اغتيال

إلى المناضلة الفلسطينية مروة جبر

لكزه الواقف إلى جانبه، وهو يشير بامتداد ذراعه إلى المدينة في أسفل: «أطلِق الرصاص على أي شيء يتحرك، ولا تشغلك النتائج.»

وحدجه بنظرة محرِّضة: «هذه فرصة ممتازة للتدرب على الجسد الحي.»

سأل في دهشة: «أأقتل؟»

– مَن تتردد في قتله سيقتلك.

ثم، وهو يهز قبضته: «لا مجال للتردد في مواجهة الموت!»

أسند البندقية على الساتر الرملي، وتأمَّل المدينة الواقعة في أسفل الشارع الواسع المسفلت، تتفرع منه شوارع جانبية، البيت إلى اليمين، يفصله عن الساتر ساحة دائرية صغيرة، على ناصيتها بيتٌ من طابقين، الواجهة من الطوب الأبيض، والسقف من القرميد الأحمر، تسلَّقت لبلابة حافة النوافذ الخشبية، العالية، وكست الجدران، وتسلَّقت نحو السطح.

تحت البيت دكان بقال، يقف أمامه شاب في حوالي الخامسة والعشرين، يرتدي قميصًا طوى كمَّيه، وبنطلونًا من الجينز. في طرف الرصيف شجرة تين تساقط معظم أوراقها، لم يعد إلا الفروع الجرداء، المتشابكة، يترامى — من بعيدٍ — صوت سرينة إسعاف.

معظم النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين على جانبي الشارع المواجه مغلقة، أو تطايرت، البنايات مشيدة من الحجارة والطوب الرملي المتداخل بتكويناتٍ من الخشب.

ثلاثة دكاكين فقط ظلَّت مفتوحة: البقال، ومخبز، وصيدلية، ومقهًى تجاورت في داخله كراسٍ ذات قيعان مجدولة من الخوص، حول طاولات قديمة مختلفة الأحجام، روَّاده ثلاثة، ثبتت عيونهم — من وراء النافذة الزجاجية المفتوحة — على بقايا البيت المتهدم، وولدان أمسكا بخيط طائرة ورقية، يتابعان ارتفاعها فوق البنايات، وإلى جوار الرصيف كومة زبالة، يعبث فيها قطٌّ، والسماء ملبدة بالسحب.

ظِل المعركة التي دارت — قبل ساعات — بين الجنود والفلسطينيين المسلَّحين، امتص حركة الطريق، المارة قليلون، خلت الشوارع، تناثرت آثار المواجهة: دماء متخثرة على الجدران والأرصفة وفوق أسفلت الطريق، طلقات رصاص فارغة، مِزَق ورقية متطايرة، زجاجات، علب صفيح وكرتون، غيمات التراب — بفعل القصف — غطت واجهات البيوت، كومات الحجارة تناثرت أمامها، تشي بأنها سقطت من فترة قريبة.

لم يشاهد المعركة، وإن تابع تعليقات زملائه، رفض الفلسطيني أن يسلم نفسه، رآه الجنود وهو يقتحم الباب، ويتركه — باللهفة — مفتوحًا، وقف الجنود والبولدوزر أمام البيت ذي الطوابق الثلاثة، علا صوت الميكروفون يدعو السكان إلى إخلائه، انطلق الرصاص من النافذة العلوية، دارت المعركة في دقائق، ثم تهاوت الطوابق الثلاثة، لم تذكر التعليقات إن كان من في المنزل قد فازوا بحياتهم، أم ماتوا بين الأنقاض.

طالت مناقشات الضباط، الأخذ والرد، الأسئلة والأجوبة: «هل من الأجدى فرض حظر التجول؟» حسم القائد الأمر بالقناصة، وتسيير الدوريات، وقفته — وراء الساتر — لإطلاق الرصاص على من يلمح، ولو مجرد سيره أمام البناية، إطلاق الرصاص بلا ترددٍ، اصطياد من تلتقطه الشبهات سهل، إن أغلقت المدينة أبوابها على الفارِّين، وظلَّت الأبواب مفتوحة، وأطلَّ الناس من النوافذ والشرفات، وجلسوا على المقاهي، وأمام الدكاكين، وداخل البيوت.

أمر نقلِه من صحراء النقب إلى مدن الضفة الغربية، فرض توقعًا طيبًا، تصوَّر في الحياة بين الناس ما يطرد الملل، يطل — في وقفته — على صحراء ممتدة، اختلطت فيها الرمال ومساحات الخضرة والبنايات الصغيرة المتباعدة والمعسكرات، أربكته نظرات السكان العرب، التقط منها ما لم يستطع تحديده، وإن غاب عنها الود والألفة، لم يكن يستطيع أن يرد النظرات المتطلعة ناحيته، تحدق فيه، تحاصره، حرص على ما ألزمته به الأوامر؛ كن قريبًا من القوة لتحتمي بها، يشكِّل — داخل المدن — مجموعة مع جنديين أو ثلاثة، يحتفظون بكامل الأسلحة، يقيسون المسافة مع نقاط التفتيش والحواجز والعربات المصفحة والدبابات.

تركت له الأوامر تحديد الهدف، يضغط زناد البندقية على ما يثير الريبة، يقتل قبل أن يستوضح، أو يسأل، أو يتأكد، الأوامر الصريحة تساعده؛ لا تحدق في ملامح من تصوِّب إليه، الشك يكفي للضغط على الزناد، هذا هو الهدف، فأطلِق رصاصاتك عليه، لا تتردد … إذا ترددت في قتل عدوك، فسيبادر هو بقتلك، إما أن تتركه حيًّا، أو تفقد حياتك، ظلَّ إسقاط المسئولية في القتل الخطأ بلا معنًى، قانون الحرب لا يعرف المشاعر الطيبة.

ترامى هدير سيارة، بدت مقدمتها في انحناءة الشارع الجانبي، توقفت في موضع محطة الباصات، خلفت عجوزًا يرتدي العباءة والعقال والكوفية الفلسطينية، أسند راحته على قبضة العصا، جال بعينيه فيما حوله، كأنه يتوقع أحدًا في انتظاره، تأكد من إمساكه بالعصا جيدًا، وعبَر الطريق إلى الشارع المقابل.

أحسَّ برغبة في أن يسدد بندقيته إلى موضعٍ ما، أحدٍ ما، يضغط على الزناد، لا يرفع إصبعه، أصدر صوتًا من بين شفتيه؛ تك، تك، تك، تظاهر بالضغط على الزناد، ثم أرخى ساعده.

هزَّ رأسه يطرد النوم، فرك عينيه، أغمضهما، وفتحهما، ثم أعاد النظر إلى الواقف بجانبه، والى الطريق والبنايات أمامه.

تحسَّس البندقية وهو يرمق مسلَّحًا يعبر المسافة بين تقاطعات شارعين، قبل أن يلتقط البندقية من فوق الساتر، كان المسلح قد اختفى.

قرَّب جهاز اللاسلكي من أذنه، يستمع إلى اختلاط المكالمات والملاحظات والأوامر، ربما يكون بينها ما يأمره بفعل شيء، يحدد له الهدف الذي ينبغي أن يصوِّب إليه رصاص بندقيته.

أغلق الجهاز.

ركَّز نظرته على الجسد الأنثوي، يبين عن قسماته في العباءة السوداء، قدِمت من شارع جانبي ناحية دكان البقال، خمَّن من تلويحة يد الشاب أنه ينتظرها.

اطمأن — بنظرة جانبية — إلى زميله خلف الساتر الرملي، قرفص في إغفاءة بين جوَّالين، أسند البندقية على الساتر أمامه، ثبَّت النظارة المكبِّرة على مدخل الدكان، وقف أمامه الشاب والفتاة، الحاجز الخشبي فوقه رخامة، تحتل معظم مساحة الواجهة، عدا مساحة صغيرة سُدَّت بباب ذي مفصلات، ينفذ منها إلى الداخل.

مدَّ يده لها بالمصافحة، استبقى يدها في يده، وضغط عليها بكفِّه، لما ربتت صدره بيدها، حدس أنهما يعرفان بعضهما، ما يراه ليس أول لقاءاتهما.

تابع إشارة الشاب ناحية البناية المتهدمة، قال كلامًا كثيرًا، أضاف إليه تعبيرات يديه، مرَّر جانب يده على رقبته دلالة الموت. أزاحت العباءة عن مقدمة الرأس، فبرزت خصلة من شعرها، أظهرت التأثُّر في إسناد ذقنها على قبضة يدها، وإعادة النظر إلى المكان بعينين متأمِّلتين.

رفع الشاب رأسه وذراعيه إلى السماء، وقال ما لم يتبيَّنه، ثم مسح براحتيه على وجهه. قال الشاب ما فطن إلى معناه في تجاه نظرة الفتاة إلى الناحية المقابلة.

التفت — بتلقائية — إلى مصدر ترامي هدير سيارة، مدَّ عنقه، وزوى عينيه، تبيَّن عربة مصفحة، بداخلها ضابط وثلاثة جنود، مالت إلى الشارع الجانبي أسفل الساتر الرملي، واختفت.

قرن الشاب كلماته بإيماءة إلى الدكان: «هل يدعوها إلى الدخول؟»

كان الدكان من الداخل معتمًا، لم يستطع تبيُّن ما إذا كان خاليًا.

تحركت شفتا الشاب، كمن يهمُّ بالكلام، ثم سكت، لزم صمتًا، واكتفى بالنظر إلى قدميه، نبَّهتْه إلى أنه وضع أزرار القميص العلوي في العروة الثانية، اتجه إلى الناحية المقابلة، تأكد من وجود الأزرار في مواضعها، وعاد إليها بابتسامة معتذرة.

ظل صامتًا، وإن استحثَّته على الكلام بنظرة مشجعة.

شوَّحت بيدها، وابتعدت خطوات، لحِقها، مدَّ ذراعيه، أعادها إلى وقفتها أمام الدكان. أزاحت خصلة الشعر المتهدلة على جبينها، وواجهته بنظرة متسائلة، انتفضت لسقوط ورقة يابسة من فوق الشجرة، طفرتها بطرف إصبعها، تأمَّلت نثارها على الأرض، وداست عليه.

خبط جبهته علامة التذكُّر، اتسعت ابتسامتها — رد فعل لما قاله — فتوضَّحت الغمازتان في وجنتيها، والتمعت أسنانها البيضاء، قرَّبت فمها من أذنه، قالت ما أضحكه، حتى ضرب ركبته.

أخفضت عينيها، فحدس أنه قال ما أربكها، أشاحت بوجهها؛ حتى لا يفطن إلى ما قد تعبِّر عنه عيناها، لو يعرف ماذا يقولان؟ ماذا يقول لها؟ ماذا تقول له؟

التخمين صعب، وإن حرك الشاب يده بما يشي أنه قال ما لديه.

ظلَّت أصابعها على ظهر يده، كأنها استراحت إلى هذا الوضع، داعبت ظهر كفِّه بظفرها، عاد إلى احتواء أصابع يدها بين راحته، يضغط عليها بآخر ما عنده، وهي تضحك، وضعت سبَّابتها على شفتيه، دلالة أن يصمت، تظاهر بأنه سيعض إصبعها، احتضن الإصبع، ورفعها إلى شفتيه، وقبَّلها، تراجعت بأعلى كتفيها، وأعادت خصلة الشعر المتهدلة بهبة هواء مفاجئة.

أحسَّ بتوتُّر يتولد داخل نفسه، لا يدرك بواعثه، وتملَّكه إحساس بالمحاصرة، لم يستطع السيطرة على انفعاله، اختلطت المشاعر في داخله، تداخلت، وتشابكت، غاب حتى إحساسه بالزمان والمكان، حاول أن يتجه بنظراته إلى أعلى، فيعود إلى نفسه.

كانت الشمس قد مالت نحو الغروب، انحسرت عن الأسطح وأعلى البيوت، وتقلَّصت الظلال، تناثرت سحبٌ كثيفة تشي بمطرٍ وشيكٍ، ودارت أوراق الشجرة المتساقطة في دوامة؛ بتأثير الهواء المندفع من تلاقي الشوارع الجانبية.

تأكد من وجود رأس الشاب في دائرة التلسكوب.

ضغط على الزناد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤