لماذا صلاح أبو سيف بالذات

تستحيل كتابة تاريخ السينما المصرية دون التعرض لأفلام صلاح أبو سيف. فدور هذا المخرج في تغلغل ذلك الفن في حياة الناس في مصر وفي عقليتهم، مسألة لا نزاع فيها.

والفكرة الشائعة عمومًا عن السينما المصرية هي أنها نسخة رديئة من النموذج الأمريكي، كما جاء في مجلة المصور (العدد ٢٤٢٣). وإذا ألقى المرء نظرة على قائمة أفلام المخرجين المصريين، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لأثارت دهشته بالأخص هشاشة منطقها حتى وإن كان من أدوا أدوارها خير الممثلين المسرحيين. ولا يعبر هذا الإنتاج عن «سينما قومية» بل عن «سينما مروِّجة لآمال زائفة»، لم يتوانَ نقاد مثل عثمان العنتبلي وسعد الدين توفيق وسمير فريد أو سامي السلاموني عن توجيه سهامهم إليها. فمعالجة يوسف وهبي لموت علي فهمي بك في «أولاد الذوات»، من زاوية موعظية بحتة دون التطرُّق لصميم المشكلة — كما أشار إلى ذلك صلاح عيسى في كتابه «حكايات من مصر» — أو استخلاص النتائج السياسية المترتبة عليها، يدل على قصر النظر. كما أن الطريقة التي قدَّم بها حسن الإمام ثلاثية نجيب محفوظ فيما بعد من خلال سينما تتميز بصيغها المتكررة وتختصر ثورة ١٩١٩م في سلسلة من حركات الشد على الأيدي، مع طمس كل ما يتعلق بالطابع الخاص لتلك الثورة، مثال لسينما تعمد إلى التسطيح الذي يتجاوز حدودها وتستخدم لغة لا طعم لها ولا رائحة، خالية من أي أصالة أو مصداقية. وفي كلتا الحالتين تفتقد السينما المصرية سمتها الأساسية لتكون مجرد عرض مهمته الأولى حرف أنظار المتفرجين بإيهامهم بأن هناك إمكانية لتحقيق تغيير عن طريق إخراجهم من دائرة الصراعات والعمل على التصالح بين الطبقات الاجتماعية.

وهذه الرؤية المشوهة سمة غالبة تتميز بها تلك السينما التي تزعم أنها تعبر عن تصور اجتماعي يكذبه الواقع كل يوم. ومن هنا يأتي ذلك التمثيل الجامد للأدوار. ويرجع هذا الانفصام أساسًا إلى الأوضاع السياسية والمالية في تلك الحقبة. وقد فسر رجاء النقاش المسألة على الوجه التالي في معرض تناوله لأزمة الفكر في السينما المصرية، كما جاء في مجلة الهلال (العدد ١٠ / ١٩٦٧م): «إن النشأة التجارية للسينما المصرية قد فرضت على الفيلم المصري منذ البداية أن يكون هدفه والترفيه». فالترفيه وحده هو ضمان النجاح وضمان الربح. ومن هنا سقط الفيلم المصري لفترة طويلة في عيوبه الخطيرة، وتكونت له شخصية خاصة كان من أبرز ملامحها ضعف الفكر …

وقد أتاح احتكار الموارد المالية ووسائل الإنتاج التي تتحكم فيها برجوازية متخلفة لا تستثمر إمكاناتها في المجال الثقافي نظرًا لأنه لا يحقق لها عائدًا سريعًا، وانتقالها بعد ذلك إلى أيدي سلطة الدولة المفتقرة إلى خيارات ثقافية محددة، أتاح الفرصة لمواصلة الاعتماد على نفس الخط السياسي. وكان ذلك سببًا رئيسيًّا في عزلة السينما المصرية داخل مصر نفسها حيث هيمنت السينما الأمريكية، كما يتبين من نسبة قاعات العرض التي خصصت لها. وإذا كان السينمائيون المصريون قد وجدوا أنفسهم خارج نطاق التحول الثقافي والسياسي الذي هز مصر منذ بداية القرن العشرين فإن الأمر يعود إلى الوظيفة التي أسندها إليها هؤلاء السينمائيون، كما أوضح ذلك أحمد بدرخان بشكل جيد ولخصه رجاء النقاش في نقاط خمس تتمثل في:

  • (١)

    الخضوع للمبالغات العاطفية الميلودرامية.

  • (٢)

    الاعتماد على نماذج لشخصيات نمطية.

  • (٣)

    التراث السينمائي القائم أساسًا على الأفلام الأمريكية (حاول بدر لاما محاكاة أفلام رعاة البقر الأمريكية منذ عام ١٩٢٧م في مصر.)

  • (٤)

    اشتغال عدد كبير من الأجانب والمتمصرين في السينما.

  • (٥)

    غياب العلاقة بين السينما والكتَّاب والفنانين والمثقفين المصريين والأجانب.

وفي ظل تلك الظروف كان صلاح الدين توفيق محقًّا عندما كتب يقول: إن الفيلم المصري متخلف ثلاثين سنة عن السينما العالمية، وأن أعمال السينمائيين المصريين لا تتجاوز إطلاقًا الحدود التي تفرضها السلطة القومية الناصرية؛ إذ لا تدخل في عداد الأفلام إلا تلك التي تدور أحداثها في إطار أناس أثرياء يرفلون في ملابس فاخرة، ويعيشون في قصور ولا تشغل بالهم سوى المشاكل العاطفية، هذا إن لم نقل الجنسية. غير أن هناك مع ذلك أفلامًا على هامش الإنتاج السينمائي المصري في مجموعه، تحاول أن تقدم صورة أقرب إلى الواقع في مصر، مع الأخذ في عين الاعتبار الإمكانات المتوفرة لها. وتضع هذه الأفلام في اعتبارها مقتضيات التجارة وإرادة فتح سبل جديدة في مجالَي التعبير وإثارة القضايا. وهي تشكل ذلك التيار الواقعي في السينما المصرية.

ولم تكن نشأة التيار الواقعي في السينما المصرية مجرد ظاهرة عرضية؛ إذ إنه مرتبط بتطور الرواية العربية. وتتبدَّى البوادر الأولى لهذا الاتجاه في فيلم «زينب» الذي أخرجه محمد كريم (١٩٣٠م)؛ وذلك من خلال عدد من المشاهد الملتقطة خارج الاستوديو وملاحظة حياة الفلاحين على الطبيعة حتى وإن اختلف القصد من ذلك من مخرج إلى مخرج آخر، كما جاء في الجزء الأول من مذكرات محمد كريم.

وفيما بعد، وفي ظل النضالات الشعبية والدفعة التي شهدتها الحياة الاجتماعية والسياسية خلال سنوات ١٩٤٠–١٩٥٠م أطلت علينا تلك التجربة الفريدة المتمثلة في «العزيمة»، والتي واصلها فيلمَا «السوق السوداء» لكامل التلمساني (١٩٤٦م) و«النائب العام» لأحمد كامل مرسي (١٩٤٦م). ومع حلول الخمسينيات، هبت على السينما المصرية نسمة منعشة من خلال موجة واقعية صغيرة مع مَقْدم أفلام صلاح أبو سيف، ومن بعدها جاءت متأخرةً أفلام أحمد بدرخان ويوسف شاهين وتوفيق صالح. ومما يثير الدهشة حقًّا أن بعض النقاد المصريين يفصلون بين ظهور السرد الواقعي في مجال السينما المصرية وظهوره في مجال السينما القومية، بغضِّ النظر عن الاعتبارات التقنية والمالية (بنك مصر واستوديو مصر).

ويتجلى استقبال الجمهور المصري للأفلام التي ذكرناها آنفًا في الدراسات الخاصة بها؛ إذ إن هذا الجمهور وجد فيها خطابًا أقرب إلى الحقيقة وإلى قضية وطنية قادرة على أن تبعث في نفسه الإحساس الإيجابي بهوية تفتح أمامه من جديدٍ آفاق المستقبل.

وهدف فيلم «العزيمة» هو التعرض بكل وضوح لذلك التحالف الموضوعي بين البرجوازية والقطاع الحديث من البرجوازية الصغيرة، ويرمي فيلم التلمساني إلى الدفاع بصراحة تامة ودون أي لبسٍ عن عامة الشعب المصري، حتى وإن لم يلقَ الاستجابة من جانب الجمهور. أما «النائب العام» فيواصل الإشكالية التي أثارها محمد كريم، ويدلل على المفهوم النسبي للعدالة ويلفت الأنظار إلى ضروب التعاسة الخفية التي يلقاها المستضعفون؛ وذلك من خلال الأحداث التي يمر بها صراف شاب وشقيقه.

وجاءت أفلام صلاح أبو سيف

يدرك من شاهدوا الأفلام السابق ذكرها، وتلمَّسوا أثر الجلسات التي كانت تنظم في مقهى رجينا حول كمال سليم وبحضور أحمد بدرخان وأحمد كامل مرسي وصلاح أبو سيف وكامل التلمساني وأحمد خورشيد، بل وأيضًا حسن حلمي وحسن الإمام وعز الدين ذو الفقار، مدى وضوح تلك القرابة. فلا مجال للشك هنا في أوجه التشابه في معالجة المواضيع والتقارب فيما يتعلق بالمشاغل والإطار العام الذي عمل أغلب السينمائيين في حدوده.

وبالمقارنة مع مجموع ما قدمته السينما المصرية، تشكل أفلام صلاح أبو سيف وحدة فريدة من نوعها تربط بين مختلف المواضيع. وفي إطار تلك الوحدة تبرز بعض مجموعات الأفلام وتشكل كتلًا تتميز بترابط مقاصدها التي تعالجها بتوسع مجموعات أخرى من الأفلام. وبالرغم من عدة «انحرافات» سيتم شرحها فيما بعد، فإن الخط العام الذي تبنَّاه صلاح أبو سيف في «تشريك» السينما يستوجب رصد ملاحظتين:

  • (١)

    وحدة المكان.

  • (٢)

    وحدة المعالجة الدرامية.

وحدة المكان: أبو سيف رجل السينما القاهري

تجري أحداث ثلاثة أرباع مجموع أفلام صلاح أبو سيف في مدينة القاهرة الكبرى وفي وسط ثقافي إسلامي.

figure

وتدفع النظرة العامة الملقاة على هذه الأفلام إلى اعتبار أبو سيف مواطنًا من سكان المدن يسجل تجربته في الحياة وفي الواقع من منظور يحدده إطار حيِّه؛ حيث يتضمن أي انفتاح على الآخرين أو على الخارج احتمالات التعرض للمخاطر. وبوسعنا أن نزعم، دون أن نسرف في المغامرة، أنه يمكن تسجيل التاريخ الاجتماعي لعاصمة مصر أو لبعض أحيائها من خلال أفلامه. وتتواكب هذه النظرة للعلاقات الاجتماعية التي تتضمن الترابط والدعوة إلى التماسك الاجتماعي، مع الأهمية الجغرافية والسياسية للموقع الذي تنطلق منه أعمال هذا المخرج. كان صلاح أبو سيف يعمل كمونتير ثم كرئيس لقسم المونتاج في استوديو مصر، كما كان معروفًا بمقالاته في جريدة الصباح وسبق له العمل كمساعد لكمال سليم بالأخص في فيلم «العزيمة»، وذلك قبل قيامه بإخراج فيلم «دائمًا في قلبي» (١٩٤٦م) المستوحى من «جسر وترلو» للمخرج الأمريكي مرفين لي روي (١٩٤٥م). وفيما بعد أوْلى أبو سيف اهتمامه بالجوانب التسجيلية في الوقت الذي كانت تهيمن فيه الأفلام الروائية على السينما المصرية.

فمن بين أفلامه، هناك شريط لم يكتمل كان يريد أن يثبت أن الحياة القاهرية عبارة عن سيمفونية تتناغم فيها معًا مختلف الألحان (نداءات الباعة الجائلين، والضوضاء العادية، وأصوات المؤذنين) بغية الرد على الفكرة الشائعة في الغرب حول تنافر الأصوات والضجيج في المدن العربية.

figure
figure
figure

وفي جهة أخرى فإن الحيز الذي تتحرك فيه شخصيات الأفلام قاهري: حمام شعبي في بولاق في فيلم «لك يوم يا ظالم» (١٩٥٠م)، وفي الزمالك في فيلم «الأسطى حسن» (١٩٥٢م)، وفي حي القلعة والعباسية في «شباب امرأة» (١٩٥٦م)، وفي مختلف الأحياء الشعبية في «بداية ونهاية» (١٩٦٠م) و«حمام الملاطيلي» (١٩٧٣م)، هذا مع عدم نسيان السوق المدهشة في فيلم «الفتوة» (١٩٥٧م).

ومن جهة أخرى تَدين كافة شخصياته بالإسلام أو تنتمي إلى أوساط ثقافتها إسلامية. ولا يخلو أي فيلم من أفلام أبو سيف من الإشارة إلى الانتماء إلى الدين الإسلامي. ولنذكر هنا بيومي في «الأسطى حسن»، وصلوات إمام المتواصلة في «شباب امرأة»، ومعتقدات هريدي وبلدياته عبد التواب في «الفتوة»، وإشارات الأم وحسين إلى الدين في «بداية ونهاية»، والعقيدة الدينية في فيلم «فجر الإسلام» وارتباط أحمد الشديد بالقاهرة الإسلامية في «حمام الملاطيلي». وفيما عدا امرأة أرمنية في «شباب امرأة»، والرجل الأجنبي في «حمام الملاطيلي»، فإن كل الشخصيات ترتبط في الواقع أو بشكل ذاتي بالعقيدة الإسلامية.

وينتمي أبو سيف بهذه السمة العامة إلى الحركة الاجتماعية المصرية، بقدر ما يوجد توافق متبادل بين التوجهات الدينية والتعبير عن الأحاسيس القومية منذ حلول القرن التاسع عشر. غير أنه يتعين أن نلاحظ أن استبعاد الأقلية القبطية الكبيرة من عالم أبو سيف السينمائي، ومن السينما المصرية عمومًا باستثناء «إسكندرية ليه» (ليوسف شاهين) سيحد من تطلعه إلى تمثيل الشعب المصري بأسره، وذلك بالمعنى الذي عبر عنه غالي شكري بتأكيده على أن الروح المصرية نتاج لتيارات ثلاثة: الفرعونية والمسيحية والإسلام.

وحدة المعالجة الدرامية

ومن الملاحظ أن كافة أفلام صلاح أبو سيف تعتمد على بنية وحيدة إلى أقصى حد. فمسيرة الشخصية «النمطية» عند أبو سيف واحدة، أيًّا كان الوسط الذي تعيش فيه، وأيًّا كانت طبيعة المسار أو الفترة التاريخية أو تأثير التغيرات.

ويتألف هذا المسار بوجه عام من مراحل ثلاث تعبر عن إشكاليات ثلاث متكاملة: لقمة العيش، والجنس، والمعرفة أو الحرية. ولم تصبح تلك المراحل الثلاث واضحة إلا ابتداء من عام ١٩٥٠م مع إخراج فيلم «لك يوم يا ظالم».

وفي رأي المخرج نفسه أن الأفلام السابقة على ذلك، وهي «المنتقم»، و«مغامرات عنتر وعبلة»، و«شارع البهلوان»، و«الحب بهدلة» كانت مجرد طريقة للتدرب ووسيلة ليفرض نفسه في السوق. غير أن مشاهدة فيلم «مغامرات عنتر وعبلة» (١٩٤٨م) تبين لنا أن اختيار زمن أحداثه كان — مع بعض التحفظات — حجة لمعالجة إحدى القضايا الشائكة للغاية التي كان العالم العربي يواجهها في نفس ذلك العام ١٩٤٨م، ألا وهي القضية الفلسطينية.

لقد كانت هزيمة الجيوش العربية في هذه الحرب دافعًا لكي يتخذ صلاح أبو سيف من تلك الملحمة، بالتعاون مع نجيب محفوظ، منبرًا يوجه عن طريقها خطابه الوطني. وكانت الإشارة إلى هذه الحرب بالتلميح واضحة تمامًا؛ لا لأن منتج الفيلم جبرائيل تلحمي فلسطيني، ولكن لأن التعاون بين أبو سيف ونجيب محفوظ وبيرم التونسي ما كان يمكن إلا أن يقدم لنا عملًا يفيض بالشاعرية والسحر، يضع في اعتباره دور مصر وموقعها وسط العالم العربي.

ومن الواضح بالرغم من الأفلام السابقة على «مغامرات عنتر وعبلة» أن صلاح أبو سيف لم يحد عن روح ملحمة عنتر مع أن الفيلم لم يكن معالجة صريحة للقضية الفلسطينية، على عكس فيلم «فتاة من فلسطين» الذي اتخذ من حرب ١٩٤٨م إطارًا للقاء بين ضابط طيار مصري وفتاة فلسطينية جميلة. فنهاية هذا الفيلم التي كان يجب أن تكرس أواصر الحب بين فردين، تؤكد في الواقع الشعار الصهيوني الشهير «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وذلك بعقد القران بين المحبين في مصر؛ أي خارج فلسطين، كما جاء في كتابنا المشترك باللغة الفرنسية «فلسطين والسينما»، وكذلك في مقال ماري غضبان المعنون «معركة فلسطين في السينما المصرية» المنشور في العدد ٢٣٣١ من مجلة المصور؛ ففي «مغامرات عنتر وعبلة» لم يكن العشق بين الطرفين إلا عنصرًا قائدًا من زاوية الوحدة العربية في مواجهة المحتلين (الروم = الإنجليز) والغزاة القادمين (الجاسوس اليهودي = الصهيونية). وقد لجأ أبو سيف هنا للصورة النمطية «لليهودي»؛ ومنها العصابة التي تغطي عينيه والأنف المعقوف والشعر المنتفش.

وعلى أي حال فإن المقدمة الإعلانية تؤكد بالأسلوب المتحذلق الشائع في تلك الحقبة بأن الفيلم ليس سوى القصة «اليومية لكل جيل ولكل أمة، قصة الحرية …»

فمن أجل تلك الحرية يكافح عنتر ضد الانقسامات في صفوف قبيلته لكي يتحقق كلٌّ من الحرية والاستقلال ووحدة القبائل (الشعوب) العربية.

وفي كل مرة تنشب فيها المعارك في هذا الفيلم بين المحتلين وأهل البلاد الأصليين تطير كاميرا صلاح أبو سيف لتتسلل وسط التلاحم بين الطرفين المتقاتلين وتركز عدستها على العناصر الإيجابية. وتصحب تب هذا الإبراز للقيم على شريط الصوت خطب رنانة مثل «اتركوا وطن العرب للعرب»، «ليس هناك سوى عدو واحد في كل أرجاء الشرق»، أو «أيمكنكم فك أسر عنتر وطرد الروم خارج الأرض العربية …» إلخ. وكل الإشارات المتوارية إلى الحركة الصهيونية والإرهاب الذي تمارسه الميليشيات الفاشية (الإيرجون) ضد العرب (الفلسطينيين) تتركز على ذلك الشخص المريب والساذج في آنٍ واحد، والبادي على هيئة أقرب إلى قرصان أفلام الفروسية، بشعره المبعثر والعصابة على عينه اليسرى … إلخ.

figure
أحمد سالم ولولا صدقي في «المنتقم».
figure
«مغامرات عنتر وعبلة».
figure
«شارع البهلوان».
figure
«الحب بهدلة».

وقد قدم صلاح أبو سيف هذه الشخصية مرة ثانية وأخيرة في فيلم دعائي قصير في عام ١٩٤٩م بناء على طلب وزارة الشئون الاجتماعية عنوانه «زال الشر». وتتجلى أهمية هذا الشخص في كلا الفيلمين من خلال الضعف الذي حل بالمعسكر العربي والمصري. وبوسعنا أن ننتقد هذا التفكير التوفيقي الزائف في فيلم «زال الشر» الذي اعتقد صلاح أبو سيف أنه يمكن أن يحل التناقض بين العمال وأرباب العمل. فقد صور العمال كأناس غير مسئولين اتبعوا نصائح ذلك «الجاسوس» فنظموا إضرابًا فصفى بذلك مطالبهم وحرف أنظار المتفرجين عن حقيقة قضية تلك الحقبة المتمثلة في الاستغلال والأجور المتدنية.

وكانت الطريقة التي كتب بها الفيلمان استهلالًا في بعض جوانبهما للتعبير الواقعي عند أبو سيف. ويتضح ذلك مثلًا من خلال أسلوب إدماج أغاني عبلة (كوكا) التي لم تقدم كوسيلة بحتة للترفيه، كما هو الحال بالنسبة للسلسلة التي أخرجها نيازي مصطفى بنفس الاسم، ولكن في صيغة «تسجيلية» للإيماء باسترجاع «حياة» العرب و«طريقة تفكيرهم» قبل ظهور الإسلام.

أما الرحلة التي قام بها أبو سيف إلى إيطاليا في عام ١٩٤٩م من أجل إخراج الإنتاج المشترك للنسخة العربية لفيلم الصقر فقد سجلت نقطة تحول هامة في حياته. وإذا كان مخرجنا قد تمكن من مشاهدة فيلم «راهبات القديسة أورسولين» وأفلام فريتز لانج، وجان رينوار، وجوليان دوفيفييه، وذلك بفضل دورة تدريبية تلقاها في عام ١٩٣٩م في «استوديوهات إكلير»، فقد ظهر ذلك في أفلامه الأولى. ولكن رحلته إلى إيطاليا واكتشافه الواقعية الجديدة وأفلام دي سيكا وزافاتيني بالذات، أكدت له أن لحظة الاختيار باتت ملحة، في وقت لم يكن يتوفر فيه لسينمائيي تلك الحقبة هامش للاختيار أو الحرية بحكم علاقاتهم مع مصادر التمويل والاستوديوهات. وكان يتعين عليه أن يقدم سينما تعبر ببساطة عن الأبعاد اليومية لحياة الإنسان المصري، أو أن يخرج أفلامًا أيًّا كانت نوعيتها.

اكتشاف الذات

كان اكتشاف السينما الإيطالية الجديدة بمثابة بداية لمرحلة جديدة واعدة في حياة أبو سيف وحياة السينما المصرية.

figure
الفنان سعد خليل في فيلم «زال الشر» إخراج صلاح أبو سيف ١٩٤٩م.

فعندما عاد أبو سيف من إيطاليا راح يقارن بين الحياة السياسية الإيطالية وقرينتها المصرية، وبين التعبير السينمائي الإيطالي ومقابله المصري، حتى وإن قال فيما بعد: إن هذا الإنتاج باهظ التكلفة.

وفي مصر شهد أبو سيف عودة حزب الوفد إلى الحكم للمرة الأخيرة واطلع على مانشيتات الجرائد التي كشفت عن عمليات التعذيب التي جرت في السجون في ظل حكم صدقي باشا والأحرار الدستوريين، وتلمس الفجوة العميقة التي تفصل بين القوى الشعبية بمطالبها الاجتماعية والوطنية، وبين طبقة سياسية خاملة، لا تتجدد.

figure
صلاح أبو سيف واحد من طلائع المخرجين أصحاب الطابع الطوبوي في السينما المصرية.

لم يكن نجاح فيلم «العزيمة» قد امَّحى بعدُ من ذاكرة أبو سيف، كما أن علاقته مع أصدقائه التقدميين، ومنهم بكر سيف النصر ومحمد عودة وأسعد حليم، كانت لا تزال متينة. وقد أتاح له كل ذلك الفرصة لتحديد وظيفة السينما بمزيد من الدقة في حقبة كان الشعب المصري يعيش فيها إحدى لحظات حياته الحاسمة.

ومنذ البداية، لم تخدع أبو سيف المهمة السياسية لسينما السماسرة. فقد واجه بدرخان في عام ١٩٤٠م بمفهوم سينما المجتمع، وإن كان ذلك لم يحل دون أن يخرج فيلم «الحب بهدلة» «لحساب صديق»، كما أوضح هو نفسه. غير أن فكرة الشروع في صنع أفلام تعبر عن نبض الشارع ظلت أثيرة لديه، وقد حققها فعلًا.

ويدخل هذا المشروع في إطار الواقعية التي يجب أن نتفهمها بالمعايير المصرية، والتي عرفها جاك بيرك بأنها تنتمي إلى عالم ذي أبعاد ثلاثة (فرعوني وشرق أوسطي وعربي). وقد تطرَّق أبو سيف إلى السينما من جانبها الواقعي؛ أي بإبراز المشاعر الإنسانية والأحداث الاجتماعية وتفسيرها من خلال مفهومه للسينما في خدمة المجتمع الذي توارثه عن كمال سليم والروائيين الروس، والنظريات السينماتوغرافية للسينمائيين الروس وعلى رأسهم آيزنشتاين وبودوفكين. وما كان يمكن تحقيق ذلك في ظل القمع وافتقاد الديمقراطية في مصر من ١٩١٩م حتى ١٩٥٢م. فالتغلغل في الاستوديوهات بغية إغراقها ووضع العقبات في طريق المحاولات لإنتاج نوعيات معينة من الأفلام والتقتير في الإنفاق على الإنتاج، كان كفيلًا بتثبيط أي إرادة. وفضلًا عن ذلك كانت العناصر الشابة المسيسة في مصر تعتبر المجال السينمائي «عالمًا رأسماليًّا» لا يهدف إلا للتسلية وصرف الأنظار عن الواقع. ومن جهة أخرى كان الوعي السياسي لدى السينمائيين المصريين العاملين في تلك الفترة لا يتجاوز مجرد التعاطف مع المطالب الشعبية. فما كانوا يتصورون، أو ما كان يمكنهم أن يتصوروا أن يكون إنتاجهم سندًا لتحرر الشعب المصري ثقافيًّا.

وصلاح أبو سيف واحد من هؤلاء المخرجين، ويعتبر أحد طلائعهم. ومن هنا ينبع الطابع الطوبوي لأفلامه ومفاهيمها البرجوازية الصغيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤