه الحقيقي، أو يخترع اسمًا يختفي وراءه؟» طلب الموظف جواز السفر، تأمَّل البيانات، وأودعه خانة مفتاح الحجرة: «سنعيده عند نزولك.»

أضاف الموظف بلهجة مرحِّبة: كم عدد الأيام؟

– ثلاثة أيام أو أربعة.

ثم وهو يتكلَّف ابتسامة: «مهمة عاجلة.»

استشرفت نفسه حياة غير التي يحياها، غلَبته الحيرة، فهو لا يقدر أن يفعل شيئًا، ما يؤلمه أنه لا يقوى على البوح، السر في داخله، لا يكشف عنه، يقاوم الرغبة في أن يتكلم مع أحد، يفضُّ عما في نفسه، يحكي، ويحكي، لا يسكت حتى يهدأ، قيمة الصمت أنه يخفي ما نعانيه، لو أن الملامح أظهرت ما في النفس، ما قدِم من القاهرة، العجز معه يصحبه إلى أي مكان يقصده، ليس في جسده، ولكن في مواجهة الظروف.

قالت فادية: ماجد يستهلك نفسه في إظهار الغضب، لكنه لا يؤذي.

وعلت ضحكتها، فاهتز صدرها: ماجد كائن مسالم.

ينظر — في استياء — إلى نظرتها المستخِفة، تجيش مشاعره، يعلو صوته بما يمور في داخله، يبدي رأيه، ويعلن ما ينوي فعله، الابتسامة على شفتيها تزيد من إحساسه بالغضب، يغلبه ارتباك لا يفلح معه في أن يقول شيئًا، يغمض عينيه، يروح في عوالم يصعب عليه تبيُّنها، خليط من المشاعر والذكريات والميل إلى الفضفضة، حتى المواقف التي لم تشغله في وقتها، ونسيها، تستعيدها ذاكرته، وتملؤها. أهمل النصيحة، بأن يلغي سفره إلى بيروت، أو يؤجله. تحدَّث علي عبيد عن اتساع حرب الميليشيات، والقتل على الهوية، داخله شعور لم يستطع تفسيره، كأنه التحدي، أو الرغبة في المغامرة، تأكيد ما يطمئن إليه في نفسه، ولا يراه في أعين الآخرين؛ حتى ضابط الجوازات في مجمع التحرير لم يوقِّع على الموافقة إلا بعد أن دفع إليه علي عبيد بطاقة التوصية.

أدار الولد النوبي الملامح مفتاح الحجرة، ودفع جرار الشرفة الزجاجي، أطلَّ من الطابق التاسع في الفندق ذي الطوابق العشرة في أسفل طريق الكورنيش، في زاويته المطلَّة على صخرة الروشة، كأنها ساقا عملاقٍ في قلب المياه. وأكشاك الملابس والكاسيتات والطعام، وعربات الفول والترمس والذرة متجاورة فوق الرصيف، ويتقافز في الزحام باعة الورد والفل والياسمين، ومياه البحر تمتد إلى نهاية الأفق، فوقها سماء صافية، تتخللها سحب بيضاء.

تأمَّل وجهه في مرآة الحمام.

التجاعيد دوائر أسفل العينين، وحول الفم، وتتباين مع شعره المصبوغ بالسواد، والبشرة باهتة، والوجنتان غائرتان.

استعاد الفكرة في أثناء وقوفه أمام المصعد، حرص على أن يتجه بنظراته — فور خروجه من المصعد — إلى الناحية المقابلة لكاونتر الاستقبال، يفطن الموظف إلى مكانته، فلا يهِبه الفرصة كي يلقي أسئلة، أو يعرض خدمات، هو واحد من نزلاء الفندق، لا شأن له بأحدٍ، ولا شأن للآخرين به، لكن: «كيف يجد ما يطلبه؟ كيف تنشأ العلاقة؟»

لو أن موظف الاستقبال، أو أي عامل في الفندق، فطن إلى ما أزمع فعله، فستؤذيه الفضيحة بما لا يتصوَّره. لحقه صوت عادل: «أريد نقودًا.»

اتجه ناحيته بنظرة غاضبة: «أنا أنفق على البيت كلِّه، وليس عليك وحدك.»

– أردتَ أن تصبح أبًا؛ لذلك ثمنه.

ثم، وهو يطرقع أصابعه: «أريد نقودًا.»

هزَّ رأسه دلالة الرفض، قال عادل: «إذا لم أحصل على ما أريد، فلن أضمن تصرفي.»

تفجرت في داخله رغبة في الشتم، أو في العراك: «افعل ما تشاء!»

وهو يزيح شهادات التقدير والأوسمة والميداليات عن الأرفف والجدران، ويقذف بها من النافذة المطلة على بقايا بناية متهدمة: «هذا ما أفعله.»

اكتفى بنظرة الذهول تملأ ملامحه، فكَّر في أن يمنعه، يصرخ فيه أو يدفعه أو يصفعه، لكنَّ العجز شلَّ تفكيره وتصرُّفه، خشي تصرفًا لا يتوقعه، ماذا يفعل لو أن الولد ردَّ إليه أذيَّته؟! يصفعه، فيرد عادل الصفعة بمثلها، ينتهي كل شيء، لا أبوَّة، ولا بنوَّة، ولا أسرة، لا أي شيء، يتمنى الموت.

قال بنبرة الإشفاق في قول علي عبيد: «أنت لا تعمل حسابًا للمستقبل.»

– معي ما يكفي المستقبل.

وتلكأت الكلمات: «يهمني أن أنفق ما أملكه في حياتي.»

ثم، وهو يصرُّ على أضراسه: «لا أريد أن يرثني ابني في مليم واحد.»

– أعطاك الله العمر … لكنَّ الحرص على ألَّا يرثك عادل يثير التأمُّل.

– لماذا؟

يقلِّب الكلمات في ذهنه، فلا يجد إجابة محددة، يرفض لأنه يريد ذلك: «ما معنى أن أعمل وأكسب، ثم يرث أي أحد ما ضيعت العمر لتدبيره؟ يجب أن يعلم عادل وفادية أني قادر على اتخاذ القرار، أنا أرفض وأقبل وأمنع وأعطي، أتخذ قراري بالثقة كلها، أملي، إرادتي، لا تشغلني ردود الأفعال، ما أفعله … هو حقِّي.»

اعتذر عن المرافقة بأنه يريد السير في شوارع الكويت بمفرده، سأل عن السوق، استعاد التسمية: واجف؟

– إنها مجرد سوق شعبية.

أهمل التحذير، وسأل عن الطريق.

مضى من ساحة الصفا. الأسقف الشبيهة بالقيساريات دفعت معظم المحال إلى إضاءة الداخل، غالبية البضائع قديمة أو مستعملة، وفي الوسط طاولات خشبية، فوقها ملابس نسائية ومفروشات وسجاجيد، استعاد زحام وكالة البلح.

قال الرجل: «أفهم ما تريد التعبير عنه.»

ثم، وهو يحدجه بنظرة تتوقع رد الفعل: «سأعد لك وصفة لا تخيب!»

غلبه الارتباك، أدرك أنَّ الرجل خمَّن عكس ما يعانيه، قال: «أنا لا أشكو ضعفًا.»

ابتسم الرجل بالحيرة: «ماذا تشكو إذن؟»

كان يضايقه التقاط تلميحه؛ بما يعانيه بمعنًى لا يتغير، تقتصر الأحاديث على ما يضيف إلى حيويته، وتقترن بالإيماءات والكلمات التي يكتنفها الغموض، ما يعانيه كائن في داخله، لا دخل له بمرضٍ، ولا يحتاج إلى شيء؛ مما يشيرون عليه به، شيء لا يدري مصدره، وإن استقرَّ في داخله، يثيره، يشقيه بالإحباط، وبأنه غير قادر على التصرف وعاجز.

قال البائع في شارع الحبيب بورقيبة: «أفهم ما تريد التعبير عنه.»

أضاف، وهو يقدم له حبة صغيرة: «خذ هذه، تجعل ما تعانيه من الماضي.»

وضع الحبة بين شفتيه، تبعها بجرعة ماء، تصاعد — في اللحظات التالية — ما لم يخطر له ببالٍ: خيالات ومشاهد ونشوة تقربه من الغيبوبة، سرى ما يشبه الخدر في أعصابه، أغمض عينيه في استسلام، تصور — بتأثير النشوة — أن أنفه طال، فكاد يسد الطريق، أبطأ من خطواته؛ حتى لا يصطدم بالمارة أو العربات، داهمه التوجس، فعوج أنفه بأصابعه؛ ليحقق انتظام المرور، خطر له أن يصرخ، ويغني، ويرقص، ويجري إلى حيث تذهب به قدماه.

عبر الطريق إلى الناحية المقابلة، استبدل البائع شرائط كثيرة حتى هزَّ رأسه بالموافقة، الصوت الأنثوي يتغنَّى بالعلاقة منذ بداياتها، يتعمَّد المط والتلكؤ والبحَّة المتحشرجة والأنفاس اللاهثة، مالت الرءوس، وتقاربت الأجساد، وتعالت الهمسات الصاخبة. قال البائع، وهو يقلِّب الشريط على الوجه الآخر: «أثق أن هذا هو ما تريده.»

ابتسم للتعبيرات والتعليقات؛ التي علِّقت على الدكاكين المجاورة للكاتدرائية بشارع الحبيب بورقيبة، دفع — في زيارته الأخيرة إلى تونس — أربعة دولارات، كي يكتب له البائع أمنية على بطاقة مزيَّنة بالورود، أطال التفكير؛ فيما يتمنَّاه لها، طلب البائع أن يترك العبارة، الأمنية، استقبلته بما اعتاد من الجفاء، فلم يتذكر البطاقة، إلا حينما فتشت في جيوبه، قبل أن يبعث البدلة إلى المغسلة.

نسي حتى ما قدِم من أجله إلى بيروت، وهو يجلس في كازينو لبنان، ينصت إلى المغنية الصغيرة، الممتلئة، تردد أغنية فيروز: «باحبك يا لبنان، …» وثمة آلاف النقاط الضوئية تفترش مساحات السواد فوق الجبل، حرص على تناول ما يميِّز الطعام اللبناني: الكبَّة والتبُّولة والفتوش والحمص بالطحينة واللحم بالجبن وورق العنب والمحاشي والمتبلات، حتى الحلويات — على الرغم من الضغط والسكر — أكل البقلاوة والقطائف وعيش السراية والعثمانلية وزنود الست.

عانى كثرة الحواجز على مفارق الطرق، مدرعات، وسيارات جيب، وبزات عسكرية ذات ألوان متباينة، وأصوات الميكروفونات يتعالى منها التعليمات والأوامر، والشعارات مكتوبة بالبويات الملونة، والطباشير تملأ الحوائط، وأسفلت الطريق، وأبواب الدكاكين المغلقة، وسواتر البنايات المتهدمة والملصقات على الجدران، ولافتات القماش تصل بين أعمدة النور في تقاطعات الشوارع، تؤيد وتستنكر وتحيي وتبايع وتبشِّر بالخلاص، وصور الزعماء والقادة معلَّقة على النوافذ والمشربيات، والأعلام التي تنتمي إلى تنظيماتٍ يسمع عنها، أو لا يعرفها، أذهله الدمار في وسط بيروت؛ سوق الطويلة، وباب إدريس، وساحة البرج، البنايات المتهدمة، وفجوات الصواريخ، وثقوب الرصاص الواضحة على الجدران المتبقية.

أشار سائق التاكسي إلى النافذة التي كان يقف وراءها، وبيده بندقية يصعد بها إلى من يحدِّده التلسكوب، لم يعُد القتل على الهوية، ولا بعد إلقاء الأسئلة؛ لمن يجري بسرعة، أو يمشي ببطء، أو يتلفَّت، يصوِّب عليه دون أن يتلقَّى أمرًا، أو يعطي إنذارًا. استعاد التسمية: «قبرص؟»

أعاد فاروق معوض القول: «قربص … هي غير قبرص.»

ثم بلهجة محرِّضة: «بها نبع ماء ساخن يتدفق من الصخر، لو أنك أكثرت من الغطس فيها؛ فالنتيجة مؤكدة.»

أشفق من الارتفاع الهائل الذي بلغته السيارة على الطريق الصاعدة، بدا الوادي في أسفل مفروشًا بالخضرة، تنتهي بالشريط الساحلي، الجبل الصاعد المتعرِّج نفسه، ارتقته السيارة في قريات، وإن تسربل الجبل العماني بالصخور والوحشة، واختلطت — في الوادي — مساحات الصخور والرمال وبقع الخضرة القليلة.

المياه تجري ساخنة إلى الدائرة الحجرية المتصلة بالبحر، تبلغ مستوى الركبة، تظل السخونة على ارتفاعها إلى خارج الدائرة، عشرات الأمتار في اختلاطها بموج البحر.

– من أين تأتي هذه العين؟

– من الصخور، البداية لا يعرفها أحدٌ، لكنها تنبثق من الصخور.

دلَّى قدميه في مياه الدائرة الحجرية، لسعته السخونة، فرفعها، تشجَّع حينما أبقت الفتاة قدمها في الماء، دلَّى قدميه، وتحمَّل الحرارة. تنبَّه على صيحة أربكته، كان الشاب ذو الأفرول الكاكي يتفحَّصه بنظرة مرتابة: «ماذا تريد؟»

أدرك أنه أكثر من التلفُّت؛ فيما يثير التأمل والأسئلة، غالب إحساسه بالارتباك: «أنا أتنزَّه.»

وهو يلكزه بكعب البندقية في جنبه: «تتنزَّه في منطقة عسكرية؟!»

المناطق متشابهة؛ الحواجز والمتاريس واللافتات والشعارات والميلشيات العسكرية. تعمَّد ألَّا يواجهه بعينيه، يخشى أن يلمح التخاذل في نظرته: «لم أكن أعرف.»

لم يعد قادرًا على الفهم، ولا الاستيعاب، ولا التصرف، ثمة شيء ينقصه، وإن لم يدركه على وجه التحديد، عانى ما يشبه شلل الإرادة، اختلطت الرؤى، والخيالات، والأصوات التي يغيب مصدرها.

أعاد الشاب لكزه بكعب البندقية، تأوَّه وسقط، واصل الشاب دفعه وضربه وهو يزحف، اعتمد على راحتيه وركبتيه حتى توقفت الضربات، وانحسر ظل الشاب، زمَّ شفتيه، وإن ظلَّ على تألمه، وهو يرقب الشاب مبتعدًا في وقفته المنعزلة وسط الميدان الصغير. كان ذهنه قد خلا من كل شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤